طالب كاظم محمد
الحوار المتمدن-العدد: 8245 - 2025 / 2 / 6 - 06:06
المحور:
الادب والفن
كنت احد اولئك الجنود ببنيتهم الضخمة ، اخوة جالوت غير الاشقاء ، شهود المتاهة وحطبها ، اختنقنا بالمداخن والنيران والشظايا نرمم وجوم الارتال الصامتة بالتوجس حينما تزحف صوب نهايتها تحت رايات المحنك العظيم جالوت ، فيما بعد شهدنا والدهشة تعقد السنتنا نهايته عندما تلقى حجر المقلاع بجبهته المصفدة بالفولاذ والخطايا ، الحجر الذي ارداه قتيلا فتهاوت جثته لترتطم بالخوف .
باستثناء السلاح الذي وتد في مناكبنا، تخلصنا من اقنعة وقاية الحرب الكيمياوية ، وسكبنا ذخيرة البنادق في مياه السيل الجارف ، التي تدفقت وهي تعول في طريقها الى الجنوب.
الجندي ، الذي اهملت سيرته ، كما هو حال الاخرين الذين قامت على اكتافهم الفيالق التي زحفت في الاتجاهات الاربع ، كما ضاعت ملامحه في ذاكرة بهتت صورها العتيقة ، تسمر كتمثال حجري ، طلب من اصحاب جالوت ، الاخوة غير الاشقاء الذي تقاسموا التيه و الالم والطعنات ، ان نخلع النطاق العسكري الذي نشد به سراويلنا البالية ، زند بزند ، ربطنا انفسنا بأحزمة الفجيعة ، انحدر المستكشف الاول وتبعه الجندي الثاني والثالث وكنت الرابع وانزلق الخامس والسادس.. والعاشر ، شكلنا سلسلة بشرية تحاول الوصول الى ضفة المتاهة الأخرى عبر اللجة والدوامات ، انزلقت على الحافة الموحلة فتلقتني المياه الباردة التي غمرتني حد العنق ، كنت اتنفس بصعوبة شعرت بان بالمياه الباردة تضغط على صدري ، يتعين علينا مواجه القدر وانتزاع نابه الوحيد وهو يكشر في وجوهنا يتنظر تردد احدهم لكي يطعنه في ظهره . نخوض ضد التيار العنيف ، مرت الدقائق ببطء شديد حين تعالت ترانيم نشيد الاناشيد عند الجانب الاخر ،
وصلت!!
بصوت عميق كالمعجزة تعالى صوت الاخ غير الشقيق وهو يمسك بحافة الضفة الثانية ، شكلنا جسرا بشريا مغمورا بالدوامات نتصدى للتيارات العنيفة التي تحاول تفكيك سلسلتنا المنهكة ، المأخوذة بالفزع والضياع ، الاخرون المنهكون عبروا الى المجهول وهم يتشبثون بنا نحن اعمدة الخليقة التي تصدعت تحت وابل المطر والبرد والمياه ، امسك جنديان بالعميد الكهل ، مدير الادارة والميرة ، كان مريضا جدا ، منهكا ، يسعل بصوت مكتوم ، شعرت بان رئتيه تتمزق وهو يتشبث بكتفي في طريقه الموت .
الرتل مقطع الاوصال تبدد في التيه الموحل، فقدنا اثر الجنود ، لم تعد هناك سوى مجموعات يلفها التوجس والقلق، احدنا ينظر في وجه الاخر فلا نرى سوى سحنات الوجوم على وجوه بلون الشمع والموت ، لم يعد هناك أي دليل ينقذنا من الضياع و يقودنا الى الخلاص الى قمم طقطق ،ارض الميعاد ، جنة عدن التي بدت عصية ببوابات قممها المنيعة على الخطاة ، طقطق التي تشرف على الافق الاخر من الخليقة ، كما اخبرنا القائد حين اندس في قلب الرتل الذي انحدر الى الوادي المعتم في الساعة السابعة من ليلة الامس ، القائد الذي فقدنا اثره كما فقد اثر ضباط الفرقة، باستثناء مدير الادارة والميرة العميد المتقاعد الذي انتزع من نادي المحاربين القدامى وزج به في الصقيع ، كان في عامه الخامس والستين ، خلع رتبته وتخلص من هوياته واندس بيننا .
الجنود الذين افلتوا من الاسر بعد انتزاع أسلحتهم ، اخبرونا بان الضباط الصغار الذين استسلموا للميليشيات قتلوا بدم بارد ، اما قادة الوحدات فلا احد يعرف مصيرهم ، عصبت اعينهم واقتادوهم الى جهة مجهولة .
العميد الذي حاول دونما جدوى ان يكتم سعاله الذي لم يهدا للحظة طوال رحلتنا عبر الوادي ، بات جنديا مسنا يخوض في الوحل والطين ، وجدته واجما وصامتا وهو يتطلع الى السيل العنيف ، لم ار كريم شميل ولا جنود ، المحطة، الاحتياط ، تقطعت بنا السبل وها نحن في ممرات الشتات بانتظار المخلص يرشدنا الى طقطق ، جنة الله وارفة الظلال الدافئة التي لا تغيب عنها الشمس.
لم نهدر الوقت في الانتظار بعد عبورنا السيل ، كانت الساعة الثالثة قبل الفجر ، ثيابنا التي تقطر الماء وتجمد هياكلنا الخاوية ، لم نبالي بالجوع ، بعد ثلاثة ايام من القحط واليباب ، لم نستدل على وجهتنا الاخيرة ، لم نفكر باللجوء الى ممر اخر لم يسلك من قبل ، خطوات الاخوة غير الاشقاء الذين سلكوا الممر قبلنا ، الناجون من المتاهة اقتفوا اثر خطوات الجنود الذين سبقوهم في المسير ، خطوة بعد خطوة ، وجدنا انفسنا ننزلق في مستنقعات الطين اللزج ، طين الخليقة الاول ، الذي احاط بجهاتنا الاربع ، كنت اغوص في الطين حد ركبتي ، الطين اللزج غليظ القوم التصق بحذائي الثقيل ، كلما حاولت التملص من طين الله ازداد التصاقه بقدمي ، لمحت جنديا هزيلا ، وتد مخزن رصاص الكلاشينكوف في الطين ، بينما امسك بطرفيها بكلتا يديه ، تشبث بوتده وسحب نفسه كما لو كان دودة حلزونية ، ملطخا بالطين والخوف، اخفقت محاولاتنا في انتزاع اقدامنا من قبضة الطين ، كما لو ان الابدية جمدت الوقت ، كنا مسمرين في مستنقع الطين ، الابدية التي تسخر من اخفاقاتنا وعجزنا ، كلما تحاول انتشال احد اطرافك يغوص الطرف الاخر حين تستند عليه بجسمك للافلات من قبضته ، انتزعت قدمي من الطين الذي ابتلع حذائي العسكري في جوفه كاثر احفوري يسرد وقائع رحلة جنود جالوت عبر المتاهة ، خلصت طرفي الاخر، حافي القدمين اخوض في الطين والبرد حينما التقيت بمخابر القائد الفتي بلكنته الموصلية المميزة ، وهو يتداعى تمتم بإعياء ، سأموت ؟!! اخذت بندقيته ، اخفف عنه اثقاله، كنت انصت الى صوت الطين حينما يفلت اقدامنا لنغوص مرة اخرى في الخطوة التالية ، تعالت اصوات فقاعات الطين ، حين تعثرنا بجنود وقفوا كتماثيل حول هيكل تمدد على ظهره ، كان مسنا جدا وجامدا جدا يتطلع في سماء الله ، عرفنا في ملامحه وجه العميد ، الذي لفظ انفاسه الاخيرة في مملكة الطين .
فجأة انبثقت امامنا اشباح سوداء لبيوتات متراصة يلفها الصمت ، الامر الذي دفعنا الى تغيير وجهتنا فسلكنا طريقا اخر للابتعاد عن القرية الغافية عند حافة التاريخ .
الرابعة صباحا ، اخذت السماء تسترد زرقتها شيئا فشيئا ، حين لمحت بصيص ضوء يتسلل عبر ثقوب في حائط انتصب وسط الظلام ، تسللنا واحدا بعد الاخر ، الى حائط الهيكل نتلو صلواتنا فخطايانا لا تغتفر ، نحن جنود جالوت الجاحد ، باحذيتنا التي انتزعها الطين ، باقدامنا العارية المكبلة بلطخات الوحل والفجيعة ، اتكون مائدة المن والسلوى اطلقها الرب ، لانه يملك قلبا رؤوما بمخلوقاته الضالة الجاحدة ، تسلل الخطاة والحجيج الضال الى بيت الرب ، او الحظيرة التي شهدت ميلاد المخلص ، هل هي زريبة حملان واغنام النبي ، كانت حجرة واحدة بدت ككعبة وسط الطين الذي حاصرنا بفقاعاته وقهقهاته ، حين دلفنا الى جوفها ، كانت تختنق بالتبن ، ام انها صومعة يعقوب المزارع ، وجدنا اكياس فسقات البصل والثوم والمعازق والمجارف ، هناك لم يعد ثمه خوف ، اوقد الجنود جذعا ضخما في وسط الحجرة الرطبة فاشتعلت به النيران ، دسست قدمي في اللهيب ، لم اكن اشعر بهما ، تصاعد البخار من ارديتنا البالية ، بينما الطين الذي التصق باقداما اخذ بالتشقق ، ايكون الله في الجوار ليرينا معجزتة ، تشقق الطين وتساقط قشوره السميكة لتكشف عن اصابعنا المحنطة بالبرد ، ام انة يمعن في السخرية من مخلوقاته الضعيفة وهي تتهاوى عند المحرقة ، تضطجع على التبن بينما دخان البصل المحروق و الثوم يكرس تعميد القرابين الذي قربت لكسب ود الالهة ، حين كشف الضياء الاول عن فاجعتنا ونحن نرى خيبتنا تتجسد امامنا بهيكلها العظيم ، امضينا النصف الاول من ليلة الامس والنصف الاخر من يومنا اثنى عشرة ساعة نجوب فيها ممرات المتاهة ، لنكتشف باننا ندور في حلقات متصلة ، ندور في لانهائية المكان ، وجدنا انفسنا ، ننظر الى كوي سنجق ، التي تطل علينا بسخرية المليشيا المسلحين الذين تقدموا باتجاهنا وهم يطلقون صيحاتهم بلكنة كردية :
سلم نفسك
#طالب_كاظم_محمد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟