جيلاني الهمامي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8259 - 2025 / 2 / 20 - 23:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
فشل سياسة "التهميش الاجتماعي"
وعودة الحركة الاضرابية
سياسة تهميش العمل النقابي
منذ أن أخذ قيس سعيد مقاليد الحكم، وخاصة منذ انقلاب 25 جويلية 2021، أصبحت السياسة التعاقدية الرسمية للدولة تقوم على منطق تجاهل الطرف الاجتماعي أي النقابات والسعي إلى إلغائه تماما من المشهد العام. وقد تدرّج في سياسته حيال أهم منظمة نقابية، الاتحاد العام التونسي للشغل، فتعمّد في البداية بث الضبابية والغموض حول علاقة مؤسسات الدولة بالاتحاد ريثما ينتهي من ترتيب الأمور على الأصعدة الأخرى أي ريثما ينتهي من الاستحواذ على أدوات الحكم (البرلمان والحكومة والسلطة القضائية والهيئات الدستورية والاعلام الخ...). وما أن تمّ له ذلك حتى شنّ هجوما في اتجاهات متعددة، الهدف منه تهميش الاتحاد وعزله عن حاضنته الواسعة (قواعده والشركاء التقليديين في المجتمع المدني والساحة السياسية) وتجميد فاعليته. وفي هذا الصدد كثف من "خطاب الإيحاء" للتحقير من دور النقابات والنقابيين وللتشكيك والاتهام والتهديد بالانتقام (الاستهزاء من "خارطة الطريق" و"الخط الثالث" الخ...). وبصورة موازية لذلك أذن لحكومته (نجلاء بودن) بإصدار مجموعة من المناشير لتجميد علاقات التفاوض بين النقابات والأجهزة الإدارية ومؤسسات الإنتاج (المنشور عدد 20 مثلا) واستقبلت "قيادات" نقابات مزاحمة (إسماعيل السحباني) في إشارة للمس من رمزية الاتحاد العام التونسي للشغل وتشجيعا على التعددية النقابية.
وفي إطار تصعيد الهجوم شُنّتْ حملات للتشهير بالفساد والمفسدين وفُتِحَتْ ملفات قضائية ضد بعض النقابيين (صفاقس وباجة والقصرين والنقل الخ...) بغاية تعميق مشاعر الارتباك والخوف. لقد توصل قيس سعيد إلى تحقيق نتائج ذات بال إذ "أجبر" الهياكل النقابية، وفي مقدمتها المكتب التنفيذي للاتحاد، على التراجع والانكفاء إلى ما أسماه البعض منهم "النضال الصامت" وأصبحت المنظمة النقابية محشورة في زاوية لا تجرؤ حتى على الدفاع عن مسؤوليها ومنظوريها. وإلى جانب ذلك اتخذ من بعض أنصار "مسار 25 جويلية" أدوات لاختراق المنظمة وشق صفوفها من الداخل. وتمكن من استمالة العديد من العناصر الذين خيّل إليهم في بادئ الأمر أن الطريق إلى ربط الاتحاد بعجلة السلطة سالكة.
وفوق كل هذا استمر في الالتفاف على مكتسبات العمّال والنّقابات وزاد في دهورة ظروف العمل وفي الإضرار بالمقدرة الشرائية وفي التضييع على النقابات وبالتالي في ضرب الحق النقابي والحريات النقابية. وقد نجم عن هذه الأوضاع أن انفضّت أوساط واسعة من القواعد العمالية من حول نقاباتهم التي انتشرت في صفوفهم قناعة بأنها فقدت دورها في الدفاع عنهم وحمايتهم من الانتهاكات وأصبحوا لا يرون من ورائها أملا.
إن مجمل هذه الخطط والسياسات أدّتْ إلى استشراء روح الاستقالة والانهزامية في صفوف العمال défaitisme والمجتمع التونسي ككل. وهو المناخ الذي تعمل الشعبوية إشاعته كي يتسنى لها فيما بعد الاجهاز على المؤسسات والوسائط التي كان يعتمدها المجتمع للتعبير عن نفسه. ويمكن القول إن قيس سعيد قد نجح في ذلك مؤقتا نِصْفَ نجاح. ومن غير المرجّح أن يستكمل النصف الآخر لأسباب كثيرة منها ما يتعلق بتركيبة الشخصية التاريخية للتّونسي كفرد وللشعب التونسي كـ"جماهير" ومنها ما يتّصل بمعطيات الواقع الرّاهن وطبيعة التحوّلات الجارية الآن بايجابياتها وبسلبياتها. وقد ظهرت بعض المؤشرات الدالة، على محدوديته، أن هناك تغييرات قادمة في سيرورة الصراع الاجتماعي والسياسي الجاري في بلادنا. واحد من هذه المؤشرات عودة الحركة الاضرابية في بعض القطاعات والجهات. وكما يقال فإن الإشارات تغني اللبيب عن العبارات.
عودة الحركة الاحتجاجية والاضرابية
مع مطلع العام الجديد انتقلت بعض الأوساط من مجرد التذمّر إلى الاحتجاج الجماعي وسجّل شهر جانفي الماضي، حَسْبَ تقرير المرصد الاجتماعي التّابع للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، 386 تحرّكا احتجاجيا (مقابل 137 لشهر جانفي 2024). كما سجّل، حسب نفس التقرير "تراجع استخدام الفضاء الافتراضي كوسيلة للاحتجاج مقارنة بالسنوات السابقة، حيث لم تتجاوز نسبة الاحتجاجات التي اتخذت من الإنترنت وسيلة لها 18.47%، بينما ارتفعت التحركات الميدانية في الفضاءات الرّسمية والعامّة إلى 81.53%. ". وقد تركزت هذه الاحتجاجات على "المطالب المرتبطة بالتشغيل وتسوية الوضعيات المهنية" وشملت عديد القطاعات (الأساتذة والقيمين والدكاترة الباحثين ...).
من جانب آخر شهدت الأسابيع الأخيرة تصاعد وتيرة الإضرابات سواء تلك التي تمّ تنفيذها او التي هي مبرمجة للأيام القادمة. وقد عرفت وزارة الشؤون الاجتماعية ولجان الصلح مارطونا من الجلسات التفاوضية بخصوص سلسلة من الإضرابات في عديد القطاعات. وقد سبق أن نفّذ أعوان وإطارات شركة فسفاط قفصة إضرابا يومي 25 و26 ديسمبر الماضي إثْره تمّ التوصل إلى اتفاق تم بمقتضاه إلغاء إضراب بثلاثة أيام 27 و28 و29 جانفي الماضي. كما سبق أن تقرر إضرابا ليوم 12 ديسمبر الماضي في الوكالة التونسية للتكوين المهني وإضرابا ليوم 8 جانفي الماضي في المجمع الكيمياوي التونسي وآخر ليوم 23 جانفي الماضي في المصحّات الخاصة ومصحّات تصفية الدم والصيدليات الخاّصة وموزعي الأدوية بالجملة وإضرابا ليوم 6 فيفري في قطاع توزيع الادوية بالجملة وإضرابا ليومي 12 و13 فيفري الجاري في مؤسستي الشركة الوطنية للسكك الحديدية وشركة أشغال السكك الحديدية، تم تأجيله لشهر جوان القادم بعد تدخل وزارة الشؤون الاجتماعية وكذلك إضراب أعوان وإطارات الشركة التونسية لصناعات التكرير الذي تقرر ليوم 30 جانفي ثم تم تأجيله ليوم 20 فيفري الجاري.
صحيح أن أغلب هذه الإضرابات تم تأجيلها أو إلغاؤها بعد أن تحصّلت النقابات على مكاسب مادية ومهنية لكنّ الأمر يبدو صعبا بالنسبة إلى الإضرابات المبرمجة للأيام القادمة في قطاع الأساتذة يوم 26 فيفري الجاري وإضراب البريديين لأيام 24 و25 و26 من نفس الشهر.
فبالنظر إلى نوعية المطالب الواردة في لائحة الهيئة الإدارية للتعليم الثانوي وزارة الاشراف المطالبة بـ"الإسراع بفتح حوار جدي من أجل إصلاح عميق وشامل للمنظومة التربوية" فإنه من غير المنتظر أن تستجيب الوزارة لهذه المطالب والمتمثلة في "تنفيذ ما بقي عالقا من اتفاقيتي سنتي 2019 و2023 ومضاعفة منحة الاستمرار للمديرين وللنظار وسن قانون لتجريم الاعتداء على المدرسين وفتح باب التفاوض في المطالب المادية الواردة في اللائحة المهنية الصادرة عن مؤتمر الجامعة العامة للأساتذة في أكتوبر 2023.
وفي غياب ما يفيد حرص وزارة الاشراف على فض هذا النزاع سيكون الأساتذة ونقاباتهم مجبرين على تنفيذ إضرابهم يوم الأربعاء القادم 26 فيفري تماما كما هو الحال بالنسبة إلى البريديين الذين وإلى ساعة كتابة هذا لم تتوصل الجلسات الصلحية بين نقابتهم وسلطات الاشراف إلى حل. علما وأن هذا الاضراب كان من المفروض تنفيذه خلال شهر سبتمبر الماضي وتأجل لأيام 24 و25 و26 فيفري الجاري بعد جلسة اللجنة المركزية للتصالح يوم 19 سبتمبر الماضي. وقد يكون من الصعب تجاوز الخلاف الحاد بين الطرفين بالنظر إلى نوعية المطالب المرفوعة من قبل أعوان وإطارات البريد مثل المصادقة على نظام أساسي بجوانبه المالية والمهنية وتفعيل الصندوق الاجتماعي المتفق في شأنه من قبل وتطبيق اتفاقات أخرى قديمة تتعلق بالترقيات وإدماج أعوان الحراسة هذا علاوة على الدخول في مفاوضات حول اللائحة المطلبية المنبثقة عن مؤتمر جامعة البريد الأخير.
ويتضح من اللوائح المطلبية لقطاعي الأساتذة والبريد، وهي حالات نموذجية تعكس الأوضاع السائدة في بقية القطاعات، أن اهتراء المقدرة الشرائية وتردي ظروف العمل والمعيشة باتت من الدوافع الملحة للعودة إلى اللوائح المطلبية التي ظلت لفترة لا بأس بها طي التجاهل والنسيان. ويمكن أن تكون صحوة بعض القطاعات مقدمة لانتشار حركة إضرابية لن تقدر السلطة لا على "إطفائها" بالاعتماد على خطاب الدّمغجة ولا على منعها بالقوة إذ قد يكون ذلك قادحا لانفجارات أوسع وأكثر حدة.
والأمر الأكيد أن ما عوّلت عليه الشعبوية في تهميش العمل النقابي لتمرير "مشروعها" وضمان شروط تطبيق الخيارات الليبراليبة القاسية قد باء بالفشل ولم، ولن، يمنع نهوض العمال للدفاع عن لقمة عيشهم حتى وإن كانت نقابتهم (الاتحاد العام) يعاني من تصدع صفوفه الداخلية.
19 فيفري 2025
#جيلاني_الهمامي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟