|
الإسلام وأزمة القيم في العالم المعاصر: رؤية حضارية بديلة
حمدي سيد محمد محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8252 - 2025 / 2 / 13 - 09:14
المحور:
قضايا ثقافية
عند البحث في تاريخ البشرية عن نموذج تطبيقي واقعي للقيم، نجد أن الإسلام قدم رؤية شاملة تجمع بين البعد النظري والتطبيقي، وتُظهر كيف يمكن للقيم الأخلاقية أن تتحول إلى منظومة حضارية متكاملة. فمنذ ظهور الإسلام، كان محمد ﷺ النموذج الأول لتجسيد هذه القيم، ليس فقط كرسول، بل كقائد ومصلح اجتماعي ومؤسس لدولة قائمة على مبادئ العدل والرحمة والتكافل. وقد استمرت هذه القيم في التأثير عبر مختلف مراحل التاريخ الإسلامي، وأصبحت ركيزة أساسية في بناء المجتمع الإسلامي، قبل أن تتعرض لموجات من التحديات نتيجة للتدخلات الاستعمارية والاضطرابات السياسية في العصر الحديث.
إذا نظرنا إلى واقع الجزيرة العربية قبل الإسلام، نجد مجتمعًا قبليًا تحكمه النزاعات والصراعات، حيث كانت القيم السائدة قائمة على العصبية والهيمنة القبلية، ولم يكن هناك نظام موحد ينظم العلاقات بين الأفراد أو القبائل. غير أن مجيء الإسلام أحدث تحوّلًا جذريًا في الفكر والسلوك والنظام، بحيث أصبح الإنسان العربي الذي كان يعاني من الفوضى والجهل جزءًا من مشروع حضاري متكامل، يقوم على العدالة والمساواة والمسؤولية الاجتماعية. وهذا التحول لم يكن مجرد تغيير سطحي في السلوكيات، بل كان ثورة شاملة طالت مختلف جوانب الحياة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ما يميز النموذج الإسلامي عن غيره من التجارب الفكرية والفلسفية أنه لم يبقَ في إطار التنظير، بل تحول إلى تجربة عملية أثبتت نجاحها على أرض الواقع. فقد أقام النبي محمد ﷺ أول مدينة تقوم على أسس مدنية وأخلاقية واضحة، وهي المدينة المنورة، حيث لم يكن المشروع مجرد إنشاء كيان سياسي، بل كان بناءً لمجتمع متكامل يعتمد على القيم القرآنية في تنظيمه، بدءًا من العدل في القضاء، مرورًا بتكريس مبدأ الشورى في الحكم، وانتهاءً بإرساء قيم التكافل الاجتماعي والاقتصادي. فقد نقل الإسلام الإنسان العربي من مرحلة الفوضى إلى مرحلة التنظيم، ومن الانغلاق القبلي إلى الانتماء لدولة قائمة على مبادئ واضحة، وهذا التحول كان أحد أعظم الإنجازات التي شهدها التاريخ البشري.
وإذا قارنا هذا النموذج بتجارب فلسفية أخرى، مثل الفلسفة اليونانية، نجد فرقًا جوهريًا بينهما. فبينما كانت الفلسفات اليونانية، كالفكر السقراطي أو الأفلاطوني، تعتمد على التأملات النظرية دون تطبيق عملي واضح، استطاع الإسلام أن يجسد منظومته الفكرية في واقع ملموس. فنجد أن سقراط، رغم أفكاره حول الفضيلة والعدالة، لم يستطع تغيير المجتمع الأثيني، بل انتهى به المطاف محكومًا عليه بالإعدام، وأفلاطون ظلّت مدينته الفاضلة مجرد حلم لم يجد تطبيقًا، وأرسطو، رغم عمق تحليلاته الأخلاقية والسياسية، لم يستطع التأثير حتى على تلميذه الإسكندر المقدوني، الذي كان قائدًا عسكريًا دمويًا بعيدًا عن أي التزام بالقيم الفلسفية. أما الفلسفات الأخرى، مثل الرواقية والإبيقورية، فقد بقيت أفكارًا فردية لم تغير مسار التاريخ أو تنشئ نموذجًا حضاريًا مؤثرًا.
على النقيض من ذلك، فإن الإسلام لم يكتفِ بالتنظير، بل وضع قواعد عملية لبناء المجتمع، وأثبتت هذه القواعد فاعليتها على مر العصور. فقد انتشر الإسلام في أرجاء العالم، ولم يكن انتشاره مجرد توسع جغرافي، بل كان تمددًا لمنظومة قيمية أسهمت في بناء حضارات قوية، امتدت من الأندلس غربًا إلى الهند شرقًا، وأنتجت علومًا ومعارف أثرت في تاريخ البشرية. وقد شهد التاريخ الإسلامي مراحل مختلفة، شهدت فيها هذه القيم صعودًا وهبوطًا، لكنها ظلت راسخة في وجدان الأمة، حتى في الفترات التي تعرضت فيها الدول الإسلامية للانهيار السياسي أو الاحتلال الأجنبي.
وفي الوقت الذي عادت فيه أوروبا لإحياء الفلسفات اليونانية بعد العصور الوسطى، كان هذا الإحياء مستندًا في جزء كبير منه إلى الترجمات الإسلامية للفكر اليوناني، والتي لم تقتصر على النقل، بل أضافت إليها من خلال النقد والتحليل والتطوير، كما فعل ابن رشد وابن سينا والفارابي وغيرهم. ورغم ذلك، لم تستطع أوروبا بناء حضارة قائمة على القيم مثلما فعل الإسلام، بل اتجهت نحو تعزيز الفلسفات النفعية والمادية التي ساهمت في تكوين عالم يعتمد على الإنتاج والاستهلاك، ويعاني اليوم من أزمة قيم حقيقية.
النظام العالمي الحديث، رغم تطوره العلمي والتكنولوجي، يعاني من غياب المرجعية القيمية، حيث تهيمن عليه سياسات القوة والاستغلال الاقتصادي، مما أدى إلى انتشار الحروب والصراعات الاجتماعية والتدهور البيئي. وهذا الواقع يُعيد طرح السؤال الجوهري حول الحاجة إلى نموذج أخلاقي متكامل يمكنه أن يعيد التوازن إلى العالم. وفي هذا السياق، يُطرح الإسلام كخيار قادر على تقديم إجابات حقيقية لهذه الإشكاليات، ليس فقط من خلال منظومته القيمية، ولكن من خلال نجاحه التاريخي في تحويل هذه القيم إلى مشروع حضاري متكامل.
إن العودة إلى النموذج الإسلامي ليست مجرد استرجاع للماضي، بل هي ضرورة لاستعادة المعنى في عالم يعيش أزمة أخلاقية عميقة. فالفكر الإسلامي الأصيل لا يقوم فقط على العلاقة بين الإنسان والطبيعة، كما هو الحال في الفكر الغربي، بل يضيف إليها البعد الإلهي الذي يمنح الحياة غاية ومعنى. وهذا الفرق بين "حمل الأمانة" كما يطرحه الإسلام، وبين "التطويع والاستغلال" كما يطرحه الفكر الغربي، هو ما يجعل الإسلام قادرًا على تقديم نموذج حضاري مستدام، يمكنه أن يعيد توجيه البشرية نحو قيم العدالة والرحمة والمسؤولية.
#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الوعي والعقل: جدلية الإدراك والوجود في الفكر الفلسفي
-
النظرة الاستعلائية في الحضارة الغربية: الجذور التاريخية والت
...
-
من التطور إلى التفكيك: كيف تؤثر علمنة الدين على المجتمعات ال
...
-
الأخلاق السياسية وحقوق الإنسان في فكر ديتريش بونهوفر
-
الفيزياء الحتمية والمعادلة الكبرى هل يستطيع العلم فك شفرة ال
...
-
السياسات العامة: رؤية شاملة لإدارة الدولة والمجتمع
-
الدولة في الاشتراكية رؤية روزا لوكسمبورغ نحو التحرر والديمقر
...
-
الدفاع الفلسفي عن وجود الله: رؤية وليام كريج في مواجهة الإلح
...
-
إسرائيل كأداة للهيمنة الأمريكية: قراءة في الأدوار والوظائف ا
...
-
الحروب الناعمة والعلاقات العامة: صناعة السرديات وإعادة تشكيل
...
-
الأمن القومي العربي بين الواقعية السياسية والتحديات غير التق
...
-
حق العودة الفلسطيني: جوهر القضية أم عقبة أمام التسويات السيا
...
-
الوجود الإسلامي في أوربا: بين العزلة والاندماج
-
الموت في الفكر الفلسفي: بين الوجود والعدم
-
الدارك ويب: الوجه المظلم للإنترنت بين الحرية والجريمة
-
الولايات المتحدة والسياسة الخارجية: من الهيمنة إلى التراجع؟
...
-
التغير المناخي: التحدي الأكبر في تاريخ البشرية وآفاق المواجه
...
-
أحمد الشرع من ميادين القتال إلى ساحات الحكم: تحول استثنائي ف
...
-
فلاسفة ما بعد الاستعمار: نقد الهيمنة ومسارات تحرير العقل وال
...
-
تعزيز ثقافة المساءلة والشفافية في العالم العربي: تحديات الحا
...
المزيد.....
-
ميونخ.. إصابة 15 شخصًا بحادث دهس بسيارة
-
بالفيديو.. شاهد لحظة انفجار غاز مميت بمركز تجاري بتايوان
-
مي كساب بمسلسل -المداح 5- في رمضان وتأجيل -نون النسوة-
-
بيدرسون: الانتقال السياسي الشامل هو السبيل الوحيد لمعالجة ال
...
-
القنصل الروسي في إسطنبول: مباحثات بوتين وترامب فرصة لاستئناف
...
-
روسيا.. اكتشاف مادة في الطحالب البحرية تحمي خلايا الكبد من ا
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك
-
الجيش الإسرائيلي: إطلاق النار على فلسطيني عند مدخل قاعدة بال
...
-
الرئيس الإيراني: واشنطن تدعم القتل وتتهمنا بالإرهاب
-
فرنسا.. إصابة 10 أشخاص بانفجار قنبلة يدوية في حانة (فيديو)
المزيد.....
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أنغام الربيع Spring Melodies
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|