أبوبكر المساوي
...
(Aboubakr El Moussaoui)
الحوار المتمدن-العدد: 8255 - 2025 / 2 / 16 - 22:48
المحور:
قضايا ثقافية
التعدد والتنوع في طرق التفكير والاختلاف في وجهات النظر أمر طبيعي، بل ضروري للتطور والنمو الفكري لدى الشعوب والمجتمعات المنتمية إلى الدول التي تقود العالم، وضروري أيضا لتحقيق النضج وتطوير الذات الفردية، أملا في الوصول إلى كل ما من شأنه تعزيز بقاء الفرد كذات متفردة متميزة وقوية، ثم تحقيق مصالحه أولا وأخيرا، لكن هذا ينعكس، شاء الفرد أم لم يشأ، على تحقيق كل ما هو نافع لمحيطه ولمجتمعه وللإنسانية كافة.
أما الاختلاف عندنا فهو باب يفتح على مصراعيه لسفك الدماء ومفهوم موجب للتكفير والسقوط من لائحة المنتمين إلى الجماعة المؤمنة بالوصفة الفكرية الواحدة، الشيء الذي يترتب عنه حزمة من الأحكام التي قد تعود بنا إلى زمن القرون الوسطى وإلى محاكم التفتيش والمتابعات القضائية الجائرة، أو إلى تطوع أحد أفراد الجماعة لتنفيذ الأحكام التي أصبحت أغلب الدول المنتمية إلى العالم الذي مسه جن الثقافة الإسلامية تستحي من تطبيقها أو تلبسها لبوسا آخر تفاديا لتشويه صورتها أمام أنظار العالم أو خوفا من التعرض للعقوبات الاقتصادية والحضر الذي قد يطالها إن هي خرقت المواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي وقعتها رغما عن أنفها، للتمكن من الانخراط في نادي الإنسانية واللعب تماشيا مع قواعد اللعبة التي صاغتها الدول التي قطعت مع الخرافة والحقيقة المطلقة والفكر الواحد. إن العجز عن تدبير الخلافات العقدية والاختلاف الفكري بين أفراد المجتمع صورة من صور الاحتقان والجمود العقلي المزمن الذي طبع الجماعات التي تعتقد في كونها تمتلك الحقيقة المطلقة التي لا تقبل النقد والنقاش، ولا تملك استعدادا وجرأة لأي وقفة تأمل حقيقية وتفكير جدي في الأسباب الحقيقية لهذا الظلام الذي تتخبط فيه وتسعى لزرعه في أكبر عدد من الأفراد، وتصديره إلى دول أبادت منذ قرون بذور الظلام، كما تسعى بكل ما أوتيت من قوة إلى إطفاء مصابيح العلم والعقلانية التي تزداد توهجا وإنارة لدروب الإنسانية ولكل من يمتلك الملكات الكافية لالتقاط نورها.
أرى أن تماهي الفرد مع المعتقدات ومع طريقة التفكير الموروثة، واعتقاده الجازم في امتلاك الحقيقة المطلقة من المشكلات الكبرى التي تمنعنا من التعلم ومن الاطلاع على الأفكار التي أنتجها الإنسان على مر العصور، وعلى تاريخ الأفكار وتطورها، ما ينعكس سلبا على طرق رؤية المختلفين عنا فكريا، كما يمنعنا من تطوير ذواتنا كأفراد وكيانات ذات وجود مستقل عن أي كيان آخر، ويعرقل نمونا الفكري ويساهم في خلق خلافات شخصية قد تؤدي إلى العنف اللفظي من سب وشتم، وإلى العنف الجسدي الذي يصل في أغلب الأحيان إلى القتل لأجل سواد عيون أفكار التقطها أحدنا من هنا أو هناك وتبناها دون أي دراسة أو تمحيص، وقرر أنه لا يمكنه العيش بدونها، واعتقد أن أي نقد موجه لمعتقده هو مساس بشخصه، فتجد اليميني يكره اليساري والمحافظ يحارب التقدمي والمتدين يمقت اللاديني إلى درجة أنه يمكنه قتله وأكل لحمه، لأن كتابا ما أو نصًّا من النصوص التي نسبت لكائن نُسب إليه خلق هذا الوجود، قد دعاه لقتل المختلف عنه.
كلما قرر المختلفان أن يجلسا إلى طاولة الحوار تجدهما يتراشقان بالكلام، وتنتهي جلستهما بما يلي:
المتدين يستنزل الدعوات المعسولات على اللاديني، ويسبه أنتم القردة والخنازير ويتوعده بعذاب السعير، مستندا في ذلك لكلام إلهه دون أدنى مجهود لتحريك كتلة المخ التي في رأسه.
أحسنت أيها الأخ المبارك، هنيئا لك ولإلهك، لقد أفْحَمْتَ "الكافر" بصراخك وجعجعتك، شكرا على هذه الإضافة الجميلة لتاريخ الإنسانية.
يحاول اللاديني جاهدا استفزاز ذلك المخ المعطل بطرح بعض الأسئلة، وعن طريق التلميح لبعض الأمور المريبة أحيانا، لكن يبقى أغلبها مجرد تلوث صوتي في نظر المتدين، فيقرر هذا الأخير فجأة إقفال قناة التواصل في اتجاهه، متخذا في ذلك سياسة الآذان الصماء، ويفتح قناة أخرى تصب في اتجاه واحد وكأنه في مهمة رسمية حيث يحاول قول كل ما يجب عليه قوله وبصوت مرتفع يخنق الفضاء ويصم الآذان. يصاب اللاديني بالغثيان ويبدأ بسب الملة والرب لأنه يعتقد أنه الرب هو سبب معاناته مع محدثه ومع كل أفراد المجتمع المتبنين لهذه الطريقة في التفكير، سواء في هذا الموقف أو في مواقف أخرى كثيرة في الحياة. ويبقى كل منهما يعاني بسبب الرب، المتدين يعاني لأنه يدافع عن الرب بطريقة عمياء تصل حتى الموت للتمتع بالنعيم الخرافي الذي وعد به في الكتب المقدسة لديانته، واللاديني يحاربه في سبيل حياة أفضل على الأرض بناء على أسس عقلية ومنطقية ملموسة في إطار القوانين الوضعية والعقد الاجتماعي.
هذا ينطبق على كل الذين تبنوا أفكارا وبنوا لأنفسهم قناعات بدون وعي والأمثلة كثيرة:
إن لم تخرج معي في مظاهرة،
إن لم تتفق معي في فكرة الإضراب،
إن لم تعبد الكائن الذي أعبد،
إن لم تقل عاش
ان لم تقل يسقط،
...
فأنت خائن.
والكل يخون الكل، ويبقى المخ محنطا، وتبقى حالتنا مزرية للغاية، وتستمر الحكاية...
حكاية معاناتنا مع ذواتنا ومع المختلف عنا ونقيضنا أو ظلنا الذي يمكن أن يكون ساكنا بداخلنا، لأن التناقض يمكن أن ينبع من داخلنا كما يمكن أن نلمسه في الآخر.
ويبقى السؤال، كيف نتعامل مع هذه الظاهرة كأفراد من هذا الطرف أو ذاك لنستفيد منها في البناء عوض الهدم؟
#أبوبكر_المساوي (هاشتاغ)
Aboubakr_El_Moussaoui#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟