|
آفاق التنظير القصصي في المغرب في ظل الطابوهات
محمد سعيد الريحاني
أديب وباحث في دراسات الترجمة
(Mohamed Said Raihani)
الحوار المتمدن-العدد: 1793 - 2007 / 1 / 12 - 11:52
المحور:
الادب والفن
مع كل أفق مسدود، يبدأ التفكير والحلم بمسار مغاير وأفق أفضل. وهذه هي مهمة القصة: إعادة تشكيل العالم وإعادة تفسيره وإعادة تجديد الرؤية وإعادة رسم المجرى للحرية الانطلاق والركض... لأن القصة القصيرة تبقى بحثا فنيا عن معنى الوجود وسعيا حثيثا للإمساك باللحظة المنفلتة وإيقاف الصور والذكريات الهاربة أبدا وتخليدها. إن القصة القصيرة شكل من أشكال التعبير والتغيير معا .فالقصة القصيرة كلمة ، والكلمة صورة، والصورة مشروع حياة. لذلك، فالكلمات والصور والأحلام تصبح أشياء واقعية حقيقية إذا ما واكبتها إرادة التحقيق والرغبة في الإنجاز. إن القصة القصيرة الواعية تفتح الخيال على نوافذ جديدة وتنتج عوالم جديدة وتشيع مثلا جديدة وقيما جديدة... وهي في دلك تسلك احد السبيلين: "الصرخة" أو"الومضة". "فالقصة-الصرخة" تفجر موقفا سياسيا أو ثقافيا أو اجتماعيا معلنا وتشحذ الهمم وتعبئ القراء سعيا لتوسيع دائرة التأييد عبر قراءة نص "يفترض" أن يكون فنيا. و"القصة–الصرخة" هذه هي سليلة الأدب الملتزم والعمل الثوري والتعبئة الآنية للمعارك القريبة المدى باستهداف فئات عريضة من القراء وهو أحد النوعين الخالدين في التعبير القصصي لكنه ارتبط في تاريخ القصة المغربية بزمن القطبية الثنائية على المستوى الدولي وبقوى التغيير الاجتماعي والسياسي على المستوى الوطني .. وبانهيار جدار برلين، بدأ الإبداع المغربي يتداول مفاهيم سقوط الأوهام، سقوط الأقنعة، سقوط المعايير الجاهزة، سقوط... والتي لا تعني في نهاية المطاف غير سقوط الشكل القصصي الأول في تاريخ القص المغربي: " القصة-الصرخة" وهو ما يمكن اعتباره بداية لتبني شكل قصصي جديد: "القصة-الومضة". تركز " القصة-الومضة" على " تصوير" لحظة هاربة ثم تضمنها المواقف والرؤى لإيقاظ القرارات في القارئ. والفارق بينها وبين "القصة–الصرخة" أنها تستهدف تغيير القارئ وليس التغيير بالقارئ. ولذلك ف"القصة–الومضة" ليست سليلة العمل الثوري ولكنها سليلة العمل التدرجي.... لكن في الحالتين، تبتعد القصة القصيرة عن أن تكون " شكلا خالصا" مثل الموسيقى أو الرقص أو التشكيل. القصة القصيرة مضمون يعبر عن جوهره بشكله ، أو هو شكل يعبر عن مظهره بجوهره. وما دامت القصة مضمونا فلا يمكنها أن تكون إلا ذات رسالة. والرسالة القصصية تدرجت في تطورها من الشكل الموضوعي المسرود بضمير الغائب والمرتب كرونولوجيا حول وقائع مألوفة على خلفية وعظ أو تعليم أو تحريض أو تشفي ... إلى الشكل الذاتي المسرود بضمير الأنا وغير المنضبط للترتيب الزمني حاصرا موضوع النص في "مضامين" و"إيحاءات" ذاتية غير مألوفة. إنه تطور من سيزيفية السعي لتفعيل الحق في المساهمة في ترشيد مسارات الشأن العام "الموصد" في وجه العموم نتيجة تعقد السبل والإرادات المؤدية إلى دلك، إلى العودة للدات والغوص في اغوارها واكتشاف مكنوناتها واستنشاق قواها واستلهام طاقاتها في أفق انبعات جديد يعدي بإشعاعاته السعيدة المحيط البئيس ويلهمه الطاقة على التجدد والبداية من جديد...
صحيح أن روح جيل كتابة القصة القصيرة في التسعينيات لا زالت لحد الساعة غير واضحة نظرا لغياب تنظير فكري ونقدي يجمع شتات نصوص هده الفترة (التسعينيات) من تاريخ القصة القصيرة في المغرب. ويشرفني أن أؤكد دائما وأبدا نيتي في المساهمة في التأسيس لمدرسة مغربية في القصة القصيرة تجعل المغرب يحتل مكانته بين دول المغرب العربي كعاصمة للقصة القصيرة إلى جانب الجزائر عاصمة الرواية في المغرب العربي وتونس عاصمة الشعر.
ولأن التنظير هو حجر الزاوية نظرا لقيمته المرجعية في فهم كل إنتاج إبداعي، فقد أعلننا عن إطلاق مشروع ترجمة القصة المغربية القصيرة إلى اللغة الإنجليزية تحت شعار » الحاءات الثلاث « على خلفية الطابوهات الثلاث (الدين و الجنس والسياسة). وهدا المشروع الثلاثي الممتد على ثلاث سنوات يتوزع على ثلاث حاءات: حاء الحلم في "انطولوجيا الحلم المغربي" (بمشاركة 15 كاتبة وكاتبا) وحاء الحب في انطولوجيا الحب المغربي" (بمشاركة 20 كاتبة وكاتبا) وحاء الحرية في "انطولوجيا الحرية" (بمشاركة 15 كاتبة وكاتبا) سيمكن من ترجمة 50 كاتبة وكاتبا مغربيا إلى اللغة الإنجليزية. ولكن الأهم هو دور المشروع في فتح آفاق جديدة لمضامين الكتابة القصصية في المغرب، آفاقا واعية بمسؤولياتها التاريخية في رفع سقف الحرية في الإبداع القصصي المغربي عن طريق جعل» الحاءات الثلاث« حاءات خضراء وليست حاءات حمراء. وقد وقفنا بأعيننا خلال توزيع النصوص المشاركة على شح عناية المبدع المغربي بالمضامين المرتبطة ب» الحاءات الثلاث« وخصوصا حاء الحلم وحاء الحرية كما يظهر دلك عدد المشاركين في كل انطولوجيا.
» الحاءات الثلاث« مشروع قصصي "نسقي متكامل وحر" أريد من خلاله مناهضة عيبنا الأول في عيوننا وعيون الآخر (الغرب): التجزيئية في التفكير. فالفكر العربي فكر غير نسقي فكر تجزيئي نما وترعرع بيننا نتيجة تغذيه على المنع التاريخي للفكر المنظم و التفكير الحر (الفلسفة) و هيمنة الرأي الواحد (السياسي والثقافي) الذي لا يسمح بنسق فكري متكامل و مغاير بجانبه. كما يناهض عيبنا الثاني في عيون العالم أجمع: غياب الحرية في التعبير.
فإدا كان البعض يرى في الكتابة القصصية التسعينية استقالة من تناول الشأن العام، فربما اعتبر هدا المشروع القصصي الطموح، » الحاءات الثلاث«، محاولة في التأسيس لوعي قصصي جديد يتجاوز أعطاب الماضي الإبداعي لتجربة التسعينيات القصصية. ولعل أهمها هو اقتحام دوائر العتمة: دوائر المحظور...
فقد عرف المغرب في العقود الماضية منع العديد من الكتب مثل: رواية محمد شكري "الخبز الحافي"، ورواية عبد القادر الشاوي" كان وأخواتها" ، وكتاب فاطمة المرنيسي "الحريم السياسي: النبي والنساء"... وهو المنع الذي يستمد مرجعيته من اقتحام الدوائر المحرمة: الجنس والسياسة والدين.
الطريف أن الروائي المغربي الراحل محمد شكري يحكي أنه ذهب للاستفسار عن سبب منع روايته"الخبز الحافي " لدى الجهات المسؤولة فقيل له أنهم لم يمنعوا روايته، وهو ما يعني أن الرقابة أو المنع كانت في مرحلة سابقة "مطلبا جماهيريا" في المغرب قبل أن تصبح أداة في يد الدولة لمراقبة وضبط الخطاب العام... لكن أخطر أنواع الرقابة التي على الجميع الوعي بها والعمل على التحرر منها هي "الرقابة الذاتية" وهي نتيجة عصور من الرقابة على الواجهتين الجماهيرية والنظامية على الذوات الفاعلة عبر التاريخ. أما اليوم، فإن كانت هناك مناطق محظورة اليوم على الكاتب المغربي فلا أحد يحظرها عليه غير نفسه. فإن وعى بها وتحرر منها أنار واستنار، وإن جهلها أعاد إنتاج البهرجة والتهريج واللعب بالألفاظ والتصنع المقيت المعروف في تاريخ أدبنا العربي. فما معنى الكتابة والإبداع عموما إن لم تكن دعوة للحرية وإضاءة للمناطق المعتمة من حياتنا؟ ما معنى الكتابة إن لم تكن رفعا لسقف الحرية كل مرة إلى ما هو أعلى؟...
أتذكر مقالة بليغة للكاتب و الصحفي المتفرد إبراهيم أصلان عنونها «نحن ما نقرأه » وهي عبارة بليغة تحاكي المثل العربي المعروف:«كل إناء بما فيه ينضح»، فإن كانت كتابات مبدعينا حرة عاشقة وحالمة، قرأنا معهم الحلم وتنفسنا معهم الحب والحرية؛ وإن كانت كتابات قصاصينا غير الحرية وغير الحب وغير الحلم، قرأنا معهم غير الحرية وتنفسنا معهم غير الحب وعشنا معهم بغير حلم.
#محمد_سعيد_الريحاني (هاشتاغ)
Mohamed_Said_Raihani#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
على هامش اليوم العالمي لحقوق الإنسان:تاريخ التلاعب بالمباريا
...
-
لا ديموقراطية بدون ديكتاتورية الواجب وقدسية الحق وشرعية الفع
...
-
الأغنية العربية المصورة:الكائن والممكن
-
أزمة الأغنية العربية من أزمة الشعر العربي
-
حتى لا ننسى : مليكة مستظرف كانت هنا
-
رهانات الأغنية العربية الغدوية
-
محنة الاسم الفني في الوسط الغنائي العربي
-
حوار مع الصحفية والقاصة والشاعرة الجزائرية زهرة بوسكين
-
قصة قصيرة : إخراج تافه لمشهد تافه
-
قوة الحلم في القصة المغربية الجديدة - قراءة لنصوص انطولوجيا
...
-
مشروع “أونطولوجيا الحلم المغربي”:الخلفية والتصور والأدوات
-
طقوس الكتابة وطقوس السحر يتقاطعان على مستوى التحضير والاستعد
...
-
مشروع “أونطولوجيا الحلم المغربي”- النافذة المشرعة على حديقة
...
-
قصة قصيرة : كاتب
-
جون جونيه: بين البحر والسجن والمقبرة
-
قصة قصيرة شذرية : سياحة جنسية
-
شهادة: القصة القصيرة شكل من أشكال التعبير والتغيير
-
قصة قصيرة - الحياة بالأقدمية
-
قصة قصيرة - تنمية
-
نص قصصي: شيخوخة
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|