محمد لفته محل
الحوار المتمدن-العدد: 8259 - 2025 / 2 / 20 - 00:11
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
سنة ونصف وانا مشدود امام التلفزيون اتابع احداث الحرب على غزة، واتفاعل معها، حتى لحظة "وقف اطلاق النار" هذه الحرب التي كشفت لي حقائق كثيرة جعلتني اعيد النظر في اشياء كثيرة من ازدواجية المعايير (الاعلامي والسياسي والحقوقي) التي تمارسها الدول العظمى وانتهاء بالعودة الى نقد الاستشراق.
الحرب على غزة انتهت عسكريا فقط، لكن المعركة السياسية لم ولن تنتهي مع اسرائيل ومن خلفها امريكا. هذه الحرب التي يمكن ان نسميها حرب القرن او الحرب المجزرة او كما قيل حرب الابادة، والتي ابرز ما فيها انها كانت حرب على المدنيين وليس حرب ضد جيش او ميليشيات باشتراك دول عظمى، حرب من طرف واحد على طرف اعزل وغير محمي، حرب جيش على شعب كامل. صحيح ان الجيش الاسرائيلي كان يشتبك مع مقاتلي حماس لكن هذا الجيش (والدول العظمى معه) قرر ان يضع شعب غزة ضمن اهداف الحرب سواء بالقتل او التجويع والتعطيش ومنع المساعدات الانسانية وتدمير البنى التحتية. لهذا اقول ان ميزة هذه الحرب عن سابقاتها انها حرب ليست بين جيوش انما حرب دول عظمى ضد شعب كامل اعزل.
كل هذا الكلام مبدئيا صحيح، لكن الاكتفاء به، غير صحيح. فهو كلام يكتفي بالنقد ضمن الشرعية الدولية (سواء قوانين او اعراف سياسية) دون ان يراجع هذه الشرعية ذاتها، هذه المنظومة التي ساهمت بحرب الابادة مساهمة سياسية او قانونية. فمثلا ان اعطاء الدول ب"حق الدفاع عن نفسها" كانت التبرير القانوني للجريمة، كذلك ان هذه الشرعية تعتبر ان كل سلاح خارج الدولة "ارهاب" بغض النظر عن اسبابه، ولذلك فان الفلسطينيين ارهابيين في منظور هذه الشرعية! كذلك ان هذه الشرعية اعطت حق النقض بيد خمسة من الدول فقط التي تعطل اي قانون حتى لو كان يحضى بالإجماع! ناهيك ان هذه الشرعية يسيطر عليها الاقوياء فقط (امريكا، روسيا، الصين) والتي تتحكم بهذه الشرعية! وهذه الشرعية تقدم الوقائع على الارض على انها حقائق وليس العكس! وتتعامل مع القوي وتهمش الضعيف بغض النظر عن الحق والعدل بينهما! باختصار تقدم المصالح على الحقائق والاخلاق، بل وتمارس التمييز العنصري (اضطهاد الافارقة والسود والاسيويون والعرب وعدم الاكتراث بارواحهم وحياتهم بالمقارنة مع الانسان الاوربي الابيض).
اذن يجب تغيير نظرتنا عن هذه الحرب من الادانة ضمن الشرعية الدولية الى ادانة الشرعية الدولية نفسها. لان هذه الشرعية استخدمت للتوسع الامبريالي الامريكي، ومارست ازدواجية المعايير والانتقائية في تطبيق القوانين والقرارات الأممية، بل انها في احيان كثيرة لم تكن اممية انما بقرار من الدول العظمى فقط، واحيانا كانت تلك القرارات خارج الامم المتحدة (مثل غزو العراق، او فرض عقوبات على دول مناوئة لامريكا فقط) وكيف وظفت الدول العظمى العلوم (البحوث الجامعية) ووسائل التواصل (تعاون جوجل مع اسرائيل) والتقنيات سياسيا ضد العرب بدون وازع اخلاقي او قانوني.
يقول جوزيف مسعد: "احد الاشياء الاستثنائية حول الدعم الغربي للاستعمار الاستيطاني في فلسطين هو اصراره على ان العمل الاستعماري مشروع لايشكل عدوانا على السكان الاصليين. ومن ناحية اخرى ترى أن المقاومة التي يخوضها الفلسطينيون ضد الاستعمار الاستيطاني غير شرعية. ولهذا السبب فإن القمع الهائل الذي يمارسه المستعمرون اليهود على السكان الاصليين يتم تعريفه دائما من قبل اسرائيل والحكومات الغربية ومراكز الأبحاث والصحافة الغربية المذعنة على أنه "عمليات انتقامية" أو "اخذ بالثار" وقد استخدمت المستعمرات الاستيطانية مثل هذه الاوصاف بشكل عام في مذابحها."(1)
ان هذه الشرعية ممركزة على الذات الغربية (امريكا واوروبا) وتحاول غربنة العالم عبر عولمة قيمها الشاملة، وطبعا لاتعني هذه الغربنة التساوي في العلاقة مع النضراء، انما علاقة المنسوخ بالأصل، او المعلم والتلميذ، وهذه العولمة لا تشمل ايضا نقل التقنيات العسكرية او العلمية المتقدمة انما تسويق الثقافة الاستهلاكية على انها هي كل شيء.
والحقيقة ان هذه الشرعية تعرضت للانهيار الاول بسقوط الاتحاد السوفيتي، وتفردت امريكا بعدها من عام 1991 واصبح العالم احادي القطب تقوده امريكا التي قادت بدورها الشرعية للانهيار الثاني منذ غزوها العراق وهزيمتها في افغانستان وسقوطها الاخلاقي في الحرب على غزة. فهذه الشرعية الدولية مثل مومياء محنطة قابلة للانهيار باول هزة (حرب بين دولتين عظمى مثلا)
طبعا هذا الكلام لا يضع كل الدول الاوربية في سلة واحدة، التي لدى بعضها مواقف ايجابية للعرب، ناهيك انها لا تشمل كل الشعوب الاوروبية التي خرج كثير منها في مظاهرات مؤيدة للشعب الفلسطيني وضد حرب الأبادة، يضاف لموقف الامم المتحدة التي صوتت بالاجماع، اكثر من مرة على ايقاف الحرب على غزة لولا الفيتو الامريكي، انما اقصد المنظومة التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية التي شرعها الاقوياء وهم اقلية ثم اسموها اممية! منظومة جاءت مابعد الاستعمار لتستبدله بالإمبريالية الامريكية.
ان فلسطين ليست قضية خاصة بالشعب الفلسطيني انما هي قضية كل العرب، فما حدث فيها من ابادة ممكن ان يتكرر في اي دولة عربية، ويكفي ما حدث في لبنان وسوريا من استباحة للبشر والحجر حتى ندرك انها قضية عربية مشتركة.
هناك سؤال يلهث، طرح فورا بعد وقف اطلاق "من المنتصر"؟. وكان جواب احد الاطراف هو النصر لحماس وان بثمن باهض (خسارة جسيمة بالارواح والعمران) لان الصمود بذاته نصر امام ثلاث دول عظمى خلف اسرائيل (امريكا، بريطانيا، فرنسا) وتكبيد الجيش الاسرائيلي مئات الارواح (إن لم تكن الالاف). وسيجيب الطرف الآخر بان الثمن الذي دفع كان اعلى من المكسب، فلم يتحقق حل الدولتين او رفع الحصار عن غزة ولا توقف التطبيع مع العرب، في مقابل تراجع جبهة المقاومة في لبنان وغزة نفسها.
وعلى وجاهة الجوابين، فاني اعود لمراجعة السؤال (من المنتصر) الذي يفترض انها حرب بمعايير الحروب السابقة (بين جيشين) وما لم نفترض ان خصوصيتها انها كانت حرب ضد شعب اشتركت فيها دول عظمى، فان السؤال سيكون مغلوطا من اساسه. وعليه فان الثمن الذي دفع كان بسبب خصوصية هذه الحرب. اما النتائج السياسية فلن تتبين بمجرد ايقاف الحرب على غزة. (خمسة دول اوروبية اعترفت بالدولة الفلسطينية اثناء الحرب على غزة في مقابل امتناع البقية).
والاكيد ان هذه الحرب غيرت اشياء كثيرة بحيث نقول ان الشرق الاوسط ما بعد طوفان الاقصى ليس مثل ما قبله. فقد سقطت نظرية الامن الاسرائيلي، وتراجع الردع الاسرائيلي، وتبين ضعف اسرائيل بدون التدخل المباشر من الدول العظمى لحمايتها، ووضوح التخادم بين اسرائيل والامبريالية، وعودة فلسطين دوليا كمشكلة تحتاج الى حل عادل.
ولا يمكن نقد طوفان الاقصى لان ما قبله لم يكن افضلا مما جاء بعده، فقد كانت الحروب الدورية مستمرة على غزة، وبقاء الحصار عليها، ناهيك عن الحق القانوني للمقاومة من الاحتلال (بحسب الشرعية الدولية الفاسدة والتي ليست دولية) كذلك ان ما يسمى حل الدولتين، الذي يعول عليه الكثير دون مراجعة، الم تعتدي اسرائيل على دول معترف بسيادتها (لبنان، سوريا، مصر) وتحتل اراضيها، لانها غير قادرة على الرد، فأذن المقاومة مهمة كشرط الاستقلال، وطوفان الاقصى عملية مشروعة (سياسيا وقانونيا) لكنها جوبهت بثلاث دول عظمى واكثر حاولت اجهاضها.
بالمحصلة نحتاج لوقت اطول حتى نستوعب الدروس المستفادة من عملية طوفان الاقصى التي كانت لكثيرون ضوء في نهاية النفق، ضوء يمثل بداية وليس نهاية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1_جوزيف مسعد، في الغرب اسرائيل لاتبادر ابدا الى العنف بل تنتقم فقط، 2024.
#محمد_لفته_محل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟