أكرم شلغين
الحوار المتمدن-العدد: 8256 - 2025 / 2 / 17 - 02:51
المحور:
قضايا ثقافية
عرفت المجتمعات البشرية على مر التاريخ بعضا من أعنف الصراعات وأكثرها دموية، وغالبا ما ارتبطت تلك الصراعات بالاختلافات الدينية. فقد أدت الحروب التي نشبت باسم الدين، مثل الحروب الصليبية وحروب الإصلاح البروتستانتي في أوروبا، إلى زهق أرواح الملايين وتدمير حضارات بأكملها. وعلى نطاق أضيق، وفي كثير من الأحيان، يتم اختزال هوية الفرد في انتمائه الديني، ويُتَّخذ الموقف منه على هذا الأساس، حتى لو كان هذا الانتماء مجرد صدفة تاريخية أو جغرافية، ودون أن يكون للفرد نفسه خيار أو تفكير عميق في انتمائه. وقائع كهذه تطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة الدين، ودوره في تشكيل الهوية الفردية والجماعية، ومدى تأثيره في بناء الحضارات أو إشعال النزاعات. لذا، من الضروري أن نتوقف قليلا عند ظاهرة الدين، ونحاول استرجاع أصولها ودوافعها وحاجة الإنسان المستمرة إليها منذ أقدم العصور. ومع استذكار أن مجمل ما حصل ويحصل يدفعنا إلى التأمل في كيفية تحول الدين من مصدر للسلام الروحي والأخلاقي إلى سبب للصراع والانقسام، وكذلك لماذا يتم اختزال الإنسان في هوية دينية لفرد قد لا يعيها تماما أو يختارها بحرية؟ هذه الأسئلة بدورها تفتح الباب أمام التفكير في دور الدين في حياة الأفراد والمجتمعات بوقفة جادة لفهم هذه الظاهرة.
رافقت هذه الظاهرة الإنسان منذ نشأته وفي العصور السحيقة وذلك بحكم أن حياته وما يتعلق به وأن ما يحيط به ليست سوى ألغاز محيرة أكبر من أن تُختزل في أسئلة بسيطة حول الإنسان نفسه وسعيه لفهم الوجود والغاية من الحياة وما بعد الموت: من نحن؟ ومن أين أتينا؟ وماذا نفعل؟ وما نجاعة ما نفعله؟ وإلى أين نحن ماضون بعد انتهاء الحياة؟ من هنا سعى الإنسان إلى فهم نفسه والقوى الغامضة التي تحيط به وتفسير الظواهر الطبيعية التي يعجز عن إدراكها، وهكذا جاءت محاولاته عموما لتفسير ما هو عليه وما يحيط به مؤدية إلى نشوء المعتقدات الدينية كجزء أساسي من حياته واستجابة لحاجات روحية ونفسية واجتماعية. وأصبحت مرجعية أخلاقية وروحية للعديد من الحضارات وراحت تتطور عبر الزمن. بمعنى آخر، مواجهة الإنسان للأسئلة الوجودية حول الحياة والموت والغاية من الوجود دفعته إلى ابتداع أو استنباط الدين والذي يوفر إجابات لهذه الأسئلة مما يمنح الإنسان شعورا بالاطمئنان والاستقرار النفسي. حول هذا يقول الفيلسوف فيكتور فرانكل في كتابه الإنسان يبحث عن المعنى: "الإنسان لا يمكنه العيش بدون معنى، والدين يوفر هذا المعنى" (Frankl, 1984, p. 101).
يشير تاريخ تشكّل الأديان إلى سجل من الأفكار والتجارب العقدية التي اعتنقها الإنسان منذ القدم، حيث كانت المجتمعات البدائية تعبد قوى الطبيعة كالشمس والقمر والرياح والمياه وترى فيها قوى خارقة تتحكم في حياتها. يقول عالم الأنثروبولوجيا إميل دوركهايم في كتابه الأشكال الأولية للحياة الدينية: "الدين هو نظام من المعتقدات والممارسات المتعلقة بالأشياء المقدسة، والتي توحد الأفراد في مجتمع أخلاقي واحد" (Durkheim, 1912, p. 47). ومع اختراع الكتابة قبل حوالي خمسة آلاف عام، بدأت هذه المعتقدات تُدون وتُنظم بشكل أكثر تعقيدا. ففي المجتمعات الزراعية الأولى، ظهرت ديانات منظمة تعكس تأثير البيئات الاجتماعية والسياسية، حيث كانت العقائد الخرافية مناسبة للجماعات والقبائل الصغيرة، بينما احتاجت المجتمعات الأكبر إلى أديان تضمن الاستقرار والأمن للسكان وللتجارة.
مع تطور المجتمعات، ظهرت الأديان التوحيدية التي تؤمن بإله واحد، مثل اليهودية والمسيحية والإسلام. جاءت هذه الأديان برسالات سماوية تهدف إلى تنظيم حياة الإنسان وفق مبادئ أخلاقية وروحية. يقول عالم النفس كارل يونغ: "الدين هو أحد أقدم وأكثر الطرق عمقا لتحقيق الوحدة النفسية للإنسان" (Jung, 1964, p. 93). وفي ذات السياق، يؤكد عالم الاجتماع ماكس فيبر أن "الدين هو أحد القوى الرئيسية التي تشكل الأخلاق والقيم الاجتماعية" (Weber, 1905 p. 274).(****) من جانب آخر، يعمل الدين كعامل توحيد للمجتمعات حيث يجمع الأفراد حول قيم ومبادئ مشتركة. يقول إميل دوركهايم: "الدين هو الذي يجعل المجتمع يشعر بوحدته وقوته" (Durkheim, 1912, p. 312). كما أن الدين اتُّخِذ مصدرا للراحة النفسية ففي أوقات الأزمات والمحن يلجأ الإنسان إلى الدين كملاذ روحي يوفر له الطمأنينة. وفقا لويليام جيمس في كتابه تنوع الخبرة الدينية: "الدين هو رد فعل الإنسان تجاه الألم والخوف، وهو محاولة للعثور على السلام الداخلي" (James, 1902, p. 53).
في الشرق، ظهرت أديان مثل الهندوسية والبوذية والطاوية وهي تركز على التناغم مع الكون وتحقيق السلام الداخلي. هذه الأديان تعكس حاجة الإنسان إلى فهم ذاته وعلاقته بالكون، وكما يخبرنا الدالاي لاما: "هدف الدين هو التحكم في الذات، وليس التحكم في الآخرين" (Dalai Lama, 1999, p. 21). ومن هنا، يتضح أن الدين لم يكن مجرد وسيلة للهيمنة أو السيطرة وإنما لعب دورا أساسيا في منح الإنسان إحساسا بالمعنى والهوية والانتماء.
وهنا يبرز السؤال الضروري: إذا كان الإنسان ابتدع الدين للأسباب التي تم ذكرها أعلاه، فكيف أصبح الدين نقطة خلاف بين البشر على مستوى الجماعات والأفراد؟ والجواب البسيط يمكن تشبيهه اجتماعيا بمثل جلال الدين الرومي عن امتلاك الحقيقة وكأنها مرآة في يد الله ثم انكسرت إلى قطع عديدة، وكل أمسك بقطعة ولم ير فيها إلا نفسه. فالاختلافات الدينية لم تكن في جوهرها سوى انعكاسات لرؤى متعددة عن حقيقة واحدة غير أن تعصب الجماعات لأفكارها الدينية جعلها تنغلق على ذاتها ظنا منها أنها وحدها التي تمتلك الحقيقة المطلقة. وهذا ما أدى إلى النزاعات الدينية والصراعات التي أنهكت البشرية. ويؤكد عالم الاجتماع بيتر بيرغر على هذا الأمر بقوله: "عندما يتم التعامل مع العقيدة على أنها يقين مطلق، فإنها تتحول إلى أداة للقهر والسيطرة بدلا من أن تكون وسيلة للسلام والتفاهم". في هذا السياق، يمكن فهم كيف أن البشر قد نسجوا شباكا من العقائد والتمسك الصارم بها، ثم علقوا فيها (إيريك فروم)، فلم يعودوا قادرين على رؤية الحقيقة خارج حدود القطعة التي يملكونها.
وفي الواقع، تم استخدام الدين وعلى مر التاريخ كأداة قوية لتحقيق المصالح الاقتصادية والسياسية حيث سعى القادة والحكام إلى توظيف الخطاب الديني لضمان شرعية سلطتهم وكسب ولاء الشعوب. وكما يوضح ماكس فيبر في كتابه الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، فإن "المعتقدات الدينية لم تكن مجرد انعكاس للعالم الاقتصادي، بل كانت قوة دافعة لتشكيل الرأسمالية الحديثة" إذ ساهمت القيم البروتستانتية مثل الاجتهاد والعمل الدؤوب في تعزيز النظام الرأسمالي في أوروبا. ومن ناحية أخرى، استُخدمت الأديان لتبرير التوسعات الإمبريالية والاستعمار (في أمريكا وآسيا وإفريقيا) حيث روّجت القوى الاستعمارية الأوروبية لفكرة "المهمة التنويرية" و"تحضير الشعوب المتخلفة" كغطاء ديني للاستيلاء على الأراضي واستغلال الموارد. وكما يقول إدوارد سعيد في الاستشراق، فإن "الخطاب الديني والاستشراقي تواطآ في تبرير الهيمنة الاستعمارية من خلال تصوير الآخر على أنه يحتاج إلى الخلاص الروحي والمدني".
في السياق السياسي، لطالما استُخدم الدين لإضفاء شرعية على الأنظمة الاستبدادية حيث اعتمد العديد من الحكام على فكرة "الحق الإلهي" في الحكم، مثلما فعل الملوك الأوروبيون في العصور الوسطى والسلطنات الإسلامية التي جمعت بين السلطة الزمنية والدينية. ويؤكد كارل ماركس في تحليله أن "الدين هو أداة للحفاظ على الوضع القائم إذ يساعد في تخدير الجماهير وصرف انتباهها عن المطالبة بالعدالة الاجتماعية" (مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيغل). وبنفس الوقت نتذكر مقولته الشهيرة في قولبة استخدام الدين كيفما يشاء صناع القرار حيث أن" الدين أفيون الشعوب"، وهي المقولة التي جاءت في سياق نقده للدين كأداة تُستخدم لتهدئة الجماهير وصرفها عن التغيير السياسي والاجتماعي حيث رأى أن الدين يمنح الناس عزاء زائفا عن معاناتهم بدلا من معالجتها. وفي العصر الحديث، يستغل السياسيون الدين لحشد الدعم الانتخابي متخذين من الخطاب الديني وسيلة لاستمالة الجماهير وضمان التأييد الشعبي حيث أصبح الدين عنصرا حاسما في الدعاية السياسية في دول عديدة. ويعلمنا التاريخ القديم والحديث كيف استُخدم الدين لتبرير العنف والقمع باسم العقيدة. فباسم الدين ارتُكبت مجازر وشُنّت حملات إبادة وفرضت قيود صارمة على المجتمعات والأفراد. وهذا ما يفسر كيف تحوّل الدين من كونه مصدرا للأخلاق والعدالة إلى أداة بيد بعض الفئات لخدمة مصالحها. فعلى سبيل المثال، وليس الحصر، تحتاج القوى العسكرية الطاغية إلى الدين لتبرير تدميرها للبلدان وسفكها لأرواح البشر فيه، والمثال الذي رأيناه جميعا كيف تحتاج قوات محمولة لتقتل أبرياء في أماكن من العالم إلى مباركة رجال الدين وتبرير أعمالهم بأنها لا تُغضب الله بل هي مباركة منه ؛ أو كيف تحضر القوات العسكرية رجل دين معها على متن البوارج والسفن الحربية ليطمئن العسكري الذي يبكي لأن قذيفته ونيرانه التي يطلقها من فوق سفينة مستقرة وسط البحر ربما ستقتل أبرياء على بعد في البلد المطلوب تدميره وإخضاعه بالقول إن ذلك من صلب الدين وأن الله معهم. من هنا لا أجد أدق من قول الفيلسوف الأمريكي ستيفن واينبرغ: "يحتاج الأشرار إلى رجال دين لتبرير أفعالهم".
حقا، فقد شهد التاريخ العديد من النزاعات الدينية التي خلفت آثارا دامية، حيث أصبح الدين أداة لتبرير العنف والإقصاء ضد الآخر. ففي الأمثلة المستخدمة أعلاه عن الحروب الدينية الكبرى مثل الحروب الصليبية والمجازر التي تلتها تم استخدام الدين ليس فقط لتوسيع النفوذ السياسي والاقتصادي ولكن أيضا لتبرير القتل الجماعي والتهجير القسري للأفراد والمجتمعات بسبب معتقداتهم (Keddie, 2003). وعلى الرغم من أن معظم الدول الحديثة قد تبنت مبادئ حقوق الإنسان التي تضمن الحق في حرية الدين والمعتقد فإن الدين لا يزال يُستغل في كثير من الأحيان لتبرير الهيمنة والتمييز ضد الأفراد المختلفين دينيا. ففي حالات كثيرة تُستخدم الشعارات الدينية كأداة لخلق شعور بالاستعلاء و"التفوق" على الآخرين، كما حدث في بعض المناطق التي شهدت صراعات دينية حديثة مثل الشرق الأوسط، حيث تُبرر السلطات الدينية والدنيوية تهميش الأقليات الدينية مثل المسيحيين واليزيديين وغيرهم من خلال تأويلات مشوهة للنصوص الدينية (Armstrong, 2014). والأمثلة لا تنحصر هنا بل يمكن السحب على ذلك في أكثر من مكان وزمان.
ورغم أن قوانين الدول ومواثيقها الدولية، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تنص على احترام حرية الدين والمعتقد، فإن هذه المبادئ كثيرا ما تُنتهك في الواقع بسبب تصاعد مشاعر التطرف الديني والتعصب (UN, 1948). فعلى سبيل المثال، تشير الدراسات إلى أن العديد من الأقليات الدينية في دول مثل ميانمار أو الهند يجبرون على العيش في ظل تهديدات متواصلة من الاضطهاد والتهميش بسبب هويتهم الدينية (Schlee, 2018). وفي هذا السياق، تبرز الحاجة الملحة إلى مراجعة جذرية لدور الدين في المجتمع المعاصر، ليس فقط من منظور فلسفي وأيديولوجي، ولكن أيضا من خلال آثاره الاجتماعية والإنسانية.
من الجدير بالذكر أيضا أن الدين في كثير من الأحيان لا يُستخدم فقط كأداة لتبرير العنف ضد الآخر، بل يُستغل أيضا لتكريس النظام الطبقي والتفرقة بين أفراد المجتمع الواحد بناء على معتقداتهم الدينية، مما يعزز من واقع التمييز الاجتماعي والاقتصادي. وهكذا، فإن الدين، الذي كان من المفترض أن يكون وسيلة للسلام والتعايش، أصبح في بعض الأحيان أداة لترهيب الأفراد المختلفين دينيا والتفرقة بينهم مما يستدعي ضرورة إعادة تقييم دور الدين في المجتمعات الحديثة لضمان تحقيق العدالة والمساواة بين جميع الأفراد. ويبقى السؤال الأهم: كيف يمكن للمجتمعات الحديثة أن تتجاوز استخدام الدين كأداة للصراع، وتعيد إليه دوره الأصلي في تحقيق السلام والانسجام الإنساني؟
.................................................................................................................................
(**** )بالطبع لا نستطيع هنا إلا أن نجنح لتذكر مقولة إيفان الفلسفية المثيرة التي يعبر عنها في حواره المثير في الأخوة كارامازوف: "إذا لم يكن الله موجودا، فكل شيء مباح. وإذا كان كل شيء مباحا، فما الذي يمنع الإنسان من أن يفعل أي شيء؟" فهذا التساؤل أو هذه المقولة تثير مسألة فلسفية عميقة لا يمكننا تجاوزها ببساطة إذ تحتوي، من بين ما تحتويه، تحديا لكل من الأخلاق والحرية والإيمان حيث يظهر السؤال الجوهري: هل الأخلاق مرهونة بوجود كائن أعلى أم أن القيم يمكن أن تكون مستقلة عن الألوهية؟
المراجع
#أكرم_شلغين (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟