|
هواجس جديدة 297
آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 8251 - 2025 / 2 / 12 - 13:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الكثير من المثقفين السوريين كانوا منبهرين بالغرب، وثقافته وفكره وتطوره وقيمه، وتنويره. لكن بعد وصولهم إلى الضفة الأخرى، إلى الغرب، اكتشفوا أن هناك بشر، دولة ومؤسسات تغريبية قاتلة، عادوا وارتدوا ثيابهم القديمة، طلبًا للسترة والأمان. اكتشفوا أن العيش في جلباب الأب أكثر دفئًا وحنية وراحة نفسية من الاغتراب القاتل، الغريب عنهم. وعلموا أن ثقل الحداثة المركزية عليهم، خشنة وثقيلة للغاية، ولا تناسبهم، وأن الهزات العظيمة الي تعرضوا لها اثقلت كاهلهم.
امنيتي أن أرى المسلمين يعودون إلى النصوص المكية، ربما نستطيع أن نرمم ما يمكن ترميمه. لقد قدم، محمد محمود طه، المفكر والباحث، حياته على مشنقة النميري، من أجل مستقبل أفضل للسودان والمنطقة والمسلمين والعرب. كفى ضياع وعنف، نحتاج إلى حياة أمنة، وهذا موجود في هذه النصوص، ارحمونا، لقد تعبنا كثيرًا أن نبقى مشردين، حطام بشر. مفهوم الجهاد لم يعد مجديًا في هذا العصر الغريب، الذي تجاوزنا بآلاف السنين، علينا أن نكون واقعيين قبل أن يأخذنا الطوفان
اليمين يقتات على ما هو موجود، ليعيد تدوير ما هو مدور. بمعنى، هذا اليمين كارثة على كل الصعد، ليس لديه نهج البناء أو خطط التطوير للمجتمع والدولة، ولا يفكر في فتح جبهات عمل جديدة، يأخذ ما هو موجود ويشتغل عليه وتدويره. الحرب أو السلاح هو زاده، ونهجه الفارغ فيه الكثير من المزايدات والاستعراضات البايخة، لأنه مفلس في كل جوانب الحياة، بمعنى هو غير مبدع وغير منتج، لأنه عمليًا نتاج عطالة ذاتية فكرية وإنسانية وسياسية وأخلاقية، تكوينه معطل لحركة التاريخ. الأرهاب سلاحه لإثبات وجوده.
اليهود الشرقيين لم يبدعوا، أنهم مثلنا، لا زالوا يعيشوا في الماضي. اعتقد أن اليهود الغربيين، تطورهم وتحضرهم، وابداعهم هو نتاج التنوير والحداثة الغربية، وليس بوصفهم يهود حاف أو جامد. انشتاين ألماني وماركس وفرويد، وجوزيف بروير، وسبينوزا. لم اسمع يهودي شرقي قدم أي إنجاز فيه شيء يعتد به. حركة المجتمع والدولة، السياسي والاقتصادي والاجتماعي، تطوره هو المنتج للمبدعين الأحرار. المكان وشروطه يفرض حضوره على الإنسان أما سلبًا أو إيجابًا.
مأساة أوكرانيا لا حدود لها، مرة تدخل في مواجهة عسكرية وسياسية مع روسيا لا مكسب لها، بل خسارة. فبدلا من مساعدتها في إعادة أراضيها، أصبحت اليوم في وضع يرثى لها، عليها أن تدفع لامريكا ثمن السلاح الذي قدمته لها، ولأن اوكرانيا لا تملك المال للدفع، لهذا خيرها طرامب أن يستولي على المعادن النادرة تحت اراضيها. هذا أول باشتان أن يستولي على تحت أراضيها، أما ثاني باشتان، على أوكرانيا أن تجري انتخابات في الربيع القادم، واكيد زيلنسكي سيخسرها، وسيقدم للمحاكمة، وربما يسجن أو يعدم بتهمة الخيانة الوطنية، الباشتان الثالث على أوكرانيا أن تخفض سن التجنيد إلى الثامن عشرة من العمر، والباشتان الرابع هو ايقاف المساعدات. تعرت أوكرانيا المسكينة، مات مئات الآلاف من شبابها، وضاعت أراضيها واليوم مثقلة بالديون، خراب مدنها، عدا عن الفقر والدمار الذي حل بها. شيء واحد كسبه زيلنسكي، تحول إلى بطل من ورق، وطاف العواصم واستقبل كالأبطال
أيلون ماسك، والصين ظاهرتان صادمتان ستغيران مفهومنا للعالم كله. ماسك أعجوبة من عجائب العالم، حول ناسا إلى ألعوبة بيديه، بل تستشيره في أغلب أعملها هناك انتقالات هائلة أو تحولات هائلة في عالمنا في كل المجالات، عالمنا يطير فوق عالمنا والواقع والخيال.
على اليهود أن يشكروا نبوخذ نصر لأنه أخذهم إلى بابل، نقلهم نقلة نوعية، تجلى ذلك بالانتقال من حياة الرعي والتخلف إلى حياة الاستقرار والمدنية. وله الفضل الأكبر في تشكيل حاضنة قومية لهم تجلى بكتاب اسمه، التوراة، للملمتهم من الشتات، ووضعهم في بوتقة دينية وقومية، وحافظ عليهم من الآندثار والضياع. صحيح أنهم لم يخرجوا من عقدة الاضطهاد البابلي، ومفهوم الشتات السياسي بسبب الترحيل القسري من ديارهم، وما زالوا يبكون على ذلك، بيد أن هذا الترحيل وثقافة عقدة الاضطهاد شكل لهم هوية يتحدون بها مع هذا العالم. وصنع لهم قضية، ورفع من شأنهم، وفتح لهم سوق واسع لإبتزاز العالم كله، كما أنه وحدهم. من يجيد تسويق دونيته بذكاء، يجيد الابتزاز باقتدار. أخطر أنواع البكاء هو البكاء السياسي الذي اجادوه، والذي تحول مع الزمن إلى قنبلة موقوته جاهزة للانفجار في أية لحظة في الأخرين. بسبب هذا البكاء، أصبح اليهود فوق مستوى البشر سياسيًا وأخلاقيًا، وتحولوا إلى صاعق كهربائي يضرب كل من يقترب من حدودهم، وفرضوا أنفسهم بقوة المال والسلطة إلى فئات اجتماعية منفصلة عن البشر، وعنصرًا غير مسموح الاقتراب منه. سومر الطوفان، التكوين، الجنة، البحث عن الخلود، مسروقات نسبوها لأنفسهم وهو للشرق برمته والعالم.
اتمنى أعرف كيف تعيش هذه الأيام يا بشار، كيف تأكل أو تنام. لقد أصبحت مهزلة الكرة الأرضية، كائن مرذول وقميء ومكروه ومطارد من أكثر من جهة ومكان. اليوم تعاني كما عانى المجتمع السوري من الخوف والقلق والتوتر، والحياة الغير أمنة، عيونك على الشبابيك والشوارع والطرقات، تضع الاحتمالات الكثيرة حول مستقبل وجودك ووجود أولادك وزوجتك في هذه الحياة. تتساءل كل يوم، أين ستحاكم، وفي أي زنزانة ستقبع، وفي أي سجن ستنزل، عينك على حركة أي إنسان يمر من الشارع خوفا من أن يروك. ربما بوتين لن يسلمك، لكنه أصبح كبيرًا في السن، وصل إلى مرحلة استهلك نفسه وجسده، وحان وقت موته. سيأتي بعده بوتين أخر يبيعك أو يسلمك للسوريين، ربما يضعوك في قفص ويدورن بك في شوارع دمشق، ويجرسوك أمام من هب ودب وسط التصفيق والتهليل والبصاق والتفل ورمي البندورة المعفنة عليك. اخطأ والدك انه وضعك في هذا المنصب، كان كبيرًا عليك، وعلى أبوك. اليوم، أنت يا بشار إنسان محروق، إنسانيًا واجتماعيا وسياسيًا وأخلاقيا وقيميًا، ووجوديًا، بل أصبحت عبئًا على نفسك وعلى كل قريب كان بالقرب منك. ومن كان معك، اليوم يتبرأ منك، يتعامل معك كأنك شبح مخيف. السلطة تركتك، واليوم انت عاري، لقد تخلى عنك الجميع كمريض مصاب بالجذام، مرضه معدي، لهذا يخافك كل من كان يعرفك مخافة أن تعديه بمرضك. إذا وصلت سوريا يا بشار، خلال ثوان سيمزقوك، سيتحول جسدك إلى لا جسد، ستتلاشى بالكامل.
ملحمة جلجامش كانت الحاضنة الثقافية لأغلب آداب وفلسفات وثقافات العالم شرقًا وغربًا. لقد خلقت هذه الحاضنة البيئة أو البذرة التي مهدت لبروز رائعة هوميروس، الأوديسة والألياذة، وفسحت المجال لبناء واقع ثقافي جديد وأرض فلسفية في أرض الأغريق. ومن هذه الملحمة أخذ اليهود ثقافة دينهم، وساهم عيسى ابن مريم، ومحمد ابن عبد الله في نشره وتكريسه كواقع على مدى آلاف السنين. ما زلنا نتنفس الثقافة السومرية الأكادية إلى يومنا هذا، ولم يخرج شعب من شعوب العالم من ثنائية جلجامش انكيدو أو الصراع بين الثقافة، المدنية والطبيعة الحرة. في داخل الملحمة القصيرة عبر كثيرة، وأفكار كثيرة مثيرة جدًا، كقصة الخلق من الطين مجبول بدم الإله، الطوفان، جنة عدن، وجرى تطوير لأفكار الملحمة في بقية الثقافات العالمية. وفيها صراع المدينة والمدنية في مواجهة الطبيعة، الحياة السياسية والتنظيم العالي ضد الحياة الطبيعية. اتصور أن الملحمة تشير إلى انتقال الإنسان من البدائية الطبيعية إلى الحضارة الحالية. وفي الملحمة ذاتها انقلاب الأدوار بين جلجامش المدني وانتقاله إلى الطبيعة للبحث عن الخلود، ومحاولة انكيدو ابن الطبيعة الاستقرار في المدينة. ودائمًا كان انكيدو في المقدمة للتضحية به على مذبح المدينة. وما زلنا في أدوار البطولة. بالنسبة لي ملحمة جلجامش إنجاز إنساني رائع، وما زلنا نعيش في حقبة ثقافته. أما الدين فليس اكثر من خرافة وتخدير للعقول، وتمت سرقة الكثير من نصوص جلجامش ونسبها لنفسه. لقد تأثر اليهود بثقافة بابل أثناء وجودهم في هذه المدينة العظيمة في فترة نبوخذ نصر
لقد استطاع الدين أن يغطي الجوع البشري للمعرفة، من أجل بناء عالم مفهومي يقرب الإنسان من نفسه، ويعزز في نفسه الإحساس بالأمان. وإن يبعده عن الغربة النفسية العميقة الذي كان يعانيها في حياته، ويركن إلى إعادة التوازن بين داخله المضطرب والعالم الخارجي المخيف، ويفكك الاغتراب. كانت الضرورة الوجودية تستدعي خلق المطلق، كنوع من التواطئ بين الإنسان وذاته، ومع هذا المطلق، أراد ردم الهوة مع عالمه المضطرب المتماوج. الدين كان حقل الأمان بالنسبة للإنسان في زمن البدايات، عندما الجهل يسود ويسيطر عليه، ويشعره بالخوف من كل ما يحيط به. في زمن العلم، وتفكيك ألغاز الطبيعة، ومعرفتها وتسخيرها لخدمة حياته لم يعد هذا الدين يناسب عقله الذي تجاوز الدين. الدين صديق الجاهل، أحدهما يساير الأخر، ومهمة الدولة تشجيعهما.
كنت حاملًا فيثارتي على ظهري متجهًا نحو المعبد، لأعزف مقطوعة موسيقية بحضور الملك والفرقة الموسيقية لمدينة أوروك على شاطئ دجلة. كان الوقت مساءً، والإنارة تلقي بظلالها على جدران المدينة المملوءة بالنقوش والزخارف الجميلة، بأبعادها الفنية. كانت المركبات ذات العجلتين التي تجرها الخيول والثيران، تسير في الشوارع والحارات والأسواق، تأخذ الناس إلى شأنهم، وتعيدهم إلى أعمالهم. في وسط المدينة بالقرب من مقر الملك، رأيت رجلًا ضخمًا، رث الثياب، حافي القدمين، يشحذ المال ليأكل. اقتربت منه، دققت في ملامحه جيدًا، رأيته خجولًا، أناخ بوجهه بعيدًا، بعد أن عرفني. قلت له: ـ أنكيدو، يا سيد البراري والغابات، والمياه الينابيع العذبة، ويا صديق الطبيعة والوحوش البرية، من فعل بك هذا؟ قال لي: ـ الزمن يا صديق. الزمن دوار، متقلب، يتقلب مثل دوار الأنهار المتقلبة، رماني في غربته. كنت إنسانًا متصالحًا مع نفسي، سعيدًا. أكل ما تجود به الأرض، وأشرب وأنام على فراش الأرض والسماء، جاء جلجامش ومعه تلك المرأة الجميلة. ـ أعرف ما حدث لك. كانت القشور والحراشف الغليظة والسميكة تسكن جسدك وعقلك وروحك، وأن تلك المرأة حررتك من قسوتك وغلظة حياتك وحولتك إلى إنسان. ـ بيد أني كنت سعيدًا بنفسي. صحيح أنني لم أر المرأة سابقة على هذه القديسة، ولكن الأمر أختلف الأن بعد أن عرفتها وعاشرتها. جاء بها هذا النصف إله، الذي كنت أظنه صديقًا، هذا الجلجامش، وطلب من هذه المرأة الساحرة، الغانية، مغنية المعبد أن تغيرني، وبعد أن غيرتني تركتني في حرماني. غنت لي الأغاني العذبة، ورقصت معي وأمامي تحت ظلال القمر بصحبة الغانيات الأخريات، ثم تعرت ودخلت في عورتي ودخلتها، وكشفت ما كان مستورًا. عشت في صحبتها سبعة أيام بلياليها، أشرب العسل وأكل العسل وأنام في العسل. ظننت أن السعادة هنا، جئت إلى أوروك بصحبة الناس المرتدية أجود أنواع الثياب وعلى أجسادهم أجود أنواع العطور، دخلتها كالأبطال أو الفاتحين، ثم تركوني لقدري وذهب كل واحد إلى شانه، حتى هذه المرأة، العاهرة القديسة لم تبق. رحلت مع رحيلهم. جلست وحيدًا في وحدتي، ليس في حوزتي صنعة أو حرفة اقتاد منها طعامي، ولا مالًا لأبني لنفسي بيتًا ويكون لي زوجة وأطفال. جاؤوا بي إلى أوروك، سرقوني من عذوبة البراري إلى غربة المدينة دون تحضير مسبق. أنا اليوم لا أعرف ماذا أفعل، وبعد أن أبتز جلجامش قوتي تركني لقدري وحيدًا شحادًا أجول في الشوارع ألتقط بقايا الطعام، والقليل من النقود لأشتري لنفسي القليل من الخمر أدفئ فيه ما تبقى من الحرارة في عظامي. أحن إلى البراري يا شمش، إلى حيث الخلاء والنسيم والصمت الجميل. سئمت من هذه الحضارة الثقيلة، من الجدران والحدود والحواجز. أحن إلى تلك الينابيع العذبة والأنهار الخالدة والأراضي المفروشة بالعشب وشقائق النعمان والنعناع البري. ثم صرخ أنكيدو تلك الصرخة العظيمة، رأيت جدران أوروك تتشقق وتنشق، وتتفتت، ثم أنهار كل شيء، البيوت والمعابد والسوق، وخرج الرجال والنساء عرايا من عريهم، من الثياب، يصرخون ويولولون، ويبكون على أطفالهم وشيوخهم. بدأ نهر دجلة في الارتفاع إلى أن وصل إلى سبعة أقدام زيادة عن معدله. وتدفق إلى كل مكان مكتسحًا ما تبقى من دمار. هربت إلى أعلى التلال والماء يركض ورائي إلى أن وصلت إلى مكان آمن، نظرت خلفي إلى الحضارة الممزقة الغارقة في موتها باكيًا، حزينًا، قلت: هذا حنين أنكيدو إلى أنكيدو الأول، صوته هو الانفجار الأول والأنفلاق الكوني الغاضب الذي أطاح بجلجامش ومن معه. خُلد أنكيدو، ومات جلجامش. وجاء الماء علي وأخذني إلى جلجامش
الفلسفة الرواقية هي المنتج العملي والفعلي للديانة المسيحية. الديانة التي عملت على تمييع الصراع، تخفيف ثقل الصراع على البسطاء ووواقعهم القاسي. الوعد بالجنة بدأت مع المسيحية، حرفت عقول الناس، أجلت آلامهم وأوجاعهم عبر وعد مزيف بهذه الجنة الكاذبة. السلطة كمفهوم عندما تدخل في أي فكر، تفككه، تحوله إلى جثة، إلى رميم.
في الحرب يتذكر الناس الأبطال وينسون الجنود المجهولين. ويتسلق المرتزقة المناصب
الطريقة التي هربت فيها الولايات المتحدة من أفغانستان شبيهة إلى حد كبير بهروب عائلة الأسد. المسألة لم تكن اعتباطية أو خطأ في الحسابات، استلام وتسليم، للتشويش. الفارق بين الضفتين، أن الشعب الأفغاني خاف على مستقبله خاصة المرأة، وناس بكوا على خروج الأمريكان، بل صعد الكثير من الناس على الطائرة للهروب، خوفًا من الهمج، الطالبان. نظام الأسد همجي أكثر بكثير من الأمريكان، لكنهم محتلين، مع هذا فضل الكثير من الناس أن يبقوا تحت احتلالهم على البقاء تحت احتلال همجي محلي. سقوط الأسد مكسب سياسي وأخلاقي وإنساني للمجتمع السوري، إلى هذا الحد، وبس، كان عليهم أن يقولوا للشرع وجماعته، شكرًا لكم انقذتونا من نظام همجي قذر ووسخ، لكننا لن نصفق لنظام همجي أخر. صحيح أنا بعيد عن سوريا، لكن تجاربنا تشير أن التعامل مع هذه الجماعات اللاتاريخية هو كارثة بحد ذاتها، بمعنى، الهمج لا يبنون دول معاصرة، وحريات وديمقراطية وحقوق، أنهم معروفين للجميع إلا للبسطاء. أنهم ينتمون إلى أيديولوجية بدائية، واسقاطه على العصر هو مطب كبير، لنا في إيران المتخلفة اسوة سيئة لممارسة السلطة. أعرف أن كلامي لا يعجبكم، لكنه واقعي، وكفى تبرروا لسلوكهم وممارساتهم.
في عمر الخامسة، تعلمت القراءة والكتابة إلى حد مقبول. في العام 1963 فتحت الدولة مدرسة للأميين، لكبار السن، وكان والدي بينهم، كانت الدروس تعطى ليلًا. في المناجير، الضيعة الصغيرة، المطلة على الخابور الشامخ، الشاب المتألق، المتأنق دائمًا، يحيط به التلال العالية، والأراضي السهلية. أغلب الحرفيين لم يكونوا يحسنون القراءة والكتابة، لهذا إذا جاءت رسالة لأحدهم، يذهب ثلاثين كيلو متر مربع للبحث عن قارئ له. في الصف المسائي، كنت أدور بين العمال، أصحح لهم كيف يمسكون القلم، كيف ينطقون الحرف والكلمة، كيف يكتبون، أنظر إليهم كيف كانوا يستغيثون كالأطفال يطلبون مني أن اساعدهم، وأحيانًا كانوا يضحكون على أنفسهم. ما أن أنتهي من معالجة حاجة أحدهم، التفت قليلا فأسمع أصوات كثيرة، تريد المساعدة مع القليل من التذلل. الأحرف كانت كبيرة لمساعدة الطلاب وترسيخهم في ذاكرة كل طالب، لكن الفوضى في الصف والصوت العالي كان يخرب العمل.
عندما تكتب لا تجامل، لا تتهرب من المواجهة، لا تخف، أكتب كوحش، كأنك في حرب، قاتل أو مقتول، أو توقف وأصمت، الناس سيقرأون ما تكتب. إذا بقيت صفحة بيضاء لن يمسك أي إنسان بسوء، بمعنى ستصبح كائن يكمل الرقم ثماني مليارات من البشر الخام. فلز رديء.
الديمقراطية السياسية، يحتكرها طرف واحد في النظام، هي المراكز. أما الأطراف تستطيع أن تدخل البيت الديمقراطي بالعمل الجاد والدؤوب، عبر نكران الذات من أجل مستقبل حقيقي. عليهم أولًا، تحطيم المعابد المتكلسة، والأصنام الميتة.
أغلب المثقفين، كان خروجهم أو هروبهم من سوريا لإعادة ترتيب رغباتهم الداخلية، أمراضهم، وتنظيم هوسهم في الارتقاء. هل شكل هؤلاء فراغًا فكريا أو ثقافيا في البلد حتى يأتي واحد سلفي، رجعي ليحل محلهم؟ اعتقد، أنهم كانوا فائض عن الحاجة، سابقًا ولاحقًا، ولم يصبحوا أوروبيين، ولم ينفصلوا عن البداوة، بل زادوا تعلقًا بها، من موقع المتعالي المرتاح. ثقافة البداوة راسخة، لا يهدها سوى طوفان نوح عليه الصلاة والصيام والسلام. لا استعلي على أي إنسان، أنا من ضمن الجوقة المختلة، المراوغة، الذي يقول شيئًا ويمارس غيره.
الإله المعاصر هو التكنولوجيا، إله متطور، رشيق، ذكي، خفيف الظل، لا يفرض نفسه عليك، بيد أنك لا تستطيع تجاهله أو غض الطرف عن وجود، له قيمة سوقية عالية جدًا. مشكلتنا معه، أنه قوي، مقاتل شرس دون سلاح ناري، لكنه سيأكل كل الآلهة السابقين عليه، ويحطمهم أو يتركهم حطام. كل زمن له إلهه، وإله زماننا يشبه زمنه، وكل جديد يلغي الذي سابقه. فيا أخي، أيها المواطن العالمي، بادر على تحطيم ماضيك وإلهك، لتنتقل إلى عصرك، لتفهمه، وتنتمي إليه. إن العيش بين الأموات أو مع الأموات لم يعد يجدي نفعًا. الحرية هو أن تفهم عصرك، وتصعد إلى الأعلى معه.
لأنك لست صانعًا لنفسك، للأشياء المحيطة بك، لوجودك، تشعر بالغربة، تشعر أنك مستقل عن نفسك، عن الوجود المحيط بك، عن وجودك. أنت مسكين أيها الإنسان، مسكين ومفكك الاوصال. على الرغم من أن يدك خاوية لم يحيط بك، فهناك من صنع لك أشياء وأشياء كثيرة، تكنولوجيا، مؤسسات، شركات، ويدك الخاوية البعيدة عنك، زادت استقالتك عن عدة استقلالات كثيرة، ليس الأول أو الثاني أو العاشر أو المئة، أنما ملايين الاستقالات. فأنت مستقل عن مستقل عن مستقل، لهذا فأن غربتك مركبة عدة مركبات وتركيبات، لهذا تحتاج إلى أكثر من مئة إله، ربما مليار إله، يرمم لك أمراضك وعقدك وطفرات وجودك. في السابق كنت أنت هو أنت، كان هذا الإله وحيدًا مثلك، أحدكم يفهم على الأخر، أما اليوم فقد فككت إلهك وغربته بعد أن غربت نفسك. من يستطيع أن يفكك غربة الإنسان، اغترابه الموجع، من يستطيع أن يعيده إلى نفسه؟ من؟ حتى في لحظة الالتحام العابرة، يصنع هذا الإنسان لنفسه خنادق وفجوات ليبقى عائما على وجوده، ثم يتذمر، ثم يشكوا، ثم يبكي ويتأفف من الفراغ والخواء والوحدة الذي هو بها.
الإنسان المكبوت لا يستطيع أن يصرخ أو يبكي، أنه يداري خجله، لا يعلن عن نفسه، يخنق الصوت القادم إلى فمه. إنه مخنث نفسيًا، مهزوم إراديًا من أسباب فشلنا، أننا نساير هذا الكبت الطويل القابض على أعناقنا، ليس على الصعيد الجسدي والنفسي فقط، وأنما في كل مجالات الحياة، في الأدب وفي أغلب أنواع الفنون والبحث والفكر. وإذا تعمقنا أكثر، سنرى أن هناك بتر في شخصيتنا، هذا البتر الصغير، الشرخ، الشق، لا تراه العين المجردة، يحتاج إلى عين خبيرة تتغلغل إلى الأعماق لتخرج ذلك المعدن الصدى، المهترئ. المكبوت يسلك الطرق المتعرجة، الطويلة، بنفس قصير، يحاول أن يقطع الغابة دون فأس أو يتصدى لوحوش الغابات دون سيف أو رمح. المكبوت كائن مهزوم قبل أن يهزم، ويتوقف عن العطاء قبل أن يعمل. قتل الكبت مهمة الثقافة، مهمة معرفة الذات قبل الإعلان عن البدء.
التأمل في هذا الكون فيه وعي فائض، والفلسفة أيضًا. هذا الوعي الفائض، صراع من أجل امتلاك الواقع، أو لنقل حيازته. العقل لم يعرف الحيازة، يعرف التملك. الصراع جاء من أجل الملك. الكتابة عبارة عن استعارات ليس بالضرورة أن تكون حقيقية او تلتصق بالواقع أنها إشارات ترمز إلى الغاية القريبة من التأمل.
يعاني أغلب الناس من الاضطهاد الخارجي، يعطيهم حصانة للتمترس حول النفس ومحاولة حمايتها، وكأن هذا الخارج هو العدو الوحيد الذي يهزه أو يضعفه. إنه يضع كل ثقله على الخارج دون أن يفكر في ترميم داخله، وكأن هذا الداخل محصن ولا خوف عليه. ينسى المرء أو يتناسى أن الحصانة الداخلية هي الدفاعات الأولى لمواجهة التهديدات الخارجية له. الإنسان الضعيف، يبدأ ضعفه من ذاته، لهذا لا يستطيع إيقاف التيارات الهوائية الباردة التي تجتاحه. اللبنة الأولى هي الاساس، البيضة، ومن يخرج من اللبنة الأولى ضعيفًا سيبقى العمر كله ضعيف.
لماذا قتلتم سلوان مونيكا يا مسلمين؟ لقد أراد مونيكا لكم الخير، كان خائفًا عليكم، وعلى مستقبلكم، لقد قال لكم تعالوا نتحاور، لكنكم لم تقبلوا. القرآن كتاب لا يعرف من ألفه، أنه نكرة لنا، لا نعرفه، قرأه مليارات البشر، أنه أكثر كتاب يقرأ في العالم، وله آلاف المفسرين، لكن لم يصدف أن خرج أحدهم علينا وقال أن هناك مفسران يتشابهان في قرأته. إنه كتاب لغز، وهذا اللغز الذي دفع مونيكا ليتكلم عنه، وينبه العالم، ليخرجوا باستنتاجات قريبة لفهم البشر، أنه مفسر مثل آلاف المفسرين، لم يصل إلى حجة يرضي فيها ذائقته العقلية أو الجمالية. إنه إنسان أقل من عادي، كان يحتاج منكم أن تشفقوا عليه، لكنكم حمقى، يدكم والمسدس والزناد والقتل دون وازع من ضمير. لقد قتلتموه في بيته، وفي دولة أوروبية، السويد، مسحتم عاركم، بارتداء عار العالم منكم. ماذا استفات الأمة الإسلامية من هذا القتل؟
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هواجس واسئلة ــ 396 ــ
-
هواجس حول الثقافة ــ 395 ــ
-
هواجس ثقافية وسياسية ــ 394 ــ
-
هواجس إنسانية وثقافية ــ 393 ــ
-
هواجس التاريخ ــ 392 ــ
-
هواجس وهواجس 391
-
هواجس خاصة وعامة 390
-
هواجس أدبية ــ 389 ــ
-
هواجس متعددة 388
-
هواجس في الحياة ــ 387 ــ
-
هواجس عن قراءات متعددة 386
-
هواجس عن العلمانية والإسلام ــ 385 ــ
-
هواجس اجتماعية وسياسية عامة 384
-
هواجي عن سجن تدمر ــ 383 ــ
-
هواجس أدبية ودينية ــ 382 ــ
-
هواجس ثقافية ــ 381 ــ
-
هواجس عن الاستبداد والعلمانية 380
-
هواجس عن الاستبداد ــ 379 ــ
-
هواجس أدبية 378
-
هواجس 377
المزيد.....
-
ميونخ.. إصابة 15 شخصًا بحادث دهس بسيارة
-
بالفيديو.. شاهد لحظة انفجار غاز مميت بمركز تجاري بتايوان
-
مي كساب بمسلسل -المداح 5- في رمضان وتأجيل -نون النسوة-
-
بيدرسون: الانتقال السياسي الشامل هو السبيل الوحيد لمعالجة ال
...
-
القنصل الروسي في إسطنبول: مباحثات بوتين وترامب فرصة لاستئناف
...
-
روسيا.. اكتشاف مادة في الطحالب البحرية تحمي خلايا الكبد من ا
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك
-
الجيش الإسرائيلي: إطلاق النار على فلسطيني عند مدخل قاعدة بال
...
-
الرئيس الإيراني: واشنطن تدعم القتل وتتهمنا بالإرهاب
-
فرنسا.. إصابة 10 أشخاص بانفجار قنبلة يدوية في حانة (فيديو)
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|