أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد خيري الحيدر - غُروب سانتوريني ... قصة قصيرة















المزيد.....


غُروب سانتوريني ... قصة قصيرة


حامد خيري الحيدر

الحوار المتمدن-العدد: 8258 - 2025 / 2 / 19 - 16:10
المحور: الادب والفن
    


مع آخر النهار أخذت الشَمس تُلملم أشعتها ببطء استعداداً لرحلتها اليومية لما وَراء الأفق، مودّعة جزيرة "سانتوريني" وسُكانها وسوّاحها بعد يومٍ مُشمس طويل، كي تأخذ قِسطاً من الراحة تُجدد به نشاطها وطاقتها، في مظهر بانورامي أخّاذ ينتظره مُعظم من تواجد على ظهر الجزيرة، حيث يتجمعون في هذا الوقت على قِممها العالية المُشرفة على البحر، مُتناثرين بين أبنيتها البيضاء ذات القِباب الزَرقاء المُمتدة كشَرشَف أبيض ناصع، وهم يَرنون لمَغيب صاحبة النور والحياة وقد انعكست خيوط ضيائها الأخير على ورود شُجيرات الجَهنمية الحَمراء التي تُزيّن الدُروب وأسطح المَقاهي والحانات، مُتأملين غروبها المَهيب بصَمت وخُشوع، خشية تَعكير صَفو سَفرها نحو غفوتها الهانئة، على أن يلتقوها مُتلهفين صَبيحة اليوم التالي، متأهبين بذات الوقت لاستقبال الليل الطويل بسُكونه وهُدوئه الحالم.
تَمطى بجَسدهِ على كرسيّه المُريح في شُرفة المَقهى المُشيّد عند قمة الجزيرة مُطلاً على البحر، مُستريحاً بملابسه اليونانية البيضاء الفضفاضة التي مَنحت جسمه شيئاً من الضَخامة، والتي ارتداها تَحبّباً بهذه البلاد وتاريخها، ليَستنشق مع بداية جلسته نَفَساً عَميقاً مُحاولاً مَلأ رئتيه بأكبر قدر من الهواء المُنعش، ماداً ساقيه مُحاولاً الاسترخاء، رامياً بَصره نحو الأفق البعيد، حيث يَتلاقى السماء والبحر في حَميمية غريبة تُشابه زواج الآلهة بالإنسان كما تذكر إحدى الأساطير اليونانية القديمة، ليغدوا بلون واحد تُمحى فيه فوارق الوجود بين السمّو الإلهي والبساطة الإنسانية، عندها وَرَدت على باله مع هذا المَنظر الفريد فكرة الفيلسوف "أفلاطون" القائلة بأن قارة "أطلانتس" الضائعة، كان قد أبتلعها في يوم من الأيام يَمّ هذه الجزيرة، إثر انفجار مُفاجئ لبركان هائل أخفاها بسُكانها من حَيّز الوجود، مُقارناً هذه الكارثة الاسطورية المُختبئة بين صفحات الحقيقة والخيال مع مَجرى حَياته، وكيف يُمكن لحادثة طارئة لم تكن في البال أن تَسلبه فجأة كل احلامه وآماله.
كانت هذه سفرته الأولى منذ أن أصبح مُتقاعداً عن العمل بعد تجاوزه أواسط العقد السابع من العمر، هكذا سريعاً ودون أن يَشعر رأى سنوات عمره قد سُلبت منه عاماً بعد عام، ولم تترك له الحياة منها سوى الشَيب يغزو شعر رأسه الطويل ولحيته الكثّة التي غَدت بلون الثلج، ليَعلن ثورته عليها تاركاً إياها مُنسابة بعشوائية دون تشذيب أو تَصفيف مثل أيامه الماضية، لقد ظن وهو يَرى هَيئته الجديدة أنه استيقظ فجأة من سُبات عَميق، فلم يُصدّق بعدها ما غَيّرت به الأيام من تلك العلامات الغريبة التي يَخشاها الناس وهم يَرون بها البداية المؤلمة لأفول الحياة.
لأول مرة لم يَصحب في رحلتهِ زوجته أو أياً من أولاده، أراد أن يكون وحيداً مُنفرداً في حياته ولو لأيامٍ قلائل مَعدودات، حُراً فيما يفكر ويُخطط ويَنوي ويفعل، طليقاً كالطير، خفيفاً كالريح، من كل تبعات وثقل الأفكار والهُموم التي قَيدت خيالاته وكبّلت إرادته، كما كان يَتمنى أيام شبابه وعُزوبيته، كأنه يُريد مع تضارب الأفكار في رأسه المُتعب بتناقضات الحياة وتَشنجاتها، أن يُعيد حسابات وجوده ويضع خطة لمَرحلة قادمة جديدة من مَسيرة عمره التي فَرَضت روتينها المُمل شؤون العمل وظروف البيت والعائلة.
كان قد أتخذ قراره هذا رغم جُرأته وغرابته بعد قراءته لمَقالٍ صُحفي يَتفق مع تفكيره وجَدلية ثقافته، عنوانه "حرية الشعر الأبيض"، كتبه أحد المَوهومون بخلود الحياة، ربما ما ورد فيه يُمثل نوعاً من البَطر أو الخيال المُسافر عبر أحد البحار المائجة، جاء في بعض سطوره.. (أن بعض الناس أو أغلبهم يكرهون ويمقتون غزو بَياض الشعر لرؤوسهم، لذا تَراهم يَبتكرون وسائل عديدة لإخفاء تلك الصورة القدرية التي تظهر على تفاصيل هيئاتهم، آملين من خلال تَشبثهم بتلك الأساليب الواهية الخَدّاعة التَمسّك بأهداب الحياة، رغم قناعتهم المُطلقة في دواخلهم بحَتمية الفناء)، ليَنتقد الكاتب تلك الأفكار الشاذة العقيمة التي لا جدوى منها، ذاكراً لهؤلاء الراكضين وَراء السَراب.. (أن الشباب الحَق يَكمن في نقاء الروح والقلب، وليس بالصور الجميلة الجامدة كتلك المُعلقة في المَعارض والمَتاحف، لذا فالحياة تبدأ مع نصفها الثاني حيث يكون الانعتاق الحقيقي للإنسان).
كان هذا الرأي يَتناغم مع ذاته تماماً حتى وأن كان مُجرد هَذيان فكري لا طائل يُرتجى منه، إذ أنه يُصور صراعاً تَناوب على مَسيرة الانسان الطويلة، بين المادة حيث الشباب والعنفوان وما تُمثله من استحواذ وأنانية وتَسّلط، والعاطفة التي تُداهم البَشر مع قدوم الشَيخوخةً وبما تُبشّر به من زُهدٍ وعلاقات انسانية تَسمو فوق مُستوى المصالح، بعد أن أتعبها الجَري الحَثيث وراء زُخرف الحياة، لذا كان يَتمنى قدوم الشيب حتى قبل أوانه، حيث كان يَعتبره نوعاً من الحرية، بل التمرد والثورة على الزمان والمَكان والواقع الجائر الذي فَرض عليه دون رَغبته أو إرادته، وهكذا بمُجرد أن وجد نفسه حُراً طليقاً من جديد مُتجاوزاً كل تبعات مَسؤولياته أتخذ قراره بالسَفر وحيداً مُنفرداً، راغباً بتجربة حَظه مع هيئته وحاله الجديد بكامل استقلاليته.
مع تهافت فوضى الأفكار الى رأسهِ الحائر بخيالاته المٌبعثرة بين الأمكنة والأزمنة، تَشبث فكره ببريق ذكرى حكاية حُبه الأولى، بعد أن تجاوز عقله الباطن مُعادلة العمر والشيب والسُلوك النَمطي خلال حياته الماضية، أراد مع كل هذه الخُزعبلات الفيزيائية أن يعود حقاً الى حُرية شبابه، من خلال استذكار أعّز وَمضات فتوته، حين بدأت خفقات قلبه اليافع الأخضر تُشعره بوجوده، تلك الذكرى الذي كانت بالنسبة إليه خطواته الوَئيدة الأولى بسبيل تَمرده المجنون لنَيل حرية كيانه، هكذا كان ومازال ينظر الى الحب.. صراع وثورة وانعتاق.
وهكذا أيضاً كانت حبيبته الأولى التي ظل يُخبئ أسمها وتفاصيل قصته معها عن أقرب وأخلص اصدقائه، تلك الانسانة المُجابهة الكارهة للخوف، التي تَمسّكت به بقوةٍ بعد أن رأت فيه أداتها القوية لانتصار ثورتها، كما لو كانت تود أن تصرخ معه بأعلى صوتٍ ما جَهَر به نزار قباني.. (أني لا أؤمن في حبٍ، لا يَحمل نَزق الثوار، لا يَكسر كل الأسوار)، كانت مثله تماماً مُهووسة بالتَمرد على كل أنماط التَعصب عن طريق مغامرة مَحمومة تُدعى الحُب، حُب جارف غير خاضع لجَدليات التطور، الرافض لخُزعبلات أزمان التخلف العتيقة، (اوهام الاجداد) كما كانت تُسمي افكار مجتمعها، خاصة عند لقاءاتهما الصباحية في مقهى الجامعة قبل بدء المُحاضرة الدراسية الأولى، حيث كانت تلتقيه بعُينيها البُنيتين المُتلهفتين للقياه المُفتقدتين فراقه منذ يَومهما الفائت، عند احتسائهما معاً أكواب الـ"نيسكافيه"، حتى هذا المَشروب ذو الهوية الأوربية المُتمدنة كانت قد استعاضت به عن القهوة العربية التي كانت لا تَستسيغ مَرارتها، مُعلنة رَفضها لها مُعتبرة إياها إحدى الصور الجائرة التي تُجسّد قَسوة التقاليد الشرقية البالية.
لقد قرر أن تكون سفرة أنعتاقه الأولى نحو هذه الجزيرة من دون وَعي أو إرادة، وكأن قوة خَفية مَجهولة جعلته يفكر بذلك وهو يَستعيد بعضاً من أحلام حَبيبته وأمنياتها.. (يوماً ما سأذهب الى "سانتوريني"، بالتأكيد سأسافر إليها يوماً، لا أعرف متى، ربما عندما يُسافر بي العمر ويَسرق الشَيب شعري، حقاً لا أعرف متى)، ولدى سؤاله عن سبب اختيارها هذه الجزيرة دون سِواها من جزر العالم العديدة لسَفرتها الموعودة تلك، كانت تجيبه وعَيناها سارحتان نحو السَماء.. (يُقال أن آلهة اليونان قد خبأت في بحر "سانتوريني" سر الوجود).
كانت تردد تلك الأفكار الغريبة دوماً وخاصة جَدلية وجود الحَياة مع ابتسامة خلابة مُشرقة، تَبتهج سَوية مع حركة شَعرها الأسود الفاحم الطويل المُنسدل برَشاقة ونُعومة على كتفيها، مثل شلال مُنهمر من جبل عالِ، مُتناسق مع لون بشرتها القمحية الجَذابة، تَذّكر وَشَم النجمة الجميل بلونه الأحمر وإطاره الأصفر التي كانت تُزيّن به زَندها الأيسر، خاصة حين تكشف عنه بتفاخر واضح بارتدائها أثواباً بأكمام قصيرة وأحياناً من دونها حتى، قاصدة إظهار هذا الرَمز المُلفت للنظر للجَميع، إصراراً منها على رَكل كل التحفظات المُجتمعية المَوروثة الرافضة لعلامات التَحرر هذه، وما يُمكن أن تُثير رؤيته من غرائز ذكورية شَرهة لدى الطلاب وغيرة أنثوية حَسودة لدى الطالبات.
لم يَغب عن تفاصيل ذكرياته حَسَد زملائه الطلاب على ارتباط عاطفته الجَياشة بهذه الحَسناء الساحرة مع بداية دراستهم الجامعية كلما شاهدوهما معاً، جعله يظن مُتوعداً زملائه بعد اختفائها واعتقاده الذي ترسَّخ بعد هذه الصَدمة المفاجأة، بأن حَسَدهم الدائم وغيرتهم من حَبيبته المُتمردة هو من سَلبه حُلمه الجميل الذي راوده عند غفوة رائقة داعبته معها نسائم ربيعية طيبة، ليُقرر على إثرها وبعد أنهائه الدراسة السَفر والهجرة الى أوروبا، مُبتدئاً مرحلة جديدة من حياته هناك، وحتى بعد كل تلك السنين لازال يَتساءل يا ترى هل كانت علاقته بها حباً حقيقياً جارفاً تَمّلك كيانه واستعبد حياته؟ أم إن ما جَرى كان مُجرد نَزوة عابرة كتلك التي يُغري دِفئها عادة الشباب مع بدء حَياتهم الجامعية؟ حيث اختلاط الجنسين في الدراسة المُشتركة التي تجمعهم ضمن حَيّز صغير تُجمّله أزهار الحرية، بعد طول حِرمان من لقاء الجنس المُقابل في مدارس البلدان المُقيدة بأيادي التخلف، البعيدة عن مُجاراة تطور العالم.
كانت حبيبته وحكايتها وَمضة خاطفة لمَعت مع بداية آماله لم تَستمر سوى سنتين، اختفت بعدها فجأة من لوحَة حياته مثلما ظهرت فيها من دون مُقدمات أو سابق موعد، وحتى من غير أن تُكمل دراستها، كان ظهورها واختفائها تماماً مثل عُمر الأنسان يأتي بلحظة ويَرحل بلحظة، ليغدو وجوده من دونها رَتيباً مُملاً، لا يختلف بشيء عن أية ماكنة قديمة صدأة تَدور من دون هَدف، ثم يُصيبها العطل فتتوقف ثم تدور مرة أخرى، تارة بسرعة وتارة ببطيء وفق ظروف تشغيلها، هكذا غَدت حَياته وسارت أيامه بعد انكسار ثورته وفشل مَشروع تَحرره، خُضوع لدوامة الحياة ورُكوع لتقاليدها وأعرافها، عمل، زواج، أسرة وأولاد، سنين تَمضي دون أن يَشعر، مَلل ورَتابة ونَسق كسول، أيام ثقيلة تَجري تِباعاً بعيدة كل البُعد عن الإثارة والجَذب والتشويق، تماماً مثل طعام المستشفى، من دون ملحٍ أو أية توابل ومُطيّبات، صحي، مُفيد، وربما يطيل العمر بضعة أشهر، لكنه بلا طعم أو مَذاق وبالكاد يُمكن ابتلاعه.
مع توارد تلك الخيالات البعيدة الى رأسه الحائر، شَعَر رغم عُيونه المُغمضة بأن المنضدة التي أمامه قد تَحركت قليلاً مُشيرة الى جُلوس شَخص ما على كرسيّها، بهدوء وتثاقل فتح جفنيه بحركة غَريزية بطيئة كي يَتقصى بفضول هوية الجالس المَجهول، الذي سَرَق عن غير قصدٍ خُلوته مع البحر، ليَتيّقن بأن امرأة هي من شَغَلت المكان مانحة له ظهرها، فلم تتح له رؤية وَجهها، كانت تَرتدي ثوباً يونانياً أبيضاً عاري الذراعين يَكشف عن اطواقٍ ذهبية عَريضة حول ساعديها المغزليين، لتبدو هيئتها مع شَعرها الأبيض المُنسدل بنعومة على كتفيها كواحدة من آلهة الأولِمب، كان لون جَسدها كما بدا من ذراعيها العاريتين قمحياً، لم تؤثر فيه شمس "سانتوريني" الساطعة التي تَجعل جَسد كل من يَزورها يَتحول خلال أيام قلائل مع الشمس اللاهبة الى سَمراء برونزية، تُغري بالقدوم لهذه الجزيرة والتمتع بحرارة صيفها وشدة شَمسها.
يا ترى مَن تكون هذه المَرأة؟ لقد أثار مَنظرها وهَيئتها فضوله مُباشرة، لاحظ أنها تَرمي بنَظرها مثله تماماً صَوب البحر دون أن تلتفت نحو اليمين أو اليسار، بَدا جَسدها الرَشيق ليس غريباً عليه، لم تَمض سوى دقائق حتى جاءها النادل يَسألها عن طلبها، لتُجيبه بهدوء..(كوب من الـ"نيسكافيه")، لسَعت هذه الكلمات مع الصَوت الرَقيق الذي نَطقها كبِده.. (يا إلهيَ من تكون هذه المَرأة؟)، ثم مع حَرَكتها البطيئة المُصاحبة لتلقي طلبها، أمعن النظر في هَيئتها وأسلوب جَلستها بعد أن وَضعت ساقاً على ساق، ثم ما أن حَرّكت قليلاً ذراعها الأيسر قليلاً رافعة كوبها لتأخذ منه أول رَشفة حتى ارتجفت أوصاله، أنه نفسه وَشم النَجمة الحَمراء بإطاره الأصفر الجميل واضحاَ كل الوضوح على زندها الأيسر الذي لازال غضّاَ رغم ما أصابه من تَرَهل قليل فَرضه تقدم العمر.. (أنها هي، بالتأكيد أنها هي!)، (الصوت نفسه، الوَشم نفسه، كوب الـ"نيسكافيه" نفسه، ونفس لون البشرة ونُعومة الشعر، وأن صَبغته الأيام ببياضها).
يا لها من مفاجأة لم يَتوقعها أو يَحسب لها أي حساب، ما الذي أتى بها الى هنا؟ هل كانت تُنفّذ أمنيتها القديمة الأثيرة على قلبها بعد أن سار عُمرها بطريق المَغيب، هل تَزوجت وأصبح لديها عائلة وأولاد ورُبما أحفاد أيضاً؟ هل تقاعدت عن العمل وأصبحت هي كذلك تَبحث عن حُرية تقدم السن، أم أنها مثله جاءت الى هذه الجزيرة دون شُعور أو إرادة، كنَوع من تَوارد الخواطر بين عَقليهما الشاردين الحالمين بحرية مَفقودة، جَعلتهما يأتيان الى "سانتوريني" في نفس الوقت ثم يَجلسان بذات المَقهى، أخذت الأفكار والأسئلة تَتوارد الى عَقله المُرتبك بسرعة لم يستطع تنظيمها أو السَيطرة على تَتابعها، اختزلت كل تلك السنوات البَعيدة منذ افتراقها المفاجئ عنه، هل يذهب إليها ويُذكرّها بنفسه؟ ذلك الحَبيب الذي غابت عنه وتركته حائراً في تلكم الأيام الخضراء؟ لابد أن ذلك سيكون نوعاً من التَجاوز الأخرق غير المُبرر، قد لا تكون هذه المرأة هي نفسها حَبيبة الماضي الجميل.
لكن حتى وإن كانت هي حَبيبته فلن يذهب إليها بعد تلك الصَدمة التي جَعلت منه مَحَل تَشّفي وسُخرية من عَرَفه وتابع بفضول حكاية علاقته بها، أو رُبما تكون هي قد نَسَيته مع تقلبات أحوال الدُنيا وانشغالها بهُموم حياتها، وأصبح بالنسبة لها مُجرد ذكرى جَريئة، لمُراهقة ساذجة بلهاء لا تَزال خبرتها بالحياة تَحبو نحو النُضوج، ليَغدو عندها سؤاله وحَديثه معها لا مَعنى له ومُجرَّداً من مَعاني الذوق، لم يكن يُريد أن يَتجاوز على خُصوصية تفكيرها، فهو لا يزال يَعرفها جيداً بأن أثقل شيء بالنسبة لها أن يقطع أنسان ما مهما كان سلسلة أفكارها وخُصوصية شُرودها، ربما كانت تَشعر مع سَرَحانها وتأملاتها البعيدة عن الوَعي وانعزالها الفكري المُبهم، بنوع من الحُرية وهُروب من ضيق الحياة وفُضول الناس.
ثم بحَركة سَريعة لم يَتوقعها استدارت نَحوه وأخذت تنَظر إليه لبضعة ثَوان أعادت بعدها التطلع نحو الأفق، غدت كافية حَسب ما يَظن لتُميّز شَخصيته حتى بعد مُرور كل تلك السنين وتَغيّر هيئة ذلك الفتى الوَسيم نحو صورة تَقدم العُمر من شَعر أشيب ولحية بيضاء كثّة، لابد أنها كانت تَختلس النظر إليه دون أن يَشعر وأنها عرفته مباشرة بعد جلوسها، لكنها ألتفت لتتأكد من ظنونها، كانت تَخفي نصف وَجهها بنظارة شَمية كبيرة رَغم خُفوت وَهَج الشمس ساعة الغروب، غالباً كي تَحجب شَخصيتها وتَخفي سِر وجودها، يا ترى ماذا تنوي أن تفعل الآن؟ هل هي أيضاً مُترددة لا تُريد أن تَسرق منه خُلوته وانعتاقه من ضَجيج العالم؟
بادلها النظر بالمُقابل بعد أن أحس باضطراب جَسدها وارتجافه برَعشات خفيفة، ربما كانت تبكي بداخلها مًتذكرة تلك الأيام الخَوالي، غير راغبة بالإفصاح عن مَكنونات قلبها وخَبايا سنين عُمرها الفائتة منذ فراقها عنه، من المؤكد أن أسئلة عديدة أخذت تُراودها كحاله تماماً، وإن حيرة شديدة قد اربكتها بشأنه وحقيقة شَخصيته ورَغبتها بالتحدث إليه، التفتت نَحوه مرة أخرى وبشكل أكثر جُرأة كأنها تدعوه للمُبادرة وبدء الكلام، لكنها عادت وقد أصابها التَردد، أخذ عقله يُفكر بسرعة بعد أن نَقلت إليه تلك الالتفاتة القصيرة الحادة إنذاراً غير مُعلن.
فجأة هَبّت واقفة مُرتجفة الجَسد بشكل يَنّم عن الغَضب، ثم وضعت على الطاولة ثَمن ما تَناولته وغادرت المكان مُسرعة دون أن تلتفت إليه، ماذا جَرى لها؟ هل يُمكن أن تكون قد اتخذت قرارها الأخير بهذا الوقت الضائع من العمر بالانسحاب ونسيان الماضي نهائياً طاوية صَفحة ذكرياته؟ ربما قد انتهت في داخلها جَذوة الثورة التي تَمَلكتها سابقاً، بعد أن خَنقتها قُيود المُجتمع وكبّلتها سَلاسل الارتباطات العائلية اللعينة التي لم تقو على التحرر منها، أو أنه قد بالغ في تفكيره وأنها لم تَتعرف عليه، وكان نُهوضها السريع ومُغادرتها المكان لسَببٍ آخر تماماً فرَضته عليها ظروف خاصة في حياتها.
والآن ماذا عليه أن يَفعل؟ هل يَلحق بها أم يَتركها تذهب بطريقها كحال الأيام الماضية مُكرهة بقرارها أم راضية، تأخر بضع دقائق لتَضارب الأفكار في رأسه المُتعب، جَعلته عاجزاً عن اتخاذ أي قرار، ثم أنتفض واقفاً كالمَلسوع مُغادراً المقهى مُحاولاً اللحاق بها بعد أن قرَّر نهائياً التحدث إليها، ربما ليَسألها سؤالاً واحداً فقط لا غير حَيّره طيلة تلك السنوات البعيدة الثقيلة التي سَرَقت منه الشَباب وجَذوة الصِبا، كيف ولماذا اختفت ذلك الاختفاء المُفاجئ الغامض؟ الذي جَعله يَعيش حياته بعدها لفترة غير قليلة في دَوامة عنيفة، تَدارك قَسوتها بهِجرته نحو عالم غريب لا يَربطه به سوى خَيط واه من هامش العاطفة.
أندفع خارج المَقهى مُسرعاً تاركاً كرسيه يَسقط من سُرعة نُهوضه، باحثاً عنها بين أزقة "سانتوريني" الضيقة المُلتوية المُتشابهة المَباني والأبواب، المُكتظة بالمُصورين الباسمين والسائحين الضاحكين طرباً ومُتعة بالموسيقى اليونانية الجميلة المُنبعثة من مَقاهي وبارات الجزيرة، مُتعثراً بأرضيتها وهو يتلفت هنا وهناك باحثاً عن تلك المرأة صاحبة الوَشم المُميّز، مُبحلقاً في وجوه الفتيات والنُسوة بصورة تَدعو للاستغراب، ثم بشكلٍ هستيري لافتاً إليه النظر، مُعتذراً لهذه ومُبتسماً لتلك، لم يَعد يُميّزها من بين جموع السائرات بطريق الذهاب أو الإياب، لم يتمكن من العثور عليها بعد أن ذابت في زَحمة الناس، اختفت فجأة كما ظهرت، تَماماً كغيابها واختفائها تُلكم الأيام، كانت جَميع نساء الجزيرة بنفس هَيئتها وشَكلها، مَلابس بيضاء بلا أكمام تكشف عن الأذرع وشَعر ناعم مُنسدل على الأكتاف وأطواق ذهبية تُزيّن السَوَاعد.
عاد أدراجه نَحوَ المقهى سائراً الهوينا خائباً مُترنحاً مُقدّماً ساق ومُؤخراً الثانية، نادماً على تَردده وتأخره باللحاق بمَن كانت يوماً أجمل زهرة في حياته، وهو يُحدّث نفسه كمن أصابه مَسّ من الجنون بعد أن فَقدها مرة أخرى والى الأبد، مُحاولاً تفسير ما رآه.. هل كان ذلك وهماً أم حقيقة؟ هل المرأة التي التقاها هي نفسها حبيبته الأولى؟ أم مُجرد طيف ساحر أتاه مُسافراً من عوالم الماضي البعيد هائماً مع نَسائم البحر، ليوقظ تفكيره من سُبات طويل، في مُحاولة يائسة بائسة لجَعله يَتمرد على حاضر سَقيم لا يُطاق؟ لكن ما فائدة كل هذا الهَذيان المُمل، لقد أنتهى كل شيء فجأة كما بدأ، بعد أن غادرت مُلهمته المَكان والزَمان والذكرى، بل وحتى لوحة الحقيقة الكاذبة، ليُعلن استسلامه مُرغماً للقَدر المَجنون الذي كتب سيرة حياته، ظل بخياله المُتراقص بين الواقع وسَردية الخِداع سارحاً يُحاول استرداد شيئاً من تَوازنه كي يَتمكن من تفسير كل ما جَرى، ولم ينتبه إلا عندما وصل المَقهى لاستعادة جلسته الهادئة المُطلة على البحر، لكنه شعر بأنه قد تأخر كثيراً حيث كانت طاولته قد شَغَلها فتى وفتاة بعُمر الورود، جَلسا مُتلاصقين وقد تَشابكت أياديهما بقوة وعُيونها صَوب البحر تَرنو نحو الأفق البَعيد.



#حامد_خيري_الحيدر (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عُيون اللازَورد ... قصة قصيرة
- قصة أكتشاف أكبر معبد دائري في وادي الرافدين ... القسم الرابع ...
- قصة أكتشاف أكبر معبد دائري في وادي الرافدين ... القسم الثالث
- قصة أكتشاف أكبر مَعبد دائري في وادي الرافدين ... القسم الثان ...
- قصة أكتشاف أكبر مَعبد دائري في وادي الرافدين ... القسم الأول
- نظرة على سَد البَند الأثري
- خلف أسوار السنين .. مشاهدات من واقع المجتمع العراقي ... القس ...
- خلف أسوار السنين .. مشاهدات من واقع المجتمع العراقي ... القس ...
- خلف أسوار السنين .. مشاهدات من واقع المجتمع العراقي ... القس ...
- خلف أسوار السنين .. مشاهدات من واقع المجتمع العراقي ... القس ...
- خلف أسوار السنين .. مشاهدات من واقع المجتمع العراقي ... القس ...
- خلف أسوار السنين .. مشاهدات من واقع المجتمع العراقي ... القس ...
- طرائف الأخبار في عمل الآثار
- آثار مَنسية في محافظة كربلاء
- أطفال العراق يقهرون الظلام
- لغز مَدافن المَلكات الآشوريات في مدينة النمرود
- كركوك مدينة التاريخ والتآخي والقلعة الشامخة
- أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الثامن
- أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم السابع
- أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم السادس


المزيد.....




- سوريا.. رحلة البحث عن كنوز أثرية في باطن الأرض وبين جدران ال ...
- مسلسل -كساندرا-.. موسيقى تصويرية تحكي قصة مرعبة
- عرض عالمي لفيلم مصري استغرق إنتاجه 5 سنوات مستوحى من أحداث ح ...
- بينالي الفنون الإسلامية : أعمال فنية معاصرة تحاكي ثيمة -وما ...
- كنسوية.. فنانة أندونيسية تستبدل الرجال في الأساطير برؤوس نسا ...
- إعلاميون لـ-إيلاف-: قصة نجاح عالمي تكتب للمملكة في المنتدى ا ...
- رسمياً نتائج التمهيدي المهني في العراق اليوم 2025 (فرع تجاري ...
- سلوكيّات فتيات الهوى بكولكاتا نقلها إلى المسرح.. ما سرّ العي ...
- الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة تصل إلى ليبيا لتول ...
- الرئيس اللبناني: للأسف الفساد بات ثقافة


المزيد.....

- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد خيري الحيدر - غُروب سانتوريني ... قصة قصيرة