علي الجلولي
الحوار المتمدن-العدد: 8258 - 2025 / 2 / 19 - 21:55
المحور:
مقابلات و حوارات
تواصل "صوت الشعب" فتح صفحاتها إلى ممثلي القوى التقدمية في الوطن العربي لمواكبة ما يجري في منطقتنا من أحداث وتحولات عميقة تستهدف الخريطة والمقدرات والبشر ضمن الصراع الضاري للقوى الامبريالية لمزيد السيطرة على المنطقة التي تشكل أحد أهم شرايين العالم. هذه المنطقة التي تحوز كل التناقضات بما في ذلك في القدرات الذاتية لشعوبها التي تمزج في هذه اللحظة التاريخية الدقيقة بين مظاهر الاستكانة التي يفرضها الحكام بالحديد والنار تنفيذا لدورهم الوظيفي، وما يؤكده الشعب الفلسطيني يوميا من مظاهر صمود عالية فاقت في إبداعها ما خاطته مقاومات الشعوب سابقا.
للتداول في هذه القضايا استضفنا هذه المرة الرفيق ممدوح حبشي، القيادي بحزب التحالف الشعبي الاشتراكي المصري، هذا الحزب الذي ساهم في تأسيسه المفكر الراحل سمير أمين.
• الرفيق ممدوح، تعيش المنطقة تحولات عميقة و متسارعة. كيف تقرؤونها وماهي تداعياتها على الشعوب؟
إذا أردنا وصفاً دقيقاً للمرحلة التي يمر بها عالمنا اليوم نقول إنها مرحلة الانتقال من عالم أحادي القطب إلى العالم متعدد الأقطاب. وككل مراحل التحول الكبيرة تسود فوضى عارمة وتصعب حسابات ردود الأفعال، خصوصاً إذا كانت كالمرحلة التي نحن فيها الآن، أي وصول القديم إلى منتهاه (الرأسمالية في قمة أزمتها الهيكلية) مع عدم نضج البديل الجديد، أي قوى التحرر والاشتراكية.
إن أهم سمات هذه المرحلة هي الحروب التي تشعلها القوة المتراجعة، هذا التراجع الذي لا يزيدها إلا شراسة. أهم هذه الحروب المشتعلة اليوم (أوكرانيا، فلسطين- لبنان والسودان) هي طوفان الأقصى والتي أدت إلى بداية عملية استقطاب عظيم على مستوى العالم. اصطفت قوى الامبريالية بقيادة الولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل وبقية العالم - خاصة الشعوب - إلى جانب فلسطين. إنه الاستقطاب بين معسكر المقاومة، الذي يمثل مصالح الشعوب المستعبدة من نظمها، ومعسكر المهادنة، أي الاستسلام، الذي يمثل مصالح الطبقات الحاكمة. لهذا السبب بالتحديد أضحت الديمقراطية في بلداننا تمثل خطراً مباشراً على الهيمنة الغربية. فكان موقع النظم العربية، بما فيها السلطة الفلسطينية، إلى جانب معسكر الامبريالية. حتى وإن حاولت تمويه ذلك، فحرب الإبادة لم تترك ثغرة لإخفاء مثل تلك الحقائق. حتى قنابل الدخان الإعلامية التي دأبت تركيا، الدولة العضو في حلف الـNATO، على إطلاقها لم تفلح في إخفاء دعمها لإسرائيل، لكي تظهر إيران هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي ترفض الانصياع لهيمنة الولايات المتحدة. لا يعني هذا بأي حال من الأحوال أننا نؤيد كل سياسات النظام الإيراني لكن فقط نريد الإشارة إلى أن ذلك النظام هو الوحيد المستقل نسبياً في الشرق الأوسط.
• اتخذ النظام الجديد في سوريا مجموعة إجراءات لتثبيت الحكم والتحكم في البلاد. ما طبيعة ما يجري في سوريا في تقديركم؟
الوضع في سوريا اليوم مركب وشديد التعقيد. الحقيقة أننا أمام مؤامرة من العيار الثقيل، أو دعنا نسميها استراتيجية، حيث أن المؤامرة يجب أن تكون سرية. أما ما يحدث في سوريا فقد تطوع لاعبوه بالإعلان عن دوافعهم وأهدافهم، برغم كل ما ينتاب عملية التنفيذ من نفاق في وسائل الإعلام.
تندرج أحداث سوريا الحالية في إطار الحرب الكونية بين القوى العظمى، الغرب الاستعماري بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من ناحية ضد الصين وروسيا من ناحية أخرى، لإعادة رسم الخريطة الجيو-سياسية من جديد. الصين وروسيا، مع مجموعة البريكس BRICS بعد توسيعها، يريدون مكانًا لهم في عالم متعدد الأقطاب، أما الولايات المتحدة وفي ذيلها دول الغرب (حلف شمال الأطلنطي NATO) تحاول بكل الوسائل، المشروعة وغير المشروعة، الحفاظ على هيمنتها في عالم أحادي القطب، أي استعماري امبريالي يفرض على بقية دول وشعوب العالم الخضوع الكامل لمصالح الرأسمالية في مرحلة أفولها.
سوريا قد بدأ الاعتداء عليها منذ فجر ما سمي بالربيع العربي عام 2011 في إطار رسم شرق أوسط جديد. وما إسرائيل وتركيا والنظم العربية الحاكمة، لاسيما الخليجية وبما فيها السلطة الفلسطينية، ناهيك عن ميليشيات الإسلام السياسي، إلا أدوات في تنفيذ هذه الاستراتيجيات. أي أن سوريا هي الحلقة الضعيفة في إطار إعادة تشكيل شرق أوسط جديد تقوده وتهيمن عليه إسرائيل، في إطار حرب كونية ضروس بين تلك القوى سالفة الذكر.
تحت شعار "كل يبكي ليلاه" دخلت عناصر عدة في هذه البوتقة، كل له دوافعه الخاصة. روسيا في حربها ضد حلف الـ NATO بالنيابة في أوكرانيا واحتياجها إلى توسيع نفوذها في المنطقة في صراعها من أجل أخذ دور في عالم جديد متعدد الأقطاب. تركيا القوة الاستعمارية الصغيرة، الدولة التابعة العضو في حلف الـ NATO، بنزقها المتصاعد في التوسع "العثماني" وحربها اللانهائية مع حزب العمال الكردي PKK والذي تعتبره الخطر الإرهابي الأكبر على وحدة أراضيها. أما طموحات وأهداف إسرائيل فحدث ولا حرج. توحّد هؤلاء حول ضرورة القضاء على محور المقاومة، العقبة الكأداء الوحيدة المتبقية في الطريق المؤدي إلى شرق أوسط جديد تحت قيادة إسرائيل، أي الخاضع تمامًا للإمبريالية العالمية ضد مصالح شعوبه بشكل صريح. تفاعلت هذه العناصر مع بعضها حتى توصلت إلى تسويات انتهت بإسقاط نظام الأسد بالاستعانة بقوى ظلامية ارتدت مرحليًا ثياب الديمقراطية والمدنية والوحدة الوطنية. لن تمضي شهور حتى تظهر النوايا الحقيقية التي تنذر بصراعات بين أشتات هذه الجماعات، قبل أن تخبو نشوة انتصارها، صراعات قد تنفجر مع المجتمع ككل بسبب الرغبة المعلنة في إعلان سورية إسلامية. كما أتوقع ظهور صراعات طائفية وعرقية، و/أو تبييض صفحة القيادة الجديدة وجعلها دمية طيعة في مشروع الشرق الأوسط تحت قيادة إسرائيل. أما الشيء الأكيد فهو أن تستولي تركيا وإسرائيل على أجزاء شاسعة من الأراضي السورية. ولن تعجزها الحجج أمام مجتمع دولي أصم أبكم وقوى عظمى لا يهمها سوى مصالحها الجيوستراتيجية.
• بعد 15 شهرا من حرب الإبادة المتوحشة ضد الشعب الفلسطيني. تمكنت المقاومة من إبرام اتفاق لوقف العدوان وتبادل الأسرى. ما تقييمكم لما يجري اليوم في فلسطين؟
إن ما شهدناه منذ انطلاق عملية "طوفان الأقصى"، يؤكّد أنَّ المقاومة أجبرت مخططات الامبريالية على اعتبارها العامل الحاسم في المعادلة، خوفًا من تأثيرها على عملية إيقاظ أو تحريك الشعوب، بعدما كان فيما خططته الاستراتيجية الامبريالية للمنطقة، أن تكون الدول أو النظم في جانب وشعوبها في الجانب المقابل.
اليوم ترسخ لدينا - نحن الشعوب - وعلى مدار العقود الماضية، أن إسرائيل ما هي إلا قاعدة للإمبريالية العالمية في الشرق الأوسط، وعرى هذه العلاقة لن تنفك ما لم يصل الغرب الامبريالي إلى القناعة بعدم الحاجة لوجود رأس الحربة في المنطقة، وهو ما سنراه يتحقق بالتزامن مع المرحلة الجديدة من الرأسمالية، التي تخلت عن مبادئ وأفكار الليبرالية الجديدة؛ إلى "البلطجة" الصريحة لفرض انصياع كل أنواع المقاومة لمشروعها. إلا أن ما يحدث الآن هو زيادة الصلة بين إسرائيل والامبريالية العالمية نتيجة لحالة الاستقطاب المرحلي الذي يشهده عالمنا أفقيًا ورأسيًا، ما ينبئ بأن المعركة ما تزال طويلة. بالطبع نحن هنا نتحدث عن الاستقطاب بين إسرائيل والامبريالية من جهة، والدول المناهضة للإمبريالية وشعوبها من جهة أخرى.
إن ما شهده قطاع غزة خلال الفترة الماضية، والذي أدى إلى إعلان القطاع منطقة منكوبة، يعيد لنا التأكيد على أنَّ فخ الدولتين الذي نُصب أمام أعيننا للقضية الفلسطينية بات جليًا وأصبح من الضروري السعي للخروج منه، نحو حل الدولة العلمانية الواحدة التي تعيش فيها الأديان كافة، الأمر الذي لابد من وضعه على جدول أعمال القوى والدول المتضامنة مع القضية الفلسطينية، فهو الحل الوحيد المقبول إنسانيًا وأخلاقياً.
إن من يرى صور أنقاض قطاع غزة، ويسمع تقارير أهلها، يدرك أنَّ التقارير النمطية في وسائل الإعلام عن الهجمات الإسرائيلية ضد مواقع حركة "حماس"، ما هي إلا محاولة غير كفؤة لتبرير الحرب العشوائية ضد جميع السكان في قطاع غزة، بأنها حرب دفاع حقيقية. إن "حرب الإبادة ضد حماس" هذه تظهر أنَّ حماس ليست طائفة صغيرة، وليست "كارتيلاً"، بل من الواضح أنها منظمة ذات فروع واسعة في المجتمع، والتي يتطلب القضاء عليها الطرد والحرب العشوائية حتى على من غير المشاركين. ولا يمكن إلا لمتهكم أن يبرر ذلك باعتباره ضررًا جانبيًا في حرب دفاعية لا يمكن تفاديه.
إن هزيمة إسرائيل في حرب طوفان الأقصى تعني ضربة موجعة للإمبريالية وشرخ عميق في بنية نظامها العولمي الهادف دائماً إلى إخضاع الجنوب العالمي للشمال العالمي .[1]سياق الإبادة في غزة لا يشذ عن سياق الإبادات الاستعمارية المستمرة للحفاظ على نمط العلاقة القائمة وهي واحدة فيما يسميه الدكتور علي القادري[2] “الإبادات البنيوية” التي تشكل ركيزة الهيمنة الغربية على العالم، عالم الجنوب بالتحديد.
• عديد القراءات تؤكد تداعيات المستجدات في المنطقة على مصر في اطار إعادة تشكيل الإقليم برمته. كيف تنظرون لهذه التداعيات؟
تتعامل الامبريالية العالمية مع بلدان الشرق الأوسط بطرق مختلفة، حسب المعطيات الموجودة في كل بلد على حدة. فهناك نظم تلعب أدوارا فاعلة في هذه الاستراتيجيات مثل بيادق الشطرنج، لذلك وجب الحفاظ على تلك النظم لتعظيم الاستفادة من أدوارها، مثل تركيا ودول الخليج وإسرائيل ومصر والأردن والمغرب. كما أن هناك نظم أخرى وجب هدم أسسها كدولة تمامًا لأنه أسهل وأنفع، حيث أن التفتيت هو جزء أساسي من استراتيجية الامبريالية العالمية، مثل ليبيا وتونس والسودان واليمن والعراق والآن سوريا.
وحينما نتحدث عن مصر فإننا بالضرورة سنلقي نظرة تاريخية سريعة تجعل الحاضر مفهومًا أكثر بالنسبة للقارئ، فمع قدوم السادات، وتحول بوصلة السياسة المصرية من الصراع ضد الاستعمار والامبريالية (مرحلة عبدالناصر) إلى التصالح واعتبار المشكلة بين العرب وإسرائيل مشكلة نفسية و٩٩٪ من أوراق اللعبة في يد أمريكا (تصريحات السادات المشهورة)، تغير مسار السياسة وصولاً إلى التطبيع، ما طمأن الامبريالية العالمية إلى خروج مصر من حلبة الصراع وإلى غير رجعة، وهو النهج الذي سار عليه مبارك أيضًا خلال فترة حكمه التي استمرت 30 عامًا، ما يعني أنه مرّت على مصر 40 عامًا كان فيها النظام منفصلاً تمامًا عن التوجه الشعبي الذي ظهر للعلن بصورة شديدة الوضوح في ثورة 25 يناير 2011، الحركة الشعبية التي أيقظت المارد من جديد، لأنها كانت ثورة ضد الامبريالية بأشكالها كافة، وهو ما دفع الإمبريالية إلى العمل على تقزيم دور مصر، لما لها من وزن جيوستراتيجي على الساحة العربية بالذات. وكان من بين أدوات الامبريالية دعم الثورة المضادة التي نصطلي بنار تبعاتها حتى الآن في مصر.
• تعرف مصر أوضاعا اقتصادية واجتماعية وسياسية صعبة ومعقدة. ما هي اتجاهات تطور الأوضاع في بلدكم؟ وما هو دور حزبكم والقوى التقدمية في هذا الصدد؟
الوضع الاقتصادي في مصر لا يخفى على أحد، وإن أخذنا الحديث حول الدين الحكومي، سنجد أنه كان حوالي 30مليار دولاراً عام 2011 والآن قد يربو على 170 مليار، دون أمل في السداد، لاسيما مع استمرار الفساد والنهب، فضلاً عن أن الأموال لم يتم إنفاقها في مشاريع منتجة، بل استهلكت في البذخ على مشاريع لا طائل منها ولا عائد لها.
الآن أصبحت الدولة المصرية كما المدمن، تستدين من أجل خدمة الدين لا من أجل سداده، ولم يعد هناك حل أمام الدكتاتورية العسكرية الحاكمة غير بيع أصول الدولة، وهو ما رأيناه من بيع للأرض تحت شعارات كاذبة، وهو ما أدى سياسيًا إلى تحول مصر من دولة قائدة في المنطقة إلى دولة تابعة للتابعين مثل الإمارات.
لهذا الوضع الاقتصادي المتردي بالطبع تداعيات اجتماعية كثيرة، من بينها زيادة معدلات الإفلاس والانتحار والجريمة والإدمان، فضلاً عن ارتفاع معدلات البطالة، وزيادة نسب المتشردين. فلا يمكن أن نفي هذا الحديث حقه هنا. لكن لمن يريد المزيد يمكن أن نرسل له المزيد.
حاوره: علي الجلولي
15 فيفري 2025
________________________________________
[1]انظر كتاب: مستقبل الجنوب في عالم متغير، سمير أمين، دار الأمين، القاهرة، 2002.
[2] مفكر واقتصادي لبناني، وباحث في جامعة سنغافورة الوطنية، وباحث زائر سابقاً في قسم التنمية الدولية ومختبر البحوث المتقدمة حول الاقتصاد العالمي في كلية لندن للاقتصاد. شاهد: https://youtu.be/MH_5Ojp8GaY
#علي_الجلولي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟