صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8265 - 2025 / 2 / 26 - 09:56
المحور:
الادب والفن
ليس من حقي ان احكم على الأغاني السائدة لدى جيل هذه الأيام , ولكني سمعت اغنية رائجة لحسام الرسام من كلمات الشاعر الغنائي عدنان هادي , تقول كلماتها المنطلقة وسط ضجيج موسيقي صاخب , تصاحبه راقصة ناشطة (( غطيته بايدي من برد , وبحضني ظل نايم رغد , من شبع نوم من الصبح , ويا اللي يكرهوني كعد )) , لترد الراقصة بصرخة عالية : لاطمة صدرها المكشوف ((آنه شلون والدفان يغمزلي )) , وليصيح بين القفلين بالراقصة بكلمات ممطوطة (( هزيهه هزيهه )) , فيصعد سكور المشاهدات وتزداد شعبية المغني , ولأترحم على أيام موسيقى وغناء زمننا الراقي .
ان سماع الأغاني والموسيقى هي طبع وفطرة في الإنسان السليم , ولها الأثر الفعّال في تنشيط النفوس وتربية الذوق وتعلية الغرائز وسموّ الأخلاق , وليس ينكر أحد ما للموسيقى والغناء من أثر في كثير من نواحي الحياة الاجتماعيّة أيضًا , فإنّ فعلها في الجماعات في إثارة الهمم وبعث النشاط الذاتيّ لا يقلّ عن فعلها في الفرد و لقد مضى على الموسيقى العربيّة حين من الدهر بعد بدوّها في الحجاز , وتقدّمها في العصر الأمويّ , كانت العامل الموجّه في الحياة العربيّة , و تتجسد العاطفة في أسلوب موسيقي صوتي وآلي يسمى الطرب, يستحضر هذا التقليد الموسيقي العربي من الشرق الأدنى حالة عاطفية متزايدة من السحر والنشوة لدى جميع المشاركين , وذلك غالبًا من خلال التفاعل المباشر.
هناك كلمات غير قابلة للترجمة حتى في لغتها الأصلية , ومنها كلمة (( طرب )) , ربما لأنها تصف شيئًا يتجاوز حدود اللغة , شيئًا لا يمكنك إلا الشعور به , وعلى الرغم من صعوبة تفسير ظروف كلمة ((طرب )) , إلا أنها تحركنا جميعًا بطريقة لا تحتاج إلى أن تكون مفهومة تمامًا , وتكمن في طبيعتها الغامضة قدسية مريحة , أو تجربة مشتركة مقدسة تقريبًا تربطنا جميعًا ,فهل تأثرت يومًا بأداء موسيقي بطريقة لا تستطيع تفسيرها تمامًا ؟ فما لم أتوقعه هو مدى تأثري بالأداء بأكمله, و شعوري بالسحر , بحيث يبدو لي أن انفجارًا من الطاقة يخترق الموسيقى والأضواء الصفراء الضبابية , ويغمر الحشد تمامًا , ليشعرني بقشعريرة طوال الأمر, لأعرف أن كل من في المسرح شعر بما كنت أشعر به , ولأتفهم من ذلك المصطلح العربي الذي يصف هذا الشعور بالطرب , وهو يتعلق بالقدرة على التأثر العميق والتأثر العاطفي بالموسيقى والغناء , ويبدو الطرب مقصودًا , فالهدف بالنسبة للفنانين هو خلق ارتباط عاطفي مكثف مع الجمهور, ولهذا السبب غالبًا ما يتم تجربته في بيئة جماعية حيث يمكن للناس أن يجتمعوا ويختبروه على الهواء مباشرة , لا يقتصر الطرب على المشاعر المبهجة أو السعيدة فحسب , بل يمكنه أيضًا إثارة الحزن أو الشوق المرير , وقد توصف أهمية الطرب بأنه (( داعمًا للحياة )) في وقت الأزمات.
من حقنا ان نتسائل : لماذا أصبح الإيقاع الغربي السريع هو السائد في الموسيقى والغناء العربي الحديث ؟ لماذا أصبحت الأغاني الحديثة نسخة ممسوخة من الأغاني الغربية ؟ لماذا فقد الطرب العربي حلاوته شعرا ولحنا وغناء وتحول إلى فن هجين ؟ وما الفرق بين الأغاني القديمة والأغاني الحديثة ؟ الفارق الأكبر هو أن الموسيقى الشعبية منذ بداية الموسيقى وحتى منتصف التسعينيات كانت تُصنع باستخدام آلات موسيقية حقيقية , والموسيقى الشعبية منذ ذلك الحين فصاعدًا تُصنع بواسطة الكمبيوتر, وهو أمر لا يتطلب سوى القليل من الموهبة مقارنة بتلقي دروس العزف على الجيتار أو دروس الغناء , لقد طفت على السطح في الاونة الأخيرة موجة الغناء ذات الإيقاعات السريعة كالموجة الغربية التي كانت سائدة في الستينيات والسبعينيات , وأصبح لهذه الموجة جمهور واسع من الشباب الذي ابتعد عن الأغاني الأصيلة , ومن المعروف أن الأغنية هي نتاج تفكير وإبداع خاص بصاحبها , وفي الوقت الذي امتازت فيه الأغنية القديمة بالأصالة والتعبير عن أحاسيس الإنسان ومشاعره , عبرت الأغنية الحديثة التي تعبر أيضا عن الأحاسيس والمشاعر ولكن بطريقة مغايرة تماما عما أنتج قديما , فلمن يسمع الشباب ؟ هل مازال يمجد القديم أم أنه يمجد الحديث ؟ هل تعتبر الأغنية محددا رئيسيا لذوق الشخص وميوله ؟ وكيف يقارن الشباب بين الأغنية القديمة والأغنية الحديثة من وجهة نظرهم ؟.
إن الأغنية القديمة جاءت متقنة في الكلمات واللحن والصوت ومن الظلم ان نقارن الاغنية القديمة بالحديثة , أنا لا اسمع الأغنية الحديثة أبدا ولا انسجم معها نهائيا , لأنها باختصار غير جاذبة وتثير الفوضى في نفسي وفي أخلاقي , والمفروض أن تأتي الأغنية لترتقي بأذواق البشر وتعزز صفتي الإنسانية والتسامح اللتين هما سمتان رئيسيتان لاستمرار العلاقات البشرية , والأغاني القديمة (( متعوب عليها )) , واستطاعت ان تصل إلى الجماهير بسرعة نظرا لجماليتها من حيث الغناء والألحان والمضمون , ونادرا ما تجد ان الأغاني القديمة غير مسموعة , فالجميع يستمع إليها لأنها تثير المشاعر لدى المستمع , ولأن كلماتها تجذب انتباهه , وتحتوي على كلمات والحان يستطيع الكبير والصغير (الذكر والأنثى) أن يستمع إليها , والعكس صحيح بالنسبة لمعظم الأغاني الحديثة.
كان نيتشه يقول : (( الحياة ستكون غلطة لولا وجود الموسيقى )) , والغناء حشيشتُنَا الْمُنْتقاةُ , رسائلنا الى مستوطني القلوب , سيّارةُ إسْعافٍ تُنْقذُنَا منَ السّكْتةِ الدّماغيّةِ وحسرة المستحيل , عصير القلوْبٍ التي تحبُّ الْحياةَ , الا ولّيْتُ وجْهِي صوْبَ الغناء لِأموتَ شعْراً , التراث الغنائي لأي مجتمع يعكس ذائقته , ومزاجه , وقيمه , ويوثّق لذاكرة أجيال أنتجت وتربت على هذا اللون من وسائل التعبير الإنساني , ويقال في هذا المجال : (( أخبرني ماذا تسمع ؟ أعرف من أنت )) , فالإنسان يبدأ بسماع مناغاة أمه من قبل أن يبصر النور, ومن ثم على هَدْهدَتها حتى يغفو في مهده , ومن ثم يشّب على ما يلتقطه سمعه في البيت وعبر المذياع والتلفزيون , فضلاً على ما يعلق بأذنه من ذوقيات الشارع , وهكذا تتربى الذائقة السمعية شأنها شأن الذوقيات الأخرى , كالملبس والمأكل وغيرها من الذوقيات التي تُشكّل هوية الإنسان وسماته الأساسية.
#صباح_حزمي_الزهيري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟