|
إيمانويل كانط: فيلسوف النور الذي رسم حدود العقل والإنسان
بهجت العبيدي البيبة
الحوار المتمدن-العدد: 8242 - 2025 / 2 / 3 - 18:14
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في قلب القرن الثامن عشر، عصر الأنوار الذي اهتزت فيه أركان الفكر الأوروبي بين إرث القرون الوسطى العتيق وموجات التنوير الجريئة، بزغ نجم إيمانويل كانط كواحد من أعظم العقول التي صاغت فهمًا جديدًا للإنسان والعالم. لم يكن كانط مجرد فيلسوف من أولئك الذين يكررون أسئلة السابقين أو يبنون على أنقاض أفكارهم، بل كان مهندسًا فكريًا مبتكرًا، أعاد رسم حدود العقل البشري وأجاب عن الأسئلة الأساسية التي تشغل وجدان الإنسان. لقد كان كانط ابنًا لمدينة كونيغسبرغ - كالينينغراد في روسيا الآن - تلك المدينة البسيطة التي لا توحي بسكانها العاديين بأنها ستنجب عقلًا استثنائيًا. لقد عاش حياته كلها في هذه المدينة ولم يغادرها قط، لكن أفكاره تجاوزت حدود الجغرافيا لتصل إلى أرجاء العالم. إنه كان رجلًا يعيش بانضباط مذهل؛ روتينيًا في مظهره، لكنه يحمل داخله عقلًا يموج بالأفكار والأسئلة. يقول جيرانه إنه كان ثابتًا في عاداته اليومية إلى درجة أنهم اعتادوا ضبط ساعاتهم على موعد نزهته اليومية، تلك النزهة التي تبدو بسيطة لكنها كانت وقتًا للتأمل العميق، حيث ينغمس في أسئلته الفلسفية حول الوجود والمعرفة والإنسان. لقد أطلق كانط مشروعه الفلسفي في زمن كانت فيه أوروبا تتصارع بين نظرتين متناقضتين للمعرفة: العقلانية، التي تأسست مع رينيه ديكارت ورأى أتباعها، مثل باروخ سبينوزا وجوتفريد لايبنتز، أن العقل وحده قادر على إدراك الحقيقة، باعتباره مصدر المبادئ القبلية التي تسبق التجربة. وعلى الجانب الآخر، التجريبية، التي ارتبطت بـجون لوك وتطورت مع جورج بيركلي وبلغت ذروتها مع ديفيد هيوم، حيث أكدت أن التجربة الحسية هي المصدر الوحيد للمعرفة، وأن العقل لا يمتلك أفكارًا فطرية، بل يولد صفحة بيضاء تكتسب محتواها من الإدراك الحسي. وبين هذين القطبين المتناقضين، ظهر إيمانويل كانط ليقدم حلاً مبتكرًا يجمع بينهما في إطار واحد. ففي كتابه "نقد العقل الخالص"، الذي يُعد أحد أعظم الأعمال في تاريخ الفلسفة، شرح كانط كيف أن المعرفة ليست مجرد انعكاس للواقع الخارجي على صفحة عقل بيضاء، كما تصور التجريبيون، وليست أيضًا منتجًا خالصًا للعقل كما رأى العقلانيون، بل هي نتاج تفاعل معقد بين العقل والتجربة، حيث يُسهم العقل في تنظيم معطيات الحس وفق مفاهيمه الفطرية، مما يجعل المعرفة ممكنة. بهذا الطرح، سعى كانط إلى تجاوز الجدل بين المدرستين، مؤسسًا ما عُرف لاحقًا بـالمثالية المتعالية التي مهدت الطريق لتحولات فلسفية كبرى في الفكر الغربي. وفقًا لكانط، فإن العقل البشري ليس مجرد مستقبل سلبي للمعلومات، بل هو مشارك نشط يفرض شروطه على ما ندركه. هذه الشروط هي القوالب العقلية التي تجعل التجربة ممكنة، مثل مفاهيم الزمان والمكان والسببية. بعبارة أخرى، لا ندرك العالم كما هو في ذاته، بل كما يظهر لنا من خلال هذه القوالب. هنا كان كانط يعيد تعريف حدود العقل الإنساني، مؤكدًا أنه ليس أداة مطلقة قادرة على فهم كل شيء، بل هو محكوم بحدود تجعله عاجزًا عن الوصول إلى “الأشياء في ذاتها”، تلك الحقيقة المطلقة التي تبقى خارج متناول إدراكنا. لكن كانط لم يتوقف عند حدود المعرفة، بل مدّ فلسفته إلى عالم الأخلاق، حيث أحدث ثورة فكرية لا تقل أهمية. في كتابه “نقد العقل العملي”، قدّم مفهوم “الأمر القطعي”، وهو المبدأ الأخلاقي الذي يقوم على فكرة بسيطة وعميقة في الوقت ذاته: تصرف دائمًا بطريقة تجعل من أفعالك قاعدة يمكن تعميمها لتصبح قانونًا عالميًا. كان هذا المفهوم خروجًا عن الفلسفات الأخلاقية التي اعتمدت على النتائج أو المنفعة. بالنسبة إلى كانط، الأخلاق ليست مسألة براغماتية، بل واجب نابع من احترام الإنسان لعقله وإرادته الحرة. هذا التصور للأخلاق كان بمثابة دعوة لتحرير الإنسان من قيود المصلحة الشخصية أو الضغوط الخارجية، وهو ما جعل فلسفة كانط الأخلاقية تتسم بالجرأة والثورية. لقد كانط كان يؤمن بأن الإنسان قادر على التصرف وفقًا لهذه المبادئ المطلقة لأنه كائن عاقل، وأن العقل ليس مجرد أداة لفهم العالم، بل هو أيضًا مرشد أخلاقي يمكنه أن يوجهنا نحو الصواب. إلى جانب معرفته وأخلاقه، كانت لكانط نظرة عميقة ومبتكرة للجمال. في كتابه “نقد الحكم”، تناول طبيعة الجمال من منظور فلسفي غير مسبوق. حيث رأى كانط أن الجمال ليس مجرد صفة موضوعية للأشياء، كما كان يعتقد البعض، ولا هو انطباع ذاتي بحت. بل الجمال، بالنسبة له، تجربة تنبع من تفاعل متناغم بين الذات والموضوع. فعندما ننظر إلى لوحة فنية أو منظر طبيعي، فإننا لا نرى فقط شيئًا خارجيًا جميلًا، بل نشعر بانسجام داخلي بين حواسنا وعقولنا، وهو ما يولد شعورًا بالمتعة. هذا الفهم للجمال جعل من الفن وسيلة لرفع الإنسان فوق الماديات، ونافذة لرؤية العالم بشكل أعمق وأكثر إنسانية. بالنسبة لكانط، الفن ليس مجرد وسيلة للتسلية أو التعبير، بل هو مساحة تأملية يمكننا من خلالها إدراك انسجام الكون وفهم دورنا فيه. إن فلسفة كانط ليست مجرد أفكار معقدة تتحدث عن العقل والمعرفة، بل هي في جوهرها دعوة إلى تحرير الإنسان. تحريره من قيود الجهل والخرافة، من سلطة القوانين التي تفرض عليه من الخارج، ومن النظرات السطحية التي تحد من قدرته على رؤية الجمال في العالم. كانط كان يؤمن أن العقل هو أعظم أسلحة الإنسان، وأن استخدامه بشكل صحيح يمكن أن يفتح آفاقًا جديدة أمام البشرية. لقد ترك لنا كانط إرثًا فكريًا لا يزال يلهمنا حتى اليوم. لقد أثبت أن الأسئلة التي تبدو مستحيلة ليست سوى بداية لفهم أعمق، وأن الإنسان ليس مجرد كائن عابر في هذا الكون، بل هو كائن يمتلك قدرة غير محدودة على التفكير والتأمل والإبداع.
حين نقرأ كانط اليوم، نجد أنفسنا أمام رجل لم يكن مجرد فيلسوف، بل كان نبيًّا للأنوار، صوتًا قويًا للعقلانية، وداعيًا إلى الإنسانية. إن فلسفته هي تذكير دائم بأننا كائنات قادرة على الفهم، على الإبداع، وعلى بناء عالم أفضل. في مقاله الشهير ما التنوير الذي كتبه عام 1784 ردا على القس يوهان فريدريش تسولنر عرف كانط التنوير بأنه تحرر الإنسان من قصوره الذاتي الذي جلبه على نفسه بسبب عجزه عن استخدام عقله دون توجيه من الآخر، داعيا الأفراد إلى استخدام عقولهم بشجاعة "اجترئ على الفهم" بعيدًا عن سلطة الوصاية الفكرية التي تفرضها المؤسسات السياسية والدينية بهذا الطرح، أراد كانط أن يضع العقل في مركز التوجيه الذاتي للإنسان، فاتحًا الطريق أمام مشروع الحداثة الفكرية والسياسية. إن إرث كانط ليس مجرد تأملات فلسفية، بل هو دعوة مفتوحة لنا جميعًا للاستمرار في التفكير، للاستمرار في طرح الأسئلة التي يبدو أن لا إجابة لها. وكأن كانط يقول لنا: ليست الحقيقة هي الهدف النهائي، بل هي الرحلة التي نخوضها في سبيل الوصول إليها، تلك الرحلة التي تجعل من العقل رفيقنا الأكبر، ومن الحرية غايتنا الأسمى. إن تأثير كانط لم يقتصر على الفلسفة المجردة، بل امتد إلى الفكر السياسي والقانوني الحديث، حيث نجد صدى لأفكاره في "مشروع السلام الدائم" 1795 والذي دعا فيه إلى نظام دولي قائم على القانون، واحترام حقوق الإنسان، ومنع الحروب العدوانية، وقد شكلت هذه الرؤية مصدر إلهام لميثاق عصبة الأمم (1919)، الذي سعى إلى وضع أسس للسلام العالمي، ثم أعيد إحياؤها في ميثاق الأمم المتحدة (1945)، وظهرت بوضوح في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948). بهذا، لا تزال فلسفة كانط تمثل أساسًا فكريًا للقانون الدولي الحديث، مؤكدةً أن السلام ليس مجرد غياب للحرب، بل نظام قانوني وأخلاقي يقوم على العدالة والعقل والتعاون بين الشعوب. لقد أثبت كانط، بأفكاره ونظرياته، أن النور يمكنه أن ينبثق حتى في أحلك اللحظات، وأن العقل الإنساني، برغم محدوديته، يمتلك القدرة على صنع العجائب. إنه فيلسوف النور بامتياز، ذلك الرجل الذي عاش حياته بهدوء في مدينته الصغيرة، لكنه رسم للعالم خريطة جديدة لفهم الإنسان والعقل والحياة. ومع ذلك، لم يكن طريقه مفروشًا بالورد، إذ عانت أفكاره من مقاومة شديدة، لا سيما من الكنيسة التي رأت في فلسفته تهديدًا لسلطتها الدينية. فقد هاجمته الكنيسة بشدة، معتبرةً أن أفكاره تشكك في مبادئ الدين والأخلاق التقليدية. لكن رغم هذه العداوة والتوتر الاجتماعي الذي عاشه، فقد كان مشهد جنازته مهيبًا ومؤثرًا، حيث أظهرت الجماهير احترامًا عميقًا له، رغم أنه كان بعيدًا عن التفاعل الاجتماعي المعتاد مع أهل بلدته. لقد كان هذا الاحتفاء الواسع بمثابة تكريم لروح فكره العظيم وإسهاماته التي غيرت مجرى التاريخ الفلسفي. وقد تجسد هذا التناقض بين عزلة كانط الاجتماعية واحتفاء العالم بفلسفته في جنازته، مما يبرز عمق تأثيره على الفكر الإنساني.
#بهجت_العبيدي_البيبة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجنون في الحكم: من الحاكم بأمر الله إلى ترامب … بين الطبع و
...
-
مرموش..لماذا يدعم المصريون أبطالهم عالميًا؟ قراءة نفسية واجت
...
-
في غياهب الغيبوبة العقلية: من يستفيد من تغييب الوعي؟
-
هل يستطيع ترامب تنفيذ تصريحاته حول المثليين .. حدود السلطة ت
...
-
بين ابتلاء العقل وابتلاء الواقع: قراءة في حريقين… وعقلين
-
في عالم متغير: نحو نظام عالمي جديد بين التحديات والطموحات
-
العقل العربي بين قيود الماضي وأحلام المستقبل
-
الحضارة الغربية بين القيم والانتقادات: رؤية متوازنة
-
من هزيمة المغول إلى كسر أوهام الشرق الأوسط الجديد: مصر مقبرة
...
-
المستقبل في ظل الاعتماد على الروبوتات: العالم بين الابتكار و
...
-
لماذا ينتظر العقل الجمعي العربي والإسلامي انهيار الحضارة الغ
...
-
العقل الديني واستغلال الكوارث: بين الادعاء والحقيقة
-
مجدي يعقوب: أيقونة الإنسانية والعلم في مسار نحو نوبل وجامعة
...
-
الأسرى في ظلال الكهف: رحلة العقل من القيود إلى النور
-
العقل المسلم بين تأكيد القناعات الذاتية والوقوع في فخ الأخبا
...
-
العقل العربي بين الشماتة والكوارث: قراءة في الانهزام الحضاري
-
أصداء الرعب: كيف تتحطم الأمم تحت وطأة الديكتاتورية
-
العرب والمسلمون بين أسطورة الماضي وسراب الحاضر
-
الإنسان المغترب: قراءة في فكر إريك فروم وأبعاد الاغتراب في ا
...
-
انتظار الحلول الغيبية: هروب من الواقع أم أمل زائف؟
المزيد.....
-
قبل دخولها حيز التنفيذ.. كيف سترد الصين وكندا والمكسيك وأورو
...
-
دهشة بعد -ولادة عذرية- لسمكة قرش في حوض أسماك يضم إناثًا فقط
...
-
لمواجهة تهديدات ترامب التجارية وتعزيز الإنفاق الدفاعي.. القا
...
-
مهرجان -إنديابلادا- في إسبانيا يحيي تقاليد تاريخية بالأجراس
...
-
حرب -لا رابح- فيها.. أوروبا تتوحد ضد سياسة ترامب الجمركية
-
الخارجية المصرية: أمن الخليج جزء لا يتجزأ من الأمن القومي ال
...
-
الشرع يتحدث لـ-تلفزيون سوريا- عن معركة إسقاط النظام: خطط لها
...
-
هوليوود مهددة بسبب رسوم ترامب الجمركية على كندا
-
مدفيديف: الأموال الأمريكية المخصصة لكييف نفدت في جيوب اللصوص
...
-
إعلام: الولايات المتحدة لم تكن تعلم بالكميات الدقيقة للأسلحة
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|