أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - عبد الحسين شعبان - -الماركسية الجديدة- وأزمة اليسار العربي - قراءة في مفهوم الدكتور -عبد الحسين شعبان-















المزيد.....


-الماركسية الجديدة- وأزمة اليسار العربي - قراءة في مفهوم الدكتور -عبد الحسين شعبان-


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 8256 - 2025 / 2 / 17 - 16:13
المحور: قضايا ثقافية
    


أحمد بهاء الدين شعبان
الأمين العام لـ "الحزب الاشتراكي المصري".

أظنُ، وبعض الظن من حُسن الفِطَن، أن ما قدمه الدكتور"عبد الحسين شعبان" من رؤى وتحليلات وأفكار واجتهادات، عميقة وصادقة، في الحوارات والاشتباكات الفكرية والسياسية، التي احتوتها صفحات كتابه المُهم، بل والبالغ الأهمية، المعنون بـ " تحطـيم المرايــا: في الماركسية والاختلاف"، حوار وتقديم: خضيــر ميـــري، (الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، 2009)، يجعل من مهمة الاطلاع على محتواه، وتدارس مضمونة، أمراً من ألزم الواجبات على المناضلين المُنتمين إلى مُعسكر "اليسار" العربي، وبالأخص على القطاع الماركسي منه، فدروسه المُستقاه من خبرات المُمارسة العملية، والمُعاناة الفعلية، والمبنية على تفاعله الواعي مع الفرق المُنتمية إلى هذا التيار السياسي المهم، على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية، تجعل من قراءة أسباب تراجع هذا القطاع الحيوي، وتفسير مظاهر ومُسببات نكوصه، دروساً على درجة كبيرة من القيمة، وتوجب الانتباه إلى ماتضمنته من خبرات ودروس باعتبارها ضرورة من ألزم الضرورات، إذا كان لفرق اليسار العربي عامة، والماركسي على وجه التحديد، أن تأمل ـ كما نتمنى ـ وتتطلع إلى مستقبل أكثر إيجابية وتأثيراً، وأشد التصاقاً بالمجتمع، وأعظم تعبيراً عن همومه وتطلعاته.
ويُضاف إلى هذه الدواعي الموضوعية دواعٍ أخرى ذات أبعاد ذاتية تخص شخص الدكتور"عبد الحسين"، لخّصها الأستاذ "مُحسن العيني" الشخصية اليمنية التاريخية المرموقة فأوجز وأنجز حين، وصفه بأنه: "رجل لم يفقد بوصلته يوماً" ، وهو أمرٌ باعثٌ على الاحترام واليقين، في زمن التراجعات والقفز بين المواقع والأيديولوجيات، يفتح بوابات الثقة بين الكاتب، المُمارس والمُفكر، وبين جمهرة القراء والمُطالعين.

يُمثل اليسار العربي أحد أربع ركائز أساسية في البنيان السياسي والفكري لشعوب منطقتنا، مع الركيزة الإسلامية، والركيزة القومية، والركيزة الليبرالية، وتُميزه انحيازاته الاجتماعية والسياسية للطبقات العاملة والكادحة، ولقيم المساواة والمواطنة، وللعلم والمعرفة والمبادئ الإنسانية الرفيعة، وغيابه عن المشهد العام، وتراجع وتيرة ثقة الجماهير به وببرامجه الفكرية والاجتماعية، ينعكس ـ حتماً ـ بالسلب والتردي على أوضاع مجتمعاتنا ومستقبلها، بل وعلى الفصائل الثلاثة الأخرى، ومن هنا يُصبح اهتمام مناضل ومفكر رفيع المقام، من عينة الدكتور "عبد الحسين شعبان" بمسار ومصير الماركسية والماركسيين في الوطن العربي أمراً مفهوماً ومُقَدراً، وقد حالف التوفيق الأستاذ "خضيــر ميـــري" المُحاور ومُعد الكتاب، في استخدام وسيلة الحوار الفكري، لتوضيح رؤى الدكتور "شعبان"، وفهمه لتاريخ تطور الماركسية ومُشكلاتها وأزماتها في العالم وفي بلادنا، ما يُسَهِّلُ الوصول إلى غايته المُبتغاة، وإن كان يصعب في هذا الحيز المحدود تغطية كل ما تضمنته الحوارات من أفكار ورؤى بالعمق المطلوب، فلعل الإطلالة المُحدّدة على مجموعة من المحاور ما يُفيد ويدفع إلى القراءة المُتأنية لأصل الكتاب وتمعُّن مضامينه.

أزمة الماركسية ومآلاتها

لا ينظر د. "عبد الحسين" للماركسية باعتبارها مُنجز أيديولوجي ـ فلسفي ـ نظري، كامل الأوصاف، وجامد الحدود، ونهائي الصيغة كما يفعل الكثيرون، وإنما يرى في " ماركس": "بداية الماركسية، لا مُنتهاها"، وهو، أي "ماركس"، كان يرفض تحويل فلسفته إلى مذهب "كهنوتي" كالعديد من المذاهب: "كل ما أعرفه أنني لست ماركسياً"، وأن فضله الأساسي يعود إلى مُنجزين أساسيين: الأول: "قراءة التاريخ على أساس المراحل التاريخية، مُكتشفاً أن الصراع الطبقي هو الذي يحكمها"، والثاني: "اكتشاف قانون فائض القيمة"، وبهذا فقد قدَّم للإنسانية مفاتيح ذهبية لامتلاك منهج جدلي يُساعد على تحليل وفهم تعقيدات الواقع الاجتماعي المُعاش، وإدراك عناصر القوة المُتحكمة في مساراته، وصياغة برامج النضال في مواجهة قواعد الاستغلال الرأسمالي الطاغية فيه.
واعتبر د. "شعبان" أن الماركسية "الحقّة"، إن جاز التعبير، ليست محض وصفات جاهزة، أو سابقة الصُنع، أو "تعاليم سرمدية" غير قابلة للنقد، أو أن "شفاء" أوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتحقيق الرفاه الإنساني، سيتم لمجرد الأخذ بها، وإنما يتعامل معها "كإحدى أهم وأبرز نظريات علم الاجتماع السياسي، التي شغلت العالم أجمع، ووجدت طريقها إلى تطبيقات لنحو (ثلث أو رُبع) سُكّان البشرية، وهو مالم يتحقق لأي نظرية غير الماركسية". لكن الماركسية، والتي كان بإمكانها، بُحكم طبيعتها الحيوية الديناميكية كمنهج وأداة للتحليل، "تجاوز أخطاء التطبيق أو إخفاقات المُمارسة"، تحولت "على أيدي أصحابها، وليس الأعداء، إلى نوع من العقيدة أو اللاهوت، وبفعل السكونية انتقلت من حراكها الداخلي الديناميكي إلى شيئ أقرب إلى الجمود".
لقد قاد هذا الأمر، كما يرى الدكتور "عبد الحسين" إلى أن يرى البعض من الماركسيين الماركسية باعتبارها: "نهاية مطاف"، أو "حلقة ذهبية أخيرة في الفكر الإنساني، يُمكن اقتناؤها أو الاحتفاظ بها كما هي، أي "متحفيتها"!
وهكذا، فقد "انقطع الاجتهاد على مدى نحو (ثمانية أو تسعة عقود من الزمان) باستثناءات محدودة كانت تُعتبر "مارقة" في الكثير من الأحيان أو دليلاً على "الانحراف"، وقاد هذا الوضع إلى أن تحوَّلت الماركسية إلى "تعليمات بيروقراطية يُصدرها الحزب باعتباره مُمَثلاً عن الطبقة العاملة، وفوق الحزب تجلس اللجنة المركزية، وعلى رأسها المكتب السياسي ويتربّع عليها الأمين العام، واضعاً العرش على رأسه فوق الجميع بصفته الأمين العام، الفيلسوف، الأديب الذي لا يُخطئ، والذي تُزكّي الحياة صحة وصواب سياسته باستمرار".
وقد صور الأديب والشاعر الداغستاني الكبير، "رسول حمزاتوف"، حامل وسام "لينين"، ساخراً، هذه النوعية من المُمارسات البيروقراطية عديمة القيمة لمؤسسات الدولة الحزبية، عبر قصيدة "التصفيق":
"لقد صفَّقنا حتى تألمت أكُفنا / حدث في السنوات التي مضت / أن احمرّت أكُفنا كخدودٍ خجلاً / ضربناها بشدّةٍ ورغبةٍ / كم ضربنا أكُفنا بنشوة! / حماساً لكلمات المديح أو التسفيه / ولو كانت أكُفنا أجنحة / فما أنا إلّا غبي لوَّحَ بجناحيه!".
وكان طبيعياً، والحال هكذا أن يتم تسويغ اضطهاد، بل وإعدام الكثيرين من أصحاب الرأي أو الاجتهاد المُخالف، مناضلاً كان، أم سياسياً، أم مُثقّفاً، أم مُبدعاً، أم عالماً، أم عسكرياً .. إلخ، وإلى إقرار "عبادة الفرد" وانفراد قيادة "ستالين الدكتاتورية المُستبدة وقراراتها الارتجالية" على ما صاحبها من فواجع!

ويُقسِّم الدكتور "عبد الحسين" ماركسي الوضع الراهن إلى مجموعة أقسام حسب توصيفاته الغالبة: فمنهم "الماركسيون الطقوسيون" المعنيون أساساً بالاشتراك في المناسبات والاحتفالات (ذكرى ثورة أكتوبر، عيد العُمّال، ميلاد لينين، ..,)، و"الماركسيون المدرسيون" المهتمون بالتراث الاقتصادي والسياسي المدرسي المُتوارث في المدارس الحزبية الرسمية، و"الماركسيون المسلكيون" الذين لا يعنيهم من الأمر، كجزء من الماكينة السياسية والحزبية، إلا أداء وظيفتهم الإدارية الدعائية، و"الماركسيون الذرائعيون" الجاهزون لتبرير كل خطوات الحزب "باعتبار النظرية لا تُخطئ"، و"الماركسيون العولميون" المتحولون بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، "حيث استبدلوا الولاء من موسكو إلى واشنطن"، وسوّغوا الخطاب النيوليبرالي، وساهم بعضهم في تدمير العراق، ...!

السعي باتجاه "الماركسية الجديدة"

ويبقى "الماركسيون النقديون والمجتهدون".. وهم "القلة من الماركسيين العرب"، كما يُحدِّد د. "شعبان"، ويُعَوِّلُ على أن يتمكنوا، رغم تردُّد بعضهم، من تكوين "نواة صلبة فكرياً وسياسياً" تُمارس النقد بصوتٍ عالٍ، حتى لا يأتي جيل جديد من الماركسيين "سيدفع الثمن أيضاً". وإلى هذا القسم من الماركسيين المُجتهدين ينتمي الدكتور "عبد الحسين"، فهو "يجد نفسه قريباً الى حد كبير من الماركسية النقدية أو الوضعية النقدية الماركسية، وهكذا أستخدم وأوظف المنهج ضمن اجتهاداتي وضمن دراستي للظروف والأوضاع الاجتماعية - الاقتصادية والثقافية للمجتمع العربي، بالاشتباك مع العلاقات الدولية "، ذلك أن الماركسية من وجهة نظره، ومن حيث الجوهر، "فكرة مدنية حداثية تعنى بدراسة الظواهر وتحليل الأوضاع ونقدها على حد تعبير "ماركس"، فـ "المثقف الماركسي هو مثقف نقدي بامتياز، فالنقد هو وظيفته في القراءة والبحث والعمل والتطبيق، وهو أقرب الى مفهوم المثقف العضوي عند "جرامشي"، الذي شعر منذ وقت مبكر بأهمية البحث في سسيولوجيا الثقافة، محاولاً تأسيس نقد ثقافي لنظريات البرجوازية القائلة بالمُثقف المُتعالي الذي جسَّدته النزعات الفردية، في الفلسفات النفعية، كالبراجماتية والأداتية وبعض أطروحات جون ديوي (عالم التربية الامريكي الكبير) وبرتراند راسل ووليم جيمس"، ولذا فمن الطبيعي أن يكون تعامله مع الماركسية التي يؤمن بصحة منهجها".
إنها ماركسية تُدير الظهر إلى "ماركسية ما بعد ثورة أكتوبر (التي) هي نوع من تقنين وقولبة للماركسية، حيث تحوّلت بسرعة غير عادية إلى شيء أقرب إلى اللاهوت، انفصلت عن الماركسية الرحبة، التي تضم بين جنباتها عوالم متنوعة وأطروحات غزيرة (معرفية وفلسفية وإنسانية) بتحويلها الى ماركسية مُقَنّنة سائرة ومأسورة بأجهزة الدولة وتميل مع سياطها ومُتطلباتها"!
ورغم عدم قبول البعض للفهم النقدي للماركسية، حسبما يرى الدكتور "عبد الحسين"، "أي نقد الماركسية بالماركسية، كما لوأنك تكتب عن نقد القرآن بقرآنٍ جديد"، فهذه الماركسية الحيّة "كأداة ومنهج تختلف عن الماركسية التلقينية الطقوسية، والماركسية لا يمكن أن تدجّن أو تروّض أو تخضع لطقوس وتأثيرات ريفية بما يخالف جوهرها، في محاولة للتوليف بينها وبين ما هو سائد وقد جرت في عالمنا العربي بعض المحاولات لإيجاد مواءمة بين الدين وبين الماركسية وبين الماركسية وبين الفكر القومي التقليدي".
وإذا ما كان ماركس يريد للفلسفة أن تجمع التفسير والتغيير في يد واحدة، أفلا يكون بهذا التوجُّه حالماً كبيراً؟
يطرح هذا السئوال، المنطقي، نفسه على الدكتور "شعبان"، فيُجيب أنه "لا يشك في أن هناك طوباوية عالية في الماركسية الأصيلة ولدى "ماركس" تحديداً، وهي طوباوية لابدّ منها، لكل فكر يريد أن يكون إنسانياً، وإلاّ كيف يمكن فصل العمل عن الأمل؟ وكيف يُمكن لنا أن نمشي قُدماً إلى الأمام دونما امتداداً للطريق أمامنا ؟".
ويستكمل: "بدلاً من أن نرى "ماركس" مُفكراً حالماً غير صالح للتطبيق مثلاً (على اعتبار أن فشل تجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي تؤكد نهاية الماركسية، كما يريد البعض أن يقول، بينما فشل التجربة النازية والفاشية وهزيمة أمريكا في فيتنام وفشل الغزو الأمريكي للعراق وغيرها من الامثلة) لا يمسّ جوهر الرأسمالية العالمية؛ ولا يُعَرِّضُ الإمبريالية إلى النهاية؛ أو يضع أمامها تلك الأسئلة الحارة التي تبحث عن إجابات في إطار الوضعية النقدية؟!
فإذا كانت الأيديولوجيا البرجوازية تُقَدِّمُ مفاهيم "للنهايات" من أجل ديمومتها، كـ "نهاية الفلسفة" و"نهاية الأيديولوجيا"، و"نهاية التاريخ"، و"نهاية الانسان"، و"نهاية الكون"، لكنها لا تتحدث عن "نهاية الرأسمالية" أو "نهاية المجتمع الطبقي" أو "نهاية الأزمات الانسانية"، كصورة من صور "الوعي الزائف في العالم المعاصر"، فالماركسية الجديدة المأمولة هي الماركسية المُهيأة للإجابة على "البشرية" حين "تضع الأسئلة القادرة على الإجابة عليها"، كما يقول "ماركس"، وهي الماركسية المُستعدة للتعاطي مع المستقبل، وللنظر والتفاعل مع "بدايات" متجددة دوماً للمسيرة الإنسانية، مع كل طور من أطوار التجدُّد الاجتماعي والعلمي والتكنولوجي، مثل عصر "الذكاء الاصطناعي" الزاحف، على سبيل المثال.

ملاحظات نقدية
على بعض رؤى ومواقف الأحزاب الشيوعية العربية

وانتقالاً إلى الواقع العربي، فإن الدكتور "عبد الحسين" يرى "عمل الأحزاب الشيوعية في العالم العربي غارقاً في التذبذب بين فهم أيدولوجي جاهزي ورثته هذه الأحزاب، ولم يعد مقبولاً أو مُبرهناً على صحته في العمل، وبين مُستجدات أو نزوعات إنسانوية ديمقراطية غير قادرة على مجاراتها، وبالتالي فهي تراوح بين الجمود والانحلال".
لقد ورثت أغلب الأحزاب الشيوعية العربية الانصياع لما كان قد استقر عليه التقليد والرأي في "المركز" المُهيمن في الاتحاد السوفيتي، وما كان لها أن تجتهد برأي مُخالف أو تتعلق برؤية مُغايرة! وهو الوضع الذي أشار إليه السيد "عامر عبد الله" الشيوعي العراقي المُخضرم: "كنا مثل سائر الشيوعيين في العالم قد اعتمدنا طريقة "ستالين" في استشارة "لينين"، مثلما كان "لينين" هو الآخر "يستشير" "ماركس"، وكنا نُبرر بالاقتباس صحة وصدقية الرأي والموقف، بل كنا نسعى لتكييف وتطويع الواقع أحياناً لنصوص وأحكام النظرية التي وصفها "لينين" بأنها "كلية الجبروت"، وأنها "قُدّت من سبيكة واحدة من الفولاذ"، وهو مالم يقله مؤسسا الماركسية، أي "ماركس" و"إنجلز"!".

الماركسيون العرب
والتعاطي مع القضية القومية

وقد شلّت وضعية "التبعية" هذه قدرة العديد من الأحزاب الشيوعية العربية على الاجتهاد لإيجاد إجابات صحيحة للمُشكلات العديدة، وبعضها مصيري كـموقف الماركسية من "القضية القومية" والموقف من "الدين"، رغم التداعيات الخطيرة المُترتبة على هذا الموقف، وتقاعست عن اجتراح حلول ناجعة لقضايا مُلحة ما كان يُمكن تأجيلها، بل كان يتوجب مُجابهتها!
ويلحظ الدكتور "عبد الحسين" أن "محور اهتمام "ماركس" وجلّ توجهه كان الثورة البروليتارية، ولذلك لم يركّز ماركس على مبدأ حق تقرير المصير، ويعود إبراز مبدأ حق تقرير المصير للأمم والشعوب، الى "لينين" عشية الثورة الاشتراكية الأولى، ولعله هو مَن انفرد في فكرة تكوين الدولة القومية المستقلة، مشدّداً على نضال شعوب المستعمرات ضد الامبريالية، وهو من تناول حق تقرير المصير باعتباره حقاً ديمقراطياً، مع أنه أخضعه في نهاية المطاف لمصالح الصراع الطبقي والدور البروليتاري، وكان أول من تحدّث عن حركات التحرّر في الشرق وربط بين قضية التحرر والثورة الاشتراكية، وذلك في كتابه الذي صدر عام 1913 المعنون "ملاحظات نقدية حول المسألة القومية" واضعاً فيه حقين متعارضين متلازمين:
الأول: الحق في تأسيس دولة قومية، أي حق الانفصال وتكوين كيان مُستقل. وإنْ اعتبره مثل حق الطلاق، أو كما نقول أبغض الحلال عند الله الطلاق، ولا يتم اللجوء إليه إلاّ إذا أصبح العيش المشترك مُستحيلاً، مع مُراعاة مصالح النضال المشترك.
الثاني: الحق في الاتحاد الاختياري الأخوي، بما فيه إلغاء الحواجز القومية، وتكوين دولة مركزية واسعة وموّحدة، وهو ما سعى إليه بعد ثورة أكتوبر يوم تم إعلان الاتحاد السوفيتي " اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية" العام 1922، بتعظيم وتقديم الأممية وتقزيم وتقليل القومية".
وفيما يخص القضية الفلسطينية والصراع العربي ـ الصهيوني، يُشير الدكتور"عبد الحسين" إلى أن تلّمس الثغرات الكبيرة الفكرية، النظرية والسياسية، والعملية في المسألة القومية جعلت مهمة الحركة الماركسية والشيوعية في العالم العربي صعبة، إضافة الى الموقف من الدين، ومكمن هذه الصعوبة هو أننا "خالفنا المزاج العام، الشعوري - الفطري في كلتا المسألتين، تحت عناوين أيديولجية بتقديم الطبقي والاجتماعي، على الوطني والقومي، بل إننا ازدرينا بعض الأطروحات القومية، ناسبين إيّاها إلى البرجوازية، مُطبّقين المسطرة الأوروبية على المسألة القومية، مُتناسين أننا ما زلنا نعيش مرحلة التحرُّر والانعتاق الوطني والقومي، وحتى الاستقلال السياسي الذي حصلت عليه الشعوب العربية تقهقر كثيراً، فما بالك بالاستقلال الاقتصادي والتنمية !".
ويمضي الدكتور"عبد الحسين": "لقد تعاملت الأدبيات الماركسية العربية مع المسألة القومية باستخفاف كبير، وكنّا غالباً ما نتندّر على القومية و"القومجية" دون أن نميّز الفارق بين العروبة، التي هي انتماء شعوري وفطري ووجداني، وبين القومية التي هي أيديولوجيا أو عقيدة، باعتبار أن نماذجها هم الحُكَّام الدكتاتوريين، وكنّا نتغنى بالأممية وفضائلها، في حين أن نماذج حُكَّامها لا يقلّون دكتاتورية واستبداداً عن نماذج حُكَّامنا الدكتاتوريين".
ويكمل الدكتور "عبد الحسين" استعراض أخطاء الماركسيين العرب تجاه القضية القومية، فيذكر أننا "مثلما تركنا خزانة الكتب التاريخية والدينية، للقوى الإسلامية أو"الإسلاموية"، أدرنا الظهر للتراث العربي والانتماء التاريخي، واعتبرناه من اختصاص أحزاب قومية في الغالب أو قوموية، وبعضها لم يكن بعيداً عن ترسانة الفكر الأوروبي، وقد استطاعت هذه الأحزاب والقوى تجيير مسألة العروبة لصالحها، بل أنها سحبت الشارع أحياناً الى صفها، وهي بعيدة كل البُعد عن تحقيق مُستلزمات العروبة، أو الإرتقاء بمتطلباتها، فما بالك إذا انفردت بادعاء الوعي التاريخي بأهميتها، كهوّية خاصة ومكوّن أساسي، لا يمكن إغفالها أو التنكر لها".
وتبلغ المسألة قمة الأزمة بالموقف من قرار التقسيم، ويشير د."عبد الحسين" إلى "الموقف الستاليني، الذي تبدّل بين عشية وضحاها بالموافقة على قرار التقسيم بعد أن كان يدعو الى دولة ديمقراطية يتعايش فيها العرب واليهود، وهو الموقف الذي لا أفهم أي تبرير له ماركسياً، إنْ لم يكن هو ضد الماركسية، فكيف لمن يدّعي أنه طليعة البروليتاريا العالمية يوافق على تقطيع أوصال بلد وتسليم ما يزيد عن نصفه إلى مهاجرين جاءوا من أصقاع الدنيا وطرد سكان البلاد العرب الأصليين ؟"!
ولا شك أن هذا الموقف يصعب الدفاع عنه، مهما كانت الحجج أو التعلات، ناهيك عن الموقف الماركسي القويم، الذي يفرض الدفاع عن حق الشعب الفلسطيني الكامل في أرضه السليبة ووطنه المُغتصب.. من النهر إلى البحر!
ولم يقتصر موقف الدكتور "عبد الحسين" الناقد على القوى والأحزاب الماركسية العربية وحسب، وإنما امتدت انتقاداته إلى: "نقد مواقف القوى القومية التي تعكّزت على مسألة فلسطين لتُصادر الديمقراطية وتُعَطِّل التنمية وتؤجل الاستحقاقات الاجتماعية الضرورية، ليس هذا حسب، بل إن الهم الرئيسي لبعضهم أحياناً كان هو القضاء على الشيوعية بدلاً من اعتبار الصهيونية والإمبريالية، الخطران الأساسيان ".
وأكملت النُظم العربية الحاكمة في الوطن العربي هذا الموقف المأساوي بشل قدرة الشعوب على مقاومة المشروع الاستيطاني العنصري الصهيوني، عبر التوجُّه "نحوالتسلّح والعسكرة وتبرير أحكام الطوارئ والأوضاع الاستثنائية ومصادرة الحريات وانتهاك حقوق الانسان، بحجة الخطر الخارجي الذي يدّق على الأبواب. ولعلها ساهمت في تكريس سلطات الاستبداد بحجة تحرير فلسطين تحت شعار"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، والذي كان عملياً يعني لا صوت يعلو فوق صوت الحُكَّام وإرادتهم ومصالحهم"!
وكما لم يحالف الصواب موقف الماركسيين العرب من القضية القومية المركزية، فلسطين، لم ينجحوا في اتخاذ الموقف الصحيح المُناسب في قضايا الأقليات الدينية والإثنية: الأكراد والأمازيج والتركمان والمسيحيين وسُكّان جنوب السودان وغيرهم، أو حل هذه القضايا حلاً ديمقراطياً يعترف بحقوقهم السياسية والثقافية واللغوية والسُلالية، وهو ما أدي إلى مفاقمتها، وزيادة تعقيدها، وسمح بتدخلات خارجية لعبت على وتر الخلافات بين الفرقاء.

على سبيل الخاتمة:
و"قسا ليزدجروا" !

وإحقاقاً للحق، فمن الضروري القول بأن أقساماً مُحترمة من الماركسيين العرب عاكسوا هذا التيار، واتخذوا مواقف متميزة من القضايا القومية وقضايا الأقليات في الوطن العربي، وقد تعرّض هؤلاء إلى مواقف عصيبة إن لجهة الأحزاب والقيادات التي اختارت الانحياز للخط الماركسي الرسمي، أو لجهة النُظم القمعية التي اعتبرت الشيوعية والشيوعيين الأعداء الأساسيين لهم، وكم من شهيد سقط تحت ضرباتهم المُميتة، ومنهم الشهداء: "شهدي عطية الشافعي" (مصر)، و"فهد" (العراق)، و"فرج الله الحلو" (سوريا) وغيرهم.
كما أنه من الواجب الإشارة إلى الموقف المحترم للعديد من الشيوعيين العرب اليهود، الذين أسسوا في مصر "الرابطة الإسرائيلية لمكافحة الصهيونية" (أبريل/ نيسان 1947)، وقد قامت حكومة "محمود فهمي النقراشي" بمنع نشاطها ومُطاردة أعضاءها، وكذا "عصبة مُكافحة الصهيونية"، التي أسسها شباب شيوعي عراقي (آذار / مارس 1946)، والتي أعلنت : "نحن نعتقد إخلاصاً بأن الصهيونية خطر على اليهود مثلما هي خطر على العرب وعلى وحدتهم القومية، ونحن إذ نتصدى لمكافحتها علانية وعلى رؤوس الأشهاد، إنما نعل ذلك لأننا يهود ولأننا عرب بنفس الوقت" (عبد الحسين شعبان، عصبة مُكافحة الصهيونية ونقض الرواية الإسرائيلية، دار البيان العربي، الطبعة الأولى، بيروت، 20234، ص: 7).
وأخيراً، فأستطيع ـ من واقع التجربة الشخصية في أوساط اليسار والحركة الماركسية والشيوعية المصرية، على امتداد نحو ستة عقود ـ التأكيد على أنه منذ كارثة 5 يونيو 1967، تلاشت أغلب إن لم يكن كل هذه الملاحظات ولم يعد لها من وجود يُذكر، فقد برزت أجيال منذ جيل السبعينات المصرية من الماركسيين والشيوعيين المصريين رفعت راية النضال ضد الإمبريالية والصهيونية، ونشرت ثقافة المقاومة في ربوع الجامعات المصرية والمواقع العمالية والسياسية والثقافية، في طول البلاد وعرضها، رغم ما نالها من عسف السلطة وبطشها، والمُبَشِّرُ أن الأجيال الجديدة من شباب الأمة العربية، وفي القلب منها مصر، بل والأطفال الصغار في سن الأحفاد، يُمارسون نضال "المُقاطعة" للبضائع والشركات الأمريكية والغربية الداعمة للعدو الصهيوني بحماسٍ لاهب.
فلنتسلح بالأمل.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكتابة روح وهُويّة وفعل تنوير، كما هي فعل تغيير
- شريف الربيعي: غياب أم حضور؟
- اليسار الأخلاقي.. عبد الحسين شعبان نموذجًا
- يوم الوفاء.. وتجليات الفكر النهضوي
- رسالة تعزية لرحيل أبو أحمد فؤاد
- قيس الزبيدي حين تكون الحياة شاشة سينما
- لماذا مدّدت واشنطن العقوبات على دمشق؟
- لا تتركوا الأمازيغ...!
- قصائد الصباح امتطت صهوة المجد وابياتها شامخة انيقة الإحساس: ...
- وَفُاءً .. لِوْفاّء مثقفي الأمة من شعبان إلى الصباح
- الى د.عبدالحسين شعبان… صانعُ الفجر من رماد الليل
- يوم الوفاء لعبد الحسين شعبان
- حوار النجف – أربيل
- عبد الحسين شعبان أيقونة الثقافة المشرقية
- قلادة الإبداع على صدر شعبان
- سوريا التفاؤل المفرط والتشاؤم المحبط
- منصور الكيخيا وحكاية الاختفاء القسري
- طيران فوق عش الوقواق
- الكويت ونخبها الفكريّة والثقافية تكرّم عبد الحسين شعبان
- فقه العدالة الانتقالية


المزيد.....




- طراز جديد مشتق من طائرات -إيرباص- سيغيّر خريطة الطيران العال ...
- تعرّف إلى آخر -سيّدات البحر- في اليابان؟
- مسؤول روسي سابق لـCNN: الكرملين -مندهش تمامًا- من تنازلات تر ...
- المديرة سكبت الزيت الساخن على الزبائن.. شاهد لحظة اندلاع شجا ...
- -مدرجات لمقاتلات مصرية- في سيناء تثير القلق في إسرائيل
- روسيا وفلسطين.. تاريخ من الدعم
- -احتلال وطرد واستيطان-.. مظاهرة مرتقبة لليمين المتطرف في الق ...
- إسرائيل تتهم حماس بعدم تسليم جثة الرهينة بيباس، ومسؤول في ال ...
- ثوران جديد لبركان كيلاويا في هاواي.. الحمم تتصاعد إلى 125 مت ...
- آلاف من طيور النحام الوردي تنتظر انتهاء فصل الشتاء على ساحل ...


المزيد.....

- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف
- أنغام الربيع Spring Melodies / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - عبد الحسين شعبان - -الماركسية الجديدة- وأزمة اليسار العربي - قراءة في مفهوم الدكتور -عبد الحسين شعبان-