|
عُيون اللازَورد ... قصة قصيرة
حامد خيري الحيدر
الحوار المتمدن-العدد: 8250 - 2025 / 2 / 11 - 20:47
المحور:
الادب والفن
مُتردداً مَرَق بهدوء من بوابة الكاتدرائية التاريخية الكبيرة في مدينة لوند وحَرارة شهر حزيران على أشدها، ثم أخذ يَتلفت في أرجاء المَكان مَذهولاً بكبره وقِدمه، مُتمعناً بهندسته وتفاصيله البنائية العَتيقة، كانت الكاتدرائية بقاعتها الكبيرة الواسعة وأروقتها يَسودها الصَمت المٌطبق، رغم تَجوال العديد من الزائرين والسائحين والمُهتمين بالتاريخ الكنَسي والمعماري، بعضهم يوقد الشُموع في مَناضد الدُعاء آملاً بتحقيق أمنياته ونَيل المَغفرة من رب العِباد وأبنه المَوعود، وآخرون وقفوا يتَطلعون مَبهورين بالتماثيل والأيقونات المُنتصبة على الجُدران وفي الأركان، التي تُصوّر مُعجزات وأعمال الرُسل والقديسين المَبعوثين في مُختلف العُصور والأزمان، فذاك يُعلّم وثانٍ يَدعو ومثله يَتعرض للعَذاب وآخر يقتل الشّر، كانت جميعها تَدعو للرَهبة والخشوع. لاحَظت لفتاته الحائرة إحدى القائمات على خدمة الكنيسة وإرشاد الزائرين لها، لتبادره السؤال عن حاجة يَطلبها أو مَعلومة يَوّد مَعرفتها، أجابها بصوت خافت وهو ينظر حوله بخَجلٍ يُماثل تلقائية الأطفال، مَخافة أن يَسمعه أحد الموجودين في الكنيسة.. (أحتاج الى التحدث مع أحد القَساوسة هنا)، على إثرها طلبت منه الانتظار قليلاً رَيثما تتمكن من الاتصال بإدارة الكاتدرائية كي تُرسل من يأتي لمُلاقاته، لم تَمض أكثر من دقائق مَعدودات حتى جاءه قَس شاب طويل القامة نحيل الأطراف ببدلته الدينية السوداء، ذَكرّت هيئته مُباشرة برياضي القفز العالي، ليَسأل نفسه مُبتسماً رَغم حَرَجه.. (أليس الأجدر بهذا الشاب أن يَتخصّص بإحدى رياضات ألعاب القوى بَدلاً من الانخراط في سِلك التَديّن ومَنح المواعظ للناس؟)، ثم فكر.. (أن الدورة الأولمبية على الأبواب، وهو بقوامه المَمشوق هذا سيَكسب أحد الأوسمة بالتأكيد، ويكون عندها قد خَدم السويد ونال مَحبة وتشجيع آلاف الناس، أكثر بكثير من هذه المهنة التي لا يُبالي بها أحد). كان قد تَعرض الى مشكلة خاصة أحتار في كيفية حَلها أو التَصرف حيالها، لم تكن عائلية ولا حتى ضمن بيئة العمل، كما أنها ليست مُعضلة مالية يُمكن أن تُقضى مع أحدى التَسهيلات المَصرفية، أو إدارية يَتيسر قَضائها مع واحدة من الدوائر الرسمية، ليَشكو تفاصيلها الى زميلٍ له في العمل الذي نَصَحه باستشارة أصحاب الموعظة في الكنائس لأخذ المَشورة منهم، ربما كان لديهم من الآراء السَديدة والأفكار الحَصيفة ما يُمكن أن يُسعفوه بها، كي يَرتاح من ثُقل هَمّها الذي رافقه أياماً عديدة وأرّقه ليال طوال ليست بقليلة. بعد أن أبدى للقس رَغبته بسَماع ما تقوله الكنيسة بصَدد مُشكلته، طلب منه مرافقته الى جَناح آخر، يبدو أنه مُعدّ لمثل هذه الأمور، سار خلفه بانقياد تام لا حَول له ولا قوة، عَبر مَمرات ضيقة موحشة تقبض النفوس، جُدران أحجارها سوداء بلون الفحم، أنيرَت بأضواء خافتة تَنبعث من شُموع صغيرة تَم توزيعها على مسافات مُنتظمة كل بضعة أمتار، جَعل ذهنه يَستذكر ما كان قد قرأه عن سجن الباستيل الرَهيب في باريس الذي استولت عليه جُموع الثائرين إبان الثورة الفرنسية، ، حيث بَدت له الكاتدرائية من خلال هذه الدَهاليز الكئيبة بصورة أخرى مُغايرة لا علاقة لها على الأطلاق بما يُظهره شكلها عند مَدخلها وقاعتها الكبرى. بَعدها دخل مع مُستقبله حَجرة صغيرة تنخفض ببضعة دَرجات عن الأرض، بَدت كأنها سرداب لدفن الموتى، جَلسا على كرسيين صغيرين من الخشب القديم يواجه أحدهما الآخر، ليُفاجئه القَس بكلمة واحدة لم يكن ينتظرها أو يَتوقعها، قالها بهدوء غريب.. (أعترف!)... فوجئ بما سَمعه واعتقد للوَهلة الأولى أنه لم يَفهم ما قاله صاحب النصيحة والموعظة، التي رَددها على مَسامعه مَرّة أخرى بصوت أعلى هذه المرة.. (أعترف!)، اللعنة! هل نحن في مركزٍ للبوليس أو أحدى المؤسسات الأمنية في بلدان العالم الثالث، عن أي اعتراف يتحدث هذا الأخرق، هل ظن أني مُرتكبٌ لخَطيئة أو ذنب كبير يَستوجب التوبة والغفران؟ هكذا فكر بسرعة مع حاله، ثم أخذ بعد أن تَدارك شيئاً من أفكاره طرح مُشكلته الحَياتية بكلمات مُقتضبة مُتلعثمة وجُمل قصيرة مُبعثرة، أنسته تفاصيلها صورة المكان وهَيئة الرجل بوَجهه الأصفر الخالي من الحياة، الذي لا يختلف بشيء عن أحد تماثيل الشَمع في متحف مدام "توسو" في لندن، مما جَعله يَمقت اللحظة التي فكر بها بالقدوم الى هنا. ما كاد ينتهي حتى أخذ القس يُحدثه بشكل مُباشر ودون أن يَدع للتأخير مجالاُ كي يسرق شيئاً من وقته الثمين، وبكلام مُبهم أشبه بالأساطير القديمة، غير عابئ بمَفاهيم التطور أو ما حَدث ويَحدث في العصر الحديث، ودون أن يَذكر او يُلمّح من قريب أو بعيد الى واقع الحياة في القرن الحادي والعشرين.. أخذ يَحكي له عن طيور تَطير تحت الأرض وحيوانات ترتقي الى السماء، وأناساً كانوا سَماسرة ولصوص أو بغايا أمتهّن مِهنة الجَسد، تاب عليهم الرَب الغفور الرحيم فجأة وبغفلة من الزمن، أصبحوا بطرفة عَين قديسين أتقياء تَرعاهم الملائكة، يظهروا هنا ويختفوا هناك، لهذا الشعب أو ذاك المجتمع، مُبشرّين الناس بالفردوس السَماوي الأعلى، ليَستمر بكلامهِ هذا من دون انقطاع، وكأنه يَسرد حكاية أعتاد ترديدها للأطفال الصغار كي تأخذهم سِنة من النوم. لم يفهم من مُجمل الكلام شيئاً أو يَترسَّخ في ذاكرته بَعضاً منه، ولم يَجد أي رابطٍ أو علاقة بين هذه الثَرثرة وفَحوى مُشكلته التي جاء لأجل أيجاد حل لها أو فكرة تُمكنه من مُجابهتها، حيث بدا وكأن هذا الرجل كان حافظاً عن ظهر قلب لما قاله دون أية تفكير بطبيعة المَشاكل والقضايا التي تطرح عليه، بعد أن صَوَّر له تفكيره المُتحجّر المَحدود بأن كلامه الذي لم يُعرف أوله من آخره بمَثابة دواء وبَلسم مُخدّر، مُناسب لكافة العِلل الانسانية والآلام المجتمعية وأنواع الالتهابات الفكرية، التي قد تَنال أحياناً من بَصيرة الانسان وتَماسك عَقله بسبب ضُغوطات الحياة والعمل. وأخيراً وبعد أن شَعَر بأن مُخيلة مُحدثه قد تاهت بعوالم اللاوعي ودُخولها مَرحلة الهَذيان، نَهَض القس بسرعة مُعلناً نهاية اللقاء وخاتمة الحديث وهو يقول.. (هل ارتحت الآن؟)، ربما كان يقصد بقوله.. (ها هو ساذج آخر قد اصطادته شِباكي)، نظر إليه نظرة قاسية ذات مَغزى لا يَدري إن كان قد استوعبها من كان يتكلم باسم الله أم لا، مَفادها..(لقد ارتحت فعلاً لكن ليس بسبب ما رَددته من كلام بغبغائي اختلطت أركانه وتَشابكت أوصاله، بل لأنك أنهيته أخيراً، وأني سأغادر هذا المَكان مُتحرراً من كآبته وضيقه). سار بهدوء في تلك المَمرات الضيّقة كما دخلها وهو يتبع القس من دون أي كلام، غير مُصدّق أنه سوف يَخرج ويَرى نور الحياة الزاهية من جديد، ثم عند باب الكاتدرائية تَرَكه موَّدعاً مع ابتسامة مُصطنعة لا تخلو من خُبث شيطاني قائلاً له.. (لا تَنسى ما حَدثّتك به)، ليَرّد عليه في قرارة نفسه.. (اللعنة!! ماذا قلت أنت بالأساس حتى أنسى أو لا أنسى، حديثك لم يكن سوى هذياناَ ساذجاً لم أستفد منه بشيء ومُشكلتي ظلّت كما هي من دون حل). حال خُروجه ألقى بنفسه على أريكة خَشبية عند حديقة الكاتدرائية غير عابئ بالشمس القاسية التي تُلقي بأشعتها عليه، مُتلفتاً يَميناً ويَساراً ليُمتّع نظره بصورة الناس وكأنه يَراهم لأول مرة، وهم يَسيرون ذهاباً وإياباً بمَلابس الصيف مُبتسمين يتلقفون أيام حياتهم بضَحكات عَريضة مُتحدين مُنغصّاتها بمَرَح يُحسدون عليه، لاعنّاً نصيحة زَميل عمله البَلهاء واقتراحه الساذج بالقدوم الى هذا المكان، نادماً على الوقت الذي أهدَره وأضاعه بالاستماع لذلك السَرد الفارغ، لتمّر دقائق قليلة دون أن يَشعر بأن جَسده بعد هذا اللقاء وحرارة الجو قد أنقعه العَرَق، حتى أن مَلابسه قد التصقت عليه بشكل مُضحك، وألهبَ فَمه العطش الشديد الذي جعل لسانه يُصاب يالتيّبس. سَرقت نَظره حانة كبيرة عند الطرف الآخر من الشارع مَحشّوَة بالزبائن الهاربين من حرارة الشمس، يَبحثون فيها عما ما رَزق الله عباده بأنواع الخمور والمَشروبات الباردة المُنعشة، ودونما شُعور وكأن عصاً سحرية كالتي كانت يوماً بيد "موسى" قد أخذت تُسيّره وتقوده، قطع بعشوائية الطريق دون أن ينتبه لمُرور السيارات أو مناطق عُبور السابلة، أقتحم الحانة مُتوجهاً بشكل مباشر الى منضدة البار، ليَجلس على أحد الكراسي العالية المُقابلة لواجهته التي صُّفت على رُفوفها بنَسق جميل مُغري شَتى أنواع المَشروبات الروحية بمُختلف الأصناف والمَذاقات، كان زبائن الحانة مُختلفي الأعمار والهيئات، شباب وكهول، فتيات يافعات ونُسوة عجائز، جميعهم باسمين فرحين، كلٌ يَحتسي منها ما يَشتهي ويَرغب، مُستمتعاً بالمكان الهادئ اللطيف الذي زَيّنت جدرانه لوحات وصور لفنانين وفنانات من مختلف بقاع العالم، وتصدح من أركانه الأغاني الهادئة والموسيقى الناعمة، لتَرتاح بسَماعها الأنفس وتطيب لها الارواح المُتعبة. استقبلت جَلسته نادلة حَسناء، بوَجه أبيض كالثلج وعُيون زَرقاء بلون اللازورد، يُتوج رأسها شَعر ذهبي قصير، ترتدي قميصاً من الحرير الأبيض مع شريطٍ من الدانتيل الأحمر عَقدته بشكل وَردة حول عنقها، تُجمّل ثَغرها ابتسامة مُشرقة أجمل من البَدر ساعة اكتماله، بادرته السؤال بصَوتٍ رَخيم ساحر تذوب لسَمعه الأوصال وتَرتجف لوقعه المَفاصل ماذا يُحب أن يَشرب، أثارت الفتاة بعُيونها اللازوردية الجَذابة في نفسه شُجون الصِبى وأيام شباب مَضى ورَحل وعُمر سافر بطريق الأفول، ليجيبها بفمٍ مُتلعثم من شِدة العطش، بعد أن أربك أوصاله جمال الفتاة.. (كأسٌ كبيرة من البيرة القوية المَثلجّة مع صَحنٍ من الزيتون الأخضر)، وماهي إلا لحظات حتى كان طلبه قد غدا أمامه، سارع بأخذ رَشفة طويلة أجهز بها على نصف كأسه، أحس بعدها بارتياح ونَشوة حلّق بها حتى أطراف السماء، وهو يَتمعن بوجه النادلة وتفاصيله الأخّاذة، وكأن هذه العُصفورة القريبة منه قد جَرّدته من كل قواه، ليَغدو أمامها مُجرد مَخلوق ضعيف لا حول له ولا قوة. تَوارد الى ذهنه تَساؤل مَشروع يُلامس حَتماً مُخيلة كل من عَشق الجمال وسافر في حُلمه، رَددَّه مع نفسه وكأنه يُحدث كأسه التي غَدت على أعتاب النفاذ.. ( يا ترى كيف صنع الله هذه التحفة الانسانية الرائعة؟ وكم من الوقت أستغرق لإتمام خَلقها بهذا التَناسق البَديع، الجامع بين الجسم المغزلي الرَشيق وسيماء البشرة ولون الشَعر؟ والأدهى من كل ذلك كيف أضاف بهذه اللمسة الجَمالية الراقية، تلك العيون اللوزية الزَرقاء اللازوردية الى رَونق الجمال هذا)، ثم قال بصوت خافت لكنه مَسموع وقد بدأ تأثير المَشروب يُدغدغ رأسه.. (اللعنة! لو بُعث فناني عَصر النَهضة الى الحَياة من جديد وشاهدوا هذه الفتاة، لأحرقوا حَتماً من غير أسف ولا نَدم جميع لوحات القديسات وحاملات الصليب التي رَسموها). كان يُفكر بذلك لحظة ثم يَختلس نظره خاطفة من هذه الحَسناء، ثم يأخذ رَشفة من كأسه الباردة مُتجرّعاً إياها مع ابتلاع حَبة زيتون كسراً لمَرارة مَذاقها المُنعش، وفق تَناسق ميكانيكي رَتيب، ذاهباً بعقله الذي اختلطت به الأمور الى أبعاد وفَضاءات غير مَحدودة، تبدأ بمَوهبة الخالق المُفترض في تكوين صورة البشر وتنتهي بقواعد الفن وأساليبه وأنواعه من قديمٍ بالٍ زالَ وأنقرض، الى تجريدي حَديث يُخاطب عُقول الناس ويُعالج قضاياهم، ولم يَشعر بعد أن سَرَقه التفكير إلا بتنبيه ذلك الملاك الجميل لذاكرته، بأن كأسه قد أصابها النفاذ والقحط وإن كان يرغب بواحدةٍ أخرى مثلها، ليَهزّ رأسه بالإيجاب مَأخوذاً بسِحر جمالها الخلاب، لتَسأله بعد أن جَلبت كأسه الثانية.. _ يبدو أنك عَطشان جداً، كأن أحداً كان يُلاحقك؟ رَدّ مُبتسماً وقد أغوته مُبادرتها للحديث معه.. _نعم كان يلاحقني الشَيطان، نعم الشَيطان ذاته دون سواه.. هل تصدقين؟ لقد قابلته وتحدثت معه منذ دقائق، تبّاً له من شيطان! _ إذن أرح نفسك ولا تفكر به، أن الشياطين مَمنوع دخولها حانتنا، هنا لا نستقبل سوى ملائكة المَرح الحالمة بالحياة. أرتاح لجاذبية حَديثها وأنفاسه الرومانسية، ليَسألها عن نفسها.. _ يبدو من لهجتك أنك لست من أهل هذا البلد. _ أسمي "أيلونا"، أنا من هنغاريا وجئت الى السويد لأدرس الفن الحديث في جامعة لوند، وخلال العطلة الصيفية أعمل في هذه الحانة وأخريات غيرها لتَسديد نفقات دراستي ومَعيشتي. كان قد أنهى كأسه الثانية بسرعة كحال سابقتها، ليأخذ مفعولها يُدير رأسه ويُزيل عنه كل خيوط الأحراج.. _ الفن كلمة كبيرة لكنها مُبهمة المَعنى لدى الكثيرين للأسف، لذلك جَعل منها الفنانون الكلاسيكيون أداة لتزويق القُبح وتزوير الحقيقة لمَصلحة من هم بَعيدين كل البُعد عن هُموم الناس. _ وهل ينطبق هذا على "دافنشي" وتحفة "الموناليزا" التي حار الجميع بابتسامتها؟ _ لو كنت مكان "دافنشي" لما ألتفّت ناحية "ليزا جيوكوند" كي أرسمها، فابتسامتها الأرستقراطية المُتعالية التي يُطبّل لها الجميع تبدو زائفة مُصطنعة، كحال جميع الأثرياء في العالم قديماً وحديثاً. _ ومَن تعتقد كان سَيرسم بدلاً عنها إذاً؟ _ ببساطة لو كنت مكانه لرَسمتك أنت. صدرت منها ضحكة هادئة كشفت بها عن أسنان بيضاء صغيرة كحَبّات اللؤلؤ.. _ مَن، أنا؟ لست سوى فتاة بسيطة أعمل في حانة، والفرق كبير بيني وبين "ليزا جيوكوند". ويبدو أن الحديث عن الفن والكلام المُسهَب بتفاصيله، قد أستهوى النادلة الفاتنة لتَستطرق.. _ أتفق معك أن الفن القديم مَليء بالنفاق والتَعالي والفَوقية ولم يُلامس أبداَ قلوب الناس وعقولهم، وغايته الأساسية كانت تركيزاً لسلطة الكنيسة والطبقات المُترفة الحاكمة في المجتمع. رأى في كلمات "أيلونا" عُمقاً يَنّم عن وَعي كبير رغم صِغر سنها، حيث تَطرح أساسيات مَنطق الفن الحديث الذي قوَّض انتشاره الاهداف الخدَّاعة للفن الكلاسيكي التي زَوقتها المؤسسات الدينية الكنسّية الراعية لهذا الفن على مَدى قرون من الزمن. ليَجعله الارتياح من كلامها وهو على أعتاب طلب الكأس الثالثة، أن يَطرح عليها بلا تَردّد خُطوطاً عامة لمُشكلته وحَيرته في حَلها، لتُجيبه مُباشرة بغير استغراب أو تَعجّب.. _ هذه مُشكلة تُشغل بال الجميع تقرياً ومُعظم الذين التقيتهم يُعانون منها، واعتقد أن حلها بَسيط لو اعتمدنا فلسفة وقواعد الفن الحديث الذي أدرسه. أجابها مُندهشاً وباستغراب كبير عن بساطة الحل الذي لم يكن يتوقعه.. _الفن الحديث؟ وما علاقة هذا بذاك؟ _ بل أن المسألة مُتشابهة الى حدٍ كبير، خاصة مع رَسم اللوحات.. أولاً ابتكار خُطوط مُبسّطة تمتد بانسيابية على مساحة اللوحة من دون أن تنتهي بزوايا حادة، ثم إيجاد تناسق بالألوان لتفاصيل العناصر الأساسية فيها، وحتى لو كانت داكنة بعض الشيء فيُمكن تخفيف حدّتها ببعض الأشكال الزاهية التي تجلب الأمل وتبعد النفس عن الكآبة والمَلل، أما الإطار فلك أن تَختار منه ما شِئت وفق ما يُناسب جَيبك، فهو غير مُهم طالما كانت اللوحة نفسها مُقنعة لناظرها وتُعبر بصدق عن وجهة نظر الرَسّام، هذا هو كل شيء ببساطة. _أي كل ما هنالك أن نأخذ الأمور على بساطتها من دون تعقيد من جانبنا، هكذا قالها بصراحة وثقة "أوسكار وايلد".. (الحياة ليست مُعقّدة، نحن المُعقّدون. الحَياة بسيطة، والشيء البَسيط هو الشيء الصَحيح). _ بالضبط! وهذا يَعني أن يُحرك الأنسان عقله في حَل مُشكلته وفق قناعاته ورؤيته الخاصة، وليس من خلال وجهة نظر الآخرين باختلاف أفكارهم، وبذلك تتحقق وجودية الانسان بفكره وإرادته. ثم أردفت بذكاء مُحترف مع ابتسامة عَريضة بعد أن شَعرت بلعثمة لسانه ودوار رأسه، ومن واجبها تنبيهه.. _ هل تريد كأساً أخرى؟ لقد أنهيت الثالثة! ضحك بهدوء شاكراً إياها تذكيره بمقدار ما احتساه، كان بالفعل قد أكتفى وأطفأ لظى فمه المُلتهبة، ثم مع ابتسامة عَريضة دفع ثمن مَشروبه مودعاً إياها وهو يقول.. (شكراً على النصيحة الثمينة، سأخذ بها حتماً). غادر المَكان مُبتسماً مُترنحاً نحو مَحطة الحافلات عائداً لبيته، ناسياً مُشكلته التي غَدت شيئاً من الماضي بعد أن أستدل لسبيل حَلها، هائماً بصورة "أيلونا" التي لم تُفارق مُخيلته، بوجهها الطفولي الجميل ذي الابتسامة الرائقة وعيونها الزرقاء اللازوردية.
#حامد_خيري_الحيدر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة أكتشاف أكبر معبد دائري في وادي الرافدين ... القسم الرابع
...
-
قصة أكتشاف أكبر معبد دائري في وادي الرافدين ... القسم الثالث
-
قصة أكتشاف أكبر مَعبد دائري في وادي الرافدين ... القسم الثان
...
-
قصة أكتشاف أكبر مَعبد دائري في وادي الرافدين ... القسم الأول
-
نظرة على سَد البَند الأثري
-
خلف أسوار السنين .. مشاهدات من واقع المجتمع العراقي ... القس
...
-
خلف أسوار السنين .. مشاهدات من واقع المجتمع العراقي ... القس
...
-
خلف أسوار السنين .. مشاهدات من واقع المجتمع العراقي ... القس
...
-
خلف أسوار السنين .. مشاهدات من واقع المجتمع العراقي ... القس
...
-
خلف أسوار السنين .. مشاهدات من واقع المجتمع العراقي ... القس
...
-
خلف أسوار السنين .. مشاهدات من واقع المجتمع العراقي ... القس
...
-
طرائف الأخبار في عمل الآثار
-
آثار مَنسية في محافظة كربلاء
-
أطفال العراق يقهرون الظلام
-
لغز مَدافن المَلكات الآشوريات في مدينة النمرود
-
كركوك مدينة التاريخ والتآخي والقلعة الشامخة
-
أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الثامن
-
أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم السابع
-
أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم السادس
-
أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الخامس
المزيد.....
-
ديفيد لينش سيد الغموض وأيقونة السينما السريالية
-
الفنانة هدي حسين تكشف أمر سحب الجنسية الكويتية منها بقرار أم
...
-
مفاجأة من والدة الممثلة السورية انجي مراد عن سبب وفاتها وابن
...
-
موت بالا هيقلب الأحداث.. موعد عرض مسلسل المؤسس عثمان الحلقة
...
-
عشاق الإثارة والغموض أنتم على موعد مع الحلقة 180 من مسلسل ال
...
-
المفكر المغربي حسن أوريد: الاستعباد الطوعي نتاجٌ للكبوات الع
...
-
الفلسفة الغربية واختبار طوفان الأقصى
-
اختتام مهرجان فجر السينمائي بدورته الـ46 بطهران
-
تحويل رواية لكاتب روسي مشهور إلى مسلسل بمساعدة الذكاء الاصطن
...
-
شريان موسكو الرئيسي.. شارع تفيرسكايا ومعالمه التاريخية (صور)
...
المزيد.....
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
المزيد.....
|