كيف نعرف ما ليس كذلك؟ قراءة تحليلية في فكر توماس جيلوفيتش

حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8258 - 2025 / 2 / 19 - 11:59
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    

د.حمدي سيد محمد محمود

إن فهم الإنسان للعالم لا يتم دائماً بموضوعية مطلقة، بل تحكمه مجموعة من العوامل النفسية والمعرفية التي تؤثر في قراراته وتصوراته. من هنا برزت أهمية دراسة الانحيازات المعرفية والأخطاء الإدراكية، وهو المجال الذي تميز فيه الفيلسوف وعالم النفس الأمريكي توماس جيلوفيتش. لقد قدم هذا المفكر مساهمات ثرية في علم النفس المعرفي والاقتصاد السلوكي، حيث كشف عن كيفية وقوع البشر في فخاخ التفكير غير العقلاني، والطرق التي تؤثر بها التحيزات الإدراكية على قراراتهم، سواء في الحياة اليومية أو في السياسات العامة. في هذا المقال، سنغوص في أعماق فكر جيلوفيتش، مستعرضين نظرياته الأساسية، وتأثيره في العلوم الاجتماعية، وانعكاساته على فهمنا للطبيعة البشرية.
من هو توماس جيلوفيتش؟

توماس جيلوفيتش (مواليد 1954) هو عالم نفس أمريكي، وأستاذ في جامعة كورنيل، ويُعرف بكونه أحد أبرز الباحثين في مجال الإدراك البشري والتحيزات المعرفية. تخصص في دراسة كيفية اتخاذ الناس للقرارات، ومدى تأثرهم بعوامل غير منطقية، مما جعله أحد الأسماء البارزة في الاقتصاد السلوكي وعلم النفس الاجتماعي.

درس جيلوفيتش في جامعة كاليفورنيا، وركز في أبحاثه على فهم طبيعة الأخطاء التي يقع فيها الأفراد عند تقييمهم للمعلومات واتخاذهم للقرارات. يُعتبر كتابه "كيف نعرف ما ليس كذلك؟" (How We Know What Isn’t So) واحداً من أهم المراجع في دراسة التحيزات المعرفية، حيث كشف فيه كيف يمكن للناس أن يتبنىوا معتقدات خاطئة دون أن يدركوا ذلك، استناداً إلى استنتاجات غير سليمة أو معلومات غير دقيقة.

أبرز نظريات جيلوفيتش وتأثيرها

1. وهم الاستبصار (Hot Hand Fallacy)

يُعتبر جيلوفيتش من أوائل من كشفوا عن خطأ "وهم الاستبصار"، وهو الاعتقاد بأن النجاح في أمر معين يزيد من احتمالية النجاح المستقبلي فيه، حتى عندما تكون النتائج مستقلة عن بعضها. هذا الوهم شائع في مجالات مثل الرياضة والمقامرة، حيث يعتقد اللاعبون أن تسجيلهم المتكرر للنقاط يدل على "يد ساخنة" تجعلهم لا يُخطئون، في حين أن الواقع الإحصائي يُظهر أن النتائج لا تتبع هذا النمط بالضرورة.

2. الانحياز التأكيدي (Confirmation Bias)

تناول جيلوفيتش كيفية بحث الأفراد عن المعلومات التي تدعم معتقداتهم المسبقة، مع تجاهل أو التقليل من شأن الأدلة التي تناقضها. وهذا الانحياز له تأثيرات عميقة في السياسة، والدين، وحتى العلم، حيث يميل الناس إلى رؤية ما يريدون رؤيته بدلاً من ما هو حقيقي بالفعل.

3. التحليل الإدراكي للقرارات الخاطئة

ركز جيلوفيتش على كيفية وقوع البشر في قرارات غير عقلانية بسبب سوء تفسيرهم للبيانات، أو تأثرهم بالمعلومات غير المكتملة، أو خضوعهم لتأثيرات اجتماعية ونفسية. وقد استفادت مجالات مثل الاقتصاد السلوكي وعلم النفس الاجتماعي من أبحاثه لفهم كيف يمكن تحسين عملية اتخاذ القرار على مستويات فردية ومؤسسية.

أثر جيلوفيتش في الفلسفة والعلوم الاجتماعية

لم يقتصر تأثير جيلوفيتش على علم النفس فقط، بل امتد إلى الفلسفة، حيث أثّر بشكل مباشر في النقاشات حول طبيعة المعرفة وحدود الإدراك البشري. ساعدت نظرياته في تطوير رؤية فلسفية جديدة حول العلاقة بين التفكير العقلاني والعواطف، وكيف تؤثر العوامل اللاواعية على اتخاذ القرارات.

في الاقتصاد السلوكي، ساعدت أفكاره على تطوير استراتيجيات لمساعدة الأفراد على اتخاذ قرارات مالية أكثر عقلانية، عبر تقليل تأثير التحيزات النفسية مثل الانحياز للتفاؤل المفرط أو الانحياز للتكلفة الغارقة (Sunk Cost Fallacy). كما ساهمت أبحاثه في مجالات مثل التسويق، حيث تساعد الشركات في فهم كيفية تأثير التحيزات الإدراكية على قرارات المستهلكين.
نقد لأفكار جيلوفيتش

رغم التأثير الواسع لنظرياته، إلا أن بعض الباحثين انتقدوا تعميمه لبعض المفاهيم على سياقات متعددة، مشيرين إلى أن بعض التحيزات الإدراكية قد تكون مفيدة في بعض الظروف. على سبيل المثال، يرى بعض العلماء أن التحيز التأكيدي قد يكون مفيداً في بعض الأحيان لأنه يساعد على تعزيز الثقة بالنفس والاستقرار النفسي.

لقد كشف توماس جيلوفيتش عن أحد أهم أسرار السلوك البشري: أننا لسنا دائماً عقلانيين كما نعتقد، وأن قراراتنا تتأثر بتحيزات لا نشعر بها. إن إدراك هذه الحقيقة ليس مجرد تمرين أكاديمي، بل هو خطوة أساسية لتحسين حياتنا، سواء على المستوى الشخصي أو المجتمعي. فكلما فهمنا كيف نُخدع بأوهامنا الإدراكية، أصبحنا أكثر قدرة على اتخاذ قرارات سليمة، وأكثر وعياً بتأثير العوامل النفسية علينا.

إن الإرث الذي تركه جيلوفيتش لا يزال يُشكل محوراً أساسياً في دراسات علم النفس والفلسفة والاقتصاد السلوكي. ومع تقدم الأبحاث في هذه المجالات، سيبقى اسمه مرتبطاً بواحد من أعظم التحديات الفكرية: كيف نعرف الحقيقة وسط بحر من الأوهام؟

#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات