أمين بن سعيد
الحوار المتمدن-العدد: 8249 - 2025 / 2 / 10 - 09:51
المحور:
كتابات ساخرة
هناك حقول ألغام كثيرة، تتطلب تحضيرا كبيرا قبل دخولها... منها هذا الفيلم الروماني، وهو تقريبا من أعنف وأبشع ما شاهدتُ... أبشع حتى من قطع الرؤوس عند الدواعش، ومن السلخ والتعذيب عند العصابات الكولومبية... منذ سنوات وهو عندي أحتفظ به في ملف خاص، يخص "الفن" السابع... أدعو القراء إلى مشاهدته أولا، ثم قراءة القصة القصيرة المستوحاة مباشرة منه... [https://www.lookmovie2.to/movies/play/5002394-illegitimate-0]، طبعا يوجد غيره الكثير، لكنه بقي على رأس القائمة عندي!
٠
28 سنة وقتها... نعم... وعدة أشهر! كنتُ قد بدأتُ العمل قبل سنة... الأمور كانت في بدايتها، لكنها... كانت مقبولة... جيدة إلى حد ما... لم يكن ينقصني شيء تقريبا باستثناء... الوقت... والوقت كان سيأتي لا محالة، ومعه سيأتي كل ما كنتُ أريد... لم يكن عندي شك في ذلك. مع عملي، كانت منى... خطيبتي... وكنا نفكر في الزواج بعد سنتين أو ثلاثة... لم تقبل موقفي في البدء، لكنها اختارت صفي بعد ذلك... ضد أبيها وأمها وبابا وماما... عائلتي غنية، وعائلتها أيضا... لكني قررتُ أن أعتمد على نفسي فقط وعليها... منى... ورفضتُ كل عون من الأسرتين...
كان يوم سبت، وكنا ننوي أن تلتحق بي منى في الغد... الأحد... عند أبويّ... لكنه لم يحدث. عندما وصلتُ المنزل، يوم السبت، بعد الظهيرة بقليل، وجدتُ الجميع... ماما، بابا، سارة وعلاء... سارة أختي الصغيرة 21 سنة، وعلاء أخي الصغير 23 سنة... كانا طالبين وقتها. كنتُ سعيدا بلقاء الجميع، وأمضيتُ معهم عشية جميلة كنتُ أفتقدها منذ مدة... الليلة مرتْ مثالية أيضا، العشاء كان رائعا، ثم السهرة... ثم النوم...
في الصباح، بقيتُ أنتظر ماما... كانت تستيقظ باكرا، قبل الجميع...
- لماذا استيقظتَ هذا الوقت عزيزي؟ انتظر سأحضر لك الفطور
- لا أريد ماما...
- كيف لا تريد؟ ولماذا وجهكَ هكذا وكأنكَ مثمول؟ لم تنم جيدا؟
- لم أنم أصلا ماما...
- لماذا؟
- اجلسي، أرجوكِ واسمعيني...
- بدأتُ أخاف! ما بكَ؟
- أريدكِ أن تسمعي إلى الآخر دون مقاطعتي... أرجوكِ
- أمركَ غريب يا ولدي! لا تجعلني أهلوس! ما بكَ؟
- هل ستسمعين أم لا!!
- تكلم... سأسمع
- اتصلتُ بها... منى، وقلت لها ألا تأتي
- لماذا؟! كلنا ننتظرها!!
- ماما، آخر مرة سترينني في هذا المكان! عليكِ سماعي على الأقل! وثقي بي أن ذلك سيكون أحسن من أن أغادر الآن دون أن تعلمي أي شيء! هل ستسكتين أم لا؟!
- آخر مرة أراك!! كيف يا ولدي ولماذا؟! ما الذي حصل!! البارحة كنا
- إما تسكتين وإما أخرج ماذا تختارين؟!!
- أسكت! أسكت! لماذا تفعل بي هذا بني!! أسكت! سأسكت!
- لا أستطيع أن أقبل أن تأتي منى إلى مكان كهذا... لا أستطيع!! ما الذي تغير؟ تغير الكثير ماما! كل شيء تغير! أريدكِ فقط أن تعلمي أني لستُ المخطئ بل... الحق! كل الحق! كله عندي! كل الحق عندي ماما لا تنسي ذلك أبدا! أيضا، بابا لا يعلم شيئا ولا دخل له!
- لا يعلم ماذا أبوك!!
- ليس عدلا أن أترككِ بحيرتكِ الآن، لكني على الأقل قلتُ أن هنالك مصائب عظيمة في هذا المنزل، لن أقول ما هي لكن سأقول أنها السبب وراء كل ما سترينه مني في المستقبل... بالنسبة لمنى... سأرى متى وأين وسأتصل بكِ... سنلتقي ماما، لكن ليس هنا... أحبكِ ماما... سامحيني لكن الأمر أقوى مني... لن أعلمكِ بأي شيء، لكن عندما ستعلمين في المستقبل ستفهمين... سأغادر الآن... قولي لبابا ما قلتُ لكِ... سأتصل به بعد
- لم تقل خيرا يا بني! أين تذهب؟ تعال هنا!! لا تخرج وتتركني هكذا!!
- سامحيني ماما... لكن يجب أن أغادر... سأتصل بكِ...
لحقتْ بي حتى السيارة، لكني غادرت بسرعة ولم أنتظرها... بعد مسافة قصيرة قطعتها، لم أتمالك نفسي وبكيتُ... وصرختُ... وضربتُ المقود بيديّ... ثم توقفتُ لأني لم أستطع المواصلة... بقيتُ وقتا ثم حاولتُ القيادة مجددا فلم أستطع، فاتصلتُ بمنى وطلبتُ منها المجيء ففعلتْ... بقيتُ أنتظرها قرابة الساعتين والنصف، لأنها لم تأتِ بسيارتها، وعندما وصلتْ سألتني لكني لم أجبها... لم أتكلم... فقط وضعتُ رأسي على صدرها، فحضنتني لوقت طويل، ولم تتوقف عن سؤالي لكني لم أجب... ثم قادت السيارة، كانت تكلمني طوال الطريق، وتنظر لي، لكني لم أرد، وتقريبا لم أسمع شيئا مما كانت تقول... عندما وصلنا منزلي، اعتذرتُ منها، وطلبتُ أن أبقى وحدي، لكنها رفضتْ في البدء، فأعدتُ طلبي فلم تقبل، فدخلتُ غرفة نومي وأغلقتُ الباب...
اتصلت منى بماما، وسألتها عما حدث، فوجدتها أكثر حيرة منها... قالت لها أن كل شيء كان مثاليا، وفجأة قال ما قال ثم غادر... فقالت لها منى أنه اتصل بي لأنه لم يستطع مواصلة سياقة السيارة، وعندما وصلتُ ورأيته، رأيتُ رجلا مصدوما كأنه جندي عائد من أهوال حرب...
لم تغادر منى المنزل، وبعد أن استيقظتُ من النوم، اتصلتُ بها ظانا أنها غادرتْ، ودعوتها إلى أن نلتقي فأجابتْ أنها في الصالة وما عليّ إلا فتح الباب والخروج من غرفتي...
- لا أريد أن نبقى هنا... تعالي لنخرج... سأحملكِ إلى أجمل مكان في المدينة وسنمضي وقتا رائعا... تعالي
- هلـ... هل أنتَ بخير؟
- نعم... ألف في المئة! وأريد أن آكل... أشعر بجوع شديد! لم آكل شيئا منذ البارحة!
- لن نتحرك من هنا قبل أن أطمئن أنكَ بخير!
- ترينني أمامكِ الآن... ربما يكون وجهي شاحبا قليلا، وذلك لأني لم آكل... فقط... ألف في المئة مثلما قلتُ! تعالي لنخرج
- تتذكر منذ سنوات عندما ذكرتَ حق الفيتو؟
- لا أحد يحتاج ذلك... لنخرج
- عندما يرفع أحد منا ذلك الحق، الآخر يوقف كل شيء! كل شيء! ويجيب ويشرح! ولا شيء يحدث بعد ذلك! لا خطوة أخرى إلى الأمام ما لم يقتنع من رفع الفيتو! تتذكر؟
- نعم...
- إذن طبق! لا تتحرك من مكانكَ وأجبني: ما الذي حصل معكَ؟
- ...
- كلمتُ أمكَ... المسكينة تركتها في حال...! أريد أن أفهم
- هل تثقين بي؟
- لا تتهرب! أريد أن أسمع ما الذي حصل؟!! ولا شيء آخر!!
- الفيتو تكلمتُ عنه في إطار خطأ يصدر من أحدنا، أنا لم أخطئ في شيء
- ما معنى هذا؟
- معناه أنكِ لن تسمعي مني أبدا شيئا! لا أنتِ ولا أي بشر!
- لن أقبل بذلك
- من حقكِ ذلك... لكن أعتذر...
- سيمس ذلك بعلاقتنا
- علاقتنا بعيدة كل البعد! لم أخنكِ! لم اقتل! لم أسرق! لم أفعل أي خطأ لتقولي ذلك!
- يعني تريدني أن أنسى الذي رأيته اليوم وأمحوه وكأنه لم يحصل؟ هل تعي ما تقول؟!!
- نعم... ومن حقكِ أن ترفضي
- هل تهددني؟
- لم أفعل! لكن يجب أن تفهمي جيدا ما سمعتِ... علاقتنا لا علاقة لها بـ... لتستعملي فيتو ضدي... و... مهما كانت النتيجة لن تسمعي مني شيئا لا أنتِ ولا أي بشر!
- ما معنى هذا؟!!
- معناه... إن استوجب الأمر أن أقطع كل شيء مع كل أفراد عائلتي سأفعل! وإن أجبرتني على ذلك معكِ سأفعل!
- هذا جزائي منكَ؟
- كوني ذكية منى! الأمر لا يخصكِ! لا علاقة له بعلاقتنا! لم أغادر منزلنا... هناكَ وقع شيء! لا علاقة له بكِ... وأبدا لن تسمعي عنه! إذا وضعته عقبة أمامنا ستكونين الوحيدة الملامة! الذي حصل اليوم، لن يتكرر أبدا... نعم ضعفتُ ولم أستطع حتى السياقة، لكنها لحظة ولن تعود! لن تتكرر أبدا!
- لا أصدق ما أسمع منكَ!
- ربما ثقتكِ بي ستوضع على المحك الآن... اعتبري أن كارثة وقعتْ وتلك الكارثة ستدمركِ لو علمتِ بها... أنا علمتُ وتحملتُ الصدمة وحدي... لماذا أعلمكِ بها أصلا؟!
- كنتُ أظن أن قيمتي عندكَ أكثر من هذا... كنتُ أظن أني أستحق أكثر...
- لا حاجة لنا لغضبكِ الآن، سيُعطل حياتنا ولا شيء يستحق!
- ولم أقل لكَ يوما أنكَ تستطيع القرار مكاني! لم أوكلكَ!
- ...
- سأخرج
- جيد
- وحدي! اتصل بي... فقط عندما تقرر الكلام
- لن يحدث
- أنتَ حر!
- منى لا تغادري
- أنا مصدومة ومن حقي أن أكون وحدي مثلما فعلتَ أنت اليوم! أم حتى ذلك ممنوع!
- أحبكِ... أنتِ كل شيء، وأهم من كل شيء، لا تنسي ذلك...
- مع الذي حصل منكَ اليوم... لم أعد على ثقة بشيء...
- أريد أن أطلب منكِ شيئا أخيرا
- ...
- أمكِ... لا داعي لأن تعلم... أرجوكِ
- تؤلمني وتمنعني من البشر الوحيد الذي يستطيع تخفيف ألمي؟!!
- لا تفعلي... أرجوكِ! يوما ما ستعذرينني... كوني على ثقة من ذلك...
- أحبكَ أيضا... لكن ثق أن هذا سيبقى نقطة سوداء لن أنساها أبدا!!
- أعتذر... أنا آسف...
لم أشك لحظة واحدة في صحة موقفي، وكنتُ على يقين أن منى لن تغفر لي ذلك، لكني قلتُ أن الوقت سيُنسي... كنتُ محظوظا أني تجاوزتُ الكثير ذلك اليوم، لم أكن يوما ضعيفا لكن قوتي كان لها حدودا، والذي حصل كان كثيرا ويهد الجبال... سيتطلب مني الأمر أسبوعا إضافيا لأتجاوز مخلفات الصدمة، ولأقرر قراري النهائي ألا أحد سيسمع مني... حيرة منى تواصلت بعض الوقت، ثم تجاوزت الموضوع وكأنه لم يحدث، كان عندنا ما أهم... عملنا، مستقبلنا، حياتنا... أهم من الموت والخراب الذي لم تعرفه...
كانت تلك الليلة آخر مرة ذهبتُ فيها لمنزلنا، وبمرور الأشهر والسنوات، قررتُ ألا أعود إليه نهائيا، واستمر ذلك حتى وفاة ماما... كان سبب الوفاة جلطة قلبية، كنتُ على يقين من سببها، ولم يجعلني ذلك أعود لمنزلنا، بل حضرتُ فقط الجنازة في المقبرة ومنها غادرتُ مع منى وابنينا وقتها... بعد وفاة ماما بأيام، اتصلتُ بمحامي العائلة، وأبلغته رغبتي في التنازل عن حقي في الميراث وأن يحاول إقناع بابا بذلك، ففعل... وبعد أيام، زارني بابا، دون أن يُعلمني بمجيئه، ووصل إلى منزلي قبل وصولي بقرابة الساعة، حاول فيها إقناع منى بأن تؤثر عليّ لأعدل عن قراري، لكنها رفضتْ وقالت له أني يستحيل أن أتراجع... وعندما حاول معي، رأى إصراري فاكتفى بالقول أني الأحق بأن أرث... وكل شيء! فأجبته أن ليس له من الأمر شيء، وأني لن أتراجع... ليلتها، كنا في الفراش، أنا ومنى، فقالت لي: "أعذركَ، وأشكركَ لأنكَ لم تقل شيئا عن تلك... الليلة!".
#أمين_بن_سعيد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟