|
رواية ( هروب . . بين المضيقين ) / الحلقـــــــة ( 1 )
أمين أحمد ثابت
الحوار المتمدن-العدد: 8261 - 2025 / 2 / 22 - 16:15
المحور:
الادب والفن
عند ضعفك المشلول . . لا تقف على وطن رخو . . تبتلع فيه إنسانيتك ، غادر إلى ارض بديلة . . تطارد فيها احلامك .
اخيرا . . تطأ قدماك ارض مطار القاهرة ، كامل جسدك اصبح خارج طائرة اليمنية . . بعدما غادرت آخر درجة من سلمها الفضي – اطلقت غول انفاسك الخائفة . . المحبوسة اللاهثة بصمت مند سيرك في اتجاه ضابط فحص الجوازات . . وصالة المغادرة بعدها ، ظلتا عيناك في حالة من الشرود المتجنب وجوه اطياف العمل في مطار الحديدة – رغم اختيار المغادرة من هده المدينة بدلا عن صنعاء وتعز ، انها اخف ارهابا وتسلطا لإنسانها المحلي للجهاز الامني والملحقين من الموظفين المدنيين كمعاونين استخبارات , وهو الدي يطبع كل منافد الدخول الى اليمن والخروج منها , فالإجراءات مسهلة وغير مدققة على المعارضين السياسيين , كما وكان موعد الوصول الى المطار في الخامسة فجرا وبدء المعاملات الرسمية للمغادرة ستكون في السادسة صباحا . . وزمن الاقلاع في السابعة صباحا ، وهو ما يخفض كثيرا التشديد والتركيز على الشخوص المغادرين ، خاصة وأنهم مثل كل اليمنيين مخزنين من نهار اليوم الاول حتى صباح اليوم التالي ، مما يجعلهم منهكين ويغلبهم النوم – مرتين نخبر في صالة المغادرة بتأخر وصول الطائرة ، في كل مرة منها يعلن اعتدار وصولها بعد ساعتين . . لظروف طارئة خارج عن ارادتنا ، وبعد خمس ساعات من الانتظار المبحلق في المدرج , . لم يظهر حتى شبح طائرة رحلتنا بعد – في حوالي الثانية عشرة ظهرا شاهدنا وصولها ، وكان علينا الانتظار مجددا لساعة اخرى قبل الصعود الى جوفها – مرق الوقت متثاقلا . . بعذاب جسدي واضح على الجميع ، اخيرا رن النداء : السادة الركاب المغادرين الى القاهرة التوجه الى البوابة رقم 7 للمغادرة - من كل صوب تجمع الكثير من العاملين في المطار بزيهم العسكري والمدني عند بوابة المغادرة ، ومن بقي منهم تطوف دون توقف على جانبي طوابير المسافرين . . وبينهم . . والمتلكئين عن الصفوف لتجنب الزحام – حين وجدت منهم عن يميني وشمالي . . وهم لا يتركون احدا إلا وتمعنوا في وجهه بشكل غريب مليء بالشك المخيف ، زاد ذلك من تدفق الادرينالين . . عند اللحظة الأخيرة من المغادرة بعد عذاب متواصل من الليلة السابقة . . مسببا رعشة في جسدي وتقطعات في النفس . . بعد سويعات ماضية من السكون داخل صالة المغادرة . . انتظارا لوصول الطائرة – حاولت كبت حالتي ، انها لحظتي الاخيرة للخلاص – تسللت لأنغمر عبورا وسط مجموعة من البسطاء المتدافعين للخروج من البوابة بغية السبق لحجز المقاعد الامامية من الطائرة – كانت عيون ضباط الامن بزيهم الرسمي والمخبرين . . لا تكف عن تفحص وجوه المسافرين . . ادا ما عبر احد المطلوبين امنيا من الجوازات ولم يتم التنبه له – كنت اعرف مسبقا أن مثل هدا السلوك الاستعراضي - شكليا هنا مقارنة بمطاري صنعاء وتعز – وهو اداء متبع لإثارة الرعب في نفوس الشباب العائدين لدراستهم في الخارج أو العائدين لزيارة اهاليهم ، خاصة من كان متأثرا بأفكار اليسار – لم يكن عليك سوى التجاهل . . حتى تغادر المطار ، حتى اني وجدتني فاتحا فمي بابتسامة واسعة وبافتعال تحدث مسموع عن شعور الراحة للسفر لقضاء اجازة . . حتى جلوسي على المقعد الخاص بي في الطائرة ، وبعد مسايرتي لأم وابنتها من عدن . . مسافرتين للسياحة وتجارة شنطة تعوضهما عن تكاليف السفرية وربح مصروف لا بأس فيه لحياتهم بعد عودتهم الى اليمن ، كنت قد عرضت مساعدتي في حمل حقيبتين والسير معهما . . متفاعلا كأنا أسرة واحدة حتى بوابة المغادرة – افادتني نصائح اصدقائي المحدودين ممن عرفوا سفري سرا – لم يكن الهروب الى الجنوب آمنا – عليك أن تظل طبيعيا حتى داخل الطائرة ، حاول أن تجد من تتلهى معه في التحادث ، يحضر داخل الطائرة ستة من المخبرين متوزعين بين مقدمة ووسط ونهاية الطائرة ، هدا غير المضيفين اليمنيين الدين يتم اختيارهم من الاستخبارات ، إ . . إدا اشتبه في احد ، يتم احتجازه ومنع نزوله لأرض مطار البلد الاخر و . . واعادته بنفس الطائرة .
كعادة الطيران اليمني . . لا يفرق زبائنها عن ركاب حافلات النقل الشعبي ، هرج ومرج عم الطائرة خلال الساعة والنصف الاولى من التحليق ، بعد تناول وجبة الغداء الموزعة – كانت الساعة تشير في توقيتها المحلي بالثانية والنصف ظهرا - صرير الدواليب اعلى المقاعد تئن على امتداد جسد الطائرة . . مع فتحها لإخراج حزم القات للتخزين – ما زال الوقت طويل . . حتى نصل مطار القاهرة .
لم يكن قليلا عدد المغادرين للعلاج ، تسمع شكوى المرض والخسارات المالية الكبيرة المنفقة للعلاج ، خاصة المتكرر عودتهم ، تسمع قصصا من النصب المستغل بساطتهم واميتهم ، ليس فقط من المصريين ، بل من اليمنيين المتعيشين عليهم من المتصيدين لهم من بوابة الخروج من المطار العاملين في جهاز السفارة وبعض الطلبة المتبطلين . . تحت دعوى المساعدة المرافقة لهم في غربتهم العلاجية – تكشف لي بعد عمر طويل من الاسفار ، أن ذات الامر يجري مع اليمنيين الواصلين الى اي بلد للعلاج او السياحة ولم يكن لهم مستقبلين - تعالت اصوات تعم المكان لمتحدثين تقدح ألسنتهم بحرف الجاف . . والمعلنين عن انفسهم من اسر ذات شأن أو نفود في اليمن ، هدا غير الملكنين بخليط لهجاتي بين العامية اليمنية والسعودية او الخليجية . . عن القاهرة والاسكندرية وليالي الهرم ، متع تجن لها النفس ، كيف السفر الى القاهرة اكثر وايسر من النزول الى تعز او الحديدة – كل يقص حكاياته بطريقته ، حتى الطلبة العائدين للدراسة خارج القاهرة ، تسمعهم بقضاء معظم اوقاتهم في القاهرة اكثر من اماكن اقامتهم الدراسية – وتلتقط ادناك احاديث هامسة لطلاب في المقعد الخلفي وراءك مباشرة . . والمقعدين الموازي لهما ، عن الصراع الدي يدور في رابطة الطلاب بين الناصريين واليساريين ومخبري النظام – كثروا بها ، لكننا لن نتركهم يعبثوا فينا – لسنا في اليمن يستبدون كما وبمن يشاؤون – واحد كان يتكلم عن حدة الصراع الايديولوجي بين أساتذة الجامعات ، بين الاسلاميين والماركسيين – تبدو مؤشرات لنصرة شيوع الاسلاميين في الآونة الاخيرة – انها حياة صاخبة ، هي مصر الكل موجود ويصارع - ليس من فراغ القول العامي الشائع الدي يقابل به أي زائر جديد يأتي القاهرة . . ( يا داخل مصر . . في مثلك كثير ) – كنت ترى اغصان القات تقدف بين المقاعد المختلفة – هي عادة يمنية تعبر عن الحبور والود بين بين المخزنين ، أن يرمي شخص لآخر غصن قات . . خاصة من نوع القات الضلاعي طويل العود . . ما هي إلا نصف ساعة . . كان رواق الطائرة مغطى بعيدان واوراق القات غير المأكولين - والله بدأنا نفتهن* ، اسف بعد ساعة نرمي التخزينة** ونغسل فمنا قبل الوصول الى المطار . . فمضغ القات ممنوع فيه .
غصة ملأت نفسي لاحاديث عديد من المتفاخرين بسفرهم الدائم خلال العام الواحد الى البلدان الاخرى ، مصر تحديدا منها . . يزورها لأكثر من ثلاث مرات . . على شكل دورات أو زيارات رسمية وسياحة شخصية – ها . . ها ها ، كلها سياحة ، فلوس . . نساء وخمر – اصرف وتمتع . . لا احد يسألك او يحاسبك – غصة . . غيظ واحتقار يلفني ، انا . . هارب ، ليس في جيبي سوى ثلاثين دولار فقط ، غريب وحيد - كان الخروج هو الهم الوحيد ، الى اين ، الى من ، مادا بعد . . لا بعرف شيئا – اولاد الزنا . . يتلددون بتفاخر اللعب بالفلوس بألاف وعشرات الاف الدولارات – هؤلاء التافهين . . لعنة الله عليك . . من وطن - ملايين من البشر يموتون دون قدرة على العلاج ، غير قادرين على التنفيس على الذات برحلة داخلية ، بل أن الغالبية تمر السنوات الطويلة عليهم واسرهم . . وهم غير قادرين على مغادرة مناطق اقامتهم وعملهم – حكايات عيش الملذات والتحرر من المسؤولية وتجديد العوالم . . احلام واساطير . . لا يصدق بوجودها عشرات الملايين المحتجزين بعيش مهين وايقاع حياة دوامة يومية خانقة للنفس ، بل . . لا يصل الى مخيلتها تصور . . ما تلكه اصوات المتحدثين حولها خلال هده الرحلة – فما يصله لبناء تخيله لتطور العالم خارج اليمن . . وحياة الناس بشكل افضل . . من خلال أولئك المحظيين بوجود اقارب لهم او من المعارف بالنسبة لهم . . المغتربين العاملين في السعودية والخليج – خيال بالفلوس . . لا شيء عن الملذات سوى الاكل والملك وبدخ الصرف ، يلمسون خيالهم هدا عند عودة مغترب لزيارة الاهل بعد انقطاع طويل عنهم ، منهم يستحضرون صور عيش المشاق والمهانة خارج وطنك – ما يعمل المرء . . لقمة العيش هي التي تحكم . . ما في اليد حيلة – غيرهم يفتحون شهية التخيل والتمني كأحلام يقظة في الاغتراب – هي الطريقة الوحيدة ليعيش الواحد واسرته بكرامة ، يمكنه بعد كم سنة . . أن يشتري ارضا ، يفتح بقالة او مشروع لدخل دائم ، او يبني بيتا , , واكثر – المهم كم يتقاضاه المغترب من دخل شهريا ، ما يدخر منه . . عبر التحويلات المنتظمة الى اليمن .
يتشابه المغتربين اليمنيين عادة . . في مسلكيتهم تلك . . وإن اختلفوا في مستوى التعليم ، دخل عملهم أو حتى في البيئة الاجتماعية التي اتوا منها – مدينة او قرية او قبيلة – في اولى سنوات غربته يرسل حوالات شهرية ، منها مصاريف لأسرته ، والاخرى باسم وكيل من اخوته او من يثق به لإدخال المبالغ المرسلة – التي يحسبها اول بأول - في حساب خاص . . يتم تجميعها لنقلها لحسابه الخاص في اليمن مع اول زيارات عودة له من الغربة ، او لشراء ارض زراعية او بناء بيت له . . على ارث ورثها او يتم شراءها – بعد مضي نصف عقد واكثر . . يضمحل الحنين للوطن والاشواق للأهل ، حتى لمن كان قبل تغربه من اسرة فقيرة ، يعمل اباه اجيرا مزارعا عند مالك ، او عامل بناء بسيط او موظف بدخل صغير في المدينة . . في سكن عائلي عير صحي بالإيجار الشهري . . وشظف العيش – يتحول المغترب في شخصيته - حتى منهم العاملين في المحلات التجارية او كشغيلة في العمل المهني . . من معامل الخياطة وغيرها او في كأيدي عاملة في البناء – مع زيارات عودته الاولى ، شعوره بالقيمة والمكانة العالية – رغم كونه اميا او يقرأ ويكتب - كمالك وبإنفاق شخصي واسرتي اعلى بما لا يقارن مع تلك الاسر المتعلمة ، بل أن دخله الشهري في بلد الغربة يزيد بمرات عن راتب دكاترة الجامعة في اليمن ، الدين لا يفي دخلهم للعيش . . اكثر من عشرة ايام ، ولا يستطيع أن يمتلك منزلا حتى . . خروجه على المعاش بعد 35 سنة من الخدمة و . . الى لحظة ما توافيه المنية – يطبع التفاخر والبذخ الاستعراضي في المشتريات وصرفيات البوكت مني . . امام الاخرين من الاهل والمعارف والاصدقاء . . بل والعامة – من بعد نصف العقد من العمل في الغربة ، تنازع زيارة العودة . . لتصل الى فترات طويلة من الغياب عن الاهل ، تمتد من الخمس سنوات الى عشر سنوات ، أما الدي انقضى زمنا عليه في الغربة لعمر يزيد عن ثلاثين عاما ، قد يزور المغترب هدا وطنه مرة واحدة فقط او مرتين طوال حياته – إدا لم تكن هناك احداث حرجة في بلد الغربة . . تدفع الى تهجيره الى بلده قسرا – حيث يجد انتماء وجوده مكانا وبشرا لبلد الغربة التي قضى عمره فيه ، بينما تمثل اليمن . . موطن اهله ومسقط رأسه ، لم يعد انتمائه سوى عاطفيا . . لا اكثر ، الدي فيه لولا بلد الغربة لكان واسرته . . في ادنى مرتبه من المجتمع ، وحياة من القهر والمدلة . . لم يكن يعرفها سوى الله ، والتي لم تكن قابلة على التغير للأفضل . . إن لم يفتح الله عليه في سفره للعمل في الغ
يظل شعور النقص بالفقر والقدر يحز في نفس هؤلاء لما عايشوه في حياتهم قبل الاغتراب ، ينمي لديهم حس التعالي والغنى بين من يحيطونهم من البسطاء و . . شرههم في توسع مشتريات الملكية في مناطق معاريفهم اليمن . . كلما طال زمن بقائهم في البلد الاخر . . رغم أنهم حياتيا . . مشدودين عفويا لموطن اقامتهم البديل ، حتى لو لا يمتلك تجنيسا أو حتى ملكية بيت او محل تجاري ثابت ، حتى انه يعمل تدريجيا الى تهجير افراد اسرته . . مع ابقاء منهم لحفظ الملكيات التي اسسها خلال تحويلاته المالية – كنت ووالدتي واخي الصغير مجد في زيارة لقريتها ، التي تحتل المركز الاداري المتقدم للحجرية . الوقت كان خريفيا ، الرياح الباردة تهب عاصفة محولة وجوهنا الى الاحمر القاني على الوجنتين ، وصبغ بشرتنا الى اللون الوردي المزهر – الحقول تتطاول فيها جذوع الذرة الشامية . . لتصل ارتفاعا الى ما يقرب عن المترين – كان الضباب من الثالثة والنصف عصرا , , يكسو الحقول تدريجيا في مرئي بصرنا الممتد من سقف دار جدنا سليمان باشا ، الواقف بغرور متباه على تبه بارتفاع ستة طوابق رأسية ، والسنابل بحجم قبضتي اليدين تتراقص بجنون مصادمة بعضها بعضا ، تستعرض ليونة اجسادها للانحناء لمسافة ثلثين من قاماتها . . نحو الارض – ليس إلا وقتا يسيرا . . تغيب مرئي الحقول في ضوء النهار ، والشمس لم يحن بعد وقت زوالها ، تتساقط رشات فرحة من قطرات المطر . . في سماء صافية ، ما أن يصارع عقرب الساعة الزحف خارج خانة الخامسة عصرا تماما . . يتكاثف الضباب المتدفق دفعا بالرياح من فضاء الفتحات بين الجبال الشاهقة – كنا دائما نستمتع النزول الى الحيود المنتشرة اعلى الجبل ، ونشرب من مياه العيون الباردة . . المتساقطة عبر شقوق داخل الصخور – كان الضباب المتكثف كفرش قطني كثيف من الغمام اسفل من اماكن جلوسنا في تلك الحواف بعشرات الامتار – كانت القرى الواقعة عند سفح الجبل . . تظهر كمصممات كرتونية للعب الاولاد ، تختفي ملامح وجودها مع الثانية ظهرا – كان تحليق النسور العملاقة التي تمتد اجنحتها بطول مترين . . تثير الدهشة فينا ، وكلما اقترب مسار طيرانها منا . . كنت اشعر بنشوة وعلو لذاتي . . لا اراديا – كنت الاصغر سنا وسط ابناء اخوالي – عادة كنا نذهب في عدد لا يقل عن ستة اشخاص ، ويكون اكثر من واحد منا مسلحا بمسدس الى جانب بنادق صيد او بندقية جرمن ، فالحيود اماكن لتواجد النمور والاسود الجبلية ، خاصة عند سقوط الامطار الغزيرة قبل حلول الظلام او خلال الفترات المتأخرة من الليل ، وهو ما صادفه العديد من ابناء القرية او الاهل المغامرين للاسترواح على تللك الحواف امام الحيود . . بعد حلول الظلام ، واهالي القرى عند سفح الجبل عند رجوعهم بعد تسوقهم من اسواق قريتنا وعودتهم الى بيوتهم عند زوال الشمس – كان الكبير منا يصر على المغادرة من بعد الرابعة عصرا ، اولا لخطر وجود الوحوش الضارية ، وثانيا أن مع دلك التوقيت تكثف الضباب المتصاعد سريعا ما يغطي المساحة . . فتنعدم الرؤيا ، خاصة وأن طريق سيرنا محفوف بخطر السقوط في الهاوية ، وحتى اخيرا مع انعدام الرؤيا والسير وسط الحقول المغطية اعواد الدرة فيها قامة الانسان من دخولنا الى القرية ، يكون الضباب قد احال سقوط العتمة على القرية فجأة مع الخامسة ، ويكون هناك خطر اخر تواجد ضباع داخل تلك الحقول أو يصادف المرء كلاب مشردة جائعة ترعد الرياح الباردة اجسادها فتحيلها الى حالة من العدوانية الاشبه بالسعار – هدا ما كان يصل الينا عند وقوفنا على سطح دارنا . . مع تحول الضباب الى غمامة تظلم المنطقة في توقيت نهاري – لم نعد نسمع سوى عواء الكلاب واصوات ابن اوى والضباع في مواقع مختلفة من تلك الحقول ، اصوات توحي لك مشهدا غير منظور من المطاردة وتارة العراك ، تستمر تلك الاصوات حتى نهاية الليل . . وإن كانت تخفت لبرهة لكنها تعود مكررا ، ومع اقتراب الهزيع الاخير من الليل ، يكون العواء المطلق غير مميز إدا ما كان للكلاب الشاردة ام لذئاب - هدا ما تلتقطه إدا ما جافاك النوم وامتد بك الارق غارقا بالمدى المعتم . . عدا بصيص من ضوء القمر الباهت . . المخفي عن العيون ، تلفح وجهك نسمات باردة . . تفرض الصحو حتى على من كان ناعسا – سمفونية رعب ليلي تلتصق بأدنيك . . تسري من رأسك حتى احمص قدميك ، تلونات من الاصوات المتداخلة بجنون ، من الحيوانات البرية والشاردة . . الى البوم وصرير الخنافس وحشرات الليل المتنوعة والكثرة في بيئة قريتنا . . وفحيح الافاعي وحشرجات لا تعرف اصلها ، تتمازج بفوضى عارمة لوقت طويل . . ثم تنطفئ فجأة . . لتعاود بصخب صراعي . . تبهت تدريجيا جميعا لتنفرد اصوات الكلاب في الاماكن المتفرقة بين النباح والعواء . . مع المؤشرات الضعيفة الاولى قبل بزوغ الفجر ، لتسكن بعدها في حالة من فقدان الحياة ، ترتفع بعدها اصوات الديوك الملعلع في الفضاء – كان ديك سليم ابن خالي يسابق بصدح صوته قبل سائر ديوك القرية ، كان العسر كما سماه خالي مرة ولصقت به التسمية . . لما عرف به من عند وشراسة مشاكسة وازعاج . . باناة متعالية ، يشمخ فيه منقاره الاحمر المعقوف السميك اعلى رأسه الواقف على عنق متطاول مكسو بالريش الغزير متعدد الالوان ، وبنظراته الحادة عند اعطائه اندار التحدي ، او المتثاقلة الماسحة بدوران حدقتي عينيه الواسعتين بشكل ملفت . . عند سيره الهوينا المليئة بالمغرور المتبجح ، لما يمتلكه من جمال متناسق لمنظره وجسده الضخم الدي لا يضاهي حجمه أي ديك اخر كنت قد أيته في حياتي ، وما يجمع عليه اهل القرية وكل من رآه .
لم يكن هناك امتع من زيارة القرية بعد عيش رابط جبرا في المدينة لغالبية شهور العام – إن لم تكن الظروف مقيدة لنا . . ولا تطلقنا الا في اجازة العام التالي . . او بعد ثلاثة سنوات – متعة . . لكنها لا تدوم طويلا ، فبعد ايام أو اسبوع . . يملأ الضيق والملل نفسك – تنتهي زيارة كل الاهل في اليوم الاول ، فرحات الشوق لا تعمر بعد ثلاثة ايام من الاقامة ، مثلها تزويرك في الاماكن الخلابة المختلفة ، يعود الشباب مثل ابائهم الى تخزين القات ، ويرثكن من هم بسنك او اكبر او اصغر قليلا . . باللعب او الجلوس للدردشة وحكي القصص والمغامرات والنم والمشاكسة فيما بينهم . . في اماكن لا تبعد عن الدار عدة امتار - بقدر ما كنت ألح على والدتي للسفر الى القرية ، بقدر ما كنت مزعجا بطلبي العودة الى المدينة – بعد مضي ما يقل عن الاسبوع الواحد من وصولنا – كثيرا ما نهرت علنا او بملاطفة مصطنعة . . أتنم عادكم وصلتم ، لا تزعج عمتي . . ويقول الخال . . سيب اختي ترتاح ، ما نشوفها الا مرة كل سنة او اكثر – يعطيني مصروفا لأشتري لي ما اريد – ليش* ما تروح مع عيال خالك . . حتى لا تمل – رشدي . . ادعو رشدي يأخذ ابن عمته ويمشيه ، او يوديه عند بقية العيال – حقيقة . . اشعر . . انهم لم يكونوا يحبونني واخي ، بل يتظاهرون بدلك من اجل والدتي ، خاصة امامها . . يغمروننا بالحفاوة والاهتمام .
في يوم بجلوسنا بعد وجبة الغداء . . تخبرني امي بحاجتنا للبقاء اسبوعين – أني لم اشبع من القرية . . عادنا وصلنا ، واحتاج اتكلم مع اخي . . يعطيني مصروف من حقي في غلول الارض – لم اجد الفرصة المناسبة بعد لأكلمه – ايه . . مثل كل مرة . . يعطيك مبلغا تافها و . . سيعوضك المرة القادمة ، و . . يبصمك على ورقة . . وانا غير موجود – يستغل اميتك ، ونكتشف لاحقا انه بيعك ارضا له أو لاحد من ابنائه او بناته – اكثر من مرة سمعته صارخا عليك هده املاكنا . . وانت تريديها لعيالك . . الدي ابوهم غريب وليس من الاسرة – حدرتك مرارا – كنت تردين علي . . هدا اخي ، حتى لو اخد اللقمة من فمي . . انا راضية - كان حديثنا المتكرر هدا همسا . . كلما فرغ المجلس من الاخرين – عمه ، اليوم عندنا عزومة قيلة في بيت الخادم* مسعد ، وصل من اسبوعين من السعودية ، لو ترى البيت التي بناها من طرحتين – البيت مفروش بالموكت والقطائف . . الى عند مدخل الباب – ستستغربين . . زوجته محليه . . الدهب الدي فوقها . . تحمله بصعوبة من ثقله – من حقها أن تتباهى ، ما عند الواحدة منا . . مقارنة بها . . نحن بنات الاكارم – سقى ايام زمان ، كانت وزوجها . . خدامين عندنا في هدا الدار ، حتى ابو وام مسعد قبلهما . . كانا خدامين عند جدي – توالت النميمة . . زادت اكثر ليلا بعد عودتهن ، امتدت لبقية ايام بقائنا . . خلال الجلسات الاسرية اليومية عصرا ، وحتى ادا ما جئن زائرات أو دهبنا في زيارة اخريات – لو تشوفي . . كيف يلعبوا بالفلوس ، ما لاحظت الثياب الغالية . . التي يلبسونها !!! – وفي يوم كنت اترافق ظهرا مع ابني خالي الكبير سليم وجلال . . في سوق مركز القرية ، الدي اصبح شارعه الرئيسي مرصوفا على جانبيه وعلى ازقة الشوارع الفرعية مختلف محلات التجارة والمطاعم وقلة من المصالح الحكومية - لا اعرف ما كان عليهما أن يشتريانه ، ما أعرفه . . أن خالتي طلبت منهم اخدي معهم . . حتى لا اضيق من حبستي في الدار – سليم . . شوف . . مالك ابن الحاج منصوب الاصبحي – وصل بسيارة فخمة من السعودية ، له عشرين عاما مغتربا هناك ، سافر وهو في بدايات العشرينات - لم يعد يزور اليمن إلا بالنادر . . بدل ما كان كل سنة او سنتين – ما عليه ! . . من حقه يبطر على الناس ، معه فلوس كثيرة - الله يعطينا مثل ما أعطاه ، ما زال كما هو عند عودته . . يلم صعاليك حوله – يا ابني . . هو يعمل خدام في السعودية . . حتى لو جاب معه فلوس الدنيا . . لن يكون مثلنا – هو ما قاله سليم بنبرته الاستعلائية . . المخنوقة بألم الحسد الدي يخفيه – كان قد ركن سيارته امامنا بمسافة عشرة امتار ، فامتداد الطريق مكتظا بأكشاك البيع التي احتلت طريق عبور المشاة . . ومنها ما اصبح يحتل جزءا من جانب الطريق . . على جهتيه المتقابلة – كان يصعب وجود مساحة شبه فارغة ، شغلت كلها بمظهر فوضوي بسيارات النقل والخاصة بمالكي المحلات التجارية الكبيرة - نسلم عليه ما دام من معارفكم . . قلت ، لا داعي فقد تسالمنا من اسبوعين من يوم عودته – رغم قول سليم . . لم تقف نظراتنا التلصصية . . تتابعه بعد ركن سيارته وترجله عنها . . ومن كان يرافقه ، فاكتظاظ الشارع بحركة الناس الموسومة بضجة الاصوات . . تجعل وجودنا غير ملحوظ . . له - يبدو انه اكبر سنا بكثير عن سليم - انه في الاربعينات ، لكن علامات الراحة والرخاء اقل سنا في ملامحه . . ببشرته الناعمة النظرة وحركته النشطة . . الشبيهة عمرا بالمراهقين الصغار – كانت سيارته الفورد البيضاء شديدة الفخامة والرفاهية – هو ما لحظته من داخلها اثناء تجولنا . . بعد أن غادر مكانها ومن معه – كان يلبس قميصا حريريا ابيضا ناصعا . . تحت جاكت عشوائي الالوان مكلف الثمن ، ويضع شالا تارة على رأسه كالغترة السعودية – دون عقال - واخرى ينزعه ليضعه متدليا على يده اليسرى أو يرميه على كتفه الايمن ، ويحمل تلفونا سيارا أحدث موديل يعلن عنه في الفضائيات . . وتارة يحشره في جيب قميصه الاعلى . . ليكون ملحوظا رؤيته . . الى جانب انتفاخ جيوبه الجانبية بحزم مالية تثقلها – هو مظهر معتاد رؤيته على كبار التجار ومسؤولي الدولة الاعلى نفودا – رغم زحمة الشارع وضجة الاصوات فيه . . صوته العالي لإثارة الانتباه . . كان يصل إلينا . . مخاطبا من نزل عن المقعد الامامي . . بألا ينشى اللاب توب – كل اعمالي فيه – وبحيوية للبقية النازلة بعدم نسيان أي شيء مهم في السيارة – هده الايام . . كثرت السرقة . انزلوا فالسيارة تؤمن نفسها ذاتيا بعد غلق الابواب دون مفتاح . . وايضا بعد اطفاء محركها – لا يمكن سرقتها . . هو ما قاله . . ونظراته تتنقل على وجوه الناس . . بابتسامة باردة مستمتعة بملاحقة نظرات الاخرين له خلال سيره – يزداد غبطة . . كلما كثر المبادرين له بالتحية . . ومن كان يحاول اختلاق حديث ودي معه او عرض خدماته – اكان معروفا لديه ام لا – وبردود لطيفة لمن يحومون عليه من سائلي الصدقة . . عفوا ما عندي صرف الان ، مرة اخرى . . ها – بنظرة كشفرة يلقيها على من هو بقربه من شلته . . ليسحبه وقول متكرر . . مرة ثانية – لم تكن غائبة احاديث النميمة . . ولعن الحياة والبلد والدم . . بل والشتم المقذع في امثاله – كانت هناك العديد من الوجوه تكشف دلك ، المتسمر اناسها في اماكن غير مقتربة منه . . تلوك الحديث الهامس مع بعضها . . ونظراتها لا تكف عن مصاحبته ورفقته .
#أمين_أحمد_ثابت (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كشف مترائيات العلمية والنقد العلمي (2- ب)
-
حنين . . في زمن مبكر / أغسطس 1984م.
-
كشف مترائيات العلمية والنقد العلمي (2-أ)
-
مترائيات العلمية والنقد العلمي - الانتهازيات وقيم السوق
-
النخب العربية واوهام تحرير العقل ( 3 )
-
النخب العربية وأوهام تحرير العقل ( 2 )
-
وطن متلون بالجنون
-
متوازنة قوانين الوجود والحياة بين مفهومي العبثية والضرورة (
...
-
رؤية شخصية حول عبثية الوجود والحياة ( 2 )
-
الوجود . . إشكالية لم تحل بعد
-
النخب العربية وأوهام تحرير العقل ( 1 )
-
حب وخوف . . عليك
-
للمدينة - مثلي - سؤال
-
لك وطن . . اخترعتهفيك
-
من وهم العلمية في الفهم - من واحدية تماثل الموقف بين النخبة
...
-
استنهاض من الصمت . . مجددا
-
توهمات فكرية ( ذاتية ) سابقة / نحو أدبيات ثورة فبراير 2011م.
...
-
2 - العبقرية – المعجزة ، ظاهرة استثنائية منفردة ، أم هي ظاهر
...
-
بعد ارتحالي . . من يحملك بعدي
-
من ديوان مزق الوقت الآسن / المزقة 4
المزيد.....
-
متحف الإثنوغرافيا في كابل.. نافذة على التنوع الثقافي في أفغا
...
-
صالون الفنان -مصطفى فضل الفنى والأدبى-فى ندوته مساء الخميس ا
...
-
جماليات الوصف وتعطيل السرد.. -حكاية السيدة التي سقطت في الحف
...
-
بعد نيله جائزة -برلمان كتاب البحر الأبيض المتوسط-.. الكاتب ا
...
-
فيلم يسلط الضوء على انتهاكات كييف
-
المتحف البريطاني يختار الفرنسية اللبنانية لينا غطمة لـ-أحد أ
...
-
العربية في إيران.. لغة -أم- حية بين الذاكرة والتحديات
-
فيديو.. متهم يهرب من نافذة المحكمة بطريقة سينمائية
-
فيديو.. أول ظهور للفنانة المغربية دنيا بطمة بعد السجن
-
سجلات الليدرشيت يشعل النقاش حول القيادة
المزيد.....
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
المزيد.....
|