ماهر عزيز بدروس
(Maher Aziz)
الحوار المتمدن-العدد: 8247 - 2025 / 2 / 8 - 19:58
المحور:
قضايا ثقافية
يطرح "لوك فيري" في كتابه الفريد : " معني الجمال : في أصول الثقافة المعاصرة " تحليلا لمفهوم الجمال والفن عبر العصور ، ويطرح تساؤله الحاسم : " كيف يمكن أن نعيش بدون الجمال ؟ بدون التعددية في الأذواق والألوان والرموز والمعاني ؟ " .
لقد كان الفن لدي الإغريق إشارة إلي النظام الكوني والكمال الإلهي ، ووسيلة للتعبير عن التناغم والكشف عن الترتيب والتنسيق الإلهي وتجلياته المرئية من خلال الأشكال والمقاييس المثالية .
يؤكد "لوك" بهذا المفهوم أن الفن من خلال تمثيل الجمال سمح بالتواصل مع النظام الأعلي والمبادئ الكلية .
وأعاد الفن في العصور الوسطي وظيفة الفن بوصفها تجسيد للحقيقة العليا الخارجة عن الإنسان ، التي تتمثل في بهاء الصفات الإلهية .
بيد أنه في القرن السابع عشر دارت " ثورة الذائقة الفنية " حول وجود حس داخلي للجمال في قلب الإنسان ، ما يجعل هدف العمل الفني هو إرضاء الحساسية البشرية تجاه الوجود ، وليس تجسيد حقائق كونية أو إلهية .
وبمجيء القرن الثامن عشر اتخذت فلسفة الفن شكل نظرية تتعلق بالحساسية الجمالية مع بدء علمنة الثقافة ، فلم تعد الأعمال الفنية انعكاسا لعالم متعال ، بل إبداعا بشريا كاملا .
وفي مصر تعرض الجمال منذ خمسينيات القرن الماضي وحتي اليوم إلى نكسة غير مسبوقة ، فراحت تنتشر كل أشكال القبح في معالم المجتمع وحياة الناس ، ما توطن بفعل انتشار ثقافة رجعية مرتدة حاربت الجمال ، وانتقمت من الفن ، وعاشرت القبح ، ولم تنفر من القذارة ، بل عايشتها كما لو جزء تفاخر به من صميم حياتها يحيط بها من كل جانب ، فتم ترك "الزبالة" تنتثر في الشوارع والأمكنة ، وتفشي الفساد في المحليات التي أهملت نظافتها وصيانتها والعناية بها ، وتغلغل الفكر الأصولي في المجتمع الذي انقلب سلفيا محضا علي أثر ردة هائلة في الثقافة والإعلام والتعليم والممارسات ، بفعل الهجرة لبلاد الوهابية البدوية والعودة منها ، وبتحريض فكري خرج من بطون الكتابات المتطرفة والجماعات الجهادية الإرهابية ، يصور للعامة ذات الأغلبية الجاهلة أن ذلك هو صلب الاعتقاد ، وفخر الأسلاف .
وامتد أثر الارتداد الحضاري ذلك في حياة الناس وسلوكهم وكل ممارساتهم ، من الملبس الذي أخذ الأطفال في المدارس بزهر العمر إلى عالم كئيب أسود خال من الألوان والبهجة ، وأخذ النساء والفتيات الجميلات في الأكفان السوداء المستعارة من البداوة وحياة الكهف ، وأخذ الرجال إلي مظان متدنية بعيدة كل البعد عن تذوق الجمال والإحساس به ، الذي تم اختزاله لديهم في الشهوة الحسية العمياء وحسب ، إلي سائر جوانب الحياة في المجتمع : من القول القبيح ، إلي السلوك القبيح ، إلي التعليم القبيح ، إلي الإعلام القبيح ، إلى الغناء القبيح ، إلي العمارة المتنافرة القبيحة ، إلي الفوضي التي اغتالت النظام فاغتالت الجمال وأشاعت القبح في الشارع والمجتمع وحياة الناس ، إلي ثقافة القبح ، واللافن القبيح .
يتغول الكثيرون ويزعمون أن هذا القبح من التدين السليم ، بينما عاشت مصر متدينة تدينا سليما حقيقيا لعقود عدة قبل الهجمة الأصولية العتيدة ، حاسرة في ألوان مبتهجة وتشكيلات متناسقة مبدعة بعيدة عن الأكفان السوداء ، والفوضي التي تعم كل الأشياء ، ولم يحتسب ذلك غير عاد أو معاد للتدين السليم ، لكنه احتفظ بالجمال كقيمة سامية لا غني عنها للحياة الإنسانية الطبيعية .
ولن أحدثك عن مصر الفرعونية أو مصر الخديوية أو الملكية ، التي عاشت ترفل في الجمال والرقي في كل دقيقة من دقائق الحياة ، وكان جمالها مثالا حضاريا رائعا يحتذي .
الحق أننا غالبا ما ينسينا العقل السائد ، والاعتياد ، والفكر الحاكم ، وضغوط العوائد المسيطرة ، فضلا عن الرغبة في إنتاج الجمال ما بين الصناعة والثقافة في الحياة الحديثة ، أن الجماليات عامل أساسي في عملية التخطيط ، وأنها تنطوي علي صعوبة غالبة في تنفيذها .
إن البعد الجمالي في أي مظهر وأي عمل هو تلك الجودة الظاهرة والباطنة التي يصعب تعريفها ، التي تولد الاستعداد للتضحية بصفات أخري وظيفية أو اقتصادية في التشغيل والمنفعة من أجل تحقيقها ، وهذه الجودة التي يصعب تعريفها تحقق التوازن والتناغم الذي يحول الأشياء إلي أعمال فنية حية ، تلهم وتثير التقدير العميق ، لكننا نجد الآن أن الرداءة والقبح - كما يعبر آلان دونو الأستاذ بجامعة باريس - يشكلان انقلابا تقوده أغلبية متمركزة حول مصالحها علي حساب الجمال والصالح العام .
هذه الرداءة التي تفرض علينا تبدو كقوة خفية تقوض أسس الحياة السامية والمجتمع ، فتطرح معايير التراجع والتوافق السلبي والمصالح الفردية ، بدلا من معايير التميز والابداع ، ما يؤدي إلي قتل الجمال في النفوس والمجتمع .
لقد استولت طبقة " المتدنيوقراطيين " علي السلطة في كل المجالات تقريبا : من الفكر إلي الاقتصاد إلي الثقافة إلي التعليم إلي الإعلام إلي الممارسات ، وأدت الرغبة المحمومة في إخضاع كل شيء لمنطق الأصولية و اليسار والليبرالية المتطرفة - التي هي الوسيلة الرئيسية " للمتدنيوقراطيين " إلى إنتاج الرداءة والقبح - إلي انهيار الذوق والجمال في المجتمع ، ما ينطبق علي الخبرة الاقتصادية والفنون والثقافة والبحث العلمي .
ونشير هنا إلي أن مصطلح الرداءة الذي استخدم أعلاه لا يشير إلي انعدام الكفاءة ، بل علي العكس هو يعني كفاءة مضبوطة بدقة لتكريس دوجما سائدة ومصالح معينة وأفكار متراجعة.
وعلي ذلك يتقلص مفهوم الجمال جدا في مجتمع تسوده الرداءة والتفاهة والقبح ، حيث يختزل الفكر المسيطر والمصلحة والربحية الجمال الذي يتطلب عمقا وابتكارا وبحثا عن المعني إلي مجرد الامتثال لتوقعات الدوجما المهيمنة ، والأفكار الأصولية ، والمصلحة ، والمعايير التي تفرضها نخب " المتدنيوقراطيين " والقوي المسيطرة .
من هنا تقفز هذه الأسئلة أمامنا بقوة : كيف يمكن الحفاظ علي الجمال غنيا بالمعاني ، متصلا بالقيم الإنسانية الجوهرية ، في مجتمع تحكمه الدوجما المتيبسة ، والفورية والوصول السهل السريع علي حساب العمق والأصالة ؟ كيف يمكن أن نتغير إلي السمو بالذوق وإثراء الجمال ؟
ان مجتمع المصالح والأفكار البائدة يكاد يطمر لحظات التأمل التي تمنح الجمال معناه الحقيقي ، لذلك يتعين علينا أن نعيد للمشهد الإنساني المنظور الفكري السليم ، والحفاوة بالإنسانية ، والتربية الثقافية ، والتربية الفنية ، كنافذة تفتح العيون علي الجمال الذي يتخطى اعتياد القبح والقذارة إلي الأبعاد العميقة للروح والشعور .
ولعل أجمل ما يمكن أن نفعله أن نعيد الجمال إلى الناس أنفسهم ، وأن نجعلهم شركاء في صنع الجمال عينه ، ويمكن للفضاءات الحرة لتلاقي الأفكار وتلاقحها أن تعيد تعريف الجمال بأيدي الناس أنفسهم .
ويتعلق الإنقاذ المرجو بدعوة ثورية حقيقية لاستعادة الثقافة الجمالية ، وجعل الجمال انعكاسا حقيقيا للقيم السامية والمبادئ الإنسانية العميقة ، فنزرع بذور الجمال الشامل المستدام ، الجمال الذي يتناغم مع الطبيعة ، ويخصب تنوع الثقافات ، وليس الجمال الذي يذوب في التفاهة والسطحية ، أو يخضع للمصالح والتسارع والأفكار الرجعية ، واعتياد القبح والقذارة .
.
#ماهر_عزيز_بدروس (هاشتاغ)
Maher_Aziz#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟