أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وليد الأسطل - تعليق عدم التصديق















المزيد.....

تعليق عدم التصديق


وليد الأسطل

الحوار المتمدن-العدد: 8246 - 2025 / 2 / 7 - 00:47
المحور: الادب والفن
    


لا يعلم من يسعون إلى امتلاك الحاسة السادسة، أن لديهم حاسة تشبهها يستخدمونها كل يوم تقريبا، تسمى تعليق عدم التصديق، أو الإيقاف المؤقت لعدم التصديق.

يمكن اعتبار تعليق عدم التصديق Suspension of disbelief، حاسة تضاف الى الحواس الخمسة. قد تكون حاسة أقل أناقة من "البصر" أو "الشم"، لكنها لا تقل أهمية عنهما.

يمكننا تعريف تعليق عدم التصديق بحاسة الخيال. باختصار، إن عمل العقل هو الذي يسمح لنا بفهم العمل الروائي: حين نضع جانبا -وطواعية- حقيقة أننا نعرف جيدا أنه كذبة.

من دون تعليق عدم التصديق، يصبح الفيلم سلسلة بسيطة من الصور على شاشة بيضاء، مصحوبة بأصوات تحكي قصة نعلم أنها مصطنعة، وبالتالي من المستحيل أن نتعلق بها. من دون تعليق عدم التصديق، يكون الكتاب مجرد كلمات على صفحات، وبالتأكيد ليس رواية يمكن أن تؤثر فينا.

إذا كنت أساوي تعليق عدم التصديق بباقي الحواس، فذلك لأن الخيال هو البعد الذي نصل إليه باستمرار، من خلال الأدب والسينما، وأيضا من خلال جميع أنواع التواصل (حتى إشارات المرور تحتوي على جزء أولي من الخيال)، وحتى استخدام الاستعارات في اللغة اليومية. من دون حاسة الخيال، يصبح جزء كبير من الواقع غير مفهوم بالنسبة لنا. علاوة على ذلك، نحن لسنا متساوين جميعا عندما يتعلق الأمر بتعليق عدم التصديق: فكما أن بعض الناس لديهم بصر جيد أو ضعيف، فإن بعض الناس يواجهون صعوبة أكبر في تعليق عدم التصديق أكثر من غيرهم.

لقد عشت غير مرة تجربة مشاهدة فيلم رعب في دور العرض: يضحك جزء من الجمهور -في كثير من الأحيان- في اللحظات الأكثر رعبا، غير قادرين على قبول حقيقة ما يقدم لهم، ويفضلون التعامل معه عن بعد. قد يكون من المريح في بعض الأحيان تذكر أن الأعمال الخيالية ليست حقيقية بالمعنى الدقيق للكلمة.

أعرف العديد من الأشخاص الذين يعانون من قصر النظر حرفيا عندما يتعلق الأمر بالرواية: يواجهون صعوبة كبيرة في الدخول في عمل أدبي، مهما كان، ويحافظون على مسافة بينهم وبينه في جميع الأوقات مما يضر بمتعتهم كقراء. هؤلاء الأفراد -وهذا حقهم- يفضلون القصص الحقيقية. ويفوتهم أن أي قصة، حتى لو كانت مبنية على أحداث حقيقية، هي بناء درامي لا يمكن فصل نسيجه عن نسيج الخيال. أي أنه منذ اللحظة التي تُروى فيها القصة، فإنها تترك مجال الواقع جزئيا لتطأ قدمها مجال الخيال.

إن المطالبة بأن تكون القصة منطقية تماما قبل كل شيء، هي سوء فهم لطبيعة الأعمال الخيالية.
هناك أيضا قراء يعتبرون الأعمال الأدبية بمثابة تحديات فكرية يجب مواجهتها: فبدلا من قبولها على ما هي عليه، فإنهم يتتبعون كل ما يعتبرونه تناقضات، ويرون أن هناك العديد من الأسباب لاعتبار القصة التي تُروى لهم تفتقر إلى المصداقية. بالنسبة لهؤلاء القراء، يجب أن تكون القصة متماسكة قبل كل شيء، ويجب التضحية -باسم المنطق- بأي عناصر لا تساهم في تحقيق هذا الهدف.

في الواقع، إن المطالبة بأن تكون القصة منطقية قبل كل شيء هو إساءة فهم لطبيعة الأدب وسبب وجوده. إن التعامل مع الأدب بهذه الطريقة يعني فهم الأمور بطريقة خاطئة.

ما هو الهدف من القصة؟ منذ النار الأولى التي اجتمع حولها أسلافنا ليحكوا قصصا لبعضهم البعض، كانت الإجابة هي نفسها: الهدف من القصة هو الترفيه عنا، وتحريك وجداننا، وتعريفنا بالإنسان والعلاقات بين الكائنات. يجب على المؤلف أن يسعى نحو هذه الأهداف، وتأتي جميع الاعتبارات الأخرى في المرتبة الثانية.

المنطق، على سبيل المثال، يمكن أن يساعد في تحقيق هذه الأهداف، ويمكن أن يكون عنصرا هاما، لكنه يجلس دائما على مقعد خلفي لضرورات القصة: إذا كان علينا أن نختار بين فقدان القليل من التماسك أو التضحية بقلب القصة، فإن المنطق سيأتي دائما في المرتبة الثانية بعد روعة الخيالي.

قد يقول قائل: إنك كروائي مطالب بكتابة روايات مسلية، غنية بأصداء الحالة الإنسانية، ومنطقية تماما.

سيكون تعليقي على قوله: هذا أمر جدير بالثناء، بل إنه ممكن في بعض الأحيان، لكن في معظم الحالات، ليست هذه هي الطريقة التي يعمل بها الأدب.

دعونا نطرح السؤال بطريقة أخرى: لماذا لا يقتل سوبرمان كل أعدائه وينتهي كل شيء؟

معظم أعداء سوبرمان أشرار للغاية، يشكلون خطرا على الإنسانية، وإذا لم نتخلص منهم فسوف يتسببون في مآس فظيعة.
إن ما يفرضه المنطق هو أن يتخلص سوبرمان منهم بشكل نهائي، فهو يمتلك الإمكانيات لفعل ذلك.
الجواب -وهو الجواب الوحيد المهم- هو أنه لو فعل سوبرمان ذلك، فلن يكون هناك المزيد من قصص سوبرمان، وهذا مؤسف لأن هناك أشخاصا يستمتعون بقراءة قصص سوبرمان.

في بعض الأحيان، بل وأريد أن أقول في كثير من الأحيان، لكي يكون الخيال موجودا، يجب أن يتجاهل التطور الأكثر منطقية للحبكة: غاندالف لا يعهد بالخاتم الواحد للنسور (رواية سيد الخواتم). الشرطة لا تنجح أبدا في التحقيق إلا بمساعدة شارلوك هولمز. في الروايات الرومانسية، يسمح العشاق لسوء الفهم بالتضخم والتكاثر، في حين أنه كان بالإمكان تبديده بمحادثة بسيطة... إلخ.

المنطق في الأدب هو أداة يمكن أن تساعد المؤلف. ولكن من الممكن أيضا أن يكون قاتلا للقصة. يجب أن تؤخذ في الاعتبار الآثار. إذا كان المنطق يساعد على تحسين السرد، فهو موضع ترحيب. أما إذا كان اتباعه حتى النهاية سيجعل القصة أقل إثارة للاهتمام، أو حتى يمنعها من الوجود، فيجب تجاهله.

لأنه في الواقع، وعلى عكس ما نود أن نعتقد -وهذه الكلمة تُستخدم غالبا عندما نتحدث عن الكتابة- فإن هدف المؤلف ليس جعل قصته "متماسكة" أو "منطقية"، وإنما يجب عليه ببساطة أن يرتبها لتكون معقولة.

لماذا لا يقتل سوبرمان كل أعدائه؟ لأنه بالإضافة إلى قوة سوبرمان، فإن ما يميزه هو أنه يحاول دائما التصرف برحمة. لماذا يتمكن شرلوك هولمز دائما من فك لغز الجريمة قبل أن تتمكن الشرطة من فعل ذلك؟ لأنه أحد أذكى العقول على هذا الكوكب. لماذا لا يجري العشاق مطلقا المحادثة التي تسمح لهم بالاعتراف بمشاعرهم لبعضهم البعض؟ لأن الحب يجعل الناس أغبياء. لماذا لا يستطيع دارث فيدر العثور على لوك سكاي ووكر؟ لا بد أنه لم يكن يبحث في المكان الصحيح. وهكذا.

ما يجب أن نتذكره من كل هذا هو أن مهمة المؤلف ليست الإجابة عن كل سؤال محتمل يمكن تخيله، وليست تقديم تفسير لجميع الأحداث التي قد يكون تفسيرها غامضا، كما أنها لا تحتوي على تبرير. على سبيل المثال: لماذا تتصرف الشخصية دون تفكير؟ أو ترتكب أخطاء في الحكم؟ أو تغير رأيها؟ لا يمكن اعتبار أي مما ذكرته للتو ثغرات في الحبكة أو أخطاء منطقية، من النوع الذي يبحث عنه بفارغ الصبر أولئك القراء الذين لديهم نسبة تعليق عدم التصديق منخفضة.

في الأدب، لا يطلب المنطق نفس الأهداف التي تطلبها الرياضيات. لأن المؤلف لا يهدف إلى إنتاج عمل منطقي، بل إلى إنتاج عمل معقول. ويجب ترتيب الأحداث بحيث يقول القارئ لنفسه نعم، كل هذا يمكن أن يحدث بالفعل على هذا النحو. هل يمكن أن يحدث هذا الحدث -الذي يجعلك كقارئ تتجهم- وفق القواعد الداخلية للعمل؟ هل من الممكن شرح ذلك ببضع كلمات حتى لو لم تكن هذه الكلمات موجودة صراحة في الرواية؟ إذا كان هذا هو الحال، فقد تم احترام قواعد المعقولية.

كن حذرا، هذا لا يعني أن الرواية يمكن أن تحرر نفسها من القواعد الأولية للمنطق، وأن كل التناقضات مسموح بها. كل ما هنالك أن المنطق في الأدب لا يتبع نفس الأهداف كما في الرياضيات.

نعم، بعض العيوب في الحبكة تسبب إشكالية، ونعم، يُنصح المؤلف بإصلاحها قبل نشر روايته، ولكن ليس كلها. ولتمييز إحداهما عن الأخرى، أقترح تعريفا بسيطا للغاية: الحالات الإشكالية هي العيوب أو التناقضات الحاسمة داخل القصة، والتي تعيق التطور السلس للحبكة أو بناء الشخصيات كما يتم تقديمها لنا. أما التقلبات غير المتوقعة، التطورات التي لم يتم شرحها بالتفصيل، شخصيات تغير رأيها، أحداث تقع دون أن يكون القارئ شاهدا مباشرا. لا شيء من هذا يمثل إشكالية.

من الطبيعي، بل من المطلوب أن تكون هناك مساحة بين القراء والمؤلفين تمكن للخيال من العمل:
السجين الذي تروى قصته يكتشف فجأة أن هناك جرافة في زنزانته لم يرها من قبل، ويستخدمها لهدم الجدران والهروب؟ هذا انقطاع في تماسك القصة، وهو هراء وإشارة إلى أن الأحداث في هذه الرواية ليس لها عواقب حقيقية. نفس السجين تمكن من الهروب لأن الحارس ترك باب زنزانته مفتوحا عن غير قصد؟ هذا أمر معقول ويمكن أن يؤدي إلى تطورات مثيرة للاهتمام في وقت لاحق.

الأم المطلقة التي تكافح منذ بداية الرواية للحصول على حضانة ابنتها تقرر في اللحظة الأخيرة أن تتركها في استراحة على الطريق السريع وتذهب لتنهب أموالا من البنك؟ نحن هنا نتعامل مع تناقض فيما يتعلق بكل ما نعتقد أننا نعرفه عن الشخصية كما قدمت لنا.
نفس الأم المطلقة تقع فجأة في حب المحامي الذي يتولى قضيتها؟ إنه أمر مثير للدهشة بلا شك، لكنه ليس تناقضا.

هذا ما يسمح به تعليق عدم التصديق. إنه يفتح مساحة بين القراء والمؤلفين حيث يمكن للخيال أن يعمل. مساحة يمتنع فيها القراء عن التعامل مع الرواية باعتبارها لغزا يجب حله، بل كتجربة يجب مشاركتها. مساحة يسعى فيها المؤلفون إلى خلق الأصالة، حتى لو كان عليهم، من وقت لآخر -مثل الذين يمارسون ألعاب خفة اليد- أن يغشوا قليلا.



#وليد_الأسطل (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية الخوف من النور.. دوجلاس كينيدي
- ثلاثة كتاب كبار أدركهم الموت قبل نوبل
- وعاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض
- هل ستصبح كندا الولاية الأمريكية 51؟
- مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية كما أراه
- رواية قبل أن تختفي.. ليزا جاردنر
- عن رواية قصة خرافية.. ستيفن كينغ
- ستيفن كينغ والأدب الخفيف
- عن رواية حجر القمر.. ويلكي كولنز
- خواطر
- فرانك.. من مجموعتي القصصية شيء مختلف
- قصة بعنوان توم. من مجموعتي القصصية (شيء مختلف)
- الناقد عمار بلخضرة يكتب عن شيء مختلف
- صباح مقاطعة شامبانيا (فرنسا)
- من سجل تجاربي ٣
- مشيناها خطى كتبت علينا
- الناقد الأستاذ عمار بلخضرة يكتب عن رواية -سقوط-
- من سجل تجاربي ٢
- حوار أجرته معي الكاتبة ياقوت شريط
- سقوط؟


المزيد.....




- -هوماي- ظاهرة موسيقية تعيد إحياء التراث الباشكيري على الخريط ...
- السعودية تطلق مشروع -السياسات اللغوية في العالم-
- فنان يثني الملاعق والشوك لصنع تماثيل مبهرة في قطر.. شاهد كيف ...
- أيقونة الأدب اللاتيني.. وفاة أديب نوبل البيروفي ماريو فارغاس ...
- أفلام رعب طول اليوم .. جهز فشارك واستنى الفيلم الجديد على تر ...
- متاحف الكرملين تقيم معرضا لتقاليد المطبخ الصيني
- بفضل الذكاء الاصطناعي.. ملحن يؤلف الموسيقى حتى بعد وفاته!
- مغن أمريكي شهير يتعرض لموقف محرج خلال أول أداء له في مهرجان ...
- لفتة إنسانية لـ-ملكة الإحساس- تثير تفاعلا كبيرا على مواقع ال ...
- «خالي فؤاد التكرلي» في اتحاد الأدباء والكتاب


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وليد الأسطل - تعليق عدم التصديق