أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسام الدين فياض - المذاهب الفكرية المعاصرة وعلاقتها بالإيديولوجيا















المزيد.....


المذاهب الفكرية المعاصرة وعلاقتها بالإيديولوجيا


حسام الدين فياض
أكاديمي وباحث

(Hossam Aldin Fayad)


الحوار المتمدن-العدد: 8244 - 2025 / 2 / 5 - 04:49
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


تمهيد:
يشير مفهوم (المذاهب) إلى التيارات والاتجاهات الفكرية، والفلسفية، والسياسية، والاجتماعية التي ظهرت وتطورت في القرنين التاسع عشر والعشرين كاستجابة للتحديات والتحولات الجذرية التي فرضتها الحداثة، والعولمة، والتكنولوجيا، وتغيّر الأنماط الثقافية نتيجة لأحداث السياق الاجتماعي وتفاعلاته. وتعتبر هذه المذاهب عبارة عن محاولات لفهم العالم المعقد، وإعادة صياغة المفاهيم التقليدية حول الإنسان، والمجتمع، والدولة، وغالباً ما تتسم بالتنوع والصراع بينها. بناء على ما تقدم سنحاول مناقشة العناصر التالية:

أولاً- مفهوم المذاهب الفكرية: لغوياً، المذاهب جمع مذهب. وهو ما يذهب إليه الشخص ويعتقد به صواباً ويدين به حتى لو كان خطأ. ومعنى ذلك أن المذاهب تختلف باختلاف مصادرها ومفاهيمها. ويجب معرفة أنه لا يخلو إنسان أو مجتمع من مذهب يسير بموجبه مهما اختلفت الحضارة أو العقلية للشخص أو المجتمع. وقيل إنها فكرية نسبة إلى الفكر الذي تميّز به الإنسان عن بقية المخلوقات.
اصطلاحياً، هي من صنع العقل الإنساني ومسرح نشاطه الذهني وعطاؤه الفكري فيما يعرض له من قضايا الوجود والحياة سواء أكان صواباً أو خطأً. وهي أيضاً مجموعة من الأفكار والاعتقادات المترابطة التي تشكل إطاراً لفهم العالم والوجود والحياة. هذه الأفكار تتناول مجموعة واسعة من القضايا، بدءاً من الطبيعة الإنسانية والمعنى للحياة وصولاً إلى التنظيم الاجتماعي والسياسي والثقافي.
وقد نسبت المذاهب إلى الفكر لأنه مصدرها الأولي، أي إنها لا تستند في وجودها على الوحي الإلهي أو استعانت به وإنما على ما توصل إليه الفكر الإنساني من نتائج. فتنسب بطبيعة الحال إلى مؤسسيها فيقال الفكر الماركسي، أو الفكر الليبرالي، أو الفلسفي، أو الفكر المثالي، أو المادي، أو البراغماتي، أو العلماني، أو غير ذلك من الأفكار التي تنسب إما لشخصيات مؤسسيها أو لبلدانهم أو لاتجاهاتهم وغير ذلك. ومن هنا يتضح لنا أن لفظ الفكر يعني ما يصدر عن العقل من شتى المفاهيم والمبتكرات والنظريات الفكرية الدنيوية.
خلاصة القول، هي المذاهب التي يتخذها مجموعة من الناس ويعتنقونها ويسعون إلى نشرها وتروجيها بكل الوسائل المتاحة. وقد تكون هذه المذاهب فلسفية، أو اجتماعية، أو علمانية... لها أعلامها ومصادرها ومناهجها ورؤيتها للإنسان والواقع الاجتماعي والطبيعة المادية التي لا يمكن فهمها إلا من خلال سيرهم وكتاباتهم ونشاطاتهم الفكرية. باختصار شديد هي مرآة لعصرنا، تعكس تناقضاته وآماله، وتقدم أدوات لتحليل وتفسير وفهم تعقيدات الواقع الحديث والمعاصر. كما تقدم رؤى ومفاهيم منظمة لفهم العالم والإنسان والمجتمع، وتشكّل إطاراً مرجعياً لتفسير الظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية. تعتمد هذه المذاهب على مبادئ وأسس نظرية تحدد موقفها من القيم، والحقيقة، والسلطة، والعدالة، وغالباً ما تكون مرتبطة بسياقات تاريخية أو اجتماعية محددة.

ثانياً- نشأتها الغربية: تتطور الأفكار والمذاهب الفكرية مع مرور الزمن، وتتأثر بالأحداث الاجتماعية والسياسية والثقافية. إلا أنه قبل السعي إلى مناقشة أفكارها ومقولاتها النظرية يجب علينا أن نبدأ بذكر الأسباب الأولية التي أدت إلى ظهورها، وهي كالآتي:
1- الأسباب المجتمعية: الثورة على الأوضاع والمعتقدات في البلدان الغربية نتيجة الاستبداد باسم الدين وانتشار الفوضى والظلم والاستغلال وغياب العدالة الاجتماعية وفقدان الأمل بدور وفاعلية القيم الدينية المثل الاجتماعية في إصلاح المجتمع.
2- الأسباب الخفية: تعود إلى أمور سياسية تنحصر في إحكام السيطرة والتوسع وبسط النفوذ (الاستعمار) خارجياً. أما داخلياً الرغبة في الانفلات من كل القيود التي كانت قائمة في ظل حكم رجال الدين المسيحي، فكانت ردة فعل للطغيان الكنسي، وفرضه سلطاناً مذلاً على كاهل الناس.
ثم السعي إلى ملأ الفراغ الذي أحس به المجتمع الغربي بعد إقصاء الدين ورجاله، وتقديم البديل لأفراد المجتمع. وهذه نتيجة منطيقة لسوء الأحوال في الحياة الأوروبية المتمثلة في الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية التي كان يعيش الأوروبيون في عهود سيطرة رجال الكنيسة من عداوات وتنافر ومن انتشار الجهل والخرافات الجاهلية والبُعد عن الدين الصحيح.
3- الأسباب الفكرية (تقديس الفردية): كما نعلم أن الحضارة الغربية في جوهرها قائمة على مبدأ الفردية، أي اهتمام الفرد بنفسه والمحافظة على ذاته واستقلاله وكيانه، وفيها يتم تقديس الفرد وتقديم حقوقه على حقوق المجتمع ومؤسساته.
وهذا يعني أن قيمة الفرد أعلى من قيمة المؤسسات المحيطة به، لأن الفرد هو الغاية من أجلها وجدت الدولة. ويقوم المذهب الفردي على أساس إبراز كيان الفرد حتى يجعله مقدساً ويُحرِّم على المجتمع المساس بحريته، وليس له الحق أن يقول له هذا خطأ وهذا صواب. وعلى العموم نتج هذا المذهب في الحضارة الغربية بسبب عدة عوامل، وهي كالآتي:
أ- رد فعل لاستبداد الاقطاعيين بالأفراد وسلبهم حقوقهم وحرياتهم.
ب- الانقلاب (الثورة) الصناعي الذي حدث في عصر النهضة الأوروبية والذي أحدث تغيراً كاملاً في صورة المجتمع، حيث قدم العمال (البروليتاريا) فرادى من الريف، كل منهم يسعى إلى لتحقيق ذاته، ونفع نفسه.
ج- تشجيع الرأسمالية للمذهب الفردي، لقيامها على أساسه ودفاعها عنه دفاعاً عنيفاً، وكان شعارهم الذي رفعوه " دعه يعمل ديه يسير " أي دع الفرد يعمل ما يشاء بلا حواجز وقيود، دعه يمر بلا عوائق حتى لو كانت المصلحة الفردية ضد مصلحة الأغلبية وعلى حسب حقوقهم.
وفي النهاية يمكننا القول إن المذهب الفردي والشخصاني الذي نشأ في الغرب، يهدف ظاهرياً إلى إنقاذ الفرد وتحريره من تسلط المجتمع عليه، لكنه بالمقابل أفقد الإنسان إنسانيته بإطلاق العنان لغرائزه تحقيقاً لمنفعته الذاتية باستغلال خيرات الطبيعة دون قيد أو شرط، وإشباع رغباته وشهواته، والتمرد على المؤسسات الاجتماعية والقيمية، إن كانت لا تسعى إلى تحقق رغبات الأفراد ومصالحهم وتحول بينهم وبين شهواتهم ونزواتهم البهيمية حتى لو كانت المطالبة بالاعتراف بالزواج المثلي على سبيل المثال لا الحصر.
كما أن الاهتمام بالجانب الفردي وإهمال الجانب الجماعي هو مخالفة صريحة لفطرة الإنسان القائمة على طبيعة مزدوجة الميل إلى الفردية والجماعية وكلاهما أصلاً فيه فلابد من العناية بهما معاً وإلا حصل الاضطراب في باطن النفس وفي واقع الحياة الاجتماعية.
بذلك تكون الفكرة التي تعتبر المجتمع مفروض على الفرد خطأ كبير، لأن المجتمع متجذر أصلاً في كيان الفرد باعتباره كائناً اجتماعياً، فالمجتمع ما هو إلا تكملة طبيعية للفرد وامتداد طبيعي يجد فيه الفرد وجوده المتكامل السليم.

ثالثاً- علاقة الإيديولوجيا بالفكر: تُعرّف الإيديولوجيا بأنها علم الأفكار، أي علم الفكرة. وتُعرف الإيديولوجية أيضاً " بأنها مجموعة من المُعتقدات والأفكار التي تؤثر على نظرتنا للعالم ". ونستطيع أن نقول إنها مجموعة من القيم والمشاعر التي نتمسك بها بشكل كبير، وهي تشبه (الفلتر) الذي نرى من خلاله كل شيء وكل شخص. وهي تشبه أيضاً الزجاج الذي من خلاله يرى الفرد ما يدور حوله ويقوم بتفسيره، وفي الغالب تكون هذه الأفكار قريبة جداً من الفرد لدرجة أنه لا نشعر بوجودها.
ونحن بالمقابل نظن أن معتقداتنا وأفكارنا هي الشيء الطبيعي والحقيقي بشكل واضح، حتى لو كانت تلك المعتقدات خاطئة، فإن العقل يجعلك تعتقد أنها الحقيقة، لأنها جزء من مجموعة أفكار تؤمن بها. ويرى بعض المفكرين أن الدين هو أحد أنواع الإيديولوجية، لأن المُعتقد الديني برأيهم يؤثر على آراء الشخص وتوجهاته، باعتبار الدين ظاهرة اجتماعية وهذا ليس بصحيح لأن الدين حقيقة موضوعية. وهي أكثر المفاهيم مراوغة في العلوم الإنسانية بأكملها.
وأخيراً يعتبر الفيلسوف الفرنسي ديستات تريسي (1755 – 1836) هو أو من استخدم المصطلح في كتابه (عناصر الإيديولوجيا ) وكان يقصد به " علم الأفكار أو العلم الذي يدرس ويحلل مدى صحة أو خطأ الأفكار التي يحملها الناس، فهذه الأفكار هي التي تبنى منها النظريات والفرضيات التي تتوافق مع العمليات العقلية لأفراد المجتمع ".
ويُعرّف الفيلسوف الألماني كارل ماركس (1818- 1883) إلى أن الإيديولوجيا هي مجموعة الأفكار السائدة في حقبة ما في حقيقة الأمر أفكار الطبقة الحاكمة، أي الطبقة التي تمثل القوة المادية الحاكمة في المجتمع هي في نفس الوقت القوة الفكرية الحاكمة.
خلاصة القول الإيديولوجيا هي مجموعة متكاملة من الأفكار والمعتقدات والقيم التي تشكل رؤية معينة للعالم، وتوجه سلوك الأفراد والجماعات نحو تحقيق أهداف محددة. هذه الأفكار ليست مجرد آراء شخصية، بل هي نظام متماسك يقدم تفسيرات للواقع، ويحدد القيم الأخلاقية، ويوجه السلوك السياسي والاجتماعي. بمعنى أدق، هي نظام مغلق من المعتقدات والقيم والأفكار المنظمة التي تهدف إلى تفسير الواقع وتوجيه السلوك الجماعي أو الفردي، وغالباً ما تكون مرتبطة بجماعة أو طبقة أو نظام سياسي.

- الإيديولوجيا والفكر: في واقع الأمر، إن العلاقة بين الفكر والإيديولوجيا علاقة معقدة ومتداخلة، إذ يمكن اعتبار الإيديولوجيا أحد تجليات الفكر المنظم، لكنها تختلف عنه في طبيعتها ووظيفتها. من خلال هذا العنصر سنحاول مناقشة ما يلي:
أ- عندما يتحول الفكر إلى إيديولوجيا: في حقيقة الأمر، تغير معنى الإيديولوجيا تغيراً كبيراً بعد الثورة الفرنسية 1789 واكتسب مصطلح الإيديولوجيا دلالات جعلت منه في نظر كثير من المفكرين صورة من صور انغلاق العقل على نفسه ومرادفاً للوعى الزائف إذ لم تعد الإيديولوجيا مجرد مجموعة من الأفكار والقيم التي تعتنقها جماعة ما وتؤثر في فكرها، وإنما أيضاً قيوداً تكبّل العقل بحيث لا يستطيع أن يرى الواقع إلا من خلال هذه الأفكار وكأنها تعبر وحدها عن الحقيقة المطلقة وتناصب العداء لكل فكر يخالفها.
كما أن الإيديولوجيا لم تبدأ في الأفول والانزواء إلا بعد أن جرّت على الإنسان كوارث ماحقة مثل ما حدث مع الإيديولوجيا القومية التي أدت إلى اندلاع حربين عالميتين سقط فيها عشرات الملايين من الأبرياء والقتلى، وانحسرت بعد ذلك الإيديولوجيا الاشتراكية مع انهيار الاتحاد السوفيتي.
بناءً على أحدث السياق الاجتماعي وتفاعلاته وما ترتب عليه من نتائج وآثار سلبية نتيجة الصراع الإيديولوجي. تعرضت الإيديولوجيا لحملة عنيفة من النقد الابستمولوجي، انطلاقاً من التعارض المطلق بينها وبين العلم من ناحية، وبين النقد الفلسفي من ناحية أخرى، حيث يرى النقد الفلسفي في التفكير الإيديولوجي مجرد تفكير تبسيطي جاهز، ومن ثم فهو أقرب إلى طريقة التفكير الأسطوري حسب " كاسيرر". أما " كارل بوبر" فيُرجع التفكير الإيديولوجي إلى أفلاطون، ويعتبره تفكيراً لا علاقة له بالواقع، وأنه نوع من الهرطقة التي تحل محل فهم الأحداث الواقعية.
إن مأزق إيديولوجيا ما، ينشأ عندما تصل تلك الإيديولوجيا إلى غايتها وتتحول إلى مؤسسات وممارسات وأعرافاً وعادات، وتحقق تماماً ما وعدت به، فتصبح أمام وضع تقليدي جديد تستمر فيه حتى ينشأ انقلاب اجتماعي تاريخي يستدعي رؤية جديدة تعجز الإيديولوجيا السائدة عن توفيرها، وترفض أن تعترف بهذا العجز. وفي أسوأ الأحوال، تجد النظرية الإيديولوجيا نفسها في طلاق كامل مع الواقع الاجتماعي التاريخي الذي تكونت لأجله، فلا هو يفهم خطابها، ولا هي تفهم تطوره وأسباب ابتعاده عنها، وشيئاً فشيئاً تتحول إلى مجموعة تصورات خالية من المعنى الواقعي والوظيفة العملية. وفي حال بين الحالين يكشف التطور التاريخي والبحث النظري أن الحقيقة الجزئية التي حملتها النظرية الإيديولوجية لم تعد كافية لتأمين حيوية الإيديولوجيا واستمرارها في استقطاب الجماهير وتغذية الوعي والعمل النضالي اللذين ساهمت في تغذيتهما في فترة صعودها وامتدادها، الأمر الذي يطرح بجدية قضية النقص النظري وتقلّص الكفاية النظرية في الإيديولوجية.

ب- علاقة الإيديولوجيا بالفكر: نجد أن من أهم وأخطر التحديات التي تواجه الأفكار والنظريات الفلسفية والاجتماعية هي إمكانية تحولها إلى عقيدة متحجرة تفقد أية مرونة ممكنة لفهم الوقائع ورسم الحاضر والمستقبل، وبالتالي فإن الضرورة تفرض ألا يتحول الفكر إلى إيديولوجيا سواءً أكان هذا الفكر يتسم بالواقعية والموضوعية والمنطقية أم لا، فالإيديولوجيا التي تتجاوز الحالة الإنسانية الفردية والمجتمعية تُفقد الفكر تأثيره الفعّال في خلق استمرارية الإبداع لتغيير الواقع، ولا يخفى أن الإيديولوجيا هي في الأصل فكر تحول إلى عقيدة بتأثير ودفع من السلطة الحاكمة، التي تسعى إلى تقسيم المجتمع إلى فئتين متنافرتين، فئة تنتهج عقيدة السلطة الحاكمة فتكون في المرتبة السامية ما دامت عوامل السلطة الداعمة قائمة، وفئة تقف ضدها لتكتسب صفة العداوة وتكون على الدوام في مهب القهر والعنف والعصيان والتمرد، وتؤدي هذه الممارسة السلطوية للإيديولوجيا إلى تقسيم بنية المجتمع الفوقية، ما بين النخبة المثقفة، فبينما تزدهر ثقافة السلطة المؤدلجة وتفرخ العديد من الأشكال الثقافية المتناسخة والمتماثلة والمتطابقة في كثير من الأحيان مع النظام السياسي القائم، نجد بالمقابل أن الثقافة الأخرى المضادة لها تتوارى وتتراجع لتختفي أو تعود لاحقاً في أشكال عقائدية أكثر صدامية وحدة.
إن ما يميّز الإيديولوجيا عن الفكر هو أن المؤدلجين يطرحون عقيدتهم على أنها مذهب فكري يمثل الحقيقة المطلقة ولا يمكن الجدال أو النقاش حول صحتها، ولابد لجميع أفراد المجتمع الخضوع لها. إن الإيديولوجيا بكافة أنواعها وأنماطها تتمثل في مجموعة مبادئ ومفاهيم وقواعد اكتسبت صفة الجمود عند لحظة تاريخية معينة، تدفع بالإنسان المؤمن بها إلى تحجر فكري لا يهدف إلى إجراء التغيير وتحقيق المزيد من العدالة والإنسانية في المجتمع بقدر اندفاعه في سبيل الدفاع عن عقيدته وإثبات صحتها، بحيث تصبح الإيديولوجيا أهم من العلاقة مع الآخر المختلف أو حتى المترقب المحايد، وبذلك تصنع الإيديولوجيا فرداً انطوائياً فكرياً يتعذر عليه التواصل والتفاهم مع الآخرين. وفي هذا السياق، يكشف لنا التاريخ فصولاً مروعة عن مأساة البشرية مع الإيديولوجيات المختلفة (الستالينية، الفاشية، النازية)، فلم تكن هناك إيديولوجيا إلا وقامت بشرعنة العنف الذي خدمها، وأدى ذلك على الدوام إلى المزيد من القهر والدماء، وبالتالي لا تقوم الإيديولوجيا بإباحة العنف وحسب وإنما تبرره، كما يؤكد المؤدلجون على فعالية العنف في إرساء مبادئ الواقعية السياسية عبر التاريخ.
وهكذا يمكن القول إن الإنسانية عانت الأمرين عبر القرون الماضية بفعل الإيديولوجيات التي تصارعت فيما بينها من جهة، وبينها وبين الانسان العاقل الذي رفض الوقوع عبداً لها من جهة أخرى، فنكلت به بمختلف وسائل القهر بهدف إعادة النظام وتوطيد السكوت. ومن هنا نجد أن الإيديولوجيا تجيز فعل الشر بهدف الخير وبالتالي فإن القتل الإيديولوجي مثلاً لا يعتبر شراً بل وسيلة للنضال ضد الشر وبالتالي يكون خيراً من وجهة نظر أصحاب تلك العقيدة.
وفي النهاية يمكننا القول إن الفكر يتنافى مع الإيديولوجيا تماماً، فبينما تمثل الإيديولوجيا تأكيداً دائماً وقطعياً ومطلقاً لعقيدة لا تقبل الشك أو النقاش أو الخطأ، يسعى الفكر باستمرار إلى البحث عن الحقيقة بهدوء وتأني واستقلالية فردية تامة، بعكس الإيديولوجيا التي تعتبر تحشيداً وتكديساً وتجميعاً لبشر مستلبي الفكر، يتنازلون طوعاً أو كرها عن حريتهم الفكرية لعقائد لا تقبل منهم سوى السمع والطاعة، وهكذا فإن الفكر هو التزام شخصي يدفع الفرد على الدوام إلى الحرية في البحث والاكتشاف والارتكاز على الواقع والمنطق، وبالتالي نجد أن أكبر التحديات التي نواجهها كأفراد أولاً ومجتمعات بشرية ثانياً هو قدرتنا على بناء فكر جديد على أنقاض الإيديولوجيات التي عصفت بالبشرية وأدمتها لقرون طويلة، حتى نستطيع إعادة المعنى الحقيقي من وجودنا وخلق المزيد من الإبداع.
فالإيديولوجيا هي فكر مؤدلج، أي فكر تحول إلى أداة لخدمة غاية سياسية أو اجتماعية. أما الفكر فيبقى مجالاً أوسع يمكنه أن يكون نقدياً، أو إبداعياً، أو مؤدلجاً. والعلاقة بينهما علاقة تفاعل وتصارع، تحددها السياقات التاريخية ومصادر السلطة في المجتمع. وهنا يجب أن نشير أن روح كل حقبة تاريخية (إيديولوجيتها) فهي المنطق الكامن وراء كل إنتاجاتها، إذا لم نكتشفه فسوف نعجز عن فهم تلك الإنتاجات والتموضعات التي وصلنا إليها. إن روح العصر - أي التصورات الذهنية التي تحكم الفكر في عصر ما- بمثابة المفتاح الذي يساعدنا على فهم كل ما يجري في المجتمع في عصر معين. ومعنى ذلك أن الإيديولوجيا تنبع من الماضي وتحن إليه، وفي موقف أخرى تعكس الحاضر والأمر الواقع، وأخيراً قد تبشر بالمستقبل والمثل الأعلى. فالإيديولوجيا لها فعالية في غاية الأهمية فهي تستطيع أن تعزل الجماهير عن الواقع في سياق ما، أو قد تبسّط لهم الواقع وتفهمهم إياه في موقف ما. لذلك فإن الإيديولوجيا تعني كل شيء وعكسه، وبوسع كلمة " إيديولوجيا " أن تؤدي معاني مختلفة حسب منظور المتكلم وقدرته على التعبير والمناقشة، فهي أداة طائعة في يد من يستخدمها وجب علينا الحذر منها.



#حسام_الدين_فياض (هاشتاغ)       Hossam_Aldin_Fayad#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نظريات سوسيولوجية... نظرية التفاعل الرمزي (3)
- نظريات سوسيولوجية.... نظرية الصراع الاجتماعي (2)
- نظريات سوسيولوجية... البنائية الوظيفية (1)
- تحليل وتفسير نظرية الصراع الاجتماعي لمشكلة الطلاق (الماركسية ...
- مبادئ الالتزام الأخلاقي والحرية الأكاديمية لعالِم الاجتماع ع ...
- المفاهيم النظرية والإجرائية في البحث الاجتماعي
- الثورة الصناعية الأولى ومنعكساتها الاجتماعية والإيديولوجية ع ...
- في مفهوم الفقر والنظريات السوسيولوجية المفسرة له (رؤية تحليل ...
- أدب السجون: نافذة على عالم المعاناة الإنسانية والإبداع (دراس ...
- التحليل السوسيولوجي للنص الأدبي (رواية البؤساء للكاتب الفرنس ...
- الأدب والمجتمع وجهان لعملة واحدة
- الإذلال الاجتماعي: الوجه الآخر لنزع الصفة الإنسانية
- الرؤى السلوكية بين التوجيه والسيطرة في فضاء السلوك الإنساني
- المنهج التاريخي ودراسة الظواهر الاجتماعية (محاولة لفهم الحاض ...
- أهمية البعد التاريخي في الدراسات السوسيولوجية
- يوتوبيا الخلاص النهائي للإنسان المعاصر
- منهج المسح الاجتماعي والدراسات الوصفية
- في تأسيس النظرية السوسيولوجية محاولة للفهم
- ترسيخ الوعي النقدي للغة من أجل التحرر الاجتماعي
- قضايا الثقافة (الثقافة نمط حياة)


المزيد.....




- إجلاء طفلة مصابة بمرض خطير من غزة.. إليك قصة حبيبة والمعاناة ...
- روبيو: الولايات المتحدة مستعدة لقيادة غزة وجعلها جميلة مرة أ ...
- -وول ستريت جورنال-: وكالة الاستخبارات المركزية CIA تعرض على ...
- جزار في خدمة الولايات المتحدة!
- الولايات المتحدة تعلق استقبال الطرود الدولية من الصين
- احتجاجات تطالب بإبعاد ماسك عن الحكومة الأمريكية (صور)
- دار أوبرا دمشق تحتضن أول أمسية سيمفونية منذ سقوط الأسد
- مباشر: السعودية تستبعد تطبيع علاقاتها مع إسرائيل دون إقامة د ...
- أصوات من غزة.. العائدون لبيت حانون في مواجهة رصاص الاحتلال
- الاحتلال يقصف طوباس ويعتزم بناء حي استيطاني في القدس


المزيد.....

- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسام الدين فياض - المذاهب الفكرية المعاصرة وعلاقتها بالإيديولوجيا