صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8252 - 2025 / 2 / 13 - 10:19
المحور:
الادب والفن
ازدهرت معظم الثقافات الفنية والأدبية في العراق في الحقبة السبعينية , , فلو أخذنا أحد أشهر الأغاني السبعينية وهي أغنية (البنفسج) التي يمكن أن نعدها سمفونية الغناء العراقي لتعدد انتقالاتها الايقاعية والنغمية وطول مدتها الزمنية , حيث ناهزت الــ 15.56 دقيقة , فهذه الأغنية لو كانت تغنى على مسارح كبيرة وكان الجمهور يطلب إعادة مقدمتها البالغة 4.25 مع الغناء البالغ 11.31 دقيقة , ثلاث مرات على أقلِ تقدير , لتراوحت مدة الأغنية بين الساعة وأجزائها , وتبتدأ المقدمة الموسيقية بجمل من نغم النهاوند على درجة الدوكاه في فالتٍ موسيقي تؤديها الآلات في دخول متنوع للإيقاعات بين ميزان 4/4 و2/4 ( ايقاع الزفة والوحدة الصغيرة) بنفس نغم النهاوند (البوسليك) حتى المقطع الأول حين يتحول الايقاع الى الوحدة الكبيرة 4/4 فيفتتحُ الغناءُ عبارتَهُ: (( يــــا طعـم.. يـا ليـلة من ليـل البنفســج, يـاحـلم.. يـمـامش بمـامـش , طـبـع كَـلـبي مـن اطـبـاعك ذهـب , تـرخص.. وأغـلـّيـك.. وأحـبـّـك)) .
كل من يسمع البنفسج , يحسب ان مظفر النواب يتغزل بفتاة , لكن لا يعلم الكثير ان هذا الشعر لحزبه وألأنشقاق الذي حدث فيه , ويحتوي أدق وصف لضعف الناس أمام الحب , يقول مظفر النوّاب : (( مامش بمامش .. وللمامش يـ ميزان الذهب .... وتغّش وأحبك )) , ويقول معلناً السماح لمحبوبته كل افعالها : (( يا طعم .... يا ليله من ليل البنفسج يا عذر ... عذرين... يا شنهي وأحبك )) , وهكذا هو ألإبداع الحقيقي , سواء أكان شعراً , أم موسيقى , أم غناء , حياة ممتدة لا تنتهي , كأن الزمن يضفي عليه جمالاً متجدداً , يقول ياس خضر (( عذبتني اغنية البنفسج فقد استغرق تسجيلها 6 أشهر , ومن المفارقات ان الرقيب العراقي منع بثها , وفي يوم حضر النائب صدام حسين حفلة كنت أغني فيها , طلب البنفسج , وأمر وزير الاعلام الافراج عنها قائلاً : ليش مانعينها ؟ احنا ماتخوفنا أغنية)) .
كان مظفّر النوّاب كِتاباً كبيراً , نصّاً شاسعاً , اختُصِرَ في كلمة واحدة هي كلمة (( المامش )) المرادفة لكلمة شائعة أخرى هي ((ماكو)) بالمعنى ذاته , ولما دخلت اللفظتان النصَّ اللغوي في مواضع كثيرة من قصائد النواب الشعبية , تزحزح معناهما الدارج إلى مرمى بعيد حتى وصل بهما إلى معنى (الرفض والإباء) , غير أنّ الفرق بين اللفظتين مامش وماكو هو في حرفي الشّين والكاف , فكلاهما حرف مهموس لكن الشّين صوت ليّن وخافت , بينما الكاف شديدة ومفخَّمة , وكان معنى المامش أقرب الى طبيعة النوّاب وذوقه , لِما ينطوي عليه نصُّه الشّعري من رفض ناعم ومهموس , خاصة في قصائد الحبّ الشعبية التي تمثّله بصدق مبدئي والتصاق وجدانيّ , ليست المامِش وحدها ذات رنين نقيّ , عفويّ , غريبٍ وطالع عن النسق اللهجويّ العام في العراق.
لقد حضر في ألأغنية جنون الشعر وروعة الغناء والموسيقى , والسحر والمتعة والإبداع فعلاً , حتى بدا كأننا في مشهد منقول من كون آخر أو (مرحّل) من كوكب ملون بعيد جداً , ذلك كان ليلة من ليل البنفسج , ألفاظ القُرى التي تستوطن الأهوار , إنّها الكلمة الرقيقة , الرّوح المُنقادة التي ستصحب الشاعرُ من الأرياف إلى بغداد العاصمة , ويستعملها في شِعره , بينما ضبّاط 1958 العسكريّون , ومؤيّدوهم المدنيّون , يغيّرون سَحنة المدينة الملكيّة البرجوازية , بأدوات خشنة , وشعارات جماهيرية هائجة وعادةً ما تُلفَظ المامِش ومثيلاتها, في موطنها الريفيّ الأصلي , بنبرتين: رقيقة حدَّ التوسّل , وشديدة كوخزة الرّصاصة , لكن اللفظةُ على وجهيها دخلَت قصائد النوّاب الشعبية كروح غريبة عن زمانها , وكما تتحوّل الرقبةُ إلى جِسر في إحدى قصائد النوّاب , فالشّين الليّنة , المتنهِّدة , تزحف مثل حيّة الماء , من ساق نبتةٍ لساق , ومن مستنقع لآخر, وفيما بعد سيلحظ النوّاب حيّةَ (( المامش )) تنتقل من ثُقب إلى ثُقب في الحيطان الطينيّة لبيتٍ على الحدود , اختفى فيه الشاعر قبل أن يبدأ هروبَه الطويل.
إذا كان نزار قباني قد ألبس القصيدة الغنائية قميصا وبنطلونا وجعلها تتجوّل في الاسواق , فإن شاعر العراق والعرب الكبير مظفر النواب قد جعل القصيدة السياسية شريانا يمتد بين قلب الإنسان العربي وقضيته , وان ثورة النواب العامية هي ثورة إبداعية كبرى لم تبزها حتى اليوم أي ثورة أخرى في الوطن العربي , و النواب هو الأنموذج العملي الجسور للشاعر الشجاع الثائر الذي حمل قضية أمته من العراق إلى ظفار فأرتيريا ففلسطين حيث قلب القضية , ولا أحسَب مظفر شطً عن سيرة عُشاق العالم الكبار (أراغون , نيرودا , إلوار , ريتسوس , سعدي ) فقد كان مثلهم شاعرَ الحبّ الكبير , الناطق عن تلك المرأة الريفيّة المكنّاة ب (( قندون الشَّكر)) , لكنّه انفردَ بين الشعراء بمفردة ((المامِش)) النافرة عن طبيعة الرّضا والخنوع , والعصيّة على لسان الرافضين العظام .
اغنيه البنفسج العراقيه سمفونيه الالم والشجن العراقي , اغنيه اسطوريه خالده ستبقى ملك الاجيال وفي ذاكرة الزمن ومن موروث الشعب العراقي ,هي الاغنيه الوحيده في الوطن العربي نظمت وكتبت بدون قافيه وهي قصيده سياسيه وتحولت الى وجدانيه سنة ١٩٧٣ ومنعت لفتره من الزمن , والبنفسج اسم صيدليه في مدينة الناصريه جنوب العراق , وكان رفاق مظفر يجتمعون فيها في الستينات عندما كان حزبهم محظورا , ونظم الشاعر القصيده في مدينة السماوه وتحديدا في سجن نگرة السلمان , اصبحت البنفسج خمرة الأجيال ونشوة الحياة الأبدية ولذة الوجود المستمرة , لن يأتي الدهر بمثل البنفسج مابقيت الأيام ودارت الافلاك سمفونية الجنوب الرائعة , التي احببناها ايام الصبا وهاهي اليوم ترافقنا أيامنا الأخيرة , سمفونية سومرية خالدة سافرت مع الزمن آلاف السنين كانت تنتظر كلكامش آخر ليسطر ملحمة أخرى تضاف إلى تاريخنا العراقي الجنوبي , قد يكون المخاطب بهـذا النـداء شخصاً أو حزباً أو شعباً أو جماعة معينة , يستحضرها عقل الشاعر , وهـنا ( مكرالإيحاء ) في محمول المفردة النوابية , لأن تشغل بـال المتلقي في مسألة التأويل لما يرمي إليـه الشاعرفهـذا الحلم هـو (( مامش بــمامش )) أي لاوجـود له على الطبيعة أو في المتناول الملموس , لأن كلمة مامش تعني في العامية العراقية لاشئ , فكل الاحـلام مامش في مامش , أي لاشئ على الإطلاق , ومع ذلك يبقـى هـذا المامش خيط أمـل تتعـلـّق بـه الروح , لأنه يرمز الى شئ في داخلها ولا تستطيع التخلي عنه أو نسيانه , لذلك هو حاضر دائما في خلجات هذه الروح , بمعنى هـو جزء من وجـدانها القائم أبـداً , وعلى ضوء ذلك يناشد الشاعر هـذا الوجـدان بــ (( طـبع كَـلبي من اطباعك ذهـب )) إذن هـناك قـدسية وإجلال لهذا الكـائن المخاطـب , لأن الشاعر يستوحي منـه طـباع روحـه والتي هي بمثابة ذهــب خالص أي سيماء الصفاء والصدق والأصالة قائمة في طبعه , وفق المـفهـوم العراقي لهذا المصطلح.
#صباح_حزمي_الزهيري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟