رياض ممدوح جمال
الحوار المتمدن-العدد: 8263 - 2025 / 2 / 24 - 20:12
المحور:
الادب والفن
مسرحية من فصل واحد
تأليف : رياض ممدوح جمال
الزمان : بعد عام 2009.
المكان : العراق بعد الاحتلال.
الشخصيات :
هو : رجلُ في الخمسينات من عُمره.
هي : امرأة في الاربعينات من عمرها.
المنظر : (صالة في منزل قديم خرب اقرب منه الى انقاض منزل شرقي،
ولا شيء من اثاث سوى فَرشات مهلهلة على الارضية، وعلى الجدران
فَرشات ممزقة باهتة الوانها بفعل الزمن، عليها صورة غزالة قد اصابها
سهم اطلقه صياد وهو على عربته التاريخية وبأزيائه الاشورية.
المسرح مظلم وبقعة ضوء على الشخصية النائمة والتي ترى كوابيس).
هي : (تدخل قلقة من سماع صوته يحدث نفسه).
ما بك يا زوجي العزيز؟ سمعت صوتك وانا في المطبخ. ما الذي
يؤلمك، الم تهدأ جراحك؟
هو : وكيف تهدأ وهي آلام في الروح اكثر منها آلام في الجسد؟
هي : لقد مضى اكثر من شهرين على اطلاق سراحك وجراحك وآلامك.
هو : آلام جسدي هدأت، ولكن الآلام في روحي نار تزداد اضطراماً مع
كل جرح في جسدي يشفى، مثل كفتي ميزان. مَن تمر به قصتي او
تجربتي في الحياة لا يمكنه ان يرويها بالكلمات ابدا. لأنه قد اصبح
حطام انسان وقد سحقته الحياة، في البداية اراد بسذاجته تغيير العالم
وانتهى الى انه يحلم بان ُيدفن في هذا العالم بهدوء وبلا ان يبقى له
ذكر ابدا. فكيف تتوقعين منه ان يروي لك قصته؟ ان قصة مثل هذه
لا تروى بالكلمات والافواه، انما تروى بالجراح النازفة فقط.
هي : انسى كل شيء، فانت قد اعتدت على السجون والمعتقلات.
هو : (يرتفع صوته انفعالا) هذه المرة تختلف عن كل الاعتقالات السابقة.
هي : وما الذي يختلف في هذه المرة ؟ انت وابي رحمه الله، قد تحملتم
كل تلك الاعتقالات.
هو : كان ابوك قد اعتقل اكثر مني، وهو في الاخر حطم نظاماً ملكياً
ومات بعدها تحت التعذيب ايضا.
هي : وانت ايضا مع الاخرين استطعتم من تحطيم الصنم.
هو : كنتً مثل حصان جامح يتقدم القطيع دائما، كنت أحب ان اغرّد خارج
السرب لم اكن كتلة حديد في الميزان، بل كنت قنبلة تريد تفجير العالم
لتُعيد بنائه، ولم اكن اقنع باقل من ذلك، وباني لم اُخلق الا لهذا. كنت
سهما منطلقا نحو هدفه الأوحد متخلصا من كل ما يعيقه من أهل
واحباب اختلفوا معه، حتى ان كان الاب او الأم او الزوجة، الحياة في
كفة وهدفي بالكفة الاخرى، فكنا سهام تتثلم والجدران تُرمّم وتعود
اقوى مما كانت. وكنا ثيران تنطح ذلك الجدار فتتحطم رؤوسها
والجدار باقي كما كان على مر العصور واقوى.
هي : ليكن ذلك عبرة لنا، فتناسى الالام وابدا من جديد.
هو : انا لا أتألم من اعتقالاتي السابقة تلك، ما يؤلمني هو اعتقالي
الاخير وتعذيبي على يد من كانوا زملاء لي في المعارضة وهم
الان الجلّادين والحكّام الجدد. لقد تم خداعي والغدر بي من قِبَل
اقرب المقرّبين معي في الدهليز حيث اني
صرخت والخنجر في خاصرتي، صرخت " حتى انت يا بروتس؟".
كم كنت غبياً وبائساً واضحوكة لرفاقي! كم هو مؤلم للشاة التي انقضّ
عليها الذئب من دون باقي القطيع، الذي اجاد الهرب، بل قل انه كان
" يعرف من اين تؤكل الكتف". وتحسّ بانك كم كنت وحدك يا مَن
تركوك وهربوا. كانت نظرة مني اليهم كافية لتمدني بالعزم. وها انا
وحدي انظر الى الهاربين الذين سيتهمونني بالسقوط والخيانة.
هي : الغدر صفة اصيلة في الانسان، فلا تستغرب ذلك.
هو : كان آسري يعذبني وانا ابكي، يضربني وانا ابكي، ابكي ليس من
الالم بل من خيانة من اتهموني بالخيانة (ينهار الممثل باكياً). لقد
كان حصان طروادة وكر ذئاب. وانا الان حطام انسان، لا ماض
يفخر به، ولا حاضر يُسعَد به، ولا مستقبل يتلهف اليه. واحسّني
الان غير مؤهل لأي شيء، كم كنت ملاك احمق. كل ما اعرفه
هو ان طريقي كان الضياع للملائكة السذج، وسلّم للذئاب للصعود
نحو الهاوية.
هي : قضى ابي عمره بمقارعة الملكية، وقضيت انت عمرك بمحاربة
الدكتاتورية، وسياتي ولدك بعدك ويقضي عمره للقضاء على
مجموعة الفساد هذه، أليست هذه كلماتك انت ومن قبلك ابي؟ لقد
حفظتها منكما كلها.
هو : وانا تحت سياط زملائي السابقين، احدق الى وجوههم من الاسفل
اكاد لا اعرفها. لا ادري هل هي الان قد ارتدت اقنعة جديدة، وسابقا
كان لها وجه او قناع اخر! من كانوا رفاقنا بالأمس اصبح اليوم
عدوا لنا. في عمر الخامسة عشر عرفنا المعتقلات وصفعات
الجلادين وعرفَـت ذقوننا جمرات السكائر قبل ان تسير عليها امواس
الحلاقة. عرفَت اقدامنا ضربات الفلقة قبل ان تعرف لبس الاحذية،
تلقينا الضربات على بطوننا الخاوية التي لم تمتلئ يوماً.
هي : انتم مثل متسابقين في قفز الموانع، كلما اجتزتم حاجزا ظهر اخر.
هو : كنا نؤمن بأنفسنا ونقول ان الف ارنب لا يُعادل حصانا واحدا. ونحن
حصان طروادة، حصان" التنظيم الحديدي". دخلت في هذا الدهليّز
كما يدخل نبي خالص النيّة فيه، دهليز مظلم لا نور فيه الا نور
قلوبنا، معتقدين اننا مجموعة من الانبياء يعيشون من اجل رسالتهم،
سرْت معهم مغمض العينين معتقدا ان نقاء القلب يكفي نوراً لي في
هذه الدهاليز. ما يعذبني الان هو، هل انهم كانوا معنا وغيّرتهم
الكراسي، ام انهم منذ البداية كانوا اعداء بأقنعة اصدقاء، فأيهم القناع
وايّهم الوجه؟
هي : لَمَ لا تقول انهم منذ البداية شاركوا الاعداء، وقرروا أي المركبين
يغرق يقفزون للآخر؟
هو : وكأني كنت المغفل الوحيد بين الشياطين، و كنت العاري الوحيد بين
المتلصّصين، وكيف لا يشعر بخيبة الامل من اضاع عمره في
محاربة طواحين الهواء. انا من اضاع في الاوهام عمره. انا ذلك
الحصان الذي ذهبوا به الى النهر واعادوه عطشاناً. انا الجندي
المجهول الذي صعد على ظهره الكثيرين. اذن هل كنّا سذّج الى هذه
الدرجة ؟ وهل مات من مات من زملائنا كان هباء؟ وهل مات ابوك
تحت التعذيب مخدوعا؟
هي : كم كانت امي تقول له ان يتفرغ لنفسه ولنا نحن، ولا شيء ينفع غير
ذلك.
هو : كان عزائي الكبير هو اني كنت وسط الجموع من امثالي، كنا حزمة
لن ولم تنكسر. كنا امواجاً تتبع امواجاً نحو الهدف، نتسابق نحو
الصفوف الاولى لا نُبالي بعدد الطعنات التي نتلقاها بل نُفكر فقط بما
سنلحقه بالعدو من طعنات. كنا نحن رأس الرمح نعتقد باننا سنكون
اول من يتسبّب بتصدّع الجدار وستتبعنا جموع الامواج الهادرة لتدكّ
وتتجاوزنا. كنا حفنة تسمي نفسها طليعيه، معتقدين انه مادام الدبوس
وحده كافياً لفرقعه البالون، فلماذا نحتاج لجذع شجرة كاملة لذلك؟ كنا
نعتقد انه يمكن لمنقار اصغر طائر ان يفقأ عين اكبر الفيلة، وانه لا
يمكن لأضخم الفيلة ان يطمر بقدمه مخرزا ثابتا في الارض، فما
حاجتنا للجموع؟ وهل الأجدى الهجوم بقطيع عشوائي من الاغنام ام
بحفنة من الذئاب المنظمة؟ فآمنا بأنفسنا.
هي : لا جَدوى من جلْد الذات الان وبعد فوات الاوان، وليكن مصير
ابي خير عبرة لك .
هو : كان والدك كتلة صلبة من المبادئ، منه تعلمت وعرفت الحياة
وكيف تُعاش، كان قدوتي وقائدي في كل شيء.
هي : حقا كان قدوة لك في كل شيء، واكثر ما اخشاه الان ان تموت مثله
مخدوعا.
هو : لم يمت نادما على الاقل، لأنه لا يمكنه ان يعيش لنفسه وعائلته فقط.
هي : ليته عاش كما يريد لكن بعيدا عنا، لكانت تلك اكبر خدمة يقدمها لنا
انا وامي التي انتحرت بعد احتجازهم لها، مهدّدين بها ابي ليعترف.
فمَن منهما كان الضحية، هو ام هي؟
هو : هما الاثنان.
هي : لا بل هي الاكثر. الآن بعد ان كبرتُ عرفتُ سبب انتحارها، انه
الشرف والكرامة التي لا تعادلها كل سياط العالم، انه الموت
الروحي قبل الجسدي.
هو : هما الاثنان ضحية، لكن نعم، تضحيتها هي الاكبر.
هي : كنت اخشى مصيرها عندما كنت ازورك في السجون وانا منهارة
فتضخّ فيّ الشجاعة. كم حاولت ان اسحبك من هذا الجُب، اقول
الجُب لأنك ترفض ان اسميه مستنقع. تمنيت وعملت كثيرا على ان
اسحبك، لكنك سحبتني انت الى نفس الجُب. كنتَ تكلّفني ان انقل
رسائل بينك وبين زملائك الذين كانوا خارج السجن. وهكذا
اصبحتُ في القاع معك. تعال يا زوجي العزيز نبدأ بداية جديدة
وننسى كل شيء، ولا نتذكر سوى انفسنا.
هو : كيف يكون ذلك؟ كيف يعود مَن عمره جاوز التسعين الى حبه الاول
في مراهقته؟ كيف يشترك الانسان في سباق بعد ان قُطعت ساقيه؟
كيف يشرب المخمور بعد ان انتهت حتى الثمالة ؟ كيف ..؟
هي : وماذا بيدك الان لتفعله؟
هو : بيديّ الكثير. بيديّ خبرتي السابقة، خبرتي في كيف تنفض العنقاء
غبار حرائقها عن نفسها.
هي : وكيف ذلك.
هو : انطلق بين الشباب في الساحات الواسعة وتحت الشمس، اضيف
خبْراتي الى خبراتهم، واصرخ عاليا بشعاراتهم ومطالبهم.
هي : وستدخل السجون ثانيه.
هو : لا يهم بعد الان. لقد تأقلمّت على حياة السجون، ولن أتأقلم في
خارجها. (يهمّ بالخروج) اذن، الى اللقاء، او الوداع، يا زوجتي
الحبيبة.
هي : انتظر، فانا آتيه معك. فلدّي صوت للصراخ يعلو على صوتك. وانا
اجدَر منك في اعداد الخبز والطعام للشباب المتواجدين في الساحات
(تضحك ويضحك هو ايضا. يضع احدهم كفّه بكف الاخر ويخرجان)
ستار
#رياض_ممدوح_جمال (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟