الطاهر المعز
الحوار المتمدن-العدد: 8254 - 2025 / 2 / 15 - 14:10
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يتضمن العدد الحادي عشر بعد المائة بتاريخ الخامس عشر من شباط/فبراير 2025 فقرة عن علاقة النظام السوري الجديد مع الكيان الصهيوني ومع الفلسطينيين، وفقرة عن ضُعف مستوى احتياطي النّقد الأجنبي لدى المصرف المركزي التونسي وفقرة عن فنزويلا وفقرة عن دور الإستعمار في الفجوة بين الأثرياء والفقراء على مستوى عالمي وفقرة عن الحرب التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصّين
تقديم
اجتمع ممثلون عن تسع وعشرين حكومة من دول آسيوية وأفريقية في باندونغ بإندونيسيا ( نيسان/ابريل 1955) لمناقشة قضايا السّلْم ودور "العالم الثالث" في الحرب الباردة والتنمية الإقتصادية وإنهاء الإستعمار، وأرْسَى مؤمتر باندونغ وبيانه الختامي أُسُسَ حركة عدم الإنحياز خلال الحرب الباردة بين حُلفاء الإمبريالية الأمريكية من جهة والإتحاد السّوفييتي وحلفائه من أوروبا الشرقية من جهة ثانية، وفي جلسة الإفتتاح، وَرَدَ في خطاب رئيس إندونيسيا أحمد سوكارنو:
كثيرًا ما يُقال لنا إن الإستعمار قد مات. يجب أَلَّا نُخْدَع بهذه المقولة لأن الإستعمار لم يمُتْ بعْدُ طالما لا تزال مناطق شاسعة من آسيا وإفريقيا غير حُرّة، بل تغيَّرَ شكل الإستعمار الذي ارتدى لباسًا جديدًا يتمثل في السيطرة الإقتصادية والسيطرة الفكرية والسيطرة المادّيّة الفعلية في أجزاء مختلفة من آسيا وإفريقيا بواسطة مجموعة صغيرة غريبة عن جسد الأمّة، كما إن الإستعمار عدو ماكر وحازم، ويظهر في العديد الأشكال وهو لا يتخلَّى بسهولة عن عمليات النهب، لذا أينما ومتى وكيفما ظهر الإستعمار فإنه يبقى شرِّيرًا، ويجب استئصاله من الأرض".
سوريا
بعد ثلاثة أيام فقط على إعلان سقوط النظام ودخول المليشيات الإرهابية إلى دمشق، أنْذَرت هيئة تحرير الشام الفصائل الفلسطينية بأن السّلاح الفلسطيني ممنوع في سوريا، ووجَبَ إخلاء المَقرّات العسكرية ومُعسكرات التّدريب وتسليم السّلاح الثقيل، وصدَر هذا الإنذار بينما كانت قوات العدو الصهيوني تحتل القنيطرة وجبل الشيخ وحوض اليرموك ومناطق عديدة في جنوب سوريا وأصبحت على بعد حوالي عشرين كيلومتر من دمشق، فيما اتجهت مليشيات "هيئة تحرير الشام" (النصرة والقاعدة سابقًا) نحو الحدود السورية اللبنانية للإشتباك مع إحدى الفصائل الفلسطينية وإبعاد مُسلّحيها عن الحدود وعن البقاع الشرقية، وفي الأثناء كانت قوات الاحتلال تحتل المزيد من الأراضي السورية في مناطق القنيطرة ودرعا والسويداء وحتى الحدود العراقية السّورية، لكن سبق وأن صَرَّحَ زعيم الإرهابيين أحمد الشرع ( أبو محمد الجولاني ) "إن إيران هي العدو الرئيسي وليست لنا أي مشكلة مع إسرائيل (... ) إن تقدم القوات الإسرائيلية فعل غير مبرر طالما طردنا إيران وحزب الله من سوريا..."
تدرّبت هيئة تحرير الشّام على الحكم في في "إدلب" بإشراف تركيا وقَطَر والاستخبارات البريطانية والأوروبية والأمريكية التي قدّمت له مشروع "معالجة مشكلة الفلسطينيين في سوريا"، من خلال منح الجنسية السورية لكل الفلسطينيين المسجّلين كلاجئين في سوريا ( كانت للفلسطينيين في سوريا نفس الحقوق باستثناء الإنتخاب ) ويُعاملون مثل السّوريين شرط التّخلِّي عن مُقاومة الإحتلال الصهيوني، ويترتب عن ذلك أيضًا إزالة المخيمات نهائياً وتوزيع الفلسطينيين على كافة مناطق سوريا في إطار برنامج إعادة الإعمار...
من جهته، أعلن دونالد ترامب " لا عِلْمَ لي بأي قرار بشأن انسحاب قواتنا من سوريا"، وعزّزت قوات الإحتلال الأمريكي وجودها في حقوق النفط والغاز والمناطق الزراعية في سوريا بذريعة "محاربة الإرهاب" ودعم مليشيات العشائر الكُردية شمال شرقي سوريا، حيث عزّزت القوات الأميركية من حضورها في دير الزُّور والحسكة، عبر استقدام تعزيزات كبيرة وغير مسبوقة من القواعد العسكرية الأمريكية في العراق، خلال شهر كانون الثاني/يناير 2025، وتمثلت في العشرات من طائرات الشّحن الضّخمة ومئات الشاحنات المُحَمّلة بآليات ومعدات عسكرية ولوجستية، قادمة من إقليم كردستان العراق، تمّ توزيعها على القواعد المنتشرة في منطقة شمال وشمال شرق سوريا، وفق "المرصد السوري لحقوق الإنسان"، الذي أنْشأتْهُ بريطانيا منذ سنة 2011...
كما أعلنت حكومة المليشيات الإرهابية السورية ثُلُثَ عدد الموظفين الحكوميين ( تسريح 400 ألف موظف حكومي، من أصل نحو 1,2 مليون موظف ) باسم تنفيذ "إصلاح شامل" في إطار "اقتصاد السوق الحر التنافسي" ( وفق وزير الإقتصاد) ، ويتضمّن هذا "الإصلاح الشّامل" خصخصة 107 شركات صناعية مملوكة للدولة، وفق وكالة الأنباء السّورية – سانا، بتاريخ 31 كانون الثاني/يناير 2025
تونس
تَضَرَّرَ قطاع الفلاحة من الجفاف المُستمر لعدّة مواسم، وهو يُساهم بنسبة 10,2% من الناتج المحلي الإجمالي، و بنسبة 12% ة من الصادرات و يوفر 14% من "فُرَص العمل"، وفقا لتصريحات وزير الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري في الحكومة التونسية، وتعد تونس من أبرز منتجي ومصدري زيت الزيتون في العالم كما تعد ومُصَدِّرًا رئيسيًّا للتمور والقوارص وبعض منتجات الفواكه، وأدّى الجفاف إلى انحسار مخزونات المياه في السدود، وحَظَرَت الحكومة بعض الزراعات السقوية ، فيما يُعاني الفلاّحون من ارتفاع أسعار البُذُور وعلف الحيوانات وارتفاع أسعار الطّاقة، فضلا عن الوضع السّيّء للبُنية التّحتية وصعوبة الحصول على قروض مع ارتفاع نسبة الفائدة، وتتوقع وزارة الفلاحة انتعاش القطاع الزراعي خلال موسم 2024/2025 بفعل نزول الأمطار التي وضعت حدًّا لحالة الجفاف المُستمرة منذ سنة 2019، ورَفَعت من منسوب مياه السُّدُود وخفضت عجْز الإيرادات المائية...
من جهة أخرى، أعلنت وزيرة المالية خلال شهر تشرين الأول/اكتوبر 2024 إن الحكومة سددت قروضا مستحقة بقيمة 11,6 مليار دينار (3,7 مليارات دولار) من القروض الخارجية خلال النصف الأول من سنة 2024، ثم أعلنت خلال شهر كانون الأول/ديسمبر 2024 إن تونس بحاجة إلى سداد ديون بقيمة 9 مليارات دينار خلال الربع الأول من عام 2025، منها ديون خارجية بقيمة 5,1 مليارات دينار، وأظهرت بيانات المصرف المركزي، يوم الخميس 30 كانون الثاني/يناير 2025 أن احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي تراجعت إلى ما يغطي 104 أيام من الواردات – رغم تبجّح الإعلام الرّسْمِي بارتفاع إيرادات السياحة وصادرات الإنتاج الفلاحي - بعد أن سددت الحكومة 1,1 مليار دولار من الديون الخارجية، حيث انخفض حجم احتياطيات المصرف المركزي من النقد الأجنبي من 26,701 مليار دينار ( ما يغطي 119 يوم من الواردات يوم الإربعاء 29/01/2025) إلى 23,325 مليار دينار (7,3 مليارات دولار) يوم الخميس 30/01/2025 أو ما يغطي واردات 104 أيام.
تُلاقي الدّولة صعوبات كبيرة وأزمة اقتصادية حادّة منذ عدّة سنوات، ومن تداعيات جائحة كورونا، ومن ارتفاع كلفة استيراد الطاقة والمواد الأساسية، منذ شهر شباط/فبراير 2022، إثر اندلاع الحرب في أوكرانيا، وبالأخص بعدَ فشل المفاوضات مع صندوق النّقد الدّولي بشأن قَرض بقيمة 1,9 مليار دولار، واضطرت الحكومة إلى الإقتراض الدّاخلي من المصارف الخاصة التي ارتفعت أرباحها بفضل إقراض الدّولة، ومن المصرف المركزي، ووافق البرلمان التونسي خلال شهر كانون الأول/ديسمبر 2024 على قانون يسمح للمصرف المركزي بتوفير 2,2 مليار دولار لتمويل ميزانية 2025 ولسداد الديون العاجلة، وكانت وثيقة قانون موزانة الدّولة لسنة 2025 قد أشارت إلى ارتفاع حجم القروض الداخلية إلى الضِّعْف من 3,57 مليارات دولارا سنة 2024 إلى 7,08 مليارات دولار سنة 2025، وإلى تراجُعِ حجم القروض الخارجية من 5,32 مليارات دولارا سنة 2024 إلى 1,98 مليار دولار سنة 2025، لكن لجأت الحكومة إلى اقتراض مبالغ بالعملة الأجنبية من المصرف المركزي للمرة الثانية خلال أقل من عام واحد، مما قد يُساهم في تدهور قيمة العُمْلة المحلية (الدّينار التُّونسي) وارتفاع الأسعار ( خصوصًا أسعار السلع والخدمات المُسْتَوْرَدَة) وارتفاع نسبة التّضخّم التي قُدِّرَ متوسطها ب 6,2% بنهاية سنة 2024...
تعدّدت التّغْيِيرات الوِزارية التي لا تخضع سوى لتقْيِيمات الرئيس قَيْس سعَيِّد، وأقال وزيرة المالية سهام البوغديري التي بقيت في الوزارة منذ 2021، وعين القاضية مشكاة الخالدي خلفا لها، وكانت تَرْأَسُ لجنة الصلح الجزائي، التي أنشأها الرئيس بهدف التوصل إلى اتفاق مع رجال أعمال يواجهون اتهامات بالفساد، مقابل إعادة أموال للدولة، وحصل تغيير الوزيرة وسط أزمة مالية أدت إلى شُحّ المَعْرُوض من السّلع الأساسية كالسكر والأرز والقهوة وغاز الطهي، وحاولت الحكومة زيادة إيراداتها من خلال زيادة الضّرائب على دخل بعض فئات السّكّان، ومن بينهم أصحاب الدخل المُرتفع وحتى المتوسط، فضلا عن الإقتراض من المصرف المركزي لتسديد ديون عاجلة بقيمة 2,2 مليار دولار...
فنزويلا
كان “خوان بابلو بيريز ألفونسو” (1903 – 1979) وزيرا للنفط في فنزويلا، وهو صاحب فكرة إنشاء منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك) سنة 1961، للدفاع عن مصالح الدّول المنتجة والمُصدّرَة للمحروقات، وساهم في تأسيسها، ونُسِبَتْ له، خلال نفس السنة، مقولة وجّهَها لزملائه وزراء نفط الدّول المشاركة في تأسيس “أوبك”، ومفادها: “النفط هو براز الشيطان… سوف تَرَوْنَ بعد عشر سنوات أو عشرين سنة من الآن، أن النفط سيجلب لنا الخراب”، ولم يكن يدّعي النبوءة، ولكنه كان وطنيًّا، ودافع عن مصالح بلاده وشعبه، أثناء مُشاركته في أول حكومة ديمقراطية، سنتيْ 1947 و 1948، قبل أن يُطيح الجيش بتلك الحكومة، بدعم من الشركات النّفطية (وغير النّفطية) الأمريكية، وسُجِنَ الوزير، ثم نُفِيَ لفترة عشر سنوات، قبل عودة الديمقراطية، حيث أصبح “خوان بابلو بيريز ألفونسو” وزير للمعادن والمحروقات في عهد الحكومة الديمقراطية الثانية، من 1959 إلى 1964، وعمل على إنفاق إيرادات النفط في مشاريع تَنْمِيَة البلاد…
بعد قرابة ستة عُقُود من تاريخ هذا التصريح، أصبح النفط وبالاً على فنزويلا والبرازيل والعراق وليبيا وأنغولا ونيجيريا، وغيرها، وأصبح الخليج العربي قاعدة أمريكية ضخمة، ووَكْرًا لللإستخبارات الأمريكية والصّهيونية و"الغربية" عمومًا، وتجمُّعًا للبوارج الحربية ولحاملات الطائرات ومختلف أنواع أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها حلف شمال الأطلسي…
بقيت ميزانية الدّولة في فنزويلا تعتمد على ريع النّفط، وكُلّما انهارت الأسعار ( كل عشر سنوات تقريبًا) انهار اقتصاد البلاد وساءت حال المواطنين، رغم التغيير السياسي الذي حصل خلال انتخابات ديمقراطية، منذ نهاية القرن العشرين، وأدّى انهيار أسعار النفط سنة 2014، بالإضافة إلى الفساد والحصار الإقتصادي والسياسي الأميركي ليزداد الوضع تردِّيًا.
حصل هوغو تشافيز على أغلبية الأصوات وأصبح رئيسًا للبلاد، ونصيرًا للفقراء الذين استفادوا من ريع النفط وحصلوا على مساكن جديدة، واستفادوا من برنامج محو الأُمِّية والرّعاية الصحّية والتّعليم المجاني والعديد من الخَدمات، لكن لا يمكن تحقيق العدالة الإجتماعية دون تنويع الإقتصاد والإستثمار في قطاعات منتجة، ودون تأميم المؤسسات المالية والإعلام والتعليم، فقد بقيت الكنيسة والمؤسسات الخاصّة مُهيمنة على التعليم والإعلام وعلى العديد من القطاعات الإقتصادية، ويتمتع رأس المال الخاص بضمانات دستورية استغلتها الرأسمالية المحلية لعرقلة البرنامج التّقدُّمِي لاشتراكية القرن الواحد والعشرين، كما كان يُسميها هوغو تشافيز وخليفته نيكولاس مادورو، وللتّحالف مع الإمبريالية الأمريكية التي تجاوزت صناديق الاقتراع والاستفتاءات الشعبية التي أقرّت استقلالية قرار الدّولة الفنزويلية وشعبها، فحاصرت البلاد اقتصاديًّا وماليا وسياسيا، واختلقت حكومتَيْن موازيَتَيْن لم تنجحا في الحصول على التّأييد الشعبي، لكن الشعب يعيش في حالة فقر (رغم الإحتياطيات النفطية الهائلة) بفعل الخناق الاقتصادي والحرب المالية...
تأثير الإستعمار في تفاوت الثروة في العالم
نشرت منظمة أوكسفام تقريرا يوم العشرين من كانون الثاني/يناير 2025، بمناسبة المنتدى الإقتصادي العالمي الذي ينعقد سنويا في مُنْتَجَع دافوس بسويسرا، وتناول التقرير "الثروة غير المُستحقّة" الناتجة عن النّهب الإستعماري ودَرَسَ التقرير تأثير الاستعمار على التفاوتات داخل كل بلد وعلى المستوى الدّولي، وَوَرَدَ في مقدّمة التقرير: "بعد مرور نحو ستة عقود على نهاية الفترة الاستعمارية الرسمية، لا يزال هيكل الاقتصاد العالمي يعمل بشكل واضح على إدامة نقل الثروة من الجنوب إلى الشمال، وخاصة من الطبقات العاملة في بلدان الجنوب إلى أثْرى أثرياء العالم من بلدان الشمال"، وبَيَّن التقرير – من خلال البيانات - إن معظم الثروات المتراكمة في "الشمال" تم الحصول عليها على حساب شعوب "الجنوب"، وظلت في معظمها في أيدي عدد قليل من العائلات الكبرى، سواء في إنغلترا أو فرنسا أو الولايات المتحدة، ولم تنتقل هذه الثروات إلى الأجيال اللاحقة فحسب، بل استمرت في الازدهار، حتى بعد انتهاء الاستعمار المُباشر: "إن التركيز المذهل للثروة الذي نراه اليوم مرتبط بالمظالم التاريخية التي خلقتها الآليات الاستعمارية الحديثة القائمة على استغلال عمل وثروة المواطنين العاديين في بلدان الجنوب. »
بقِيَ الإرثُ الاستعماريُّ – والعنصرية والمَيْز - حاضِرًا في كل مكان، داخل المؤسسات الدّولية والإدارات الحكومية المَحلّيّة، وفي الميزانيات السنوية للدّول التي ترزح تحت عبْء الدّيُون الخارجية، ومن بينها دُيُون فرضها الإستعمار "للتعويض عن انتهاء العُبُودية" فقد بقيت "هايتي" تُسدّد الدّين الإستعماري المفروض لمدة 122 سنة، والذي بلغ نحو 21 مليار دولارا، بينما كانت البلاد في حالة استعمار مباشر، فرنسي ثم أمريكي، أو بذريعة تسديد ثمن الطرقات والموانئ التي بناها الإستعمار خِدْمَةً للشركات التي كانت ( ولا تزال ) تنهب الموارد وتنقلها عبر الطرقات والموانئ إلى دول "المركز" لمعالجتها وإضافة "قيمة زائدة" لها لتُصبح مواد مُصنّعة تُباع بعشرة أضعاف ثمنها كمادّة خام، وقدّرت أوكسفام: "في الفترة ما بين سَنَتَيْ 1970 و2023، اضطرت الحكومات في بلدان الجنوب إلى دفع 3300 مليار دولار أميركي كفوائد لدائنيها الغربيين »...
في المقابل تضاعفت ثروات المليارديرات سنة 2024 ثلاث مرات مقارنة بسنة 2023، بينما يُعاني الكادحون والفقراء من تراجع القيمة الحقيقية للدّخل التي جعلت عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر مُستقِرًّا تقريبًا منذ سنة 1990، ولم ترتفع ثروة الأثرياء بفضل الكدْح والعمل المُضْنِي بل بفضل انتقال هذه الثروات بالوراثة (الميراث ) والفساد والمحسوبية ومراكمة السلطة الإقتصادية والسياسية بين أيدي نفس الطبقة، مما يُلغِي العدالة وتوزيع الثروات، ومما زاد من انعدام المساواة كاستمرار لفترة العبودية والإستعمار المباشر ومجمل الحقبات التاريخية التي استفاد منها الأثرياء فيما استمر تَعرُّض الكادحين والفقراء لأشكال عديدة من الإستغلال المنهجي والإضطهاد، من قِبَل الحكومات المَحلِّية ومن قِبَل المؤسسات المالية الدّولية ( صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي ونادي باريس ومنظمة التجارة العالمية الخ) ومن قِبَل المصارف والشّركات العابرة للقارات التي تمكّن أصحابها بفعل استغلال ثروات "الجنوب" من زيادة ثروة الأثرياء الفاحشين الذين يشكلون 1% من سكان الشمال بمعدل ثلاثين مليون دولار أمريكي في الساعة.
من العسير أن نفهم طبيعة التفاوتات الحالية دون إدْراك ثِقَل الإرث الذي خلفه الاستعمار، في الماضي والحاضر حيث يعيش ما يقرب من 20% من سكان العالم في بلدان غنية، لكن هذه البلدان هي موطن لـ 68% من المليارديرات الذين يمتلكون 77% من إجمالي الثروة.
لقد ساهم الاستعمار، والأيديولوجيات التي بُني عليها، في ترسيخ استغلال الطبقة العاملة إلى أقصى حد، وقد أدت مستويات الوحشية والاستغلال إلى إبادة السكان، فقد نَفَّذَ المُستعمِرُون عمليات إبادة وقاموا بالقضاء على السكان الأصليين لنهب أراضيهم في أمريكا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا) ومعظم بلدان أمريكا الجنوبية وأستراليا وإيرلندا والجزائر وجنوب أفريقيا وكاليدونيا ونيوزيلندا وكينيا وفلسطين. لقد ارتكب المستوطنون أعمال إبادة مروعة، ولا تزال عواقب هذه الجرائم، التي تتسم بالعنف الرهيب، حاضرة في مجتمعاتنا حتى يومنا هذا.
يعتمد النظام الاستعماري على الاضطهاد والإبادة الجماعية واستغلال الشعوب على نطاق عالمي، فهو نظام يعمل على تعميق التفاوت لصالح أقلية متميزة في بلدان الجنوب، وعلى حساب الأغلبية، وتتكون الأقلية في أغلب الأحيان من أحفاد المستعمرين ومالكي العبيد، ليستمر الإرث الإستعماري التاريخي في تأبيد وتعميق الفجوة بين أغنى الناس وبقية المجتمع، سواء بين البلدان الغنية ودول الجنوب أو بين بلدان الجنوب أو داخل كل بلد، وتُعَدُّ هذه التّفاوتات العميقة إِرْثًا استعمارِيًّا تاريخيا جعل الفجوة تتسع بين الأقلية من الأغنياء والأغلبية، أي بقية العالم...
لما بدأ تجميع البيانات سنة 1820، كان دخل أغنى 10% من سكان العالم أعلى بـ 18 مرة من دخل أفقر 50% من سكان العالم؛ وتعمقت الفجوة سنة 2000 ليصبح دخل نفس النّسبة من الأغنياء أعلى بـ 38 مرة من دخل نصف سكان العالم وتنعكس هذه التفاوتات الاقتصادية في العديد من مقاييس التقدم والرفاهة الأخرى، ولها عواقب وخيمة للغاية على متوسط العمر المتوقع، حيث يظل متوسط العمر ( معدّل الأمل في الحياة، عند الولادة) أفريقيا أقل من متوسط العمر المتوقع في أوروبا بما يزيد على 15 عاماً، وعلى المستوى الوطني أيضاً، يتحمل الاستعمار مسؤولية المعدلات المذهلة من عدم المساواة في بلدان الجنوب، حيث تُشكل جميع البلدان التي يحددها البنك الدولي على أنها ذات مستويات عالية من عدم المساواة، باستثناء بلد واحد، هي بلدان تقع في الجنوب، ويستحوذ أغنى 1% من سكان أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط على نحو 20% من إجمالي الدخل في منطقتهم، وهي قيمة أعلى بنحو ضعفي قيمة أغنى 1% من سكان أوروبا في منطقتهم، وفي كثير من الحالات، لا يزال النظام التعليمي الحالي يحمل ندوب الفترة الاستعمارية، كما يتضح من هيمنة المعرفة واللغات الغربية والتفاوت العالمي في تمويل البحث والإبتكار والتّطوير، وكان لهيمنة عدد قليل من الجامعات في الشمال العالمي تأثير على عملية صنع السياسات في الجنوب العالمي، وأظهرت دراسة أجريت سنة 2017 أن 39% من رؤساء الدول في جميع أنحاء العالم تلقوا تعليمهم في جامعات بريطانية أو أمريكية أو فرنسية...
لا يعني الإستقلال تحقيق المُساواة والعدالة، ففي العديد من البلدان، نجحت النخب المحلية في خلافة السلطات الاستعمارية وحافظت على الأنظمة الاقتصادية والسياسية غير المتكافئة التي مكنتهم من تجميع الثروات غير المشروعة، وفي العديد من البلدان، أدى الإرث الاستعماري، الذي تجسد على وجه الخصوص في الدولة الطبَقِيّة التعسفية والهشة في نفس الوقت، إلى تأجيج الصراعات والحروب وإدامة عدم الاستقرار.
إذا لم يكن النضال ضد الإستعمار مُرتبطًا ب ( أو مُرافقا ل) النضال الإجتماعي من أجل المُساواة والعدالة فإن الإستعمار وما يُمثّله من استغلال واضطهاد وظُلم يبقى حاضِرًا وإن كان الحاكم من جلدة ولون ودين المحكومين المُستَغَلِّين والمُضْطَهَدِين...
الحرب التكنولوجية
أطْلقت الشركة الصينية "ديب سيك" مطلع الأسبوع الأخير من كانون الثاني/يناير 2025 نموذج لغة جديدا للذكاء الاصطناعي بإمكانيات تفوق النماذج التي تقدمها الشركات الأميركية الكبرى مثل " أُوبن إيه آي " وبتكلفة زهيدة للغاية، ويعتمد نموذج "ديب سيك" على 2000 رقاقة فقط بتكلفة بلغت 5,6 مليون دولار ليحقق نفس النتائج التي تحققها نماذج الشركات الأميركية التي تحتاج إلى 16 ألف رقاقة بتكلفة تتراوح بين 100 و200 مليون دولار، وتجري شركات أمريكية مثل "مايكروسوفت" وشركة "أوبن إيه آي" مالكة تطبيق "تشات جي بي تي" تحقيقًا لمعرفة ما إذا كانت مجموعة قرصنة مرتبطة بشركة "ديب سيك" قد حصلت على بيانات خاصة بتقنيات "أوبن إيه آي" بطرق غير قانونية، وفق وكالة بلومبرغ بتاريخ 31 كانون الثاني/يناير 2025
أدّى نجاح الشركة الصّينية "ديب سيك" في إطلاق مساعد الذكاء الاصطناعي الخاص بها إلى تأجيج نار الحرب التكنوجية التي أطْلَقَتْها الولايات المتحدة ضدّ الصين، وأثار هذا النّجاح قلقا في الولايات المتحدة، لأن الشركة الصّينية أَظْهَرت إن الحصار والحَظْر لم يتمكّنا من فلّ عزيمة الشركات الصّينية التي برْهَنَتْ على قُدْرَتها على الإبتكار والتّطوير ومُضاهاة قدرات شركة أوبن إيه.آي الأميركية للذكاء الاصطناعي، بِكفاءة عالية وبتكلفة أقل بكثير من نظيراتها الأمريكية – مثل إنفيذيا ومايكروسوفت - التي أصبحت مُضْطَرّة لتغيير استراتيجياتها وأساليب عملها ومُهدَّدَة بانخفاض هامش أَرْبَاحِهَا، لأن تطبيق "ديب سيك" تجاوز، منذ يوم الإثنين 27 كانون الثاني/يناير 2025، نظيره "تشات جي.بي.تي" التابع لشركة أوبن إيه.آي في عدد التنزيلات على متجر تطبيقات أبل، مما أدى إلى موجة بيع عالمية في أسهم التكنولوجيا وإلى انخفاض قيمة هذه الأسهم وبالتالي انخفاض قيمة الشركات التكنولوجية الأمريكية في الأسواق ( مثل أوبن إيه.آي وغوغل )، وأثار الطّرح المُفاجئ للتطبيق الصيني رُدُودَ فعل سياسية، وذكر موقع أكسيوس الإخباري، يوم الخميس 30 كانون الثاني/يناير 2025، أن إدارة الكونغرس أرسلت تحذيرات إلى جميع مكاتب المَجْلِسَيْن النِّيابِيّيْن ( مجلس النواب + مجلس الشيوخ = الكونغرس ) بعدم استخدام تطبيق الذكاء الاصطناعي الصيني "ديب سيك"، لأنه " غَيْرُ مُصَرَّح به للاستخدام الرسمي في مجلس النواب"، كما بدأت الدّول الأوروبية تمنع استخدام تطبيق "ديب سيك"، ومن بينها إيطاليا، بعد أن تم تحميل التطبيق من قِبَل ملايين الأشخاص حول العالم في غضون أيام قليلة فقط، وأعْلَنت هيئة حماية البيانات الإيطالية، يوم الخميس 30 كانون الثاني/يناير 2025، إنها حظرت نموذج الذكاء الاصطناعي الصيني "ديب سيك" بسبب نقص المعلومات حول البيانات الشخصية التي يجمعها، وإن قرار الحَظْر دخل حيز التنفيذ على الفور، بفعل "الغموض بشأن تجميع وتخزين البيانات الشخصية وطريقة إخْطَار المُسْتَخْدِمين" فيما أعلنت الشركة الصّينية إنها لا تعمل في إيطاليا ولا تنطبق عليها التّشريعات الأوروبية، كما ذكرت هيئة حماية البيانات الأيرلندية يوم الأربعاء 29 كانون الثاني/يناير 2025، أنها وجهت خطابا مكتوبا إلى "ديب سيك" تعبّر فيها عن مخاوفها من احتمال انتهاكها لقانون حماية الخصوصية في الإتحاد الأوروبي وطلبت الهيئة معلومات بشأن معالجة البيانات التي جمعتها من المُستخدمين في أيرلندا...
في تايوان – وهي أرض صينية انفصلت سنة 1949، عند انتصار الثورة في الصين - منعت الحكومةُ العاملين في القطاع العام وفي مرافق البنى التحتية الحيوية من استخدام تطبيق "ديب سيك"، لمجرد "إنه منتج صيني" وبذريعة إنه "يمكن أن يعرض الأمن القومي للخطر"، وفق بيان وزارة الشؤون الرقمية التايوانية، يوم الجمعة 31 كانون الثاني/يناير 2025، ولطالما اتهمت تايوان الصين باستخدام تكتيكات "المنطقة الرمادية"، بما فيها الهجمات الإلكترونية
أحدث إطلاق برنامج "آر 1" من "ديب سيك" خلال الأيام الأخيرة من شهر كانون الثاني/يناير 2025، ضجة في قطاع التكنولوجيا وفي الدّول الحليفة للولايات المتحدة، مثل تايوان وكوريا الجنوبية وإيرلندا وفرنسا وأستراليا وإيطاليا، كما احتدّت المنافسة بين شركات تقنيات الإتصالات، وأعلنت شركة علي بابا الصينية، يوم الأربعاء 29 كانون الثاني/يناير 2025، إطلاق إصدار جديد لنموذج للذكاء الاصطناعي الخاص بها ( Qwen 2.5-Max.) وهو يُضاهي أو يفوق برنامج "ديب سيك" وعلى ( GPT-4o ) ، وفق وكالة رويترز بتاريخ 31/01/2025
#الطاهر_المعز (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟