خالد خليل
الحوار المتمدن-العدد: 8258 - 2025 / 2 / 19 - 00:48
المحور:
كتابات ساخرة
في البدء كانت الفوضى، ولمّا ضاقت بها الأرض، بعثرتها الريح في الوجوه العابسة، ونثرتها كحبوب الطلع في أنوف المثقلين بأوزار التفكير. هنا، على خشبة مسرح الحياة، يقف الزمن بصلعته البراقة، يلوك علكة مملة، ويضحك من سذاجة الطامحين إلى ترتيب مجلداته الصفراء.
في الزاوية، شيخٌ نحيل كعود كبريت، يلوك حكمةً جافةً لم يعد أحد يشتريها، يرفع سبابته كمن يوشك أن يهتف بحقيقة دامغة، لكن أحدًا لا يسمعه وسط الضجيج. بجانبه، طفلٌ يعبث بذيول الكلمات، يخلط بين الوهم والحقيقة كما يخلط السكر بالملح، ويصرخ: "كلّ شيء ممكن!" ثم يضحك كما لو كان قد فكّ لغز الكون.
المعاني ترتطم ببعضها في الأزقة، تتشابك الأضداد في معركة دامية، فنرى الحكمة تسقط صريعةً تحت ضربات الحماقة، والصدق يلوذ بجلباب الرياء، والكرامة تتعثر بثوب المصلحة. الضغينة ترتدي قناع المودّة، والكذب يخرج من جيبه تصريحًا رسميًا، مختومًا بختم الحقيقة!
في السوق، رجلٌ يبيع الوقت في قوارير زجاجية، يصرخ: "هنا تجدون ماضٍ محنّطًا، ومستقبلًا بنكهة الترقّب! مَن يشتري الحاضر؟ الطازج اللاذع الذي يلسع اليد كجمرة!" لكنّ الناس يمرّون، غير عابئين. بعضهم اشترى الغدَ بالدَّين، وبعضهم يبيع الأمس كي يسدد فواتير الأمل.
وفي زاوية أخرى، يقف شاعرٌ مهترئ الحذاء، يفتش عن قافية ضلت طريقها، يلتقطها من تحت قدميه متسخّةً، فينفخ فيها ويعيدها إلى قصيدته التي لم يقرأها أحد منذ ألف عام. بجانبه فيلسوفٌ متقاعد، ينظر إلى اللافتات ويردد: "كل شيء مؤقت… حتى الوهم له تاريخ انتهاء!"
أما القدر، فيجلس هناك، فوق كرسي خشبي متهالك، يتأمل المشهد، يحتسي قهوة سوداء بلا سكر، ثم يضحك. يضحك حتى يهتز كل شيء… ومعه، نضحك جميعًا.
وفجأة، ودون سابق إنذار، انشقّ المشهد كصفحة قديمة لم تحتمل ثقل الزمن، وسقط الجميع في هوّة من الدهشة. تَشقْلبَ السوق، وارتطم الباعة بالمشترين، وانقلبت الموازين حتى صار المنطق يبيع الحلوى في أكياسٍ مثقوبة، وصار الجنون مستشارًا في شؤون الحكمة.
هناك، عند عتبة الفوضى، وقف رجلٌ بوجهٍ منسيّ، نصفه حزين ونصفه يضحك، كأنما لم يحسم بعد موقفه من الحياة. كان يحمل لافتة مكتوبًا عليها: "الحقيقة: نصفها صراخٌ ونصفها صمت. اختر بحكمة، لكن لا تتوقع النجاة." رفعها عاليًا، ثم انفجر ضاحكًا، فضحك معه الهواء، وضحك الجدار، وضحك العابرون حتى سالت الدموع من عيونهم كأنهم يبكون الضحك نفسه.
وفي ركنٍ معتم، جلس الزمن على الأرض هذه المرة، بلا كرسي ولا وقار، يهرش رأسه كما لو أنه فقد السيطرة على المشهد. "ما هذا العبث؟!" همس لنفسه وهو يقلب صفحات دفتره العتيق، فلم يجد فيه غير خربشات مشوشة ورسومات طفلية لأحلامٍ ماتت قبل أن تولد.
أما الشاعر المهترئ، فقد انتفض فجأة كمن لسعته نبوءة، مزّق قصيدته وأكل نصفها، وباليد الأخرى كتب على الجدار: "إذا ضحك القدر… فابكِ، وإذا بكى… فارقص!"
عندها، انطفأت الأضواء للحظة، وحين عادت… كان كل شيء قد تغيّر.
#خالد_خليل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟