|
الحرب الوجودية اللبنانية ــ الاسرائيلية والـدروس التـاريخية لمعركتيْ زاما وبورودينوّْ
جورج حداد
الحوار المتمدن-العدد: 8253 - 2025 / 2 / 14 - 16:51
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
إعداد: جورج حداد*
يجمع الكثير من المراقبين والمحللين الجيو ــ ستراتيجيين على ان الحرب الدائرة بين المقاومة الوطنية اللبنانية (وعلى رأسها "المقاومة الاسلامية" بقيادة "حزب الله")، وبين "اسرائيل"، التي بدأت في 8 تشرين الثاني 2023، بوصفها "حرب إسناد" لغزة ضد العدوان الاسرائيلي الوحشي، سرعان ما تحولت الى حرب وطنية لبنانية، كجزء اساسي ورئيسي من حرب التحرير التي يخوضها محور المقاومة بقيادة النظام الاسلامي الثوري الايراني، ضد الدولة الاسرائيلية، المحتلة والمغتصبة للاراضي الفلسطينية والسورية والعربية الاخرى، والتي ــ مدعومة من الامبريالية الاميركية والغربية ــ تهدد، من على منبر الامم المتحدة ذاتها، ناهيك عن الكونغرس الاميركي، بتغيير "خريطة الشرق الاوسط الكبير"، وتفكيك جميع الدول العربية، وانشاء "اسرائيل الكبرى" من الفرات الى النيل، وامتلاك الاسلحة النووية، وضرب وتحطيم ايران، وتحدي ومواجهة الصين الشعبية والفيديرالية الروسية بالذات. ويجمع المراقبون والمحللون على ان الحرب الوطنية اللبنانية ــ الاسرائيلية، بكل تعقيداتها، تتخذ طابعا مصيريا و"وجوديا"، من الجانبين اللبناني و"الاسرائيلي" على السواء. فلم يعد بالامكان ان يوجد لبنان بوجود "اسرائيل"، ولا ان توجد "اسرائيل" بوجود لبنان. وما اتفاقية وقف اطلاق النار الاخيرة بين لبنان و"اسرائيل"، كما جميع اتفاقيات الهدنة السابقة بين اسرائيل واي دولة عربية، سوى هدنة مؤقتة لمراجعة الحسابات والتحضير للمعركة القادمة في سياق هذه الحرب الوجودية طويلة الامد بين الامة العربية وبين الكيان الاسرائيلي والامبريالية الغربية والاميركية ــ اليهودية. تقول حكمة قديمة: "لا جديد تحت الشمس". وأخذا بالاعتبار هذه الحكمة نجد ان الحرب الوجودية الوطنية اللبنانية ــ الاسرائيلية الحالية تشبه الى حد كبير المعركتين "الوجوديتين" التاريخيتين: معركة زاما بين الجيش الروماني الغازي والجيش القرطاجي بقيادة البطل الكنعاني الاسطوري "هنيبعل برقة"، في 202 ق.م؛ و"معركة بورودينوّْ" (بالتسمية الروسية = "معركة موسكو" بالتسمية الفرنسية)، بين الجيش الفرنسي الغازي بقيادة نابوليون والجيش الروسي بقيادة الجنرال كوتوزوف في 1812م. ونرى من الضروري ان نلقي نظرة مكثفة على هاتين المعركتين، لأخذ العبر منهما. 000
هزيمة زاما وتدمير قرطاجة وصلب السيد المسيح ان كتب التاريخ الرسمية والمدرسية عندنا لا تأتي على ذكر معركة زاما الا من زاوية جوانبها القتالية ذات الاهمية التقنبة الهامشية، دون البحث في الاسباب العميقة، الاجتماعية ــ السياسية، لهزيمة الجيش القرطاجي بقيادة هنيبعل العظيم، والنتائج التاريخية الكارثية، للانتصار المشؤوم لروما في تلك المعركة، التي ترتبت على الشعوب القديمة التي تكونت منها الامة العربية وعلى البشرية جمعاء، ولا تزال ترخي بظلالها السود على العالم الى ايامنا الراهنة. وفي كلمات معدودات نقول: ان انتصار الجيش الروماني الغازي في معركة زاما مثّل نقطة تحول تاريخية تمكن المستعمرون الرومان المتوحشون بنتيجتها من التدمير الكامل لقرطاجة في 146 ق.م، ثم اكتساح مصر القبطية ــ الهيلينيستية، واثيوبيا، واليمن، وسوريا الطبيعية (ومنها فلسطين، التي تم فيها صلب السيد المسيح، حسب الرواية المسيحية)، ثم اجتياح اسيا الصغرى (Asia Minor التي هي في الاصل اراض: يونانية ــ ارمنية ــ أشورية، اغتصبها الاتراك والاكراد لاحقا، بعد الرومان، فترّكوها وكرّدوها)، واجتياح القوقاز وشبه جزيرة البلقان (بلاد الاغريق، والسلافيين: الصرب، البلغار، الكروات والمقدونيين)، واخيرا اجتياح سواحل البحر الاسود من البوسفور الى ما يسمى اليوم اوكرانيا ورومانيا. ولم تتوقف موجة الاجتياح والتوسع الروماني، وتنكسر، الا على الجدار الجلمودي للمقاومة "الروسية" التي تشكلت من "وحدة" الارض الصقيعية الشاسعة وجماعات "المشاعية او الشيوعية البدائية"، الذين سموا فيما بعد "الروس العظام" (Veliko-Russ)، ووصفهم نابوليون "بأنهم لا يقهرون"، بعد "معركته الروسية" الخاسرة في بورودينوّْ في 1812. وقعت معركة زاما (على الحدود التونسية ــ الجزائرية الحالية) في تشرين الثاني 202 ق.م، وهزم فيها الجيش القرطاجي بقيادة هنيبعل شر هزيمة. والسؤال التاريخي هو: لماذا هُزم الجيش القرطاجي "على ارضه" في زاما، بعد ان كان ذلك الجيش متفوقا على الجيش الروماني "على ارضه" في ايطاليا؟ للجواب نورد المعطيات التالية: ــ1ــ ان الجيش الروماني كان جيش دولة استعمارية ــ استعبادية، وكان يتزود ويعوض خسائره ــ بصورة رئيسية ــ من سكان المناطق التي يحتلها، وينهب ويسلب ثرواتهم ومدخراتهم، ويستعبد رجالهم ونساءهم كقوة عاملة مسخّرة وكمقاتلين ــ عبيد لا اجور لهم. ــ2ــ اما الجيش القرطاجي فكان يتألف من المتطوعة القرطاجيين، ومن المرتزقة الاحرار من مختلف الاتنيات الاخرى وخصوصا من البربر (الامازيغ)، وكلا الفئتين كانتا تتقاضيان الاجور المتفق عليها. اي ان المقاتل القرطاجي كان له ثمن، بينما المقاتل الروماني كان بدون ثمن. وبعد ان اجتاز جيش هنيبعل جبال الالب ودخل الاراضي الايطالية "من الخلف"، ودب الذعر في صفوف الاقوام في تلك المناطق، كان هنيبعل يقول لهم: ما جئت لاستعبدكم، بل لاحرركم من العبودية الرومانية. وخلال وجود الجيش القرطاجي على الارض الايطالية، وخوضه المعارك المظفرة فيها، كان يعتمد على المساندة والمساعدات البشرية واللوجستية والمالية من المستوطنات القرطاجية في اسبانيا وصقلية وغيرها في اوروبا، وبالاخص من "الحزب الشعبي" بقيادة عائلة برقة في قرطاجة ذاتها. ــ3ــ وفي تلك الظروف القاسية والمصيرية كان يوجد في قرطاجة "حزبان"، ولم يكن يوجد "توافق وطني" و"إجماع ميثاقي" قرطاجي على الحرب ضد روما. وهذان الحزبان هما: ــ آ ــ "الحزب السلطوي ــ السيادي" بقيادة عائلة حنون الذي كانت تدعمه الطبقة الارستقراطية واكثرية الفئات الغنية، وهو الذي كان يمتلك الاغلبية في "مجلس الشيوخ" ويهيمن على السلطة ومقدرات الدولة. وهذا الحزب كان يعارض الحرب ضد روما، ويتوهم ان روما يمكن ان تعامل قرطاجة كـ"حليف ندي" او "تابع محترم" ذي سيادة، كما كانت تتعامل ــ اي روما ــ مع حليفتها التاريخية الاساسية: الطغمة المالية والدينية العليا اليهودية. ــ ب ــ "حزب المقاومة الشعبي"، بقيادة عائلة برقة (هملقار وابنه هنيبعل، الخ)، وكانت تدعمه فئات "المنتجين الاحرار" و"التجار الليبيراليين" والانتليجينتسيا ذات التوجهات والمفاهيم المشرقية ــ الهيلينيستية ــ الفلسفية ــ الاخلاقية ــ السياسية ــ الاجتماعية، المناقضة للمنظومة الاخلاقية والسياسية والاجتماعية للنظام العبودي العنصري المطلق الروماني. وهي التوجهات التي تأسست على الفكر الفلسفي الانساني لارسطو والفلسفة الرواقية لزينون الفينيقي (334ق.م ــ 263ق.م)، وهي الفلسفة التي اسست فكريا واخلاقيا لظهور المسيحية دينيا فيما بعد. وكان هذا الحزب يرى ان روما لا تتحمل وجود اي "شريك!" او منافس لها، على اي مستوى كان، وفي اي حقل كان، وانها ــ اي روما ــ تشكل تهديدا وجوديا ليس للثروات الوطنية وللنشاط التجاري والمالي والاقتصادي لقرطاجة وحسب، بل تهديدا وجوديا للشعب القرطاجي بحد ذاته (احد ارقى الشعوب المتحضرة في زمانه) الذي لم تكن روما ترى في ابنائه وبناته الا جزءا من "المخلوقات الاخرى"، اي "قطعان دواجن بشرية" بدون اي قيم انسانية ومثل عليا، اي مجرد خامات عبيد وارقاء وخصيان وغلمان ومقاتلين مسخّرين، وسبابا وجوارٍ وبغايا وادوات متع جنسية وخادمات تافهات، بلا اي كرامة انسانية، حتى لو كان بعضهم من كبار المفكرين والعلماء والاطباء والبنائين والادباء والمبدعين والفنانين. وهذه هي "خلاصة الحضارة الرومانية القديمة"، التي يتشدق بها اليوم انصار "الحضارة الغربية". وقد تتوّجت تلك الحضارة بتدمير قرطاجة، وصلب السيد المسيح بالاشتراك مع الطغمة اليهودية العليا، وقتل جميع تلامذته وحوارييه، وابادة ملايين المسيحيين الشرقيين الاوائل، واخيرا لا آخرا اغتصاب المسيحية، وانتحالها كذبا ورياءً باسم: الكاثوليكية؛ التي تمخضت عن البروتستانتية، اللتين انبثقت منهما اليوم المنظومة المفاهيمية التوراتية المسماة: المسيحية الصهيوينة او اليهودية الجديدة التي تحكم اليوم "الولايات المتحدة الاميركية"، الوريث التاريخي الاهم والاكبر والاخطر الذي يحمل كل جينات النظام العبودي العنصري المطلق لروما القديمة. وتأسيسا على هذه الرؤية الفلسفية-الاخلافية، الوطنية-الانسانية، الوجودية، التاريخية، طرح "الحزب الشعبي" القرطاجي ومارس وقاد نهج المقاومة الشعبية العامة المسلحة ضد روما. اندلعت الحرب بين روما وقرطاجة بدءا في 264 ق.م. وكانت اعباء الحرب من الجانب القرطاجي تقع على كاهل "حزب المقاومة الشعبي" وامكانياته المحدودة. وكان "الحزب السلطوي ــ السيادي" الارستقراطي يمنع تقديم اي مساعدة او مساندة من قبل "الدولة القرطاجية" للجيش الوطني القرطاجي المقاتل ضد روما. ــ4ــ وبعد الاجتياز الصعب لجبال الالب، في 218 ق.م، ومفاجأة الجيش الروماني على الارض الايطالية ذاتها، خاض الجيش القرطاجي عدة معارك منتصرة، ولا سيما معركة كاناي الكبرى عام 216 ق.م، التي كان تعداد الجيش الروماني فيها 100 الف جندي وضابط، سقط منهم حوالى 70 الف قتيل وجريح و20 الف اسير في يوم واحد. والاقلية استطاعت النجاة والفرار الى روما والإخبار بما حدث. فشاعت يومها عبارة "هنيبعل على الابواب" (Hannibal ad portas est)، التي صارت الامهات في روما يخوّفن بها اطفالهن المشاغبين. وفي نهاية يوم معركة كاناي المظفرة، والتي لا تزال الى اليوم تدرّس في شتى الاكاديميات العسكرية في العالم، تقدم قائد الفرسان الامازيغ المقاتلين وقال لهنيبعل: ان روما خسرت جيشها الرئيسي، وحامية المدينة هي صغيرة جدا وضعيفة وترتجف رعبا، فمُر الجيش بمتابعة الهجوم على روما واقتحامها واستباحتها، و"حل المسألة الرومانية" مرة والى الابد. الا ان هنيبعل، الذي كان يؤمن بالفكر الفلسفي الانساني ــ الاخلاقي لارسطو وزينون الفينيقي، تعفف عن استباحة المدنيين الرومان، واجاب قائد الفرسان الامازيغ: "هذا شأن آخر، ويحتاج الى تفكير آخر!". وأمر بفك استنفار الجيش، وتقديم الطعام والشراب للجنود! ولكن بنتيجة كل هذه المعارك، خسر هنيبعل القسم الاكبر من جيشه، واصبح بحاجة الى المساندة والدعم المالي واللوجستي لتجديد قوام الجيش وأعداده ولحيازة ادوات ووسائل الحصار، لمحاصرة روما ودفعها الى الاستسلام. ولهذه الغاية ارسل اخاه صدربعل الى قرطاجة لطلب المساعدة من "مجلس الشيوخ". ولكن "الحزب السلطوي ــ السيادي" الارستقراطي المسيطر على "مجلس الشيوخ" رفض تقديم اي مساعدة لجيش هنيبعل، معتبرا ان هنيبعل هو الذي "استفز!" روما، وان هذه هي حربه وليست "حرب قرطاجة"، بل سخروا منه قائلين: "اذا كان جيش هنيبعل ينتصر فهو لا يحتاج للمساعدة، واذا كان لا ينتصر فهو لا يستحق المساعدة". وعاد صدربعل خالي الوفاض. فأخذ هنيبعل يطوف بجيشه حول روما حوالى 14 سنة مضيّقا عليها الخناق، بانتظار تدعيم وتضخيم وتقوية الجيش من ضمن الامكانيات المحدودة لـ"الحزب الشعبي" والتعاون مع الجماعات الايطالية المعادية للعبودية الرومانية. ــ5ــ وللتخلص من الطوق الدائم لجيش هنيبعل، الذي كان "يخنق" روما، عمدت القيادة الرومانية لتجميع افضل ما لديها من قوات عسكرية في ايطاليا واسبانيا وصقلية وسردينيا وغيرها، وتشكيل جيش ضخم من اشد المقاتلين والفرسان ومجهز افضل تجهيز، وتوجيهه الى الارض الافريقية لمهاجمة قرطاجة ذاتها، الامر الذي سيجبر هنيبعل على الانسحاب والتوجه الى افريقيا للدفاع عن مدينته. ــ6ــ وكان من الافضل لهنيبعل ان يتابع خطة تشديد الخناق على روما، ولكنه غلّب عاطفته الوطنية على عقله الستراتيجي، وعاد الى افريقيا عام 202ق.م مع جيش مؤلف من 12 الف جندي مخضرم فقط، وهو اقل بعدة اضعاف من الجيش الروماني. ومن ضمن امكانياته المحدودة قام بتجنيد حوالى 30 الف جندي جديد غير مدربين بشكل كاف. وبهذه القوة الضعيفة طارد هنيبعل الجيش الروماني القوي والذي يفوقه عددا وعُدة واستعدادا. والتقى الجيشان في منطقة زاما التونسية. ودارت المعركة بينهما في 19 تشرين الثاني 202ق.م. ونظرا للعلاقات القديمة بين قرطاجة وجيشها وبين الامازيغ (البربر)، كان هنيبعل متأكدا ان مملكة نوميديا الامازيغية ستنجده بالفرسان، على ان يدفع لهم "اجورهم" بعد نهاية المعركة. ولكن الرومان كانوا قد تواصلوا مع ملك الامازيغ ماسينيسا، ووعدوه بأن تصبح مملكته هي المملكة الرئيسية في افريقيا بعد القضاء على قرطاجة. وكان هنيبعل قد رسم خطته اخذا بالاعتبار مشاركة الفرسان الامازيغ في القتال الى جانب جيشه. فزج بكل جيشه بمواجهة الجيش الروماني الاقوى منه، بانتظار تدخل الفرسان الامازيغ. ولكن ما حدث كان خارج اي حسابات لهنيبعل، إذ ان الفرسان الامازيغ جاؤوا للمشاركة في المعركة ليس دعما للجيش القرطاجي، بل لطعنه في ظهره، فوقع جيش هنيبعل القرطاجي في كماشة مميتة بين الجيش الروماني القوي من امامه، والفرسان الامازيغ من خلفه، وسقط في ذلك اليوم الاسود 20 الف قتيل و20 الف جريح واسير من الجيش القرطاجي المغدور. ــ7ــ وقد مثلت تلك المعركة انتصارا مزدوجا: اولا، لروما التي ازيحت من طريقها العقبة القرطاجية التي كانت تقف بوجه توسعها الاستعماري في الشرق؛ وثانيا، لـ"الحزب السلطوي ــ السيادي" الارستقراطي القرطاجي، الذي "نأى بنفسه" و"بدولته" عن مقاومة "الحزب الشعبي" القرطاجي بقيادة هنيبعل للاستعمار الروماني. وتذكر المرويات التاريخية ان "مجلس الشيوخ" الارستقراطي القرطاجي سارع في اعقاب معركة زاما لتوقيع معاهدة الاستسلام مع روما والتعهد بدفع "تعويضات حرب" باهظة لروما، يصعب ايفائها لمدة 50 سنة. ــ8ــ وكانت روما تأمل ان تعجز قرطاجة عن الايفاء بالتعويضات في اوقاتها، مما يعني خرق "اتفاقية السلام!" والسماح لروما باحتلال قرطاجة بدون معارضة وقتال. ولكن قرطاجة تطورت اقتصاديا بسرعة، في الزراعة والصناعات الحرفية والملاحة والتجارة، وتمكنت من دفع جميع التعويضات في اوقاتها خلال طوال الـ50 سنة. وكان الحزب الارستقراطي "السلطوي ــ السيادي"، الذي سيطر تماما على "مجلس الشيوخ" والحياة السياسية في قرطاجة، بعد انهيار "الحزب الشعبي" بقيادة هنيبعل نتيجة "هزيمة زاما"، ــ كان يعتقد ان التطور "السلمي" السريع لقرطاجة، وتقديم جميع التعويضات المجحفة التي فرضت عليها، قبل اوانها، ، سيسهمان في تشجيع روما على التعامل بندية مع قرطاجة الارستقراطية "المسالمة" والتعاون معها على كل الاصعدة. ولكن روما، التي نشأت كقوة استعمارية، كانت تنظر نظرة "اخرى" الى قرطاجة، واي دولة مستقلة اخرى. وانطلاقا من نظرتها الاستعمارية ــ الاستعبادية المؤصلة، رأت روما ان تطور قرطاجة يشكل خطرا مستقبليا عليها. وردا على كل "بشائر السلام" القرطاجية، رفع "مجلس الشيوخ" (السيناتورات) الروماني الشعار المشهور: "قرطاجة يجب ان تدمر!" (Carthago Delenda Est)!. وفي 149ــ146ق.م فرض الجيش الروماني حصارا شديدا على قرطاجة حوالى 4 سنوات، ثم اقتحمها وقام بقتل نصف سكانها ذبحا وحرقا، وتم أسر واستعباد النصف الاخر بالمشاركة مع النخاسين (تجار العبيد) اليهود. وبالطبع ان الرومان واليهود لم يستثنوا عائلات الارستقراطيين القرطاجيين من هذا المصير الاليم. ومحيت قرطاجة القديمة عن الخريطة. ثم استدار الرومان نحو المملكة النوميدية (الامازيغية البربرية) وسحقوها ايضا، "مكافأة" لها على المشاركة في القتال ضد جيش هنيبعل في معركة زاما في 202 ق.م. وليس بدون عبرة ان كلمة "بربري" في قواميس جميع اللغات الغربية صارت تعني: جاهل، غير متمدن، متوحش، همجي. ولم يكن الرومان يمكنهم ان يطلقوا هذه الصفات على اعدائهمم الالداء: القرطاجيين، لانهم كانوا يدركون تماما ان القرطاجيين ــ الكنعانيين ــ الاراميين ـــ الفينيقييين، كانوا ارقى واكثر تقدما بأشواط من الرومان، بجميع المعايير المعرفية، الاخلاقية والانسانية للحضارة. وهذا ما يتناساه اليوم جميع اللائذين بـ"الحضارة الغربية" و"البابوية الرومانية" و"المثلية الجنسية" ونتنياهو والون ماسك ودونالد ترامب. 000 إحراق موسكو بوجه نابوليون وهزيمته
بعد انتصار الثورة الفرنسية الكبرى في 1789، بدأ الصراع بين فرنسا وبريطانيا للهيمنة على القارة الاوروبية، التي تحولت الى "مصنع العالم" و"قاعدة الارتكاز" التي تدور حولها الحياة الاقتصادية والسياسية و"الثقافية" للعالم. وكانت بريطانيا قد انشأت سنة 1600 "شركة الهند الشرقية" التي تحولت الى دولة قائمة بذاتها واليد الطولى لبريطانيا. وفي 1839 احتلت قوات "شركة الهند الشرقية" التابعة لبريطانيا مستعمرة عدن. ومنذ ذلك التاريخ سيطرت بريطانيا كلية على الخطوط البحرية والتجارية من الهند الشرقية الى اوروبا. وفي عام 1798 كان نابوليون قد قام بحملته "الشرقية"، لقطع الخطوط البحرية والتجارية العالمية لبريطانيا. ونزلت القوات الفرنسية اولا في مصر، وزحفت باتجاه الساحل "الفلسطيني"، وحاصرت عكا، التي كان يحكمها الوالي التركي احمد باشا الجزار (المسيحي البوشناقي الاصل). ولكن الحصار فشل بفعل المقاومة العكاوية والدعم العسكري واللوجستي الذي تلقاه العثمانيون من الاسطول البريطاني، والدعم المالي والقتالي الذي تلقاه احمد باشا الجزار من اليهود، الذين كان احدهم (حاييم فارحي وهو متمول يهودي شامي) على رأس مقاومة الحصار الفرنسي. وبعد مقتل الجنرال الفرنسي كليبر، في مصر، والفشل التام لـ"الحملة الشرقية"، بدأ نابوليون يعد العدة للحملة الفرنسية الكبرى ضد روسيا. وكانت خطته تقوم على فكرة اساسية وهي: ان الاستحواز على روسيا، ذات الاراضي الشاسعة والثروات اللامتناهية، وتطويع شعبها وإخضاعه لفرنسا، سيمكّن الدولة الفرنسية من التغلب بسهولة على بريطانيا، وفرض الهيمنة الفرنسية على اوروبا والعالم لعشرات ومئات السنين. وفي حين ان الجيش الفرنسي بقيادة نابوليون الذي قام بالحملة الشرقية ضد السلطنة العثمانية، بلغ تعداده 30.000 جندي، فإن الجيش الذي حضّره نابوليون لغزو روسيا بلغ تعداده 680.000 جندي وضابط (300.000 منهم من الفرنسيين والبقية من جميع البلدان الاوروبية التي كانت تسيطر عليها او "تحالفت" معها فرنسا، اي باستثناء بريطانيا). وبهذا الجيش الاضخم في التاريخ حتى ذلك الوقت، والذي كان يفوق اضعافا تعداد الجيش الروسي، والاكثر حداثة والافضل تسليحا بكثير من الجيش الروسي، كان نابوليون يعتقد ان حملته الروسية ستكون اشبه شيء بنزهة. وفي 24 حزيران 1812 اجتاز نابوليون وجيشه نهر نيمان من بولونيا نحو الاراضي الروسية، وكان الجيش بالالبسة الصيفية لان نابوليون كان متأكدا ان الحملة ستنتهي بالنصر الحاسم قبل حلول الشتاء الروسي القادم. وكان يقود الجيش الروسي المارشال ميخائيل اندرياس باركلي دي تولي (ربما يكون اصله غير روسي). وقد ارتأى هذا القائد ان جيشه لن يستطيع ان يواجه في معركة حاسمة مكشوفة الجيش الفرنسي الاكبر عددا والاحدث والافضل تسليحا. فطبق خطة الدفاع الستراتيجي التراجعي، لجر الجيش الفرنسي الى الانتشار على ارض متزايدة الاتساع، والابتعاد اكثر فأكثر عن قواعد تموينه اللوجستية في المؤخرة، ومن ثم شن هجمات تكتيكية صغيرة على طريقة "اضرب واهرب" في حرب انهاك واستنزاف متواصلة ضد القوات الفرنسية. وطبعا ان هذه الخطة كانت تعني خسارة المزيد من الاراضي الروسية، مما اثار غضب النبلاء الروس "المرتاحين في قصورهم"، فاخذوا يحرضون الضباط والجنود ضد قائد الجيش متهمينه بالجبن والتخاذل، وضغطوا على القيصر اسكندر الاول لاجل اقالته. وقام القيصر فعلا بعد ثلاثة شهور بعزل المارشال باركلي دي تولي، وعين مكانه العسكري المخضرم العجوز الجنرال الشهير ميخائيل كوتوزوف، الذي ينسب اليه الانتصار على نابوليون وافشال "حملته الروسية". وبعد ان درس الجنرال كوتوزوف الوضع، وجد ان خطة الماريشال باركلي دي تولي كانت هي الصحيحة، وهي التي انقذت روسيا من الهزيمة. ولكن لاستيعاب تحامل النبلاء الروس وتأثيرهم على القيصر، ولرفع معنويات الجيش، قرر كوتوزوف خوض معركة مدروسة ضد جيش نابوليون. فاختار سهلا قرب قرية بورودينوّْ، وتبعد عن موسكو حوالى 120 كلم، ليكون هو ميدان المعركة، حيث ان السهل لم يكن يتسع لكل الجيش الفرنسي بل لنصفه او اقل. وتحصن الروس في ذلك السهل، واشتبكوا مع الفرنسيين في 7 ايلول 1812. ووقع في هذه المعركة اكثر من 70 الف جندي وضابط من الطرفين بين قتيل وجريح (44.000 روسي و35.000 فرنسي). وبالرغم من التفوق النسبي لجيش نابوليون، الا انه لم يستطع تحقيق النصر الحاسم الذي يريده. وفيما بعد، وفي منفاه في جزيرة سانت هيلانة، يكتب نابوليون في مذكراته "ان "معركة موسكو" (كما يسمي الفرنسيون "معركة بورودينوّْ") كانت اسوأ معركة اخوضها في حياتي. وفي هذه المعركة أثبت الفرنسيون انهم جديرون بالنصر. ولكن الروس اثبتوا انهم لا يُقهرون!". وفي المساء كان الجيش الروسي يلملم جراحه ويستعد للمعركة في اليوم التالي. ولكن الجنرال كوتوزوف المحنك فكر انه من المشكوك فيه ان يستطيع جيشه الصمود في اليوم التالي كما صمد في اليوم الاول، وانه اذا خسر المعركة امام جيش نابوليون فإن كل روسيا ستكون في خطر مصيري. وجمع كوتوزوف كبار قادة الجيش وأمر بإيقاف الاستعدادات للمعركة في اليوم التالي، وبالاستعداد للانسحاب الفوري تحت جنح الظلام باتجاه موسكو. فاعترض بعض الجنرالات قائلين ان الانسحاب يعني سقوط موسكو. فقال كوتوزوف جملته التاريخية الشهيرة: اذا سقطت موسكو وبقي الجيش... تبقى روسيا! اما اذا سقط الجيش، فتسقط موسكو، وتسقط روسيا! وفي طريق الانسحاب، طُلب من جميع السكان حمل ما يمكنهم حمله من الالبسة والمؤن، ومغادرة قراهم وبلداتهم الى الغابات والاراضي المحيطة، وطُلب من الفرسان القوزاق احراق جميع القرى والبلدات المهجورة، حتى لا يبقى فيها اي شيء من اغذية وألبسة وغيرها يمكن ان يستفيد منها الفرنسيون. ووصل الجيش الروسي الى موسكو التي أشعل فيها حريق موسكو الكبير في 14 ايلول، وهو التاريخ الذي وصل فيه جيش نابوليون ايضا الى المدينة العظيمة. واستمر الحريق حتى 18 ايلول، فاحترق ثلثا المدينة بما في ذلك الوف المساكن والمحلات التجارية ومئات الكنائس. ووجد جيش نابوليون الضخم نفسه بدون طعام وبدون البسة شتوية وبدون علف للجياد وبدون اماكن صالحة للمأوى. واخذ الارهاق والمرض والجوع تفتك بالجنود. ومكث نابوليون في موسكو المحروقة مدة 35 يوما ينتظار ان يأتيه القيصر الكسندر الاول من العاصمة (حينذاك) سانت بيتربورغ، ليوقع معه "اتفاقية الصلح" (اي الاستسلام)، وهو ما لم يحصل. وخلال هذه المدة كان جنود نابوليون التعساء الجائعين والبردانين ينتظرون الليل كي يخرجوا في زمر صغيرة متفرقة ويذهبوا في كل الاتجاهات الممكنة بحثا عن الطعام والالبسة. فكانوا يقعون بسهولة ضحية سهلة في قبضة الفلاحين والفرسان القوزاق والجنود النظاميين الروس المنتشرين في كل مكان. واخيرا اضطر نابوليون للانسحاب من موسكو قبل حلول الشتاء الروسي القاسي. وتقول المرويات التاريخية انه لدى انسحاب نابوليون من موسكو كان قد تبقى معه 100.000 جندي وضابط. وفي الفترة 26-29 تشرين الثاني وقعت معركة نهر بيريزينا (في روسيا البيضاء) بين جيش نابوليون وجيش كوتوزوف، واضطر نابوليون للانسحاب عبر النهر، ومعه ما بين 10.000 و27.000 جندي وضابط ( حسب مختلف التقديرات)، هم الذين غادر معهم الاراضي الروسية نهائيا في 14 كانون الاول 1812. وهذا يعني، بعملية حسابية بسيطة، ان اكثر من 650.000 جندي وضابط، زهرة شباب فرنسا واوروبا، زرعت عظامهم في الارض الروسية التي اراد نابوليون غزوها واستعمارها. وتقول المرويات التاريخية ان نابوليون بونابرت لم يكن مؤمنا كاثوليكيا وصليبيا، بل كان عنصريا واستعماريا فرنسيا "علمانيا". ومع ذلك فإن الله بابا روما كان قد بارك "الحملة النابوليونية" ضد روسيا "الاورثوذوكسية المارقة"، ودخولها الاراضي الروسية "الملعونة"؛ ولكنه ــ اي ذلك "الله!" البابوي ــ نسي ان يبارك الخروج من روسيا بسلام. والفشل الذريع لتلك "الحملة" أكد المقولة التاريخية: "ان اوروبا، مع روسيا، هي كل شيء! ولكن اوروبا، بدون روسيا، هي لا شيء!". وهذا الدرس بدأ الان جميع القادة الاوروبيين الجدد يتعلمونه، بعد ان وقعوا ــ بدفع اميركي ــ في "الفخ الروسي"، اي "فخ" تحويل الحرب الاقليمية في اوكرانيا من "حرب روسية ــ اوكرانية" الى "حرب استنزاف طويلة الامد قارية" اي "حرب روسية ــ اوروبية"، تهدف بشكل رئيسي الى إضعاف اوروبا اقتصاديا حتى النهاية، وتقويض اوضاعها الاجتماعية والسياسية والعسكرية، وهو ما تتقاطع عنده الخطوط العريضة للمصالح الجيوبوليتيكية العليا لروسيا "البوتينية" والصين "الشيوعية" وايران "الاسلامية" واميركا "الماسكو ــ ترامباوية". ومن الان فصاعدا، ولحقبة تاريخية غير قصيرة، فإن جميع سيناريوهات الصراع في الشرق الاوسط الكبير، او اي صراعات اقليمية اخرى، ستدخل حتما تحت سقف تقاطع المصالح الجيوبوليتيكية العليا للدول الاربع الكبرى المذكورة آنفا. 000
الحرب الوجودية بين المقاومة و"اسرائيل"
بعد تهافت الناصرية، وتحولها الى "الساداتية" وتوقيع اتفافية "كامب دايفد" الخيانية... وبعد انحراف قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وسيرها في "خط اوسلو" التصفوي... وبعد الافلاس المبدئي والسياسي والسقوط التاريخي لتجربة النظام البعثي التسلطي الفردي في كل من سوريا والعراق، والانهيار المخزي السريع للنظام الدكتاتوري الوحشي المغامر لصدام حسين في العراق امام العدوان الاميركي الغاشم سنة 2003... والانفضاح التام لعجز النظام الاسدي في سوريا عن رفع اصبع بوجه اسرائيل التي سبق له ان سلم لها الجولان بدون قتال، في حرب حزيران 1967، مقابل احتفاظه بالسلطة، والتستير على خياناته وارتكاباته الوحشية بقيامه بالدعم الجزئي والهامشي للمقاومة في لبنان، بالتوازي مع التجسس عليها وطعنها في الظهر، لصالح اميركا واسرائيل... بعد وقوع كل هذه التطورات السلبية، بدا وكأن القضية العادلة للشعب الفلسطيني المظلوم قد دفنت الى الابد، وانه قد بدأت مرحلة التطبيع مع "اسرائيل"، وان المنطقة العربية ومحيطها الاقليمي، بأسرهما، قد دخلا في "العصر الاسرائيلي" والهيمنة الاميركية ــ الاسرائيلية الكاملة والشاملة على ما سبق وسمته غونداليزا رايس "الفوضى الخلاقة" و"ولادة الشرق الاوسط الكبير الجديد" تحت الجزمة الاميركية ــ الاسرائيلية. وفي ظلام هذا الجو القاتم، جاءت لتتوجه اتفاقيات التطبيع "الابراهيمية"، التي جعلت قاتل اطفال هتلري متوحش مثل بنيامين نتنياهو زعيما اقليميا وعالميا، و"صانع سلام!"، يصفق له بحرارة نواب الكونغرس الاميركي وقوفا اكثر من خمسين مرة وهو يدعوهم علنا وعلى رؤوس الاشهاد لتسليح "الجيش الاسرائيلي الاكثر اخلاقية في العالم!"، في اسرع وقت ممكن، لاجل انجاز مهمة ابادة الشعب الفلسطيني، والقضاء على المقاومة، في اسرع وقت ممكن... ولكن في سواد هذا الظلام، انبثقت شرارة المقاومة الوطنية والاسلامية بقيادة حزب الله في لبنان، التي تحولت الى لهيب اجبر جيش الاحتلال الاسرائيلي في ايار 2000 على الانسحاب بلا قيد ولا شرط من الاراضي المحتلة في جنوب لبنان والبقاع، ساحبا خلفه جيش العملاء من المرتزقة الساقطين، و"القواتيين اللبنانيين!"، والجنود والضباط النظاميين، الذين سبق للسلطة اللبنانية العميلة ذاتها ان فرزتهم (باسم "جيش لبنان الجنوبي") للقتال الى جانب جيش الاحتلال الاسرائيلي، بحجة "الدفاع عن السيادة اللبنانية!" ضد "التعديات الفلسطينية!"... وفي حرب تموز 2006 تصدت المقاومة الاسلامية بقيادة حزب الله، بكفاءة وبطولة وتضحيات جسيمة، للعدوان الذي كان يهدف الى القضاء على ظاهرة المقاومة اللبنانية، واعادة احتلال لبنان او تسليمه لحكم العملاء "القواتيين" و"السنيوريين" واضرابهم. وشكلت تلك الحرب نقطة تحول في الصراع العربي ــ الاسرائيلي، لكونها ــ على خلاف كل الحروب السابقة ــ حققت اول انتصار كبير للعرب على "اسرائيل"، وهو ما دعا القائد العربي التاريخي العظيم الشهيد السيد حسن نصرالله الى طرح شعار "ولى زمن الهزائم، وجاء زمن الانتصارات!". وبنتيجة تلك الحرب، برزت المقاومة الاسلامية بقيادة حزب الله في لبنان، بوصفها قوة شعبية ثورية ندية، بمواجهة اسرائيل، يرتبط بها مصير لبنان، والصراع العربي ــ الاسرائيلي، ومصير جميع البلدان العربية قاطبة. وعلى خلفية هذه الشعلة المضيئة، في النفق العربي المظلم، فإن المقاومة الاسلامية الفلسطينية "حماس"، بتخطيط عسكري واستخباراتي عبقري فذ، وامكانيات تسليحية وتكنولوجية محدودة، وبضع مئات قليلة من المقاتلين الثوار الاشاوس، تمكنت من تحقيق العملية العسكرية الرائعة في 7 اكتوبر-تشرين الاول 2023، التي اخترقت خط الدفاع الاسرائيلي في غزة البطلة، وتوغلت في عمق الاراضي الفلسطينية المحتلة، وقتلت واسرت مئات الضباط والجنود والمستوطنين (المستعمرين) الاسرائيليين، وأذلّت الجيش والدولة والمجتمع و"الشعب" الاسرائيليين، واذهلت العالم. وتفيد المعلومات ان غالبية الابطال منفذي هذه العملية الخارقة كانت تتكون من شبان تتراوح اعمارهم بين السنوات الـ20 والـ30. ودخلت تلك العملية في التاريخ باسم "طوفان الاقصى". واثبتت الحقائق التاريخية التالية: ــ1ــ ان القضية الفلسطينية لم تمت، ولن تموت؛ وان مظلومية الشعب الفلسطيني لن تطوى في النسيان والتجاهل، كما جرى للسكان الاصليين (الهنود الحمر) الذين ابيدوا وبنيت فوق جماجمهم "الولايات المتحدة الاميركية" التي رفع على بابها "تمثال الحرية!" الذي نصب في نيويورك، المغتصبة من السكان الاصليين، اصحابها الحقيقيين التاريخيين. ــ2ــ ان المقاتلين الشجعان الذين نفذوا العملية ليسوا من الجيل الاول، جيل الذين طردوا ظلما وعدوانا من بيوتهم واراضيهم في فلسطين العربية، في حرب 1948 ــ 1949، بل هم ابناء واحفاد ذلك الجيل. وهذا يعني ان "الجرح" حفر عميقا في وجدان الشعب الفلسطيني، وان الاجيال الجديدة، الحالية والقادمة، من ابناء هذا الشعب، لم ولن "تنسى!"، كما كان يشتهي ويقول دايفيد بن غوريون. ــ3ــ ان كل جيل جديد سيكون اكثر علما ومعرفة، وعزما وصلابة، واستعدادا وتنظيما وتدريبا وتسليحا، من الجيل الذي سبقه، في مواجهة اسرائيل والصهيونية والمنظومة الامبريالية ــ اليهودية العالمية. وفور وقوع عملية "طوفان الاقصى"، سارع الامين العام السابق لحزب الله الشهيد الكبير السيد حسن نصرالله، للاعلان ان المقاومة الاسلامية في لبنان بقيادة حزب الله بدأت في اليوم التالي 8 اكتوبر-تشرين الاول 2023 "حرب الإسناد" للمقاومة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال وحرب الابادة الاسرائيلية الوحشية ضد الشعب الفلسطيني الباسل. وأثبتت "حرب الإسناد" الوطنية اللبنانية الحقيقتين التاريخيتين التاليتين: الاولى ـــ ان اسرائيل والامبريالية الاميركية والغربية عموما واليهودية العالمية والانظمة العربية والاسلامية "المطبّعة" مع اسرائيل، عبثا تراهن جميعا على فك عرى التلاحم الكفاحي القومي الحضاري والتحرري للشعب العربي الفلسطيني مع الجماهير الشعبية العربية ومقاومتها في مختلف اقطارها. والثانية ـــ انها عبثا تراهن ايضا على التفرقة الدينية، الطائفية والمذهبية، وزرع الفتنة المسيحية ــ الاسلامية (تحت شعارات "صراع الحضارات" و"صراع الثقافات")، والفتنة الشوفينية والسنية السياسية (تحت شعارات "الهلال الشيعي" و"الخطر الايراني" و"الفارسي" و"المجوسي" الى آخر المعزوفة المعروفة). وهذا ما دفع القيادات الامبريالية الرأسمالية الاحتكارية، الاميركية والغربية عموما، وصنيعتها التركيبة الاسرائيلية والصهيونية، "العلمانية" و"التوراتية"، "اليسارية" واليمينية، الى الهستيريا، والتكالب والتغول والاستفراس، والاعلان صاحة على رؤوس الاشهاد ان حربها الراهنة في غزة والضفة الغربية ولبنان هي "حرب وجود"، لا ضابط اخلاقيا وقانونيا وعرفيا لها. وقد حصلت عصابات الجيش الاسرائيلي، في هذه "الحرب الوجودية"، على كل اشكال الدعم السياسي والمالي واللوجستي والمخابراتي والتسليحي، من جميع الدول الامبريالية الغربية وعلى رأسها الامبريالية الاميركية. وسرعان ما تحولت "حرب الإسناد" لغزة، الى "حرب وطنية لبنانية ــ اسرائيلية" مفتوحة، ترتبط عضويا بمسائل "اعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للشرق الاوسط الكبير"، و"السيطرة على استخراج وتسويق النفط والغاز في شرقي المتوسط"، و"السيطرة على مد انابيب الغاز والنفط من دول الخليج العربي الى اوروبا"، و"السيطرة على الخطوط التجارية العالمية، البحرية والبرية والجوية، من الهند والصين، الى اوروبا واميركا، عبر الشرق الاوسط وشمالي افريقيا"... ولكل هذه الاسباب الجيوسياسية، الجيوستراتيجية، والاقتصادية، الكبرى، تشكلت على الفور "جبهة عالمية": امبريالية اميركية ــ غربية ــ يهودية وصهيونية، وعربية ""تطبيعية"، تولت المشاركة في الحرب ضد لبنان، ليس كقوى مسانِدة لاسرائيل، بل باعتبار هذه الحرب هي "حربها العالمية الخاصة" ضد "لبنان الشعبي المقاوم"، بحيث اصبحت اسرائيل ومخططاتها التوسعية والعدوانية جزءا من هذه الجبهة الحربية العالمية، واداة تنفيذية لمخططات الجبهة الامبريالية العالمية الموحدة بقيادة اميركا. والتناقض الجزئي الذي يطفو على سطح الاحداث، بين اسرائيل ودول "الجبهة الحربية الامبريالية الدولية" (اميركا او غيرها، وحتى اليهودية الاميركية العولمية)، ليس سوى تجسيد للتمايز والاختلاف الموضوعي بين المخططات الجيوسياسية والجيوستراتيجية والاقتصادية الكبرى للجبهة الامبريالية العالمية، الخاصة بالمنطقة، وبين المخططات العدوانية والتوسعية "الاسرائيلية الصرف". ولاشهر طويلة، خاضت "الجبهة الامبريالية الدولية"، بواسطة اسرائيل، حرب ابادة وحشية، "مضبوطة الايقاع"، ضد المقاومة، وضد الجماهير الشعبية والمناطق الحاضنة لها في لبنان. واتخذت الحرب ثلاثة اشكال: الاول ـــ توجيه ضربات امنية قاسية جدا، كانت محضرة منذ سنوات، الى جميع القيادات العليا السياسية والعسكرية للمقاومة، والى جميع النقاط التي تدخل ضمن مفهوم "بنك الاهداف" الذي يملكه العدو عن المقاومة، والذي يشمل لا الاهداف العسكرية فقط، بل وجميع المؤسسات المدنية البنكية والاجتماعية والتعليمية والصحية والدفاع المدني والبلديات المناصرة للمقاومة، وذلك استنادا الى كل المعلومات القديمة والجديدة التي حصلت وتحصل عليها المخابرات الاسرائيلية، ومخابرات جميع دول "الجبهة الامبريالية المعادية"، واجهزتها التجسسية "البشرية" والتكنولوجية والفضائية العالية، بالاضافة الى المعلومات التي يقدمها الطابور الخامس اللبناني الى الدول الغربية واسرائيل. وينبغي الاعتراف ان "الجبهة المعادية" و"اسرائيل" نجحتا في تحقيق ضربات أليمة جدا للمقاومة في هذا السياق، ولا سيما في اغتيال القائد العربي التاريخي الكبير سماحة السيد حسن نصرالله، وعدد آخر من القادة السياسيين والعسكريين من الصف الاول والثاني، والعشرات من القادة الميدانيين والكوادر الاخرين. الثاني ـــ توجيه ضربات تدميرية قاسية ضد الاهداف المدنية في "البيئة الحاضنة للمقاومة"، ولا سيما في الضاحية الجنوبية، والجنوب والبقاع، من اجل تشريد اكبر عدد ممكن من المواطنين، وخلق اجواء سلبية مناوئة للمقاومة، والتمهيد لطرح اطروحات طائفية مثل: التقسيم، وترحيل الشيعة الى العراق، وما اشبه. ولكن الجبهة المعادية حصدت فشلا ذريعا على هذا الصعيد، لان الجماهير الشعبية المسيحية والسنية والدرزية، حتى منها القواعد الشعبية للاحزاب المعادية للمقاومة، احتضنت النازحين الشيعة الذين دمرت بيوتهم بكل معالم التضامن والاخاء الوطني. وفي المقابل، فإن المقاومة، بما اصبحت تملكه من سلاح الصواريخ والطائرات المسيّرة، وجهت ضربات نوعية مؤلمة للعدو. ولاول مرة في تاريخ الحروب العربية ــ "الاسرائيلية" لم تعد توجد اي منطقة آمنة "داخل اسرائيل"، وهذا ما لم تعهده "اسرائيل" من قبل، واجبرها على تغيير كل خططها العسكرية والسياسية. والثالث ـــ حشد قوات ضخمة بعشرات الالوف من افضل وحدات الجيش الاسرائيلي البرية، مدعومة بالطيران والصواريخ والطائرات المسيّرة، على امتداد الحدود بين لبنان والاراضي الفلسطينية المحتلة، لشن اكثر من هجوم بري ساحق على جميع القرى والبلدات اللبنانية الحدودية، والاستيلاء عليها وتدميرها تدميرا كاملا، لاجل خلق "شريط حدودي امني" لاسرائيل، خالٍ تماما من السكان على عمق كيلومترات داخل الاراضي اللبنانية. ولكن الجيش "الاسرائيلي" الذي تم إعداده على ستراتيجية الحرب الخاطفة وتحقيق اهدافه الاحتلالية في أقصر وقت ممكن، اصطدم بمقاومة بطولية منقطعة النظير، في جميع القرى والبلدات التي هاجمها، وفشل طوال اسابيع في تحقيق هدفه، وتكبد خسائر لم يكن يتوقعها. وخلال كل تلك الايام العصيبة، أطلقت الجبهة الامبريالية المعادية واسرائيل كل افاعي الطابور الخامس من اوكارها القديمة، التي تعود الى ايام الحروب الصليبية، والتي اخذت تفحّ وتنفث سمومها الطائفية والمذهبية والتقسيمية، وتحمّل المقاومة المسؤولية عن كل المآسي التي حلت وتحل بلبنان، متهمة اياها بأنها هي التي "تستفز" و"تعتدي" على "اسرائيل المسالمة" والتي تمتلك "الحق والقدرة" على "الدفاع المشروع عن نفسها!". وامام فشل الجبهة المعادية الامبريالية الغربية ــ "الاسرائيلية" في تحقيق اهدافها المرسومة، اضطرت "اسرائيل" للموافقة على اتفاقية وقف اطلاق النار، في 27 تشرين الثاني 2024، لاجل اعادة "ضبط الايقاع" و"تنسيق الخطوات" بينها وبين الكتلة الامبريالية الغربية، لا سيما بعد ان يستلم دونالد ترامب مقاليد الرئاسة الاميركية، والتحضير لاجل معاودة شن الحرب على المقاومة في غزة وفلسطين ولبنان، بأشكال واساليب وستراتيجية وتاكتيكات جديدة. وهو ما نشهد تحقيق سينارياته الان، واولها سيناريو ترامب لاقتلاع اهالي غزة المظلومين وتهجيرهم الجماعي الى مصر والاردن والسعودية، وتحويل غزة الى منتجع سياحي لجميع مافيات ومجرمي وسفلة النظام الامبريالي العالمي ومن يرضى من الخونة والمطبعين العرب. 000
استنتاجات عامة ان كل المعطيات الدراماتيكية المروعة، التي جرت وتجري، تؤكد اكثر فأكثر: آ ـــ ان الحرب الوطنية اللبنانية ــ "الاسرائيلية"، وخلافا للصراع بين "اسرائيل" واي دولة قطرية عربية اخرى، هي حرب وجودية لكلا الطرفين: لبنان و"اسرائيل". فأيا كان النظام السياسي اللبناني (حتى في شكله الطائفي و"الليبيرالي" الموالي للغرب)، فإن التركيبة المجتمعية للكيان اللبناني لا تستطيع ان تتعايش مع الكيان اليهودي ــ الصهيوني ــ "العلماني" او "التوراتي" لاسرائيل؛ كما لا تستطيع اسرائيل ان تتعايش معه. فوجود لبنان التعددي ــ التعايشي ـــ التحرري لا يحتمل وجود "جارته" اسرائيل. ووجود الكيان الاسرائيلي الديني ــ العنصري ــ الإلغائي لا يحتمل وجود "جاره" لبنان. ان كلا منهما هو النقيض المطلق للآخر. احدهما يجب ان يزول عن الخريطة السياسية للمنطقة والعالم. ومن هذه الزاوية نظر "الكيانية اللبنانية" ذاتها فإنن "اللبنانيين! المعادين للمقاومة ضد اسرائيل" هم في حقيقتهم العارية "ضد ــ لبنانيون"، "اعداء للبنان"، "طابور خامس"، "اسرائيليون بهويات لبنانية مزورة" منحهم اياها سابقا المستعمرون الفرنسيون والانكليز، وجددها لهم لاحقا المستعمرون الاميركيون"، ويتوجب على جميع الوطنيين اللبنانيين، بمن فيهم "الكيانيين"، طرحهم خارج "البيت اللبناني المشترك"، والتحرر منهم كجزء لا يتجزأ من معركة التحرر من اسرائيل. ب ـــ ان هذه الحرب، وعلى غرار معركتيْ "زاما" و"بورودينوّْ"، هي ذات طابع مفصلي تاريخيا، على النطاقين الاقليمي والعالمي، وهي تفصل بين: مرحلة "استمرار الهيمنة الاستعبادية الغربية ــ اليهودية" على العالم، التي بدأت بتدمير قرطاجة وصلب السيد المسيح على يد الامبراطورية الرومانية القديمة والطغمة المالية ــ الدينية اليهودية (حسب الرواية المسيحية)، ومرحلة "التحرر التام والنهائي من هذه الهيمنة"، بتفكيك "دولة اسرائيل" والقضاء عليها، على يد المقاومة الوطنية اللبنانية، والفلسطينية، ومحور المقاومة الشعبية العربية ــ الاسلامية، والتقدميين الثوريين الحقيقيين اليهود، كمقدمة شرطية لتفكيك التركيبة الامبريالية العالمية والقضاء عليها، على يد محور المقاومة العربي ــ الاسلامي، و"المحور الشرقي الجديد" المتمثل في روسيا والصين وايران الثورة والدول المتحالفة معها، وجميع الحركات الشعبية الثورية والتقدمية في جميع بلدان العالم بما فيها البلدان الامبريالية ذاتها. بناء على هذه المعطيات الموضوعية، وأخذا بالاعتبار الدروس التاريخية لمعركتيْ "زاما" و"بورودينوّْ"، نجد من الضروري طرح الاستنتاجات التالية: ــ1ــ ان الضربات القاسية جدا التي تحملتها المقاومة بثبات منقطع النظير، والتضحيات الجسام وتقديم الوف الشهداء والجرحى من القادة والمقاتلين والمناضلين الابطال، وعشرات ومئات الالوف من المصابين والمضحين والمعذبين والنازحين من البيوت والقرى والاحياء المدمرة، والقدرة المذهلة للمقاومة للرد على الهجمات الجوية التدميرية، والصمود والدفاع الاسطوري ضد العدوان البري في الخطوط الامامية، بالرغم من التفوق العَددي والعُددي والجوي للعدو... ان كل ذلك يجعل المقاومة أدرى بما تفعل، او لا تفعل، وبغير ما حاجة الى "الأستذة" و"التنظير" و"التنمير" عليها، من اي طرف كان، واكثر ترفعا وحكمة وتعقلا من الوقوع في شرك "المزايدات السيادية الكاذبة!"، والجعجعات والاستفزازات والافتراءات والافخاخ الطائفية والمذهبية وجميع السموم التي تنفثها افاعي الطابور الخامس "السيادي اللبناني!" و"التطبيعي العربي!". ــ2ــ حينما قال سماحة السيد حسن نصرالله، رضوان الله عليه، في اعقاب انتصار حرب تموز في 2006 "لو كنت اعلم...!"، فهو لم يقل ذلك ــ معاذ الله ــ كتعبير عن "الندم" و"التخاذل" و"التراجع" عن خط المقاومة، كما اراد ان يقوّله، كذبا وزورا وبهتانا، بعض ساقطي ابواق الطابور الخامس "اللبناني" و"العربي"، بل قاله كتعبير عن انه لدى المقاومة من الحكمة والمناقبية والكِبَر الاخلاقي والوفاء لدماء الشهداء وعذابات جميع المضحين، انها تراجع حسابات كل عملية وكل حملة وكل معركة، كبيرة وصغيرة، والنظر فيما يقع من اخطاء ونواقص لاجل تجنبها وتلافيها في الحملات والمعارك القادمة. وفي هذا السياق فإن المقاومة تأخذ بالاعتبار جميع الاقتراحات والتحليلات والانتقادات والملاحظات وحتى التجريحات والتحاملات، من قبل جميع المناضلين والاصدقاء، والمراقبين المحايدين، والاعداء الداخليين والخارجيين انفسهم. ــ3ــ من وجهة نظر تاريخية واضحة، قديمة وجديدة، جيوسياسية ــ جيوستراتيجية، واقتصادية كبرى، يستطيع الاعمى ان يرى ان اسراب جراد الفساد العام، التي "تأكل الاخضر واليابس" في لبنان، انما عششت وتعشش وتبيض وتفرخ، بالدرجة الاولى ولكن ليست الوحيدة، في الاوساط "السيادية!" المعادية للمقاومة: اولا ــ في احضان المارونية السياسية، التي تضرب جذورها التاريخية في الخيانة الوطنية الى عهد السيطرة الرومانية القديمة والحروب الصليبية، ومن ثم جميع اشكال الاستعمار الاوروبي ــ اليهودي اللاحق لبلدان المشرق العربي؛ وثانيا ــ في احضان السنية السياسية، التي تضرب جذورها التاريخية في مسخ ومعاداة العروبة وتمزيق وتقسيم البلدان العربية ونهبها واستحلابها، وحكم جماهير شعوبها بالاذلال والتجهيل والتجويع والسيف والسوط والمشانق و"الخازوق التركي"، وترجع كلها الى العهد الكردي الايوبي، ثم المملوكي، ثم العثماني؛ والتي نالت "مكافأتها" من قبل الاستعمار الاوروبي الحديث، بإشراكها، جنبا الى جنب المارونية السياسية، في حكم "دولة لبنان الكبير" التي أعلنت في 1920، على لسان الجنرال الفرنسي هنري غورو، بموجب "اتفاقية سايكس ــ بيكو"، ثم إعيدت "لبننتها" في "مسرحية الاستقلال" في تشرين الثاني 1943، التي أخرجها وادارها السفير الانكليزي يومذاك الجنرال سبيرس. وحينما كانت المقاومة الاسلامية بقيادة حزب الله، وبيئتها "الشيعية" الحاضنة، تقاتل وتقدم الشهداء الابرار والتضحيات الجسام، ضد الاحتلال الاسرائيلي والكيان الصهيوني، العدو الاول المباشر للشعبين الفلسطيني واللبناني ولجميع الشعوب العربية الشقيقة، فإن اسراب جراد الفساد تمكنت من التزاوج والاتحاد فيما بين بعضها البعض وفيما بينها وبين الحلقات والاوساط الخيانية والموالية للامبريالية والصهيونية، لتشكل في الـ30 او الـ40 سنة المنصرمة، "منظومة فساد وخيانة وطنية" متكاملة، متداخلة، متداعمة، تشكلت بدورها في "جيش تطبيعي موال للامبريالية واسرائيل"، كرديف "داخلي" للجيش الاسرائيلي "الخارجي". وخلال هذه السنوات الطويلة والمفصلية، تمكنت هذه "المنظومة الفسادية ــ التطبيعية"، المعادية للمقاومة، من السيطرة على مقدرات العيش في لبنان من: الغذاء، الكساء، الدواء، الماء، الكهرباء، المواصلات والاتصالات، وغالبية قطاعات الاقتصاد والتجارة الداخلية والخارجية والصناعة والحرف والزراعة والبناء والعقارات والمالية والبنوك والصحة والتعليم. واستغلت هذه "المنظومة الفسادية ــ التطبيعية العميلة" مشاركة المقاومة في الانتخابات النيابية والحكومات اللبنانية، بخلفية تعزيز ما يسمى "الدمقراطية التوافقية" و"التعايش المسيحي ــ الاسلامي" و"الميثاقية" و"الوفاق الوطني" في لبنان، من اجل تحميل المقاومة كل مسؤولية النهب واللصوصية والافقار والتجويع في لبنان، نظرا للنفوذ السياسي الكبير الذي حازته المقاومة بفضل مواجهتها البطولية لاسرائيل، واتهامها بانها تابعة لايران، وان وجود المقاومة وسلاحها وتبعيتها المزعومة لايران هما السبب في العزلة "العربية" و"الدولية" للبنان، والانهيار الاقتصادي فيه. وكما جرى في السابق "تلميع" عدد من السياسيين والماليين، مثل بشير وامين الجميل ورفيق الحريري وفؤاد السنيورة ورياض سلامة، فإن "منظومة الفساد ــ التطبيعية العميلة"، ولـ"ضرورات الشغل"، عملت في السنوات الاخيرة على تشكيل فصيل كامل من النبّاحين ضد المقاومة، يتألف بشكل خاص من عدد من "الاكاديميين المزركشين" و"السياسين السابقين المباعين" و"الاعلاميين المأجورين الملمّعين"، المنتشرين في اميركا واوروبا والبلدان العربية ولبنان، الذين توضع تحت تصرفهم عشرات وسائل الاعلام بمختلف اللغات والبلدان، بالاضافة الى لبنان، والذين يغنّون جميعا، في جوقة واحدة، أغنية واحدة، تدور على: ازالة الخط الفاصل بين المعركة "الخارجية" ضد الاحتلال الاسرائيلي والكيان الصهيوني، والمعركة "الداخلية" بين المقاومة و"منظومة الفساد ــ التطبيعية العميلة" اللبنانية. وتركز جوقة النبّاحين ضد المقاومة على معزوفة رئيسية هي: ان نزع سلاح المقاومة، وقطع عرى التعاون مع محور المقاومة العربي والاقليمي بقيادة ايران الثورة، وعدم الانفتاح على الدول الشرقية العظمى كروسيا والصين، والتخلي عن خط المقاومة وتحويل حزب الله الى حزب "سياسي لبناني" وحسب، وتبني خط "السلام" و"التطبيع" مع اسرائيل، هذه ــ فقط لا غير! ــ هي شرط فك العزلة "العربية" و"الدولية" عن لبنان، وادخاله في عصر "التنمية والازدهار!". ــ4ــ ان الموقع الجغرافي للجنوب، المحاذي لاسرائيل، وذي الاكثرية الشيعية، والتهميش طويل الامد في الكيانية اللبنانية للطائفة الشيعية الكريمة، ذات التقاليد النضالية العريقة ضد الظلم والاستبداد، قد حتّم نشوء ظاهرة "التطييف الشيعي" للمقاومة الاسلامية بقيادة حزب الله، الوطنية والقومية والانسانية في الجوهر والتوجه، و"الطائفية" في التركيب السكاني ــ المجتمعي والخطاب الدعاوي. ولكن كل الظروف القائمة في لبنان خاصة، ومنطقة الشرق الاوسط والعالم عامة، تبين ان المعركة "الداخلية" في لبنان، ضد "منظومة الفساد" و"جيش العملاء الموالي للامبريالية واسرائيل"، هي معركة واحدة موحدة، تشمل كل لبنان، بمختلف طوائفه ومذاهبه، ولا تسمح بـ"ترف" "التطييف الشيعي"، او اي "تطييف آخر"، بدون الوقوع في خطر الفتن الطائفية والمذهبية، كما تريد وتعمل الامبريالية واسرائيل و"منظومة الفساد ــ التطبيعية العميلة" ذاتها. ــ5ــ في جميع الحروب العربية ــ الاسرائيلية، قبل معركة "طوفان الاقصى" البطولية، والحرب الوجودية اللبنانية ــ الاسرائيلية، كانت جميع المعارك تجري على اراضي الدول العربية. وفي الوقت الذي كان فيه الطيران "الاسرائيلي" المتفوق يقصف بحرية المدن والقرى والجيوش العربية، في اراضيها، كان "المستوطن المدني!" الاسرائيلي يشرب قهوته بهدوء في "مقهى رصيف" في تل ابيب او غيرها من المدن والبلدات الاسرائيلية. وفي تلك الظروف، والى جانب ترسخ فكرة "الجيش الاسرائيلي الذي لا يقهر"، ترسخت ايضا الفكرة المركبة "ان اسرائيل هي دولة الامن والاستقرار"، وان "المدني!" الاسرائيلي لا يحتمل انفجار قنبلة او صاروخ قرب منزله او في منزله ذاته. وانه في هذه الحالة، فإن هذا "المستوطن" سيحمل حقيبته ويتجه الى المطار ويعود من حيث اتى هو او ابوه او جده. وكانت هذه الفكرة تقض مضاجع جميع القادة والستراتيجيين الاسرائيليين، الذين يعلمون تماما ان "اسرائيلهم" ليست "وطنا" يدافع الانسان السوي عنه، بل انها ليست اكثر من مشروع استعماري لـ"دولة استعمارية استيطانية"، وان "مواطنيها" ليسوا اكثر من مرتزقة، قتلة، ومغتصبي اراض ليست لهم، يعانون عقدة انفصام الشخصية الانسانية وفقدان الهوية الوطنية الحقيقية. وجاءت معركة "7 اكتوبر 2023" وما بعدها، وقلبت الصورة رأسا على عقب. فلأول مرة في تاريخ الحروب العربية ــ الاسرائيلية تدوي صفارات الانذار في ساعات النهار والليل، وينهض ملايين "الاسرائيليين" من أسرتهم مذعورين، ويتعثر بعضهم ببعض وهم يهرولون نحو الملاجئ، التي لم تفتح ابوابها منذ إنشائها قبل عشرات السنين. ولأول مرة تتساقط القنابل والطائرات المسيرة الانقضاضية والصواريخ، ويسقط القتلى والجرحى، وتشتعل الحرائق وتتهاوى البنايات في تل ابيب ذاتها وكل الاراضي "الاسرائيلية". وتكاد سارة كوهين تصاب بجلطة وهي تحدّق بنتنياهو وهو ينفر منها ويلبس ثيابه على عجل كيفما كان دون ان يغتسل، ويهرول نحو ملجأ عميق في وزارة الدفاع الاسرائيلية، حيث يوافيه وزراؤه المجرمون، للبحث فيما آلت اليه اوضاع دولتهم الاستعمارية. والنتيجة المباشرة لذلك كانت: اولا ــ دفن فكرة "اسرائيل دولة الامن والاستقرار". ثانيا ــ زعزعة الاقتصاد الاسرائيلي المتطور. وثالثا ــ زيادة فورية كبرى في الهجرة المعاكسة من اسرائيل، نحو اوروبا واميركا وغيرهما. ومثلما تحطمت فكرة "الجيش الاسرائيلي الذي لا يقهر"، تحطمت ايضا والى الابد فكرة "الحصانة الداخلية لاسرائيل". كل ذلك صحيح، وسيكون له تأثيره على تقرير مصير ووجود اسرائيل، كدولة وكمجتمع طائفي ــ عنصري واستيطاني ــ استعماري. ولكن الواقعية الوجودية، الفكرية والسياسية والعسكرية، تقتضينا الاعتراف، ان قسما من "المجتمع الاسرائيلي"، قليلا في البداية ولكنه مرشح لان يكبر، قد "استوعب الصدمة"، وسيتحمل ويتكيف يوما بعد يوم مع سقوط "الامن والاستقرار" وانفجار القنابل والمسيرات والصواريخ في "الداخل الاسرائيلي". ويشمل هذا القسم بشكل خاص: الجيل الثالث والرابع منذ اغتصاب فلسطين واقامة "اسرائيل"، ولا سيما في صفوف ما يسمى "اليهود الشرقيين" او "اليهود العرب"، ذوي الاصول الاثيوبية واليمنية والعراقية والسورية والمصرية والمغربية الخ. وسينقسم هذا القسم الى جناحين: آ ـــ جناح شديد التطرف والعداء للفلسطينيين واللبنانيين واليمنيين والعرب والمسلمين اجمعين. ب ـــ جناح عقلاني، تصالحي مع العرب والمسلمين. وبمعزل عن تدخل الامبريالية الاميركية والغربية والطغمة المالية اليهودية العالمية، فإن وجود هذين الجناحين يؤكد ان المسألة الطائفية اليهودية هي جزء من المسألة الطائفية القديمة في المجتمع التعددي العربي، وان الحل التاريخي لهذه المسألة لن يكون في نهاية المطاف بالقنبلة والصاروخ، بل بالقضاء على المشروع السياسي العنصري لدولة اسرائيل، والقضاء على الفكر الإلغائي الطائفي والديني، والتمسك بـِ وتطوير الخط التاريخي للتعاون والتآخي والتدامج بين مختلف المكونات الدينية والمذهبية والاتنية والاقوامية والاقاليمية واللغوية واللهجوية، للامة العربية العريقة بوصفها ظاهرة ثقافية ــ حضارية تاريخية. ــ6ــ ان التطور التكنولوجي ــ العسكري، وانتشار وارتفاع مستوى التعليم، والتعاون والمساعدات من قبل القوى الحليفة، وزيادة وتعمق الوعي الوطني والقومي والشعور بالمظلومية وعدالة القضية، وتراكم التجربة الكفاحية، والتدريب العالي، ونكران الذات والاستعداد للتضحية بالنفس والنفيس، كل هذه العوامل ساهمت في بلورة ظهور المقاومة الاسلامية بقيادة حزب الله في لبنان، كقوة مقاتلة شعبية وثورية عربية، وقفت بصلابة بوجه اسرائيل، وحققت ما لم تستطع تحقيقه في السابق جميع الجيوش النظامية العربية. وظهر ذلك بشكل خاص: ـــ هجوميا، في ضرب وزعزعة "الداخل الاسرائيلي". ـــ ودفاعيا، في الدفاع الاسطوري عن بلدات وقرى الحافة الحدودية اللبنانية ــ "الاسرائيلية"، ومنع الجيش الاسرائيلي من اقتحامها، طوال اسابيع من معارك المواجهة الشرسة، بالرغم من كل التفوق العَددي والعُددي للمعتدين. كل هذا هو صحيح. ولكن ينبغي علينا هنا ايضا الاعتراف انه، كما ان المقاومة تتعلم من كل التجارب السابقة والحالية، فإن اسرائيل ايضا "تتعلم!"، وتعيد النظر في، وتجدد اساليبها وخططها الحربية. واميركا والامبريالية الغربية يساعدانها الى اقصى الحدود. وليس هناك اي وازع "دمقراطي" او "قانوني" او ديني او اخلاقي يمنع اميركا من ان تزود اسرائيل بقنابل النابالم الحارقة التي تحرق واحدتها مساحة واسعة عدة كيلومترات، والتي سبق لاميركا ان استخدمتها في فيتنام، والقنابل الجهنمية التي تزن واحدتها عدة اطنان، والتي استخدمها الجيش الاميركي ضد مقاتلي طالبان الذين تحصنوا في كهوف ومغاور جبال تورا بورا في افغانستان في حرب 2001. وهذا كله يعني انه لا يجب على المقاومة ان تتمسك بأي شكل محدد من اشكال القتال،، وبأي رقعة جغرافية محددة، وأن تناور باستمرار وتفاجئ العدو باستمرار، في الدفاع والهجوم، والتراجع والصمود، والكر والفر. إن استمرار وجود المقاومة بحد ذاتها هو الاساس والبوصلة الرئيسية التي ينبغي التمسك بها مهما كانت التضحيات. وبحكم القوانين الجدلية للطبيعة، وللمسار التاريخي للحضارة الانسانية، فإن عامليْ: الجغرافيا (جوف الارض واتساع رقعتها السطحية)، والديموغرافيا (البيئة السكانية)، يعملان من البداية الى النهاية لصالح المقاومة. ــ7ــ في 9 ايار 1945، وبعد ان انتحر او استُنحر هتلر، أجبر الجنرالات الالمان النازيين على توقيع صك الاستسلام للقيادة العسكرية السوفياتية. وعلى الاثر قام الجيش الاحمر السوفياتي بتطويق الجيش الياباني في منشوريا وكوريا وسخالين وجزر الكوريل. ثم مهاجمته والانتصار الكاسح عليه في 9 اب 1945. وكانت اليابان في حالة العجز التام والاستعداد للاستسلام. ومع ذلك قامت اميركا بإلقاء القنبلتين النوويتين على مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين، بدون اي ضرورة عسكرية. ويفسر جميع المحللين الموضوعيين هذا العمل الوحشي والجريمة النكراء ضد الانسانية، من قبل القيادة الاميركية، بأنه مثّل رسالة تهديد لشعوب الاتحاد السوفياتي، والصين، والهند الصينية (فيتنام ولاوس وكمبوديا)، وجميع شعوب العالم المناضلة ضد الاستعمار التقليدي (الكولونياليزم)، للتسليم بالزعامة الاميركية لما سمي "العالم الحر". وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، فإن الولايات المتحدة الاميركية ذاتها، التي بنيت في الاساس على "مبدأ" و"حق" الابادة الجماعية لعشرات ملايين الهنود الحمر ــ سكان "اميركا" الاصليين، وذلك باسم ""التوراة" و"اليهوه" وابادة "الكنعانيين" واستملاك "ارض الميعاد"، هذه الاميركا استغلت خيانة ستالين والستالينية للشيوعية والفكر الاشتراكي العلمي، والعجز والاطماع الاستعمارية وغباء "الرأي العام الدمقراطي" في بلدان اوروبا الغربية، وتبعية وعمالة الانظمة النفطية والرجعية، وسطحية وفساد الانظمة "الوطنية" العسكرية والدكتاتورية، في البلدان العربية، ووقفت ــ اي اميركا ــ بكل غناها وقوتها وجبروتها خلف انشاء دولة اسرائيل. وتم ذلك اول ما تم بموجب قرار الامم المتحدة حول تقسيم فلسطين وانشاء اسرائيل في 1947، ثم اخراج مسرحية حرب 1948 ــ 1949، التي اكدت وجود اسرائيل، كدولة "امر واقع" (ديفاكتو) تعترف بها "جامعة الدول العربية" بموجب اتفاقات الهدنة بينها وبين الدول العربية الاخرى ومنها لبنان. وسرعان ما عمدت اميركا الى استخدام نفوذها لتسليح اسرائيل بالسلاح النووي في سنة 1950، بدون اي ضرورة عسكرية لذلك، من زاوية نظر الصراع العربي ــ الاسرائيلي وميزان القوى بين الطرفين. وطوال الاكثر من 75 سنة الماضية نجحت الامبريالية الاميركية ــ اليهودية في "تربية" الكلب الاسرائيلي المتوحش والمسعور، الذي لا يخضع لاي اخلاق او قوانين، بما فيها قوانين الدول الغربية ذاتها التي أوجدته، والمهيأ لمهاجمة والفتك بأي شعب او دولة حسب مصلحة ورغبة الامبريالية الغربية وعلى رأسها الامبريالية الاميركية ــ اليهودية. وما فعلته اسرائيل في غزة ولبنان في الحرب الاخيرة هو "مسطرة" و"درس" وتهديد لكل شعب ودولة اخرى. وتتيح هذه الحرب بواسطة اسرائيل للدول الامبريالية والاوروبية ان "تغسل يديها" من الجريمة، وتتلطى خلف اسرائيل. وينطبق ذلك على تزويد اسرائيل بالسلاح النووي ايضا. فهذا السلاح لم يعطَ لاسرائيل لدوافع "دفاعية" فقط او "تهويلية" فقط. بل أعطي لها للاستعمال الفعلي ضد جميع البلدان العربية والاسلامية، وضد دول كبرى معادية للغرب الامبريالي كالصين وخصوصا روسيا. فبعد انشاء السد العالي (سد اسوان) في مصر، هدد احد الوزراء الاسرائيليين بقصف السد بقنبلة نووية وإغراق مصر في الطوفان. وغداة بدء معركة "طوفان الاقصى" هدد احد الوزراء الاسرائيليين بضرب غزة بقنبلة نووية. اما بخصوص روسيا، فإن اميركا فائقة الغنى تمتلك قوات نووية، فضائية وجوية وارضية وبحرية، قادرة على تدمير روسيا عدة مرات. ولكنها في الوقت ذاته تعرف ان 90% من عائدات الاقتصاد الفعلي الروسي يتم انفاقها على الستراتيجية الحربية: الدفاعية والهجومية. فشبكة الانفاق العسكرية تشمل كل روسيا، وتحت كل مدينة روسية كبيرة يوجد "مدينة ــ ملجأ" رديفة، وروسيا مهيأة في الفضاء والجو والبر والبحر لضرب اي هدف في اي نقطة في العالم، عدة مرات، نوويا. والعقيدة العسكرية الاساسية للجيوش الروسية هي: "بدون وجود روسيا، لا معنى لوجود اي دولة اخرى، وفي الحالات القصوى لا معنى لوجود الكوكب الارضي!". اي ان اميركا تعرف انه لو بادرت هي الى توجيه الضربة النووية الى روسيا، او العكس، فإنها ستهزم في كل الحالات لانها ــ اي اميركا ــ ستزول حتما عن الخريطة هي وكل حلفائها، حتى بعد احتمال ضرب روسيا بالسلاح النووي. ولذلك تتجنب اميركا المواجهة النووية المباشرة مع روسيا. وهي "تتذاكى" ــ على طريقة "تذاكي الصبي الغبي" ــ وتتلطى خلف اسرائيل في مسألة السلاح النووي ايضا. وكما انها تسلح اسرائيل بكل انواع الاسلحة الكلاسيكية، و"تصطاد العصافير بالصواريخ" و"الاطفال الخدج بالقنابل زنة (2000 رطل انكليزي) اي 907 كلغ"، فإنها ترسم "نجمة داود" (النبي طبعا، اسم الله عليه!)، على الاسلحة النووية الاميركية، من اجل ضرب روسيا "باسم اسرائيل" في وقت يغسل فيه القادة الاميركيون اياديهم في مراحيض البيت الابيض. وحينما كان نتنياهو يذهب الى موسكو لمقابلة بوتين ومصافحته، كان يخبئ خلف ظهره السلاح النووي الاميركي (بنجمة داود)، وهو يعلم ان بوتين يعلم. 000
لا هوادة
ان تاريخ الاستعمار والامبريالية مليء بالجرائم العظمى ضد الانسانية والمجازر والاجتياحات والحركات والمنظمات العنصرية والنازية، التي كانت تقوم على شريعة الغاب، وحق القوة، والتفوق العنصري والعرقي والقومي والديني والمذهبي. ولكن اسرائيل هي افظع اشكال الاجرامية الاستعمارية والامبريالية. إذ انها تقوم على المزج "المدرحي" (المادي والروحي) بين "ألوهية" او "تأليه" صنف معين من البشر، منحط اجتماعيا واخلاقيا وانسانيا، وبين "قدسية" او "تقديس" إبادة اي صنف بشري آخر، حسبما تقتضيه مصلحة الامبريالية العالمية وعلى رأسها الامبريالية الاميركية ــ اليهودية. وقد زودت الامبريالية العالمية والاميركية ــ اليهودية فصيلتها الطليعية الضاربة: اسرائيل، بكل ما تملك من انواع الاسلحة الكلاسيكية واسلحة الدمار الشامل النووية وغيرها. وتبدو اسرائيل اليوم بوصفها غدة سرطانية ليس فقط في خاصرة الشعب الفلسطيني المظلوم والشعوب العربية والاسلامية، بل في خاصرة شعوب العالم بأسرها، وضد الضمير والوجدان الانساني. ويصبح مصير الانسانية مرهونا بالتحرر النهائي من الدولة الاسرائيلية. وهذه المهمة التاريخية المصيرية: وطنيا وقوميا ودينيا وانسانيا، هي ملقاة الان بالدرجة الاولى على كاهل محور المقاومة. وسيكون من الهام جدا، ومصيريا، ان يستطيع محور المقاومة في اقرب وقت ممكن حيازة السلاح النووي، ليس في شكل قنابل كبيرة تدخل ضمن مفهوم اسلحة الدمار الشامل، بل في شكل قنابل صغيرة بوزن 2 ــ 5 ــ 10 ــ 15 ــ 20كلغ، تستخدم كأسلحة تاكتيكية محدودة الاهداف، تركّب في طوربيدات وصواريخ بحرية تحملها زوارق قتالية مسيّرة، لضرب البوارج الحربية وحاملات الطائرات المعادية، او طائرات مسيّرة لضرب القواعد والمنشآت المعادية، او صواريخ كورنيت موجهة لضرب تجمعات الدبابات والدروع المعادية، او صواريخ سام او ستينغر فردية لضرب الاهداف الطائرة المعادية، او قنابل هاون او الغام او احزمة ناسفة فردية لضرب اي موقع او نقطة داخل اسرائيل واميركا واي دولة معادية. ان الامبريالية هي اعلى مرحلة من مراحل الرأسمالية، التي تحولت من رأسمالية المزاحمة الحرة الى الرأسمالية الاحتكارية. وفي هذا السياق التاريخي العام ظهر الاستعمار والعنصرية والنازية، واخيرا ظهرت الامبريالية الغربية والاميركية ــ اليهودية، بوصفها "ارقى" و"اعلى" شكل من اشكال نظام العبودية، القائم على التمييز والاستغلال الطبقي والديني والعنصري، الذي دشنته روما القديمة بتدمير قرطاجة وصلب السيد المسيح (حسب الرواية المسيحية)، ثم اغتصاب وتزييف وانتحال المسيحية تحت اسم: الكاثوليكية؛ التي تمخضت فيما بعد عن البروتستانتية و"المسيحية الصهيونية" التي ابادت سكان اميركا الاصليين وتحكم اميركا اليوم. وان وجود دولة اسرائيل هو أبشع وأفظع شكل متوحش من اشكال وجود الامبريالية الغربية والاميركية ــ اليهودية العالمية. وهذا الوجود هو لطخة عار في جبين الانسانية المتحضرة جمعاء واكبر خطر يهدد وجودها ذاته. وقد آن الاوان لمحو هذا العار وازالة هذا الخطر... بدءا بازالة دولة اسرائيل! ـــــــــــــــــــــــــــــــ *كاتب لبناني مستقل
#جورج_حداد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في المفهوم الاجتماعي التاريخي للمسيحية
-
التقسيم الحضاري للتاريخ والصراع الانساني ضد انظمة العبودية ا
...
-
المعركة الوجودية بين الحضارية الشرقية العربية والوحشية الغر
...
-
اليهودية الصهيونية والمارونية الصليبية: توأمان تاريخيان
-
اليهودية، الصهيونية واسرائيل.. على المشرحة
-
العنصرية الوحشية الاسرائيلية والواقع العربي
-
الدولة اليهودية ودولة المارونية السياسية الى مزبلة التاريخ
-
الجذور التاريخية للعلاقات بين المارونية المرتدة والبابوية وا
...
-
اللاوطنية -الكيانية- للمارونية السياسية
-
حق تقرير المصير لشعوب الشرق على الطريقة الاورو ــ اميركية
-
الطابور الخامس وأكذوبة الوفاق الوطني في الكيان اللبناني المص
...
-
نظام رأسمالية الدولة الروسي بمواجهة النظام الرأسمالي الامبري
...
-
مقدرات الانتصار الحتمي لروسيا في الحرب الاقتصادية ــ الاجتما
...
-
العوامل غير السماوية لنشوء وزوال الطغمة المالية اليهودية ودي
...
-
هل تستغني الامبريالية الاميركية ــ اليهودية عن اسرائيل؟
-
طريق النصر... حرب استنزاف شعبية طويلة الامد
-
لبنان لن يكون للطابور الخامس عميل الامبريالية والصهيونية وال
...
-
غزة اولى ضحايا المشروع الاميركي: طريق الهند ــ الشرق الاوسط
...
-
الازمة الوجودية للنظام الطائفي العميل للكيان اللبناني
-
روسيا الوطنية والاورثوذوكسية تحوّل المسار الجيوسياسي للتاريخ
...
المزيد.....
-
شاهد كيف تخطى آيساب روكي مقاعد المحكمة لعناق ريانا لحظة الحك
...
-
ألقى بنفسه بين ذراعيها في المحكمة.. ريانا تعبر عن سعادتها بت
...
-
حزب البديل من أجل ألمانيا مهدد بغرامات ضخمة بسبب تبرعات غير
...
-
زعيمة حزب المحافظين البريطاني ترد على وصف ترامب لزيلينسكي بـ
...
-
من نجم على السوشيال ميديا إلى متهم بتصنيع المخدرات.. قرار قض
...
-
إفريقيا قارة المستقبل
-
خامنئي: نعتبر قطر دولة صديقة وشقيقة لنا رغم بعض -القضايا الم
...
-
روسيا تحذر من مخاطر تفكك ليبيا وتؤكد ضرورة دعم جهود توحيد ال
...
-
ترامب يقول إن زيلينسكي -ديكتاتور من دون انتخابات- وينتقد شرع
...
-
لماذا ترفض إسرائيل الانسحاب الكامل من جنوب لبنان وما الأهمية
...
المزيد.....
-
Express To Impress عبر لتؤثر
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التدريب الاستراتيجي مفاهيم وآفاق
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
Incoterms 2000 القواعد التجارية الدولية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
المزيد.....
|