|
دروس المأساة السورية (3) تنشيط الحياة السياسية...
أحمد فاروق عباس
الحوار المتمدن-العدد: 8243 - 2025 / 2 / 4 - 10:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الدرس الثالث من دروس المأساة التي ألمت بسوريا الشقيقة هو ان فتح المجال لتنافس سياسي صحي بين مكونات وطنية يمكن ان يبعد الوطن عن تقلبات سياسية عاصفة يتحكم فيها في الغالب من الخارج ...
وهذه النقطة بالذات تعتبر احدي المعضلات الوطنية في اغلب بلدان العالم النامي ، فبسبب ظروف تطورها السياسي والاقتصادي كدول حديثة النشأة قام اغلبها نتيجة لزوال عصر الاستعمار لم تكن تجربتها السياسية قد نضجت بعد ، فإذا أخذنا التجربة المصرية كمثال ، فقد كان ما قاد السعي للاستقلال اتجاهات او احزاب تمثل فكرة الجبهة الوطنية أكثر من كونها حزبا سياسيا له قوام وهيكل ومعني الحزب السياسي في التجربة الغربية ، فقد كان حزب الوفد في مصر ــ وهو الحزب الرئيسي في مصر الذي قاد سعي الامة المصرية نحو الاستقلال ــ اقرب الي فكرة الجبهة الوطنية ، فلم يكن هو حزب الرأسمالية المصرية ــ برغم وجود كثير من الرأسماليين المصريين في صفوفه بل وفي قيادته العليا مثل سكرتيره العام فؤاد باشا سراج الدين ــ ولم يكن حزبا للعمال ، برغم وجود طوائف كبيرة من الطبقة العاملة المصرية بين صفوفه ، ولم يكن حزب الفلاحين، برغم تصويت الكتلة الاكبر من فلاحي مصر له في الانتخابات ، ولا كان حزب الانتلجنسيا المصرية ــ او طبقة المثقفين ــ برغم انتماء كثير من مثقفي ذلك الزمان اليه ...
كان اقرب الي الجبهة الوطنية التي تكونت في سبيل سعي الامة المصرية نحو الاستقلال ، وكان متوقعا بعد نيل ذلك الاستقلال ان يفقد هذا البناء روحه والمبرر الاقوي لوجوده ، وان يتفتت الي اتجاهات متباينة او يتكلس ولا يتطور مع الزمن ...
وبعد الاستقلال واجهت الدول حديثة النشأة ــ ومنها مصر ــ مشكلة بناء تنظيمات سياسية تقود الدولة المصرية نحو المستقبل بأكبر قدر من الأمان ...
وكانت القوي السياسية في مصر في أول يوليو ١٩٥٢ وقبل استيلاء الضباط الاحرار علي السلطة يوم ٢٣ يوليو ١٩٥٢ كالاتي : الاحزاب الرسمية : وأولها وأكبرها حزب الوفد ، وهو الحزب الرئيسي في البلاد ، وهو كما ذكرت اقرب الي جبهة وطنية تكونت من اجل السعي نحو الاستقلال السياسي ...
وبجانب حزب الوفد احزاب الاقلية ، كالحزب السعدي وحزب الكتلة وحزب الاحرار الدستوريين، وهي احزاب اشخاص ولم يكن لها سند من جماهير الشعب ، وكان القصر الملكي او السفارة البريطانية تلجأ اليها في اغلب الاحيان عندما لا تريد ان يصل الحزب الجماهيري الرئيسي في مصر ــ حزب الوفد ــ الي السلطة ، وهي باختصار قصة ما حدث في مصر من ١٩٢٤ الي ١٩٥٢ وهي عمر التجربة البرلمانية المصرية .. وبجانب حزب الوفد واحزاب الأقلية ــ وكلاهما يمثل الاتجاهات الوسطية في السياسة المصرية ــ كانت توجد الاتجاهات المتطرفة ... ذات اليمين او ذات اليسار ... فذات اليمين كان يوجد الاخوان المسلمين ، وذات اليسار كان يوجد الحزب ــ او الأحزاب ــ الشيوعية في مصر ، وكلاهما كان يتلقي وحيه من خارج مصر ...
كان الاخوان المسلمين فكرة بريطانية في الاساس طبقها مدرس خط عربي كان يعمل في مدينة الاسماعيلية ، وبها القاعدة العسكرية البريطانية الاكبر والاهم في الشرق وهي قاعدة قناة السويس ، وكما ذكر مدرس الخط العربي بنفسه ــ وهو حسن البنا ــ فقد تبرع البريطانيون له ب ٥٠٠ جنيه لانشاء جماعة سياسية دينية تحرف اتجاه المصريين الوطنية المتجهه بكاملها نحو الصدام مع الانجليز ــ كما حدث في ثورة ١٩١٩ وما بعدها ــ وتجعل مشكلة مصر في نظر المصريين ليس الاحتلال الاجنبي ــ كما كان شعور المصريون كلهم في ذلك الزمان ــ بل البعد عن الدين!!
لم يكن للاخوان المسلمين شعبية تذكر في مصر في العقدين الاولين لتأسيسها ، حيث كان قوة الشعور الوطني المصري جارفا ...
وكان الاتجاه الثاني ــ الي اليسار ــ هو الاحزاب الشيوعية المصرية ، وهي احزاب لم تجد في مصر تربة صالحة للنمو الا وسط تجمعات محدودة للغاية من بعض المثقفين او ابناء الطبقة العليا المصرية الذين دعاهم الفراغ ــ ربما ــ الي التسلية بمثل هذه الصيحات الجديدة ــ وقتها ــ في دنيا الافكار السياسية ...
فمن ناحية كان قوة الشعور الوطني في مصر قويا ، والشيوعية نظرية أممية عابرة للدول والقوميات والوطنية ... ومن ناحية ثانية كان اتجاه الشيوعية نحو الالحاد داعيا لنفور الطبقات الشعبية والوسطي في مصر منها ...
كانت تلك الخريطة السياسية المصرية يوم الاول من يوليو عام ١٩٥٢ وقبل ثلاثة اسابيع من استيلاء بعض الضباط الشباب في الجيش المصري علي السلطة في مصر ...
وبعد ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ اتخذ الضباط الشباب اتجاها اخر في تنظيم الحياة السياسية في البلاد ، فبعد محاولة اولي غير ناضجة ــ الاتحاد القومي ــ استقر الامر مع تبلور نظرية سياسية واقتصادية تقود العمل العام في البلاد علي صورة الاتحاد الاشتراكي كأسلوب وطريقة للعمل السياسي في مصر ... وكانت فكرته هو اتحاد او جمع القوي الاجتماعية والاقتصادية الرئيسية في البلاد ــ وهي العمال والفلاحين والرأسمالية الوطنية والمثقفين والجنود ــ في اطار سياسي واحد ...
لم يكتب لتجربة الاتحاد الاشتراكي الاستمرار سوي لمدة ١٤ عاما فقط ــ من عام ١٩٦٢ الي، عام ١٩٧٦ ــ وظهرت بعدها المنابر السياسية داخل الاتحاد الاشتراكي ، والتي تحولت الي احزاب عام ١٩٧٧..
والتجربة الحزبية المصرية الحديثة لها الان حوالي خمسون سنة ، ومع ذلك لا يمكن القول انها تجربة ناضجة او مكتملة ، ويمكن سريعا تقديم الملاحظات التالية في ظروف عمل وتطور الاحزاب المصرية :
١ ــ انها احزاب لا تستند الي قواعد جماهيرية ، والسبب في ذلك انها لا تمثل قوي اجتماعية محددة ، فليس هناك حزبا سياسيا يمثل الطبقة العاملة في مصر ، ومعترفا به من ابناء تلك الطبقة ، وليس هناك حزبا يمثل الرأسمالية المصرية ومعترفا به من ابناء تلك الطبقة ، وليس هناك حزبا يمثل الطبقة الوسطي المصرية ... وهكذا..
٢ ــ كانت نتيجة ما سبق ، اي في ظل غيبة احزاب تمثل طبقات اجتماعية او تكوينات اقتصادية ان نشأ في مصر نوعين من الاحزاب وهما :
أ ــ احزاب أشخاص او مجموعات منغلقة علي بعضها ، تكاد تصل الي تكوين مجموعة من الاصدقاء والمعارف حزبا سياسيا او تكوين عائلة معينة حزبا سياسيا ... ب ــ احزاب وجدت في الدين الرافعة التي تستطيع بها حشد الجموع والمنافسة بها للوصول الي مقاعد السلطة ، وهو اتجاه غريب علي كل التجارب الديموقراطية حول العالم ، والتي رفعت المقدس الديني فوق التنافس الحزبي او التنافس علي حيازة السلطة ...
٣ ــ كان من نتيجة ذلك ان تدني التنافس السياسي في مصر الي اسلوب المكايدة ، فكل من يمارس السياسة في مصر اليوم اشخاص لا يعرف احد من يمثلون بالضبط ، او باسم من يتكلمون ، واخرون اخذوا الدين في قبضتهم وحرموا الاخرين منه واعطوا لأنفسهم ــ بلا حق ــ توزيع درجات التقي والصلاح بين الناس ، والمشكلة ان سلوك هؤلاء السياسي وحدة اخلاقهم ولساتهم تتنافي تماما مع قيم الدين ــ اي دين ــ وما يضفيه علي المؤمن به من هدوء النفس و سمو الخلق وعفة اللسان ... وهو ما ادخل الحياة السياسية المصرية الي نوع من المهاترات لا تنتهي ، وأكاذيب وشائعات لا تتوقف ، مع لغة في الحديث وصلت الي مرحلة البذاءة ...
٤ــ ترتب علي كل ما سبق ان هناك فراغا سياسيا يحسه الجميع في مصر ، ولا يعرف أحد كيف يمكن شغله ، اذا انشأت السلطة حزبا سوف يظل حزبا سلطويا ، وسوف يتهاوي عندما ينتهي حكم من انشأه ، وفي اغلب الاحيان سوف يكون عبئا علي الحاكم اكثر من ان يكون عونا له ...
واذا ترك الامر للتنافس بين احزاب الاشخاص فأغلب الظن ان يصل الي السلطة العليا في البلاد احد المغامرين ، او احد الاتجاهات السياسية غير المسئولة ...
واذا ترك الامر للتنافس الحر بين احزاب الاشخاص والاحزاب الدينية سوف يفوز بطبيعة الحال الاحزاب الدينية ، وهي احزاب منفلتة وضيقة الافق ولديها ميل غريزي نحو العنف ، بالاضافة الي مشكلتها الاكبر كأحزاب لا تؤمن بالاوطان التي تحكمها ، بل بفكرة هلامية عن خلافة اسلامية تتلاشي فيها الحدود بين الدول ، حيث يمكن لرجل من ماليزيا مثلا او السنغال ان يحكم مصر في حين لا يسمح لمصري مسيحي ان يحلم ــ مجرد الحلم ــ ان يحكم بلده !!
.. تكلمنا عن مشاكل التجربة الحزبية والسياسية المصرية ، ولكن.. اين الطريق من هنا ... كيف يمكن ان نتلاشي تجربة سوريا ، بل وتجربة مصر ذاتها بعد يناير ٢٠١١ ، التي وجدت نفسها مرة واحدة امام تيارات سياسية دينية شديدة التطرف ، وجدت من الشعب اذنا صاغية بسبب فراغ الحياة السياسية المصرية وتكلسها لعقود ، وخلوها من الحيوية ...
رأيي الشخصي ان الزمن لن ينتظر احدا... فلن ينتظرنا الزمن حتي تتكون هيئات اجتماعية واقتصادية متماسكة تبحث عن تعبير سياسي متوازن تستطيع الامة المصرية الاطمئنان اليه ، وبالتالي يمكن ــ مع استبعاد التيارات والافكار المتطرفة واستبعاد الاحزاب ذات الاطار الديني لأنها ضد منطق الديموقراطية ــ تنظيم نوع من التنافس بين الاتجاهات السياسية الوطنية في مصر ، مع ابتعاد السلطة عن التدخل ولو بالايحاء ، فربما يظهر مع الزمن بناء سياسيا متماسكا في مصر ، وربما يدفع ذلك اتجاهات وتكوينات اجتماعية واقتصادية مصرية من بدايات عمل جدي ، وربما تدفع حيوية الشعب المصري وقواه الحية مصر بعيدا عن منزلقات وحفر وقعت فيها شعوب حولنا ولا يبدو انها سترسو قريبا علي شط الأمان ...
#أحمد_فاروق_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دروس المأساة السورية (2) التوازن في العلاقات الاقليمية والدو
...
-
دروس المأساة السورية (1) طول بقاء الحاكم في مقعده ....
-
الألهة التي تفشل دائما ...
-
هل كان استخدام القوة افضل الخيارات العربية في هذه المرحلة ؟!
-
وقف الحرب في غزة...
-
الجندول....
-
أعطني الناي ... وغني.
-
يامه القمر علي الباب ... وكيف كانت الأغاني الخليعة قديما !!
-
ثورة الشك ...
-
هل الخطر من الداخل ... أم من الخارج ؟!
-
مصر ... وسوريا الجديدة .
-
أنور السادات ...
-
قنوات الاخوان ... وهل نحن خائفون مما حدث في سوريا ؟!
-
فصل جديد ...من قصة طويلة !!
-
محمد مرسي .. وأحمد الشرع !!
-
فيم واين اخطأ بشار الاسد بالضبط ؟!
-
اسئلة اليوم التالي ...
-
يوم حزين .. ويوم سعيد ...
-
هل ما حدث في سوريا ممكن الحدوث في مصر ؟!
-
هجمة مرتدة ..
المزيد.....
-
نانسي عجرم تنشر فيديو طريفًا من كواليس تصوير -طول عمري نجمة-
...
-
شاهد الطريقة التقليدية لصناعة صلصة الصويا في اليابان
-
مصدر مقرب من ترامب: الرئيس لا يحب -بيبي- ولا يثق به
-
تركيا تعلن استقبالها 15 أسيرا فلسطينيا أبعدتهم إسرائيل
-
متقاعد تركي يحول الأحذية المستعملة إلى حديقة معلقة تخطف الأن
...
-
ليبرمان: الثمن الذي تطلبه السعودية مضاعف ونؤيد تسليم مصر مسؤ
...
-
سارة فاغنكنيشت: صفقة واشنطن مع أوكرانيا ستكون كارثية لأوروبا
...
-
لافروف: الشرق الأوسط ليس ساحة للعب
-
الجيش الإسرائيلي: منفذ هجوم حاجز تياسير فاجأ الجنود
-
الجزائر.. وفاة رئيس حكومة الجزائر الأسبق أحمد غزالي
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|