رياح منعشة تهب داخل حزب اليسار الألماني

حازم كويي

الحوار المتمدن-العدد: 8257 - 2025 / 2 / 18 - 16:39
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    

بعد سنوات من تراجع شعبية حزب اليسار الألماني كما أظهرت استطلاعات الرأي، يمكنه الآن أن يتنفس الصعداء.
يبدو أن المعركة الوجودية ضد التهميش السياسي قد تم كسبها حتى الآن. مع انضمام ما يقرب من 30 ألف عضو جديد وعدد من إستطلاعات الرأي التي تشير إلى استعادة الحزب شعبيته، بالحصول على نسبة 5 أو حتى 6 في المائة، فإن ما بدا مستحيلاً قبل بضعة أشهر فقط أصبح ملموساً: ان حزب اليسار يشهد ربيعاً ثانياً. ولكن ما الذي يشكل بالضبط المزاج الجديد الذي رفع شعبية الحزب الى عتبة الـ 5% في إستطلاعات الرأي لأول مرة منذ خريف عام 2023؟
إنه مزيج من تحديد المواضيع والإحصائيات والتنظيم والعمل التطوعي القديم الجيد. إن الأداة التي تم اكتشافها حديثاً هي حملات الطرق على الأبواب، فهي الطريقة المفضلة هنا. ورغم أن عودة الحزب إلى البوندستاغ (البرلمان) أو تحوله إلى قوة ديناميكية راسخة في المجتمع ليس أمراً محسوماً مسبقاً، فإن تجارب الأسابيع القليلة الماضية تبعث على الأمل في أن فصلاً جديداً في تاريخ اليسار قد بدأ للتو.
النظرية والتطبيق
من المؤكد أن أي شخص شارك في الأسابيع الأخيرة قد سمع كلمة "تنظيم". ويشير المصطلح، الذي يظهر مراراً وتكراراً، إلى بناء الحزب ومحاولة ترسيخ السياسة اليسارية في المجتمع من خلال التعبئة المنهجية وتنشيط القواعد الشعبية. وقد كانت هناك توجهات نحو مثل هذه الممارسة في الحزب لسنوات، ومنذ وقت مبكر من عام 2009، جرت محاولة أولى متواضعة لاستخدام أساليب التنظيم في الحملة الانتخابية، وتبعتها العديد من الجهات الفاعلة المحلية. ولكن لم يتم إطلاق "خارطة الطريق 2025"، التي تعتمد على التنظيم، إلاّ بعد أن غادرت سارة فاغينكنيشت (زعيمة الحزب السابقة في الفترة 2015 – 2019) وأنصارها الحزب في 23 تشرين الأول 2023 (شكلت تحالفا بإسم "تحالف سارة فاغنكنيشت").
وبسبب فرط عقد التحالف الحكومي من الأحزاب الثلاثة (الديمقراطي الأجتماعي، الخضر، الديمقراطي الليبرالي) فقد تقرر أن تكون الأنتخابات مبكرة للبرلمان في شهر شباط 2025 بدلاً من موعدها الأصلي في ايلول 2025. وتغيرت المسارات التي كانت قد وضعت. كانت الخطة الأصلية هي تدريب ما بين عشرين إلى ثلاثين منظمة محلية على القيام بحملات طرق الأبواب في أكتوبرعام 2024 وثمانين منظمة في نوفمبر، وذلك لإجراء مسوحات لتحديد القضايا بحلول شباط 2025. "وقد درّب الحزب الآن أكثر من 200 منظمة محلية"،.

تم تشكيل كوادر لتنظيم حملة وطنية لطرق الابواب في الأحياء: فهم يُحفزون رفاقهم فيها للحملة الانتخابية، ويطرقون الأبواب في المناطق التي يمكن للحزب أن يتوقع النجاح فيها، ويسألون الناس عن مشاكلهم ويسجلون ردود أفعالهم وإجاباتهم. وفي وقت قصير، نشأت خلايا يسارية تشن حملات دعائية من باب إلى باب في مختلف أنحاء البلاد. وفي الوقت نفسه، تم تحديد قضايا جوهرية محددة لليسار من أجل الحملة الانتخابية، بدعم من البيانات المستمدة من الحملة الأولى من المناقشات التمهيدية. ينبغي للناس أن يعرفوا ما يمثله اليسار، فالمطالب الأساسية محددة بوضوح: السكن بأسعار معقولة، والأجور وظروف العمل الأفضل، والسلام، وخفض تكاليف المعيشة.
لقد نجحت الحملة أخيراً في التغلب على وجودها المحدود في مناطق مختلفة من بعض المدن الكبرى داخل الحزب. وقد تم إزالة شكوك الجيل القديم من مسؤولي الحزب. ورغم أن الجيل الأكبر سناً من الرفاق كان يقوم بحملاته الخاصة بطرق الأبواب - على سبيل المثال، في شكل مناقشات في الحي - فإن الحملات اليوم منظمة بشكل أكثر وضوحاً، وتصل إلى عدد أكبر من الناس، وتدعمها بيانات إحصائية ولأول مرة في تاريخ الحزب.
"هذه لم تعد حملة، هذه حركة!"
تركزت الحملة الانتخابية بشكل خاص على برلين. على سبيل المثال، قبل عطلة نهاية الأسبوع التي امتدت من 31 كانون الثاني إلى 2 شباط، تم طرق 28200 باب في عدة محلات، وكان أبرزها محلة نوي كولن وفيها بحدود 43 ألف من الناشطين في برلين، إن لم يكن في ألمانيا كلها.
وقد ساعد التركيز المماثل على الحملات الدعائية من طرق الابواب على تحقيق تقدم ساحق في الانتخابات المحلية في منطقة ساكسونيا. وأتت أساليب الشباب بثمارها: فقد تمكن حزب اليسار من زيادة نتيجته الانتخابية في التصويت لمرشحي الدوائر الأنتخابية ودعم بعضهم البعض.
أغلبية الناشطين هم من الشباب، لكن العديد من كبار السن يشاركون أيضاً. وتعتبر نسبة الأشخاص ذوي الخلفية المُهاجرة أعلى بشكل ملحوظ مقارنة بالفعاليات الحزبية الأخرى. فريق المرشح فُرات من كورد تركيا (حيث أشعل قبل 7 سنوات اليمين المُتطرف النار في منزل عائلته). في حملته الانتخابية في منطقة نوي كولن يقول: نحن لا نناضل هنا من أجل الفوز فحسب، بل أيضاً من أجل تحديد أي حزب يساري سيدخل البرلمان. فإن اليسار سوف يركز أكثر على السياسة الطبقية ويصبح أكثر تأييداً للفلسطينيين".
فُرات مستمر في النضال. ولديه 400 ألف متابع تركي مُؤثر. فهو يتحدث عن مواضيع تهم الناس في منطقة نوي كولن: الإيجار، وحقيقة أن الحي تملأه الأوساخ ولا يجري الأهتمام بها، والتضخم العام، ووسائل النقل العام السيئة. لديه ما يقوله عن كل شئ، بما في ذلك عن ترشحه.
فهو مُتجذر في حي نوي كولن، والناس يتحدثون دائماً عن هذه المنطقة، إلاّ أن الوقت قد حان لكي ينظم الناس أنفسهم كي يُمثل أحدهم مصالحهم في البوندستاغ (البرلمان). ويحكي عن جده، الذي لم يكن معاشه التقاعدي كعامل زائر كافياً في نهاية المطاف، ولا ينسى مخاطباً ضميره عندما أصبح نائباً في مجلس بلدية برلين في عام 2021: "لا تنس من أين أتيت!". ولهذا السبب فهو يًحدد راتبه ويقلصه كعضو في البرلمان بـ 2500 يورو. "فلنناضل معاً من أجل يسار قوي!"، "ولنهُز حي نوي كولن والبرلمان الألماني والأمة بأكملها!"
يعتبر فُرات مُتجذراً بعمق في الحركة اليسارية الكردية، موطنه الأيديولوجي. ثم يقوم بتصوير فيديو قصير مع عشرات الرفاق باللغة التركية. "انهم مجموعة لا يتحدثون الألمانية جيداً. يذهبون إلى أبواب الناس للتحدث إليهم باللغة التركية". وبعض المواد الانتخابية هي أيضاً باللغة التركية، وبعضها باللغة العربية.
من باب إلى باب
تمت تعبئة الحقائب، بما في ذلك عريضة لدعم السلام العادل في غزة. ناشط ذو خبرة، ورفيق جديد، مع فُرات، برفقة طاقم الفيلم الذي يلتقط الصور بين الحين والآخر. عند وصوله إلى المنزل، يقرع فُرات الجرس مرة تلو مرة. "حسناً، لا ينبغي لك تصوير ذلك الآن"، يضحك فُرات. يرن الجرس وندخل. المنطقة المحيطة بمحطة مترو والمُسماة Schönleinstraße فقيرة. ومن السهل أن نرى حاجة سكان نوي كولن إلى حي أنظف.
يسأل فُرات بجدية رجلاً تجاوز الستين من عمره وعما يفكر فيه بشأن ارتفاع الإيجارات باستمرار. هل كان ذلك يشكل مشكلة بالنسبة له أيضاً؟ يتوقف الرجل: "نعم... بالطبع. إن الوضع هنا يصبح أكثر قذارة، والإيجارات ترتفع أكثر فأكثر!"
يتحدثون عن سياسة الإيجار اليسارية، ولكن أيضاً عن خدمة التنظيف في المدينة ونقص التمويل المزمن. أومأ الرجل برأسه ببطء. ألا تعتقد أن التوتر الاجتماعي هنا في الحي سيكون أقل لو نجحت الأنظمة الاجتماعية؟ لو لم يكن كل شئ باهظ الثمن وقذراً؟. "لو تم استثمار المزيد في التعليم؟". وهو لا يزال يهز رأسه.
ويتحدث الرجل عن نظام الرعاية الصحية، قائلاً إن أحد الأصدقاء اضطر إلى النضال من أجل الحصول على كرسي متحرك، بينما حصل أحد الأوكرانيين على كرسي متحرك كهربائي بعد أربعة أيام. "هل تعتقد أنه ينبغي لنا أن ننتقد الأوكرانيين أم النظام؟". يتوقف الرجل لفترة وجيزة مرة أخرى: "نعم، بالطبع النظام". يشرح فُرات سياسة اليسار بشأن الرعاية الصحية، والظلم المتمثل في نظام التأمين المزدوج. أومأ الرجل برأسه مرة أخرى. إن حقيقة أن فُرات نفسه الساكن في نفس الحي، نوي كولن تحظى بقبول جيد، كما هو الحال مع سقف راتبه. أخيراً، يسلمه فُرات منشوراً مكتوباً فيه: "يمكنك دائماً الوصول إليّ". وتبدو على الرجل علامات الدهشة.
لا يمكن إنكار أن شيئاً كبيراً يحدث في حي نوي كولن. والأرقام تقول. في عطلة نهاية الأسبوع بداية شهر شباط، تواجد 415 ناشطاً عند 14038 أمام أبواب حي نوي كولن. وعلى مدار عطلة نهاية الأسبوع بأكملها، طرق 887 ناشطاً 22,195 باباً. كل رقم جديد من نوي كولن يحطم كل الأرقام القياسية السابقة لليسار. في مختلف أنحاء برلين، تم بالفعل طرق أكثر من 200 ألف باب خلال هذه الحملة الانتخابية - وفي حي نوي كولن وحده، هناك ما يقرب من 115 ألف باب.
الشتاء يقترب من نهايته
كان مفيداً منذ أن رحلت فاكنكنيشت والمجموعة المُحيطة بها، فقد أصبح حزب اليسار الآن أصغر سناً وأكثر التزاماً، وتراجعت أهمية التكتلات والتركيز على الصراعات الداخلية والأعمال العدائية التي كانت تشل الحزب في السابق.
ربما يكون حي نوي كولن هو المثال الأبرز، كديناميكية وطنية استحوذت على اليسار حرفياً. على سبيل المثال، رئيسة الحزب الجديدة إينيس شفيردتنر من حي ليشتنبيرغ تحركت في نفس عطلة نهاية الأسبوع مع ما يقرب من 300 ناشط عند 13400 باب. كما أصبح أحد مرشحي اليسار يتقدم بنحو 2% على مرشح حزب الخضر بعد حملة مكثفة من باب إلى باب من قبل القاعدة الحزبية المحلية، حسب استطلاعات الرأي الأخيرة.
وعبر الإنترنت هناك أيضاً نشاطات متواصلة: إذ لدى المرشحة الأولى لحزب اليسار الشابة هايدي ريتشينيك أكثر من 450 ألف مُتابع على التيك توك وحده. فهي تمتلك الحجة القوية في النقاش سواءاً
على مستوى البرلمان الألماني، وبانتقاداتها القوية الجريئة لإحزاب اليمين والوسط المحافظ،. فاليسار يحظى بقبول جيد. خلال الأسبوعين الأخيرين، انضم الى الحزب اكثر من 11 ألف عضو جديد. حتى لو كان اليسار لا يزال يتعين عليه أن يُثبت ما إذا كان قد تغلب حقا على المشاكل والنزاعات القديمة، فإن هناك أمراً واحداً واضحاً: ان رياحا جديدة تهب في الحزب.

#حازم_كويي (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات