عبدالرحمن كلو
الحوار المتمدن-العدد: 8263 - 2025 / 2 / 24 - 02:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ســـــــــوريــا والإلتبــاس المـزمن فــي الوعــــي الجمـــعي العربـــي والـــكـوردي بين مفهومي : "الدولة " و " والوطن " :
النخب العربية السورية -بشكل خاص- تعاني من انقسام جوهري بين ممارساتها السياسية وهويتها الوطنية، حيث ارتبطت تاريخيًا بكيانات سلطوية متعاقبة دون أن تمتلك مشروعًا وطنيًا جامعًا. بل إن القوى السياسية التي حكمت والتي تنافست على الحكم كانت تحمل مشاريع فوق وطنية ذات طابع كوسموبوليتي، ( الشيوعيون، الإخوان المسلمين، البعثيون) :
• الإخوان المسلمون في سوريا، كقوةٍ سياسيةٍ رئيسةٍ، لم يطرحوا مشروعاً وطنياً سورياً عبر تاريخ عملهم السياسي، بل تبنَّوا أهدافاً شموليةً قائمةً على الرؤية الدينية لأرض الله الواسعة ،("فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ")، ساعين لإحياء نموذج الخلافة الإسلامية. وعلى الرغم من اختلاف التنظيمات الجهادية المعاصرة (كالقاعدة وداعش) في الأساليب أو التفريعات الفقهية، إلا أنها تُعتبر امتداداً شرعياً لفكرٍ لا يعترف بالحدود الوطنية ولا بسيادات الدول ولهذا السبب كان الإسلام السياسي متداخلًا بين عدة دول مثل تركيا وسوريا ومصر ، وهو بهذا القفز غيّب الرؤية الوطنية لصالح مشروعٍ عابرٍ للدول.
• أما البعثيون الذين أوصلتهم فرنسا إلى السلطة- أسسوا مشروعهم السياسي على رؤيةٍ قوميةٍ توسعيةٍ، مُعلنين رفضهم للهوية الوطنية السورية المستقلة، ووصفوها بـ"المشوهة"، مقابل تبني مفهوم "الوطن العربي الكبير" من المحيط إلى الخليج. وقد تجلى هذا التوجه بإعادة تسمية سوريا بمصطلح " القطر العربي السوري" كمحاولةٍ لاختزال كينونتها في إطارٍ تابعٍ للمشروع القومي الشمولي.
استثمر النظام البعثي (بقيادة الأسدَين: الأب والابن) هذه الأيديولوجيا لترسيخ خطابٍ عنصريٍ إقصائي، حوَّل المكونات العرقية والقومية السورية إلى "أقلياتٍ هامشية"، خارج إطار الحقوق الوطنية. هذا التهميش الممنهج دفع تلك المكونات إلى القطيعة مع الدولة، بسبب شعور الإغتراب عن الدولة ، وفقدان الإنتماء لمشروعها ال " فوق وطني " مما أفرز شرخًا عميقًا في النسيج المجتمعي ،
النتيجة كانت تحويل سوريا إلى كيانٍ هشٍ مُثقَلٍ بأزمات الهوية، ما سهّل اختراقه من قبل القوى الإقليمية والدولية، التي وجدت في الفراغ الوطني أرضاً خصبة لتصفية حساباتها، مستغلةً تناقضات النظام بين شعارات القومية الجامعة وممارسات التمييز الطائفي، التي أفقدت الدولة شرعيتها كحاضنةٍ لجميع مواطنيها.
وصل الاغتراب الهيكليّ للكورد في سوريا ذروته، حتى غدا الرياضة أداةً لتجسيد القطيعة مع الدولة. فبات الكوردي -حين تُعلَّق الأعلام في المدرجات- يُحوِّل المباراة إلى احتجاج صامت، يُشجِّع فيه أيَّ فريقٍ منافسٍ للفرق السورية، مهما كان جنسية الخصم أو هويته. هكذا تحوَّل الحماس الرياضي من انتماءٍ وطنيٍّ إلى صرخةٍ ضدَّ سياسةٍ منهجيةٍ حوَّلتهم من مواطنين إلى "غرباء" في وطنهم، فلم يعد للعلم السوري في عيونهم أية رمزيَّةٌ تُستحَق التبني، بعد أن جُرِّدوا من أبسط حقوق الانتماء تحت شعاراتٍ قومويةٍ عدوانية.
• لم يكن الشيوعيون أقل إغفالًا للهوية الوطنية السورية من التيارين الآخرين، إذ تبنوا أيديولوجية أممية جعلتهم يتجاوزون الانتماء الوطني لصالح الولاء للأممية الثالثة، حيث كان الشعار المسيطر هو: "يا عمال العالم اتحدوا"، مما جعل التوجهات السياسية للحزب خاضعة لسياسات موسكو أكثر من ارتباطها بالواقع المحلي السوري. ولعل المقولة الشائعة "عندما تهطل في موسكو، تُفتح المظلات في سوريا" تعبّر عن مدى التبعية السياسية والفكرية لهذا التيار.
وعلى الرغم من أن الشيوعيين كانوا يرفعون راية محاربة الكوسموبوليتية – أي الذوبان في العولمة الثقافية – إلا أنهم في الممارسة الفعلية لم يرسّخوا هوية وطنية سورية مستقلة، بل تعاملوا مع الأوطان كجزء من الاستراتيجية السوفييتية، حيث كانت الدولة السوفييتية قائمة على اندماج العديد من الشعوب في إطار أممي يتجاوز الحدود القومية. وفي هذا السياق، لم يسعَ الحزب الشيوعي السوري إلى بلورة مشروع وطني خاص بسوريا، بل وجد نفسه منحازًا إلى السلطة الحاكمة وكان شريكا له في ما كانت تسمى ب " الجبهة الوطنية التقدمية " ، ومتقاربًا ومتصالحًا مع العروبية والتدليس للحالة الوطنية السورية على حساب المكونات الأخرى، مما ساهم في إضعاف الهوية السورية الجامعة لصالح أيديولوجيات خارجية لا تعبّر عن التعددية المجتمعية والثقافية لسوريا.
كل هذا أدى إلى غياب رؤية وطنية استراتيجية أو أي مشروع وطني سوري. وهذا ما يفسر الإلتباس المزمن بين مفهوميّ "الدولة" و"الوطن" في الوعي الجمعي العربي وحتى الكوردي .
فالوَطَن الذي هو حاضنة الأمة بتفاصيلها الروحية والثقافية والاجتماعية وهو كيان جُغرافي بشري تاريخي عمره مئات بل آلاف السنين ، بينما الدولة هي كيان سياسي حديث قلق ومتغير وفي الحالة السورية لا يتجاوز عمرها ال 78 عامًا، منها 54 عامًا تحت سلطة عائلة حاكمة بأساليب أقرب إلى المنظومات المافيوية، ظلّت فيها الشؤون السورية -داخليًا وخارجيًا- مُحاطةً بسياج الترقين، وفق سياساتٍ رسميةٍ ترفض النقاشَ أو المراجعة، في ظلّ اختزال مفهوم الدولة في شخصنةٍ مُطلقة تجسّدت في رمزية "القائد"، الذي تحوّل إلى مصدرٍ وحيدٍ للفهم والإدراك وحاجزٍ أمام أي تساؤلٍ نقدي. وهكذا أُغلِقَت جميع الملفات بإحكامٍ فوق-دستوري، مُختَتمةً بختم الشمع الأحمر إلى تابوهاتٍ مقدسة، بينما ظلَّ الخطاب السياسي الرسمي يُدار كـ آلةٍ أحاديةِ التوجه والاتجاه: خطابًا مُعلَّبًا ووصفاتٍ جاهزةً مُكرَّرة، تُملى حتى في تفاصيل الحياة اليومية، لدرجة تسرُّبها إلى صياغة المناهج التعليمية والأناشيد المدرسية، كأدواتٍ لـ" التلقين الأيديولوجي" المُمنهج.
بهذه المُعادلة، كانت سوريا دولة-استثناءٍ مطلق، حيث لا صوتَ يعلو فوق صوت "القائد"، ولا شرعيةَ إلا لـ "الحكمة المُفترَضة" التي تُدار كعقيدةٍ سياسيةٍ معلّبة مُغلَقة، لا تُحاور بلغة المؤسّسة الإفتراضية بل غيَّبته عن المَشهد.
وفيما تبقى من سوريا "الدولة" خضعت لحكم انقلابات عسكرية استندت إلى قبضة أمنية استثنائية، متجاوزة الأطر الدّستوريّة والقانونية من خلال الأحكام العرفية وحالة الطوارئ التي إمتدت من عام 1963 حتى عام 2011 أي إنتقلت سوريا من حالة الطوارئ إلى جحيم الحرب الأهلية حيث القتل الميداني ، تحت ذريعة مكافحة الإرهاب .
وحتى السنوات التي يعتبره البعض أنها كانت سنوات حكم ديمقراطية كانت هشة للغاية ولم تتجاوز تسع سنوات بحسب بعض التقديرات بل يذهب البعض إلى أن الحياة السياسية في سوريا لم تتجاوز ثلاث سنوات من عام 1946 حتى عام 1949 إنقلاب حسني الزعيم .
هذا الإشكال في بنية الدولة الاستبدادية، اخذ طابعًا مركبًا في الحالة الكوردية، حيث تم التعامل مع المكوّن الكوردي من الزاوية العنصرية، عبر قوانين استثنائية ذات طابع عنصري كانت تسنّ بمنطق والتمييز والإقصاء، مما أدى إلى تهميشه وإنفصاله عن الحالة العربية السورية بمساراتها المختلفة، معارضةً وموالاةً، وهذا ما كان أساسًا لغياب أسس الدولة الوطنية أوالدولة المدنية الحديثة القائمة على مبدأ المواطنة المتساوية، وكل تاريخ سوريا يؤكد أن الإطار الوطني لم يكن يومًا عاملًا محددًا في سياسات الحكم.
وعليه، لا يمكن اختزال المسافات أو تجاوز الحواجز النفسية والمجتمعية بقرارات فوقية أو تحوّل ميكانيكي سلطوي فجائي، إذ إن الانتقال إلى حالة وطنية سورية جامعة يستوجب عملية تراكمية ترتكز على إعادة بناء الثقة وتعزيز المشترك الوطني.
ومع ذلك، قد تشكل المآسي والعذابات التي تكبدتها مختلف الفئات والمكونات السورية نقطة ارتكاز لإطلاق مشروع وطني سوري حقيقي جامع يأخذ على عاتقه حل المسألة الكوردية، يكون بمثابة القاعدة الصلبة لإنشاء دولة وطنية قائمة على المواطنة المتساوية لكافة المكونات، وسيادة القانون، والعدالة الاجتماعية، بعيدًا عن منطق الإقصاء والتهميش الذي أضعف وشوه مفهوم الدولة لعقود.
#عبدالرحمن_كلو (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟