|
لم تعد الهند بلد العجائب بل العراق
صادق جبار حسين
الحوار المتمدن-العدد: 8244 - 2025 / 2 / 5 - 20:45
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لطالما لُقِّبت الهند بـ"بلد العجائب" لما فيها من تنوع ثقافي وممارسات دينية غريبة وعادات وتقاليد قد تبدو غير مألوفة لبقية شعوب العالم مما يثير تعجب كل من راها . إلا أن هذا اللقب اليوم يبدو أنه لم يعد يليق بها بقدر ما يليق بالعراق ، البلد الذي يتصدر قوائم الفساد في كافة المجالات والأصعدة والفشل الإداري لكنه في المقابل يشهد تصاعدًا مذهلًا في ممارسات دينية غريبة لا تمتُّ بصلة لجوهر الدين الإسلامي المتحفظ بل تتخذ طابع الطقس المسرحي والتعبير الجسدي العنيف حتى باتت محط استغراب العالم . من أبرز المظاهر التي بدأت تغزو المناسبات الدينية في العراق هي مواكب تسير فيها أنواع مختلفة من الحيوانات ، مثل الخيول والإبل ، في استعراض غير مسبوق باسم "إحياء الشعائر". هذه المواكب تحاول تقليد بعض التفاصيل التاريخية المتعلقة بمعركة كربلاء لكنها غالبًا ما تتحول إلى عروض تفتقر إلى أي قيمة روحية حقيقية بل تبدو وكأنها محاولات لجذب الانتباه وإثارة الحشود في مشاهد أشبه بالمهرجانات الاستعراضية. المثير في الأمر أن هذه المواكب تستنزف أموالًا طائلة تُصرف على الزينة والإطعام واستيراد بعض الحيوانات في بلد يعاني فيه ملايين المواطنين من الفقر والبطالة وسوء الخدمات الأساسية. إضافة لهذه المواكب ظهر طقس غريب لم يعرفه المجتمع العراقي أخذ بالانتشار بشكل متزايد خاصة في جنوب العراق ، ما يُعرف بـ"التطين" حيث يقوم المشاركون بتغطية أجسادهم بالكامل بالطين في مشهد أقرب إلى عادات القبائل البدائية منه إلى ممارسة دينية. يرجى منها التقرب الى الله ونيل رضاه ، أو استذكار واقعة دينية يجب استقصاء العبر والموعظة منها لا حركات إستعراضية أقرب الى المهرجانات . لكن التساؤل الأهم: هل أصبح الدين مجرد طقس جسدي يُقاس بمدى تغطية الجسد بالطين؟ أم أن هناك خللًا فكريًا أدى إلى اختزال القيم الروحية في أشكال مسرحية لا تمتُّ إلى جوهر العقيدة بأي صلة ؟ واكثر طقس ديني مثير هو التطبير حيث يُعتبر "التطبير" من أكثر الممارسات إثارة للجدل حيث يقوم الآلاف بضرب رؤوسهم بالسيوف والجنازير حتى تسيل الدماء ، في مشهد دموي يثير الرعب أكثر مما يثير التعاطف ورغم التحذيرات الطبية المستمرة حول المخاطر الصحية لهذه الظاهرة، مثل انتقال الأمراض والتسبب في إصابات دائمة إلا أنها ما زالت تُمارس بشكل واسع بل ويُشجع الأطفال واليافعون على المشاركة فيها . المفارقة أن هذا النزيف الطوعي للدم يأتي في بلد يعاني من انهيار القطاع الصحي حيث تمتلئ المستشفيات بالمرضى الذين لا يجدون العلاج ويضطر الكثيرون للسفر خارج العراق لإجراء عمليات بسيطة بسبب تدني مستوى الرعاية الصحية . ينتشر هذا الطقس بشكل خاص خلال المناسبات الدينية ويُنظر إليه على أنه وسيلة للتعبير عن الحزن والتواضع . واحدة من الظواهر الأكثر تطرفًا في العراق مؤخرًا هي مشاهد الزحف على البطن لمسافات طويلة كنوع من التقرب إلى الله أو كفّارة عن الذنوب . يتجمّع المئات وأحيانًا الآلاف ليزحفوا على الأرض لمسافات طويلة في مشهد يثير تساؤلات عن معنى هذه الطقوس وهل هي بالفعل امتداد لعقيدة دينية أم أنها مجرد إفراط في الطقوس الجسدية التي تبتعد عن أي محتوى روحي أو أخلاقي ؟ الغريب أن هذه الطقوس تُمارَس وسط أزمات خانقة يعيشها المواطن العراقي من انقطاع الكهرباء وشحّ المياه وغياب الخدمات الصحية والتعليمية وكأن هذا الشعب قد استُبدلت أولوياته من المطالبة بالحياة الكريمة إلى الانغماس في طقوس مرهقة نفسيًا وجسديًا دون أي جدوى . المفارقة الكبرى هي أن العراق ليس فقط من أغنى دول العالم بالثروات الطبيعية، بل هو أيضًا أحد أكثر الدول فسادًا وفق تقارير منظمة الشفافية الدولية. حيث يتم نهب المليارات من أموال النفط بينما تعاني البنية التحتية من انهيار تام والمشاريع التنموية معطلة، والفقر ينهش ملايين العراقيين. ومع ذلك نجد أن الطقوس الدينية تُموَّل بسخاء غير مسبوق حيث تُنفق الملايين على مواكب الطعام والطقوس الدموية والمهرجانات الدينية بينما لا يجد المرضى سريرًا في مستشفى حكومي ويضطر الأطفال للدراسة في مدارس متهالكة بلا مقاعد أو كتب. ليس من الصعب فهم السبب وراء تشجيع بعض القوى السياسية والدينية لهذه الطقوس فهي تُستخدم كوسيلة فعالة لإلهاء الجماهير عن أزماتهم الحقيقية. فبدلًا من أن يطالب المواطن بحقه في الحياة الكريمة يُدفع إلى الانشغال بطقوس متطرفة تُقنعه بأن المعاناة قدرٌ محتوم وأن الألم والتعبير الجسدي عنه هو السبيل للخلاص . وفي ظل هذه السياسات يصبح من السهل تمرير ملفات الفساد والاستمرار في سرقة المال العام طالما أن الشعب منشغل بطقوس لا تترك له وقتًا أو طاقة للاعتراض والمطالبة بالإصلاح. في ظل هذا الواقع يبقى السؤال الأهم : هل سيبقى العراق أسيرًا لهذه العجائب والغرائب أم أن هناك أملًا في استعادة العقل والمنطق؟ هل سيبقى الدين مجرد طقوس جسدية تُمارَس بلا وعي أم أن هناك فرصة لإعادة النظر في أولويات المجتمع والتركيز على بناء دولة حديثة قائمة على العدالة والتنمية بدلًا من الغرق في مظاهر شكلية؟ حتى ذلك الحين يبقى العراق اليوم "بلد العجائب" الجديد لكن للأسف ليس بالمعنى الذي يدعو للفخربل بالمعنى الذي يعكس حجم التراجع والانحدار الذي أصاب مجتمعًا كان يومًا ما منارة للعلم والحضارة .
#صادق_جبار_حسين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إيران ودورها في تجهيل عقول الشباب
-
بوكا معهد أعداد الإرهابيين
-
بلد الحضارات يحكمه القطاء
-
فوضى مواقع التواصل الاجتماعي في العراق : فساد وانحدار القيم
...
-
الارهابي الذي أصبح بطل
-
جند السماء الفرصة التي ضاعت
-
بين صدام والأسد : دكتاتورية صدام حسين وعائلة الأسد : مقارنة
...
-
ماذا لو خرج المهدي المنتظر ؟
-
ثمن سقوط الأسد
-
رجال الدين وشيوخ العشائر السرطان الذي يجب أستئصاله قبل أي تغ
...
-
حكومة العتاكة و بنات اليل
-
يقاطعون الكنتاكي ويركبون التاهو: ازدواجية المقاطعة في العراق
-
العمامة رمز الجهل والتخلف والظلم
-
أقتحام البرلمان : مسرحية جديدة من تأليف وإخراج مقتدى الصدر
-
ملابس منى زكي الداخلية أهم من معانات العرب
-
الجيش العراقي ماضيًا عظيم و مستقبل مجهول
-
العدالة العرجاء في العراق
-
إنتهت مسرحية محرم في العراق
-
هل الحشد حامي الأعراض ام مصالح ايران
-
تمثال المنصور سبب خراب العراق
المزيد.....
-
تحليل CNN.. مقترح ترامب بشأن غزة يخلق وضعًا مرعبًا من شأنه ه
...
-
-نار غزة ولا جنة دولة ثانية-.. ردود فعل فلسطينيين على خطة تر
...
-
رئيس الحكومة المصرية: مستعدون للسيناريو الأكثر تشاؤما
-
-حزب الله- يعلق على تصريحات ترامب بشأن تهجير الفلسطينيين
-
الجمعية الوطنية الفرنسية ترفض قرار حجب الثقة عن الحكومة
-
وزير تركي: سنبدأ محادثات تفعيل التجارة الحرة مع سوريا وسنطبق
...
-
في اتصال مع رئيس الإمارات.. ملك الأردن يؤكد أن أي حل لقضية ف
...
-
تونس.. الحكم على الغنوشي والمشيشي بالسجن بتهمة المساس بأمن ا
...
-
ترامب: نريد إيران دولة عظيمة وناجحة.. نريد احتفالا كبيرا بات
...
-
البيت الابيض: ترامب لم يتعهد بإرسال قوات لغزة وأوضح أن واشنط
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|