|
عناصر منفصمة
محمد الإحسايني
الحوار المتمدن-العدد: 1793 - 2007 / 1 / 12 - 12:05
المحور:
الادب والفن
عناصر منفصمة 1 قصر البرزخ
نصف غاف في حمى الكدامة والكرم. كرم. وأي كرم ! تكسر ارتطام نور على حاجز الحانة الخشبي المبرنق. بقايا إهراق دم البابلية تحت إسقاط الضوء منذ زمان. ( باق يطلب الباقي). (سيكون الطريق إلى درب الأحباس صعباً. أنت أثملتك أكواب من "ديبونه"، وحثالات سمك مقلي، ستواجهك ناطحة سحاب تنبثق نحو السماوات على أنقاض الماضي. لون العمارة أبغث. أكثر من خاطرة ومشروع يتحرك في اتجاه مستقبل مجهول. السبائك الذهبية تستوردها بقدر معلوم، ثم تبيعها بثمن السوق. العملية تدور في مكتب صوري بالمدينة. عمليات أخرى تديرها بنفسك أو مع الأصدقاء، بين طنجة والبيضاء ونيويورك، تدر عليك مبالغ محترمة، لا يكلفك الأصدقاء كثيراً، ينزلون في أفخم الفنادق، ثم يرحلون إثر انتهاء كل صفقة. و"دانتيلا" العروس القابعة في خزانة قصر البرزخ في طنجة ؟ أما أتارث تساؤلات الساذجات من العوانس نحوك كزوج كهل ، تتقبله العين للحظات؟ حقاً، كل واحدة منهن تعيش عروساً لحظة معينة. وصور الأوضاع الشاذة تصدر مهربة إلى بلاد السحاب والثلوج، وإلى الصحارى والرمال..؟ لتذهب وظيفة الباشوية في الجنوب إلى الجحيم، أو ترجع... ! أمرت السائق أن يأخذ غيثة إلى سطات، ثم أخذت في العد تنازليا: هاهما قد وصلا إلى نهر أم الربيع ! سألت شيخا من جيل السيبة عن أخبار عرب الشاوية، ودكالة. قال لك: أتدري يا ولدي الحدود الفاصلة بين دكالة والشاوية ..؟ ثم أشار أمامك إلى نهر. كان من الخير ألا تعرفها وألا تحشر أنفك في بئر عبدة ودكالة، من الخير أن ترى وتسمع فقط، وأن تكون جاهلاً حتى النخاع. ... وأرسلت دعوة باسم غيثة الغائبة، إلى زوجة السائق المكلف بنقل غيثة إلى سطات، أرسلت الدعوة مع الشاوش، وعندما حلت في قاعة الانتظار، لم تتورع فهاجمتها بكل قواك ! قاتلها الله ! كانت وردة في بستان حقير ! لا ضير ... طلع اسمك نظيفاً عن علاقاتك مع السلطات الفرنسية. من المتوقع أن تنسل نظيفاً من الفضيحة الأخلاقية كما تنسل الشعرة من العجين، بفضل فصاحة الأستاذ فضول. ... ويسري الاضطراب في رئاسة الضابطة السرية بزنقة بيجو: ثلاثة مخبرين لا قوا حتفهم، من بينهم إيطالي، كان لفقده وقع لدى السلطات الحاكمة، حتى ميلود القهوجي الأسمر تملص من ملاقاتك. أنت الوحيد تأخذك السيارة العسكرية كل ليلة في مهمة، حتى إذا وصلت السيارة إلى الحي العربي، أخرجوك منها مسدل غطاء رأس الجلابية، فتدلهم على منزل فدائي، أو شخص مشبوه فيه، ثم يردونك في سرعة إلى "الجيب" في حراسة مشددة. في إحدى المرات، صبت عليك النساء مياهاً وزيوتاً ساخنة، ورماك الجيران بالجمر المتقد. في كل الجولات تنجو، ومن معك من جنود الاحتلال، بأعجوبة.) استمرت صاحبة الحان تلقي أوامرها إلى النادل: - عبد الله: اكنس الحثالات مع مسحوق النشارة رأساً نحو إناء المزبلة في الشارع ! ظل إيقاع تشاتشتشا ينبعث من العلبة الموسيقية... (تتبلبل الأوساط المحلية. بمقتل أمين تجار سوق الحرية. وجيء بكبور وجعيبة، أبلغ عنهما ميلود القهوجي إلى المراقب المدني. اعتقل رجال من الضابطة السرية، كبوراً متلبساً بتوزيع مناشير تدعو تجار طريق مديونة إلى إضراب عام طويل الأمد احتجاجاً على تعسفات البدو المستقدمين من الجنوب، وانتهاكهم نهباً لحرمة المنازل بأمر من السلطات الحاكمة. بالضابطة، دفعوا بكبور إلى مكتب السيد كاب دوفيل، بحضورك وحضور الترجمان الجزائري: - ما اسمك بالكامل؟ - أنتم تعرفونه جيداً. - لا ... - وإذن؛ فلم اعتقلتموني، وعذبتموني: هل ذلك مسطر في قانونكم؟ وبكى كبور. أول مرة، ترى فيها كبوراً يبكي. هل يبكى الرجال الأقوياء؟ قال كاب دوفيل، كمن يبرىء ذمته: - اعتقلناك بسبب مناشير وجدناها بحوزتك، تدعو الناس إلى الفوضى. ثم بسط المناشير فوق المكتب، مترقباً أن يتكلم كبور. ضغط على زر الجرس، فظهر ميلود القهوجي المخبر، بسحنته الداكنة. فكانت المواجهة. في الأخير، خرج من المواجهة منتصراً على ميلود، رافضاً أي اتهام. ضجر كاب دوفيل، وأصر على متابعة البحث: - ما اسمك بالكامل؟ - كبور ولد عباس. -وأمك؟ طامو بنت معاشو - تاريخ ميلادك - عمري عشرون عاماً - أبوك: حي أو ميت؟ سكت. تناول سيجارة يريد أن يشعلها. صفعه الترجمان الجزائري وعنفه: - اطفىء الكارو يا ابن القوّا... أتظن نفسك في الحمام؟ أعاد عليه كاب دوفيل السؤال: " أبوك حي أم ميت؟". تدخلت أنت: " هرب مع امرأة قبيل الحرب العالمية الثانية إلى الآن..." وواصلوا استنطاقه ... شجعته على الكلام. بصق عليك، وكانت المرة الثانية: المرة الأولى، يوم انسحبت أنت من الدرب، ومن كل القلوب، عدت من فاس، تحمل معك إجازة العلم والعربية، اغتربت أربع سنوات، لتجد الدرب يهش إلى لقائك. بيد أنه لم يعد يشدك إليهم أي رابط أوثق؛ وإن كنت تبدو- كما أشاعت نساء الدرب- رقيق الإحساس، مهذب المنطق، عظيم الاحتفال بالوجود: أنت عالم؛ وهم عوام، أصولي، وأفقههم منكب على الفروع. كنت تفاخر أنك درست التصريح والمكودى على شرح ألفية ابن مالك، قرأت على شيوخك أغلب المختصرات متوناً وحواشيَ في علم الكلام. ناظرت فتخبط الآخرون، اضطربوا منهجاً ومصطلحاً. وجرت على لسانك عبارات انصاعت إليها الألباب، وهفت إليها القلوب. ولكم تبخترت في جلابية بيضاء ! ولكم أنت جالس على كرسيك في أناة تداعب أناملك كتب الأصول والمنطق، ومباحث النظر ! ثم نبذك الدرب كله. حتى موقف والدك، كان مماثلاً لموقف الدرب. ... ويشير عليك المراقب المدني على لسان الترجمان الجزائري: " أنت على ما يبدو، وفير الذكاء، غير منشغل بأخبار المنحرفين والمشاغبين، ولا بأحاجي الأعراب...". ثم يسكت ليستأنف: "غير صحيح مسيو حميد؟ تريد تأسيس مدرسة؟ غير صحيح؟" ثم يدق المنضدة بعصاه قائلاً: " لدينا الكثيرون بعثنا بهم إلى عين مومن، بسبب الأفكار المسمومة. لقد جاءنا تقرير من الإقامة العامة عن مدى إخلاصك لنا وللعموم، بارك الله فيك ! " ارتجفت أوصالك، سألته: - هل كنت مراقَبًا من طرفكم؟ كلمك الترجمان برزانة نيابةً عنه: -عين المخزن في كل مكان. بسط المراقب أمامك غشاء مختوماً باسمك، ألح عليك: -ا فتحه ! فإذا بالأوراق المالية تأخذ بلبك. ضحك، ثم أشار عليك بتمزيق الطلب. ترددت، فشجعك الترجمان: - " الدولة الفرنساوية عندها صوالدة كثير، خذها، وامش في خدمتها، ربي يعطيك صحة !" انبرى المراقب مجدّدًا يشجعك: أعمالنا – جميعاً- لا تنبو عنها العين في الوقت الراهن. - أما أنت، فجمعت الأوراق تحت باعث خفي، في امتنان، تبحبح كالجرو: - نيتنا لم تتجه بالسوء لأحد من الحاكمين، بارك الله فيهم. أما الدرب، فهو غاضب علي، لأنه غاضب دائماً. وما أن نقل الترجمان كلامك إلى المراقب، حتى هب هذا الأخير، واقفاً. ضرب مكتبه الذي يفصلك عنه بقوة مكشراً عن أنيابه: - الناس في حوزتنا. نحن حماة الأهالي. أما أنت، عبدالحميد، أرجوك، فركز عينيك في خالقك. همس إليك الترجمان: " أسأت الأدب يا السي حميد ! " أجبته هو،والمراقب، بعين الهدوء الذي لا يفارقك: - إنها مجرد حالات عابرة. ثم أضفت: - تأدية واجب المخزن تحت نفوذكم، مهمة محفوفة بالأخطار. طمأنك المراقب: - لا شيء يصعب أمام رجالنا ! وكان ذلك بداية السقوط ... ثم إنه قرر أن يدفع بك إلى مدرسة أبناء أعيان المسلمين، في المدنية لتتعلم الفرنسية؛ فقد لمس فيك استعداداً وقابلية للتعلم؛ ولأنك أقرب إلى جنابه من حبل الوريد.ولم تكن الحاجة تدعو إلى ترجمان ! ولكنها الإدارة ! لما عدت إلى البيت، سبقك الخبر، وجدت والدك يتنكر لك في ألم: " أهو ذا ابني عبدالحميد ، ثمرة غرسي، ينحرف. إني لا أصدق أن يمسح جبات الفرنسيين، الذين عجزوا لأعوام قريبة عن حماية أنفسهم، يصالح، يتلقى الحوالات بانتظام. غب! اخرج من بيتي.. !" أبوك يكره السلطات الفرنسية، وحق له ذلك. فلقد شاهد عشرات من عمليات الإعدام: شاهد المجاهدين من الريف، مقيدين بسلاسل في أعناقهم. وفي الضفة الأخرى من ملوية يعلو التهليل والتكبير، ثم يطلق الجنود النظاميون نيرانهم في الفضاء: أما عن المساجين فلا تسأل عن السخرة والضرب ... وعندما علم والدك بسقوط آخر معاقل المقاومة في سوس، هاجر كلية من فاس إلى قيسارية الأحباس، مشتغلا ببيع الأثواب، بعد أن صادر الفرنسيون مكتبته بفاس، بدعوى العجز عن تأدية الضرائب. كرع بقيه من " ديبونه"، تغلغل الدفء إلى جوارحه... ( لم ترجع عن غيك، استمر اتصالك بالمراقب، مرضت والدتك، ثم ماتت. مضت شهور ثم لحق بها والدك.) ... ويعود صوت صاحبة الحان يدعو عبدالله إلى الكنس. (تطأ أقدام بني الإنسان وقوائم بني كلبون حثالات الأشياء. أما أنت فقد زلت بك نعلك في الواطئين. تعال انهض. زاول اشتياقك على أنغام تشا تتشا. إنها أكثر من نزوة ! أعيدت الأسطوانة ثلاث مرات، ولا تزال، تشنف الأسماع: قصر على مشارف البحر الأبيض المتوسط، والمحيط الأطلسي ... والحسان؟ يتنافسن فيه على التقاط الأوراق المالية المتناثرة تحت سيقانهن، ولكن ليس بالأبدي، لأنهن عرايا. لقد انفصمت العلاقة بين اليد والكرم ! فللإنسان أن يتعلم الكرم بطريقة جديدة. قصر بين البحرين، ليلة فيه بملايين الدراهم، الأوراق تتساقط وتتساقط، والمحظوظة من تكون على رأس اللائحة في "الدخلة" للضيف الوطواط، القادم على بساط الريح. الحان، هو هو، حينما تسلمته صاحبته من ممتلكه الأوربي الذي غادر البلاد بعد استرجاع أراضي المعمرين. لم يتغير شيء في الظاهر والباطن، واجهاته الزجاجية المطلة على مفترق شارع لورين (سابقاً)، ستائره العريضة من المخمل، وصفوف من زجاجات الخمور الفاخرة تستقبلك بمرح وبهجة. وآلة عصر القهوة من صنع إيطالي، ثم صفوف من القطعة مختلفة: كلامار، ترموس؛ مما أوجد نكهة خاصة ثابتة فيه، وقد يمتد أريج النكهة خمسين متراً، حسب مجرى الرياح، ودائماً في حركة دائبة. ... وسمع صوتاً يصرخ من أعماقه : " أيتها الصحف المطوية عن ماض مليىء بالمسرات، مكتئب بالأحزان، كوني لي ! اتقدي في الذاكرة حكمة، وفي القلب قوة ! " (العفو ! .. أية حكمة بقيت في الدنيا !. أغلق مكتب مراقبة المطبوعات ... توقفت المطرقة، الجريدة الوحيدة التي تساهم فيها بمقالاتك، تتلقى عن كل كتابة تعويضات) ثم استرجع انتباهه، ليغمسه في حمأة النقاشات، وأجيج المحاجة. الحان حلبة سباق لفرسان الكلام: (حجتنا في أيدينا، في ألسنتنا، هي الكلام، والكلام. هل يتكلم الموتى ! العرب موتى ...). نأى قدر المستطاع، عن خيالات الأهواء، وكان محاطا بأربعة جمعت بينه وبينهم، صداقة الكأس، وصداقة الأنس، على ذمة الحاجز الخشبي للحان، وما بعده هباء. كانوا يتجاذبون أطراف الحديث منذ دقائق: بهيج بقامته المعتدلة، ولهجته الإقليمية القريبة من لهجات محيط الدار البيضاء، لا يعتني بهندامه إلا لماماً، إلا أن من ينظر إليه يتفاجأ بتنسيق زيه، واستمرار انعقاد ربطة عنقه، يزاول مهنة محلل في جريدة يومية حزبية فوق مهنته كأستاذ اجتماعيات في إحدى الثانويات، تارة تصيب تكهناته، وتارة أخرى تخطىء قصدها، ولكنه أبداً مستمر في البحث عما يراه ملائماً لتأملاته. الراضي: شاب طموح، وديع، بسيط في ملابسه: بلودجين، صيفا وشتاءاً، نبتة حقوق الدارالبيضاء. ولد بريك، تجربة وحنكة سياسية، ونضال مع بعد نظر، دخل بغتة في مرحلة الكهولة، مثال الصحفي المحنك الذي لا يعيش بالخبز وحده، فكأنه يجمع العالم حواليه، من خلال نظاراته الطبية، لا يعنيه أن تكون ماركسياً أو ليبيرالياً. المهم أن تواجه الواقع بالواقع، ثم تبحث عن الحل الملائم. سعيد، ماركسي يختفي تحت جبة معلم الصبية الجانحين، مجدور الوجنات، لا يفطن المرء إلى ذلك إلا عندما يعلو وجهه، سورة الشراب وحمياه. إذا جلس أمامك، فكأن جسمه يتمدد ليشغل حيزاً آخر، غير الحيز المخصص له، نظراً لسمنته. رأى بهيج أن في الساحة السياسية تنظيمات متعددة، عزى ذلك إلى الحنين إلى الحياة النيابية.ابتسم سعيد، ابتسامة خفيفة وأردف: - نحن أحوج إلى تصفية الجو السياسي: " تصفية الملفات". علق الراضي، وكان يتأبط ذراع سعاد: - تعدد التنظيمات سوف يعادل نشوء وحدات إدارية جديدة. سعاد ! آه ! برعم من الأجيال الصاعدة، مرمرية البشرة، تتفتق عبقريتها عن مواهب أطلسية، كل شيء فيها قد انفصل عن الماضي تماماً، لم يعد هناك لا سعتر، ولا رائحة خزامى، لكن ثمة طموحاً يجوب الأجواء، إلى الآفاق، آفاق جغرافية أخرى للسياحة؟- ربما. للاطلاع؟ أكيد ! لتنمية معلومات، واكتساب معارف جديدة؟ ذلك أمر لا ريب فيه ! تدخل بهيج رداً على الراضي؛ و سعاد تتناول سيرو نعناع : - ربما ... العناصر السياسية متعددة الإيديولوجيات. ثم صحح: - لكنها عناصر، لن يتحقق وجودها الفعلي، إلا بالانتخابات؛ وعلى المستوى النظري – يضيف بهيج- ستبرز علاقات جديدة بين الجهاز التنفيذي والهيئات. علق ولد بريك: - أفهم من ذلك أننا مقبلون على تنظيم مواجهة بين فرق برلمانية، وبين أغلبية عددية ستنتسب إلى البرلمان بقوة الدفع. - مرحى ! .. ألا يعني ذلك، التدهور الليبرالي؟ لماذا نكذب على أنفسنا؟ ثم تساءل: - أين سيتجه دفع الأغلبية العددية؟ - الأغلبية بالطبع، ستنطق بلسان الجهاز التنفيذي. وانبرى بهيج: - لا تنسوا أن هناك تنظيمات جديدة في الأجهزة الإدارية، وفي إصلاح وضبط العقول الإليكترونية، ربما لأننا لم نألف بعد، الحياة النيابية. ويِؤكد الراضي: - سيكون هناك برلمان في العام المقبل، كما تؤكد المؤشرات. يتشبث سعيد بموقفه: - محو الفروق الطبقية أولاً بين أصحاب الامتيازات وبين المحرومين ... الحزب كافح، يجب الحفاظ، بحذر، على التجربة القادمة. ومشيكة؟ شحاذ غريب، مهلهل الثياب، قطع صوته في تشنج، وبعربية غريبة، فلا هي بفصحى، ولا بدارجة: - ريال، أكرم الله جوار أمكم: ومد الشيخ الذي أزرت به الأيام يده، ينتظر المحسنين. تساءلوا من خلال مزج أصواتهم: - مشيكة: أين الكلب؟ - مات الكلب، وجاء الكلب، ومات، وانبعثت كلاب؛ لكم الحق، حينما سألتم:أين تذهب الكلاب ! آخر كلب رآه الناس معه، كان كلباً جعيد الشعر، يناجيه باستمرار: " أيها الفيلسوف النبيل، صاحبك مات جوعاً في الغربة أو كاد، انحسرت عنه مياه وطنه في الشمال، بسبب حب عنبف. أما أنت يا ولد الهم، فتعيش على البحبوحة؟ صاح بهيج: - زجاجة أخرى شامبانيا على صحتكم أيها الأصدقاء ! وضعت جانيت زجاجة شامبانيا أمامهم. تململت بازدراء، ثم أشارت بعصبية إلى النادل: - عبد الله ! .. أظن أنني حذرتك من هذا الأبله؟ أسرع النادل يدفع بمشيكة خارج الحان، ثم أعطاه ريالا " تيان، من الخير أن ترحل من هنا حالاً." رمق مشيكة صاحبة الحان : " أطوي سري بين جوانحي. دعهم يتحدثون عن الكلاب، وصاحبتهم تتلذذ بأحاديثهم. بالأمس البعيد، كانوا يطلقون علي الدربالي، واليوم مشيكة. كل جيل وغباؤه... آه ! لو علموا ما يحمله قلب هذا العجوز من هوى لجانيت !" لم يتحرك من مكانه، لكنه راح يتصنع المذلة تقرباً لصاحبة الحان." من طردني من جوارك أيتها الحبيبة؟ منذ أن كان فراقنا، انفتحت عيناي على دنيا المنبوذين، دنيا فراغ لا حدود له." لا تكاد مناجاته تُسمَعُ، إلا همساً، وبدارجة فرنسية رقيقة. ردت بنفس اللهجة معنفة: - آسفة، أتسمع؟ (... ويدب إليها الطرب، عندما كنت تحرك أوتار الطنبور وتتملكها حالة غريبة. بل كانت تهيج طرباً بالأنغام. طال بك الأمد، وأنت تقلب بصرك، بينها وبين الأوتار، وتارة بينها وبين كلبك. تلوَّتْ يومذاك في أرضية الشقة مرات عديدة، ولما توقفت أنت عن العزف، توقفت هي بدورها.) وكان قد قاسى من الهجران، إذا باغتته ذات مساء، يدخن متكئاً على الأريكة في هدوء: - بول، سأرتحل حتى أتمكن من التفرغ لأعمالي. تساءل واثقاً أنها لابد أن تعود إليه: - أنى يكن رحيلك؛ فهو قريب مني أستطيع الوصول إليك. وكأنها تقطع حبل الرجعة عليه، أضافت: - سأشارك أسرة جاكوب مسكنها بدرب بن جدية. المسألة لا تتطلب الهزل. وافقها في يأس، ومازال يعتقد أنها لا تستطيع ذلك ! مادام رحيلها أو إقامتها لديه سواءً، فالقلب يعرف طريقه إلى القلب: - طيب... استدركتْ، تود التخلص منه: - سوف أزورك بين الفينة والأخرى إذا أمكن عزيزي، دعني أفعل ذلك. ثم قبلته وحملت حقيبتها. وكانت قد داعبته قبل أن تغادره: - لماذا توقفْتَ عن العزف؟ دون أن يجيب، قام يذرع الغرفة جيئة وذهاباً ثم ندت عنه زفرة تحت تأثير الكمد والتحسر: - هل تجهلين حاجتي إليك؟ تنصلت منه، ثم انفجر : - آن لعلاقتنا أن تستقيم وإلا… وكان لابد أن يتسلل إليها الغضب، إلا أنها كتمت ما في نفسها بحكمة، فأفهمته ببساطة: - كما تشاء، " صديقي القديم": لم يحدث بعد أي شيء. اعتدل دون أن يتأثر بلهجتها التجارية، ولكنه استدرك فيما بعد، الفراغ الذي قد تتركه، فقال: - أي مهمة بقيت لي بعدك في هذا البلد؟ - كن أنت أو غيرك. لا ارتباط لي بأي إنسان ! وهوى على الأريكة. طارت أفكاره، أمانيه. "هل ضل القلب طريقه إلى القلب؟ هناك مسافة شاسعة موحشة". ( توسلْتَ إليها وأنت تبدي بعض المعاذير، علها ترحمك): - سألغي رحلتي المقررة في أول الخميس من أبريل مع الفرقة الأجنبية. الحرب بالنسبة لي لم تنته. وكانت طريقته في إقناع الآخرين: الترهيب مع الحسم في الأمور وقت الشدة. سخرت منه: - بالنسبة لي، الحرب قد انتهت. انتصر الأمريكان على الألمان. رد عليها : - بل الحلفاء هم المنتصرون. جابهته بالحقيقة؛ ويالها من حقيقة ! - اسمع يا بول : حانة بولو تكفي. تهدج صوته، تألمت، عاتبها : - لماذا لا نكون صريحين فيما بيننا؟ أنت لم تتبدلي إلا بعد نزول الأمريكان في المدينة؟ يتهشم الطنبور، فتحول إلى أشطار، ينبح كلبه مرتين ثم هدأ كل شيء. تنحني هي عليه: - إننا لم نتفق بعد على أي شيء، يا صغيري العاق. يزعق في وجهها: - بل انتهى كل شيء ! ومع ذلك، لن أسافر) (وها أنت الآن، بقيت، حيث أنت) نهرته جانيت: - ماذا تنتظر؟ ألم يعطوك النقود. ثم جذبت نفساً طويلاً من سيجارتها قبل أن تخنقها بعصبية في المرمدة. تقاعس عن المضي، لا تهمه النقود، قدر ما يهمه أن يتنبه إليه كريم من رواد الحان تهزه الأريحية، فيعرض عليه ولو كاساً من النبيذ. لم يجد بدا من التحرك، هائماُ في الشارع، ووراءه الحان، وجانيت، وذكرى الأنس بالأمس البعيد. صاح بهيج: - على صحتكم أيها الإخوة ! دفع عبد الحميد بالكاس الفارغة، ونادي جانيت: - كأسا من " ديبونيه" غير مقتولة من فضلك. (يقولون عن العرب إنهم يحسنون وصف الخمر، لكنهم لا يحتسونها كلهم، أنت ستحتسي خمر العرب والعجم) عاد يلح في الشراب، ردت جانيت: - حتى الآن، احتسيت أربعة أكؤس، تناول أولاً من الشامبانيا. أمَّن على قولها: - سأفعل. ترددت هي قليلاً في افتعال ظاهر، ثم وضعت الكأس الخامسة أمامه. وعندما لمح عبدالله ، أمسك بأذنه في عتاب: - لا يقال " تيان"، إنما يقال "تيان" لكلب. وضغط للمرة الثانية على العبارة. ثم صحح: - يقال "تونيه Tenez" أجاب عبد الله بتحد مشوب بالخوف؛ وأذنه لا تزال في قبضة أصابعه: - لكنني أتحدث هكذا يا سيدي. انفعل عبد الحميد: - خاطب العموم بفرنسية أبناء أعيان المسلمين: تعلم أنت، وغيرك أيضاً عربية فصيحة من مصادرها. توددت جانيت إلى عبد الله؛ وهي الرقيب الذي لا تغيب عن عينه ولا أذنه، الشاذة والفاذة، وهي التي كانت قد حذرته في المرات السابقة، معتمدة على تجربتها طالبة أن يقف عند حد معين في المناقشة مع الزبائن إن أمكن، وأن يقيس درجة حرارة المناقشة، أو من الأفضل اجتناب أي نقاش معهم، بل عاتبته هذه المرة: - اسمع ما يقول الرجل... انبرى ولد بريك معلقاً: - عبد الحميد، فقيهنا الألمعي، أنت أسقف سافوا جديد يظهر حالياً في حان جانيت. ضج الحان بالضحك، ونسي رواده خطأ وصواب "الفوكابيلير" (تبا له ! إنه يشير عمداً إلى الفضيحة الأخلاقية مع زوجة سائقك: "ألا تتذكر حملة الصحف الوطنية ضدك تطالب بمحاكمتك. هل هؤلاء الأوباش المتبجحون ثقافة ومعرفة في حكم الخاصة؟ مهما بلغوا من العرفان، فلم ينالوا بعد من العلم ما نالته الأجيال السابقة: ترى هل يدرك ولدبريك مفاهيم القضايا إثيولوجياً؟ ") تمكنت منه الخمرة، فثارت ثائرته: - أنت مجرد عامي، والعوام، خرفان يقودهم تيس أحمق، إذا ولج البحر ولجوه ! قل لي أي تيس تتبع، أقل لك من أنت ! اضطرب الحان، لكن الراضي، بعناده، واجهه: - وأنت تعاقرها، يا سيدي "الفقيه"، صباح مساء، أنسيت دليل التحريم بمقدمتين؟ (فكرت قليلا وأنت على بعض الادراك: ميلاد أجداد الإنسان الأوائل، مقرون بالخطيئة. الخطيئة تجري في العروق. لا مفر من المكتوب. حركت لسانك تغالب الكلمات): - اقتاتوا يا أبناء الأرامل من المزابل الأرسطية، لأسيادكم منطقهم، ولكم منطقكم. (تساءلت في قرارة نفسك: ما المانع أن تقابل العمل السياسي بروح إيجابية، كما فعلت سابقاً بعد انغلاق مكتب مراقبة المطبوعات؟ الفرنسيون، كانوا يلوحون "بقيادة" في ضواحي فاس، لكنهم لم يفعلوا...) (تضغط على رأس الجرس، يدخل عليك الشاوش): - هل بقي في الخارج من أحد؟ - رجل قادم من سوس، في رخصة استثمار أرض جماعية نزعوها منه بالقوة. (تحمست للقضية): - أدخله حالاً. (تقدم الرجل؛ وهو في مقتبل العمر، وسلم عليك بانحناءة، رددت في استعلاء موظف مرموق، آمراً إياه بالجلوس. قبل أن يجلس، مد إليك أوراقاً رسمية تثبت حق استفادته من الأرض. قلبت الأوراق على أوجهها، تبحث عن مدى صحتها، ثم توقفت أمام ورقة مكتوبة بخط مغربي مرونق، سألته لتتأكد): - أنت عبد الواحد السملالي؟ (وإذ أجابك : "أي نعم"، شرعت تتأمل الخط المغربي في إعجاب، مأخوذاً بانحناءاته): "اسمع يا عبد الواحد: لك أن تعتبر المسألة قد انتهت بالنسبة إليك، لكن أن تبحث لي هناك، وبدلائل ثابتة، عن أرومتي، فقد وجدت في وثيقة ورثتها من والدي رحمه الله،أن أصل العائلة منحدر من السوس الأقصى، ولا أدري بالضبط، في أي منطقة. الوثيقة تقول إننا من أهل جزولة، من طائفة انحدرت بدورها، من أرباض سجلماسة، هاجرت إلى الأندلس، وبعد سقوط غرناطة، هاجروا ثانية إلى السوس الأقصى، فاحتضنهم البرابرة، والتحقوا بأنسابهم." (كان عبد الواحد قد يئس من طرق أبواب الإدارات، فلم يسعه إلا أن يترك كل أوراقه أمامك، أعطيته بسخاء، مالا يكفيه، في حله وترحاله، على أن يبحث في كل المكتبات العامة والخاصة في سوس، وأن يسأل الجهابذة، وعلماء الأنساب، وأن لا يقدم عندك، إلا وفي يده، الحقيقة الساطعة، عن آل الواشم وأنسابهم.) (تضعك الجيب في ديزيام بيتيام، بعين برجة: " يا مسيو حميد، تلمس بيدك، سطوح الدبابات والمصفحات، وأفواه المدافع". وعندما تتراجع، يدفعك الملازم فورنيه دفعاً، يأخذك من يدك، ثم يضعها قسراً على الأجسام الصلبة من العتاد الحربي؛ وأنظار الجنود مطرقة إلى الأرض ! أحياناً تأتي بعد عملية الكشف عن فدائيين جدد، متعباً، جائعاً، فتأخذ نصيبك من الغذاء، بجانب جنود الاحتلال. وداخل مكتب فورنيه، يُسلَّمُ إليك الغشاء المالي، بدلاً من مكتب المراقب المدني، نظراً لتطور الحوادث، وانفلات الأمور من يد المدنيين. السياسة بالنسبة إليك، أخذ وعطاء، لاديماغوجيا !) خفتت الأصوات عن المذاهب السياسية، بهتت أضواء النيون، ثم شرع عبد الله في إدخال الكراسي الفارغة.(لا حاجة بك الليلة، إلى تقبيل طانت جانيت، ولا حتى الأصدقاء. ووجدت نفسك تهيم وحيداً، وسط المدينة. يعرقل نسق البنايات، ومشاريع الإنماء، خطاك، يردك إلى عالم الماضي. والقاعدة المضطردة أن تقيس الواقع بما فات، وستبهرك وتبهرهم النتائج. جرجر خطاك في ميرس السلطان. إنك لا تلوي على شيء، لقد لعبت بك الخمرة هذا المساء) ! نادى من أعماقه: - طاكسي ! انفتح الباب الأمامي، ركب في تثاقل، سأله السائق: - الاتجاه؟ - درب الأحباس يا شريف.
#محمد_الإحسايني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مفاكه
-
إحساس
-
الأرامل
-
كل واحد وخرافته
-
شارل بودلير...العامّة
-
فينوس والمجنون
-
إشراقات بعد الطوفان... آرتور رامبو
-
ثقافة الحوار والاحتلاف
-
فلوبير عشية محاكمته
-
إعادة الاعتبار لشارل بودلير
-
البنيوية التكوينية وإشكالية تخارج الإبداع- 1
-
القارورة...لشارل بودلير
-
المغتربون...مجتمع مدني من خلال بيئة قروية
-
القط
-
وسواس
-
البطروس... لشارل بودلير
-
الزجّاج الرديئ..... لبودلير
-
الساعة.....لشارل بود لير
-
المهرج العجوز
-
من هو المبدع؟
المزيد.....
-
“بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا
...
-
المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
-
-هاري-الأمير المفقود-.. وثائقي جديد يثير الجدل قبل عرضه في أ
...
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|