عزالدين محمد ابوبكر
الحوار المتمدن-العدد: 8259 - 2025 / 2 / 20 - 17:43
المحور:
الادب والفن
التفسير :
في البداية ، لما لا نفسر المعنى المقصود ، من التفسير؟ ؛ هناك من يرى أن التفسير ؛ هو تفكيك أو تحليل لـ نص أو صورة ما ، لكن التفسير لم يكن ، من أهداف المدرسة البنيويّة في الفلسفة ؛ في أي مرحلّةً من مراحل تطورها ، لكن الأمر مختلف في ألمانيا وفلسفة أفرادها ؛ لأن التفسير أصبح محور من محاور الفلسفة ، وسوف نتفهم أمر تطور الفلسفة البنيويّة ، إلى ما بعد البنيويّة والتفكيكية (التي قدمها جاك دريدا بالمناسبة) ؛ عندما نتعرض إلى ما يُسمَّى بـ التفسيريّة أو الهرمانيوطيقا (Hermeneutics) ، وهي فن لتفسير النصوص ؛ وتحديد معانيها وفقًا لمجموعة ثابتة من القواعد ، مثل القواعد النحويّة والأبنية البلاغية/الجمالية لـ اللغة الهدف (لغة النص) ، وكل هذا إلى جانب نظرية أدبية (أو فلسفيّة في حالتنا هذه) ، من أجل احكام مسار التفسير.
ويرجع أقدم استعمال لـ الكلمة في اللغة الإنجليزيّة ، حسب قاموس أوكسفورد (OED) ؛ إلى أوائل القرن الثامن عشر ، لكن نرى ابعاد هذه الكلمة تتشكل ، في ظل الجدل الذي اندلع بفعل آراء داروين التطورية ، والتي أثرت في العلم والفلسفة تأثيراً لا يستهان به ، وأصبح لـ داروين أنصار ؛ يُهمُّهم أن يُعيدوا تفسير بعض آيات الكتاب المقدس ، التي تربط بـ الفكر الدارويني ، الذي بـ المناسبة قديم قدم العلم الطبيعي ، وليس بـ فكرة جديدة ؛ لكن كان لـ داروين منهجية وأدلة جديدة عليه تثبته ، وقد دعت الحاجة ؛ إلى التفرقة بين الهرمانيوطيقا و فكرة الشرح ، أو الشروحات التي تُقام على نصوص الكتاب المقدس ، والهرمانيوطيقا وثيقة الصلة بـ الهِرماتيك/الهرمسية (نسبة إلى المعبود هرمس) ؛ التي تعني في مضمونها السحر (أو قوة الطقوس) والغموض ؛ لما في النصوص الهرمسيّة من لغة صعبة ، وصبغة فرديّة وأفكار فلسفيّة عميقة وتوفيقية ، والهرمسية لها أصل كمتي ، من ناحية الاسم فـ المعبود المصري القديم جحوتي هو هرمس ، عندما حدث التوفيق السكندري بين معبودات كمت ومعبودات الاغريق.
لكن ما الحاجة إلى هذه المقدمة؟
نحتاج لهذه المقدمة ، لكي نتفهم كيف تُقام عملية التفسير ؛ لكي يتبين لنا أن الوجود يتضمن عملية التفسير ، دائماً وأبداً ؛ مما يذكرنا بـ الكوجيتو الديكارتي (انا افكر إذن انا موجود) ، أو قوة التفكير بـ اعتبارها دليلاً على الوجود ، أو ما قاله الفيلسوف مارتن هايدجر "أنا أشعر إذن انا موجود" رداً على الكوجيتو الديكارتي ؛ لأن الإنسان في نظره موجود لأن حالته المزاجية ، تكشف له حقائق أساسية عن وجوده الذاتي ؛ ومن هنا سوف يستطيع أن يحدد الإنسان ماهيته بحسب قول جان بول سارتر لكن بـ مزاجة حسب هايدجر.
والفن من رؤيتي الشخصية له ، هو أي عمل يجعل الإنسان يشعر بـ حالة مزاجية مختلفة عن حالته الاعتيادية ؛ مما يجعل الفن موضع تأثير في النفس ؛ وتفكر وتأمل وأحلام شاردة أيضاً.
لكن يرى عامة الناس ، أن الفنان/ة مذهل/ة لأنه/ها غالباً ما يكون متيقظاً ، وواعياً لما يُذهل منه الناس ، لأن أكثر الناس إن لم نقول أغلبهم ، يقومون بـ ابتذال الوجود وتسطيحه ، إلى درجة التحقير وعدم الإهتمام ، ويشحون عنه كأنهم مُخلدين في الأرض ، ومن هذه النقطة فـإن أيّ سائح ، ليست لديه معرفة سابقة عن الآثار المصرية والفن ؛ لا يقوم بـ النظر إلى الأثر في ذاته ، عن طريق توجيه المرشد السياحي له ، لا بل يقوم هو (أي: السائح) بـ قراءة اللوحة التعريفية التي توجد بالقرب من الأثر ؛ إن وجدت أصلاً أو كانت ذات فائدة أو نفع ، وليس من الغريب أن نرى مرشدين سياحيين ، لا يستطيعون قراءة الفن المصري ؛ لأنهم اعتادوا على النصوص الشارحة سواء المنشورة في الكتب ، أو المجلوبة من على ويكيبيديا (لا تستغرب الأمر هذا هو حال البعض وليس الكل) ، ومن هنا أصبحت اللغة تطمس الفروق وتضيع الهويّة الفرديّة للعمل الفني المصري ، وتحيل الفرد إلى فئات عامة ومعلومات بسيطة ؛ ومن هنا قد يكون «اللفظ» هو الحاجب بين المتلقي (السائح) وبين الشيء (الأثر) ؛ فلا يرى السائح المتعطش غير الاسم والغرض ، وتكون تجربة معرفية ناقصة.
وهناك من يرى أن السائح يود فقط أن يترفه ، حسنًا إن أراد السائح أن يترفه فقط فلما جاء إلى معبد الاقصر مثلاً ؟؟
في الحقيقة هناك سائحين مهمين جدا هما : ١ السائح الباحث عن الترفيه ، ٢ السائح المتعطش للمعرفة.
الأول يأتي إلى معبد الأقصر ويتذمر من الحر والشمس ، الثاني يأتي ومعه آمال كثيرة (وليس زجاجة بيرة) ؛ من أجل معرفة اكبر قدر ممكن من المعلومات ، حول المعبد وتاريخه بنائه وطقوس تأسيسه ، لكن هل يمكن أن نحول السائح الترفيهي إلى سائح ثقافي ؟
بالتأكيد ، ان وجد برنامجاً ارشادياً مثيراً ومشوق وبسيط اللغة ودقيق ؛ وهذه للإسف صفات نادرة في البرنامج الإرشادي التقليدي ، وهذا ليس تقليل من شأن البرنامج ؛ لكن تنويه واعتراف بأنه لا يواكب العصر الحالي ، ولا يضع السيكولوجيّة الإنسانية في نصب عينيه.
هل تتحمل الآثار المصريّة الفلسفة الوجوديّة؟
الآثار المصرية اعلم أن هذا مصطلح واسع وفضفاض ؛ لكنه مٌلّم زمنياً بـ الفترات التاريخية ، التي مرت على تاريخ مصر القديمة ، ويصف أن هذه الآثار بناها أجداد هؤلاء المصريين (من منظور السائح/الضيف) ، و الأثر له دلالتين ؛ الأولى هي حضارية لأنه عمل فرد ضمن مجموعة تنتمي إلى مجموعة أكبر (قوم) ، أما الثاني فهو فني حيث أن أي عمل انساني له هدف يندرج تحت بند الفن حتى التفكير ، ومن خلال الفلسفة الوجودية سوف يكون هناك دلالة ثالثة وهي وجودية ؛ تتناول قصة الأثر وتتخيل كيف كان وجوده الأول (بعد الخروج من تحت يدي الصانع) حتى ماهيته الحالية (مكان حفظة وحالته) ، وإن كان به خدش أو ارتطام تتناول حدوثه بـ شيء من الخيال يمس الواقع (وتذكر أن العلماء بحاجه دائماً إلى الخيال) ويحدد إن كان قصداً ام حادث.
فن النحت في مصر القديمة ، هو فن للحياة ؛ حتى أن قدماء المصريين كانوا يطلقون على عملية النحت 𓋴𓋹𓈖𓐍𓂷𓂡 سِ-عَنْخ أي يكون حياً* ، وهذا يعني أن الصانع كان يقوم بـ منح المادة حياة ، إن لمسها وبدأ يتحسس عليها بـ يديه وينحتها بـ أدواته ؛ ومن هذه النقطة يبدو أن التمثال في مصر القديمة هو وعاء لحفظ الروح والشعور ، هنا تتدخل الوجودية كـ فلسفة وفكر ، من أجل تأكيد وجود ارتباط بين الشخص والموضوع المطروح (الفن) ؛ ويجب على المرء أن لا ينسى أن مؤسسي الوجودية ؛ كانوا اما شعراء أو كتاب أدب أو مسرح أو فلاسفة ومنهم من لم يعترف بذلك ، مع أنه عُرض عليه جائزة نوبل ، ورفضها لأنها سوف تُقيد حريته! ، ألا تفكرنا هذه القيم بـ الفنان المصري الذي لم يدون اسمه على اغلب أعماله (وهذا ما فعله كيركجور في كتبه بالمناسبة) ؛ وأبدع فيها ليس خوفاً من السلطة إنما طلباً للإبداع وتلقي الناتج المادي ثانوياً ، وهذه الوجودية ليست نابعة من نصوص فلسفيّة مكتوبه من أجل الإنسان ؛ إنما هي من الإنسان لأجل الإنسان ، وثورة على القيم المعقدة.
ورغم تراجع الوجوديّة كـ حركة فلسفيّة مهيمنة ؛ بفعل ظهور فلسفات أخرى (سبق ذكرها) ، إلا أنها لاتزال مؤثرة وموجودة في العديد من المجالات مثل : الأدب ، علم النفس ، الفلسفة ، المنطق (لا يزال يولد) ، السياسية ، فلسفة السياسية.
وتراجع الوجوديّة لا يعني أنها اختفت ، أو في طور الاختفاء من على المسرح الفلسفي ؛ لكن بدلاً من ذلك تم إعادة تفسيرها ودمجها ، في المجالات سابقة الذكر ؛ ولاتزال الأسئلة التي طرحتها الوجوديّة عن المعنى ، والحرية ، والمسؤولية ، موجودة لكنها تناقش في أُطر فلسفيّة جديدة ، وتستخدم مفاهيمها بشكل أوسع.
كيف تُقام التفسيرية الوجودية؟
تُقام التفسيرية الوجودية ، على القطعة الأثرية ؛ بوصفها موجودة في ذاتها L être-en-soi حسب فكر سارتر ، والوجود في ذاته هو الوجود الموضوعي الجامد ، وأبسط مثال على هذا النوع من الوجود ؛ هي الصخرة إنها لا تفكر في وجودها ، هي فقط موجوده ، والوجود في ذاته هو عنصر من ضمن مشروع الإنسان المنفتح على التساؤلات حول الوجود وما فيه ؛ من أجل إثراء تطوره في الوجود الأصيل ، لكن التمثال موجود هنا في الوجود ، وهو متجذر في سياق تاريخي (موجودي)* ؛ لكن الفرق بين الوجود هنا بالنسبة إلى التمثال ، هو على العكس من مفهوم الـ "Dasein" الهايدجري (الكينونة في العالم) ؛ لأن التمثال ليس مثل الإنسان ، لأن التمثال لا يتفاعل مع العالم ولا يتأمل ولا يتسائل في وجوده ، لأنه ليس موجوداً في ذاته.
ومن هذه النقطة فلن يتسائل عن وجوده ، ولم يتخذ أي قرار ولن يستطيع أن يعرف الحرية لأنه جماد موجود في ذاته ، لكن هذا الموجود في ذاته يحمل قيمة هامة ، بالنسبة إلى الإنسان لأنه محور اهتمام في فترة من حياته ؛ وقد يفجر هذا الاهتمام في نفسه كل المشاعر الحسن منها والسيء ، و في حالة المتلقي الذي لا يملك أي معرفة أو وعي استاطيقي/جمالي فسوف تكون تجربته مقلقة وفيها الكثير من المشاعر ... وقد يصل الأمر ببعض المتلقين أن ينغلق فكرهم ويقعون في فخ اللوحات التعريفية ، التي لن ولم تفيد خصوصاً في بعض المتاحف.
- ومن هنا يبدوا أن في المتحف تجارب وجودية وإنسانية وتساؤلات -
و أمامنا تمثال لرجل مجهول الهوية ، يحمل وجهه نظرات هادئة فيها شيء من القلق ؛ مما يرجح أنه في منصب إداري ، وما يؤكد ذلك هو أنه يرتدي رداء رسمي (بالنسبة إلى وقته) ؛ مما يؤكد أنه رجل ذو منصب ويجعلنا نرفض كونه بروليتاري ، والتمثال مصنوع من عدة قطع من الخشب ملصقة ببعضها البعض ، وقد تمت تغطية أجزاء من التمثال ؛ بطبقة من الجبس الابيض (كابريتات الكالسيوم) قبل الطلاء ، من أجل جعل التمثال مضبوط الشكل ، ونرى الرجل يقف وقفة حازمة ؛ مما يجعلنا نعتقد أنه كان مقرباً من القصر الملكي ، والرداء الأبيض يرمز إلى الطهارة والنقاء ؛ مما يحيل التفكير إلى المعبود أوزير الذي نال الخلود ، وسوف ينال الخلود كل من يتشبه به من اتباعه ، والشعر الأسود على الرأس يرمز إلى الخصب أي أن الرجل لايزال شاباً ، لكن نرى عدة خربشات على الرداء ، مما يجعلنا نتخيل وجود هذا التمثال بين بعدة ادوات والمتاع الجنائزي الخاص بالمتوفى ، مما يشير إلى أن التمثال الموجود هنا كان داخل قبر أحد النبلاء ؛ إلى أن سُرق من القبر ، والتمثال يعود إلى الفترة الانتقالية الأولى ؛ مما يجعلنا شبه متيقنين من مسألة السرقة في وقت الثورة ، التي عمّت كمت (اسم من اسماء مصر معناه أرض الخصب) ، وحسب ما جاء في وصف متحف Walters للفن https://art.thewalters.org/detail/29801/male-wooden-figure/ ؛ فإن هذا التمثال قد تم العثور عليه بواسطة هنري والترز عام ١٩١٤ ؛ ويبدو أنه قد تم العثور عليه في قبر بمنطقة أسيوط ، حيث توجد جبانات النبلاء والبروليتاريين من شعب مچر الوسطى ؛ وكعادة أي متحف غربي لا يوجد ذكر لكيفية الاقتناء ؛ ولعلك تضحك أن عرفت أن هذا يعني أنه إما أوراقه ضائعه أو أنه مسروق!
قياسات التمثال بالقاعدة : 3/8 10 بوصة (26.4 سم).
مع تحياتي
عزالدين محمد ابوبكر
بعض المراجع التي رجع إليها الكاتب :
- المصطلحات الأدبية الحديثة : دراسة ومعجم إنجليزي-عربي ، تأليف محمد عناني ، نسخة رقمية صادرة عن مؤسسة هنداوي.
- دلالة الشكل : دراسة في الإستطيقا الشكلية وقراءة في كتاب الفن ، تأليف عادل مصطفى ، نسخة رقمية صادرة عن مؤسسة هنداوي.
- الوجودية ، تأليف جون ماكوري ، ترجمة إمام عبدالفتاح إمام ، مراجعة فؤاد زكريا ، العدد 58 من سلسلة عالم المعرفة ، الكويت.
#عزالدين_محمد_ابوبكر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟