أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أكرم شلغين - أرض تأكل أبناءها















المزيد.....


أرض تأكل أبناءها


أكرم شلغين

الحوار المتمدن-العدد: 8242 - 2025 / 2 / 3 - 20:12
المحور: الادب والفن
    


إنه الزمن الرمادي حيث الخوف هو العملة المتداولة. الجميع يتهامسون وكأن الجدران نفسها تتجسس! لا أحد يثق بأحد والجميع متهم حتى يُثبت العكس. في شوارع مدينة اللاذقية التي أصبحت كئيبة تحت حكم من جعلوا من الناس سجناء دون جدران سجن، كان الخوف يزحف على الأكتاف مثل كابوس مستمر، لم تكن هناك وجوه، بل أقنعة تحمل نظرات شاحبة مثقلة بالخوف والتعب وأصحابها تمشي بعينين حذرتين، تتبادل الكلمات همسا فلا أحد يعرف من يراقبه ومن سيشي به ولماذا أو متى...! والهواء والذي يُفترض أن يكون مجانيا صار خانقا مشبعا برائحة الترهيب يثقل الصدور...
في وسط هذا العالم المحاصر والمحكم بقبضة الرعب عاش ياسر الذي لم يكن إلا مجرد شاب في أواسط عشريناته يطمح أن يعيش حياة عادية: تعليم وعمل وكرامة بسيطة. لكنه كان يعرف منذ سن مبكرة أن العادي مستحيل هنا فالطموحات تقمع كما تُسحق ورقة تحت حذاء العسكر؛ كان يحلم كما يحلم من في سنه لكن أحلامه كانت دائما مهددة بالإعدام قبل أن تولد؛ فمثلا فرح كامل بتحصيله الجامعي بتفوق ـ دون أن يقفز بمظلة ـ وأراد أن يتابع تعليمه ما بعد الجامعي لكن أوراقه قوبلت بما قيل له ـ بشكل سافر ـ إن أبواب المتابعة مغلقة أمام من لا يملك "الحظوة" أو "التعاون" و ما أفرغ في ثنايا نفسه مزيدا من الخوف والرعب جاء ذات صباح ماطر حين اقتادته أقدام قصاصة ورق تطلبه إلى فرع المخابرات السياسية في اللاذقية. هناك في الفرع، غرفة ضيقة في الطابق الثاني تعبق برائحة السجائر وبها طاولة معدنية باردة بلون رمادي زالت من سطحها بقع من الطلاء وأصبحت تهتز إن لمستها، رجال بأعين متحجرة وأسئلة تزن الجبال بدأت حالما جلس ياسر أمام المحقق ببذلة سوداء وعينين فارغتين. "هل تريد أن تنضم إلينا؟"، سأل المساعد بابتسامة تشبه طعنة خنجر. وراح يكثر من الأسئلة والإهانات... وإضافة لإهاناته أثناء التحقيق، طلب المساعد من كامل مهمة تجسس تتلخص في أن يمثل الولاء لمجموعة يسارية طامحة بالتغيير ويلتحق بهم فقط ليكتب عنهم تقارير عما يفعلون وأين يلتقون وما هي خططهم للمستقبل ومع من يتواصلون...إلخ
كان كامل صامتا يسمع ولا يجيب حين هزه صوت المحقق بالقول: "يا جحش اللي بده يشتغل عند الدولة بده يحمل سيف الدولة..." كم كان الألم جارحا فالكلمات سياط تلهب روحه فيغمره حزن عميق ورغبة خفية في أن تمحو قوة غامضة هذا الانكسار. كان كل شيء حوله يضيق وكأن الإهانة حفرت أثرا لا يُمحى في قلبه. المحقق يسمعه الإهانات وكامل يفكر في داخله لو أن قوة تحمله بعيدا وتخفيه وتبعده عن هذه الأجواء. مضت ساعات والأسئلة تنهال عليه والتحقير والإذلال والتهديد. ثم قدم المحقق أوراقا بيضاء وقلم طالبا منه أن يكتب تاريخه بالكامل ومن هم الناس الذين عرفهم من قبل ويعرفهم الآن وماهي الأحزاب التي نتسب إليها وأسماء أصدقائه...كان كامل يتمنى في داخله لو أنه لم يولد على وجه الأرض ولم يصل إلى ما هو عليه. في لحظة انتبه فيها المحقق إلى امتعاض كامل فصرخ به: "أكتب ولاك جحش...ويا ويلك اذا بتكذب..." راح كامل يكتب بادئا بأنا كامل ابن فلان مواليد كذا والطاولة المعدنية التي يستند إليها تهتز وهو يرتجف فأعاد المحقق صراخه: "عم ترجف يا جحش!؟ مبين مخبى شي...اكتب كل شي والا بعدمك وما في حدا بيسمع فيك..." تفاقم الشعور بالعطش لدى كامل حيث شعر به من قبل ولكنه كان يخاف من أن يطلب أن يشرب فتزداد الإهانات فتشجع بناء على مطالب جسده البيولوجية وقال: "عطشان ومحتاج أشرب" فقال له المحقق: "وقف على حيلك" فوقف كامل ثم أشار المحقق: "أحمل هذا الكأس بطرف أصابعك كي يتسخ منك" نظر كامل إلى كأس صغير لشرب الشاي به بقايا شاي بعد ان انتهى من شربها المحقق ونفذ كلام المحقق اذ حمل الكأس بطرف السبابة والابهام ليده اليمنى وخرج مع المحقق ماشيا ثم أمره بالتوقف أمام مزراب تحت طرفه الأسفل تنكة صدئة أسفلها موحل ومؤكد أنها تحتوي، بالإضافة للأتربة المتجمعة من الغبار على السطح قبل المطر، على بقايا مخلفات الطيور التي تقف على الأسطحة. صرخ المحقق: "بطرف اصابعك عبي واشرب واياك ثم اياك أن تمتد أصابعك القذرة للماء النضيف." فعل ذلك وبدا ما شربه وكأنه بلل لحلقه ليس أكثر فأراد أن يملأ الكأس من جديد ولكن المحقق صرخ به: "حاجتك ولاك" وأعاده إلى غرفة التحقيق. ليستمر بأسئلته لوقت حسبه ياسر دهرا...ثم نظر المحقق لساعته وصرخ لياسر: "اتبعني ولاه" ففعل ياسر ونزل خلف المحقق الذي يحمل أوراقا وملفا إلى الطابق الأول بمستوى الأرض. ودخل المحقق مقدما تحية عسكرية لمن يجلس خلف طاولة كبيرة مكتوب عليها اسم الضابط...جلس المحقق وبقي ياسر واقفا ريثما قرأ الضابط بعض من تلك الأوراق ثم التفت الضابط لياسر وقال:
"أريدك أن تخدم بلدك."
"كيف؟" سأل ياسر بصوت يكتم ارتجافه.
"كما عرض عليك، تنضم إلى مجموعة يسارية وتبقى عيننا هناك. ما عندك نفس وطني يا حمار؟"
كتم ياسر أنفاسه. لم يكن أمامه خيارات سوى الرضوخ قولا وليس فعلا، لكنه كان قد حسم أمره داخليا: " يجب أن أهرب... من هذا البلد ومن هؤلاء الناس ومن نفسي التي صارت عدوة لي". في داخله، كانت معركة تمزق روحه. كل ما كان يريده هو الخروج من بين براثنهم والهروب من هذا الوطن الذي صار سجنا كبيرا. فكر للحظة خاطفة أن يُقدّم نفسه لأقرب سفارة لإسرائيل فور خروجه من بين براثن هؤلاء...
لم يطلق سراحه قبل الليل حيث عاد سيرا على الأقدام إذ لا يمتلك أن يستأجر تاكسي...عند وصوله لذلك المنزل المتواضع في أحد الأحياء الفقيرة باللاذقية كانت والدته بانتظاره تلطم كفا بكف لأنها لا تعرف شيئا عنه أو أين كان طيلة هذه المدة ثم فجأة عادت إليها الروح عند رؤيته... جلس ياسر أمام والدته وهي المرأة التي تكسوها السنوات والتعب لكن دفء الحب ما زال يضيء عينيها المرهقتين. كان ينظر إليها بألم يعرف أنه سيخذلها عاجلا أو آجلا...لم يرد أن يشغل بالها بما مر فيه ولا تنقصها المرارة والاحزان فهي المرأة التي شهدت اعتقال عدد من أقاربها من قبل وكذلك فقدت زوجها حيث لم يتوفر دواء له في السوق ولم يكن معهم ما يكفي لشراء الدواء من أسواق خارجية...فمات....
في الصباح تسلل ياسر إلى بيت إحدى قريباته وأخبرها بأن تُعلم فلان وفلان وبقية المجموعة أن فرع الأمن السياسي أوكل إليه مهمة مراقبتهم ورجاها أن يبقى الأمر طي الكتمان لأنهم هددوه بالقتل إن هو أباح بكلمة واحدة عن الأمر.
بعد يومين كان قد استفسر عن أقرب وسيلة تجعله يخرج من البلد وعرف أن اليمن تستقبل مدرسين فبأسرع ما يمكنه جمع الأوراق اللازمة ورح يفكر بالسفر هربا أو بدفع رشاوي يستدينها على أمل إرجاعها لاحقا أو بأي طريق ممكن. الآن تبرز مشكلة أخرى وهي كيف سيقنع أمه التي يحبها ويحرص عليها بأن تستقبل فكرة سفره بعقلانية وهي المرأة العاطفية!
جلس أمامها وقال:
"أمي أنا بدي سافر .." امتعضت الأم وسألت: "شو تسافر وتتركني هون!؟ " فأضاف: "هون ما عندي حياة."
قالت أمه بعاطفية مفرطة :"وأنا بموت لو بعدت عني"
فقال: حتى الهوا العم أتنفسه هون صار يخنقني... ما الي مكان هون ولا حياة الي في أرض تبتلع أبناءها.
"وا خيي... كيف بدي عيش بلاك؟ أنا ما عندي بالدنيا أغلى منك ولا عندي غيرك!"
حاول أن يبقى صامتا، لكن دموعه خانته. كل كلمة من والدته كانت كالطعنات. أراد أن يصرخ: حرريني من حبك الذي يشدني للبقاء في هذا الجحيم! لكنه أمسك بلسانه، خوفا من جرح قلبها أكثر.
بعد أيام قليلة كان ياسر جالسا في الظلام يفكر بحلول لا وجود لها. الخيار الوحيد كان هو الهروب. إلى أي مكان والآن فرصته المحدودة هي اليمن المهم أن يبتعد عن هذا السجن الكبير. في اليوم التالي أعاد الكلام عن السفر أمام والدته ممسكا بيديها المرتعشتين ليُطمئنها، لكنه لم يجد كلمات. انفجرت دموعها وارتفع ضغطها حتى نزفت أذنها فجأة... ظن لوهلة أنه قتلها، هرع لإسعافها بأقصى ما يستطيع. حين استفاقت من أزمتها، ضمته إليها كأنها تعرف أنه الرحيل الأخير.
بعد أيام قليلة استطاع كامل ان يحصل على موافقة بالخروج دون ان يوقفه أحد وذلك بعد دفعه رشوة اقترضها من أقرباء على أمل إعادتها. غادر كامل. كانت عيناه متورمتين من البكاء وروحه مثقلة بعاطفة والدته التي تطارده كظل. في لحظة مثيرة التفت بآخر نظرة إلى المدينة التي أحبها وكرهها في آن واحد.
كان يفكر لا حياة هنا... لكن هل سأعيش خارجها؟ أم أن أوجاعها ستظل ترافقني؟
سافر كامل، لكنه ظل أسير ما ترك خلفه: أم باكية، وطن مختنق، وذكرى لا تتوقف عن صراخها في داخله. كانت الطرقات التي عبرها طويلة، لكنها لم تبعده عن ألمه، بل زادت من ثقل الحنين في صدره. كل خطوة إلى الأمام كانت تجرّه إلى الوراء، حيث الأطياف التي تلاحقه، حيث الوداع الذي لم يكتمل، حيث الكلمات التي لم تقال، والتي ما زالت تخنق صمته.
كان يكرر في نفسه لقد خانوا البلد، لكنني لم أفعل واستعدت توازني ولم أذهب إلى سفارة العدو وذلك لتفكير لم يكن إلا صرخة روح محاصرة، ولن أقدر على تحمل ندم كهذا يوما لو أنني قدمت خدماتي لعدو.
بعد سنوات غادر اليمن إلى أوربا ...في كل محطة، كان يحاول أن يختبئ من صور أموات بلده في زحام الغرباء، لكنه كان يراهم في عيون العابرين، في نوافذ القطارات، وفي لحظات السكون حين يتوقف كل شيء إلا صدى قلبه المثقل. هل حقا يستطيع الوطن أن يكون مجرد ذكرى؟ أم أنه يسكن الجسد كما تسكن الروح، لا يغادره حتى وإن ابتعد؟



#أكرم_شلغين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين العنف والعفو: مقاربات أدبية وفلسفية في طبيعة الإنسان
- ونتساءل عن لوطن
- الموت: التأمل في اللايقين الحتمي
- تأمل سريع في مرور الزمن ودروس الحياة
- الحلم بالنهوض بعد الظلم والقمع
- أهمية القاعدة الشعبية في الحكم
- فراق أبدي
- سوريا: ملتقى الشعوب ونموذج للتعايش الثقافي
- أمل سوريا الجديد
- الانتقام والهدم: نحو تجاوز إرث الثأر لبناء سوريا المستقبل
- الخوف: ثقافة عالمثالثية أم تركيب اجتماعي؟
- الخبز والحرية: الاحتياج المادي والكرامة الإنسانية
- من الاستبداد إلى الشتات: حكاية وطن تحت قبضة الطغيان
- سوريا: وطن منهك بين السيادة المزعومة والحقيقة المرة
- بين الفطرة والتطرّف
- -صموئيل بيكيت: انعكاسات عبثية على الوجود الإنساني-
- هويتنا المفقودة
- لقاء لأجل الجواب عن سؤال -ما العمل!؟-
- إلى أين نحن ذاهبون
- طفل الاغتصاب


المزيد.....




- أم كلثوم.. هل كانت من أقوى الأصوات في تاريخ الغناء؟
- بعد نصف قرن على رحيلها.. سحر أم كلثوم لايزال حيا!
- -دوغ مان- يهيمن على شباك التذاكر وفيلم ميل غيبسون يتراجع
- وسط مزاعم بالعنصرية وانتقادها للثقافة الإسلامية.. كارلا صوفي ...
- الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته ...
- شائعات عن طرد كاني ويست وبيانكا سينسوري من حفل غرامي!
- آداب المجالس.. كيف استقبل الخلفاء العباسيون ضيوفهم؟
- هل أجبرها على التعري كما ولدتها أمها أمام الكاميرات؟.. أوامر ...
- شباب كوبا يحتشدون في هافانا للاحتفال بثقافة الغرب المتوحش
- لندن تحتفي برأس السنة القمرية بعروض راقصة وموسيقية حاشدة


المزيد.....

- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أكرم شلغين - أرض تأكل أبناءها