أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الطاهر المعز - إفريقيا بين الثروات الطّبيعية والدُّيُون والفَقْر















المزيد.....


إفريقيا بين الثروات الطّبيعية والدُّيُون والفَقْر


الطاهر المعز

الحوار المتمدن-العدد: 8242 - 2025 / 2 / 3 - 12:08
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مُقدّمة
عانت قارة إفريقيا من العُبُودية، بداية من القرن الخامس عشر، حيث كانت السُّفُن الضّخمة تشحن ملايين الشباب الذين يتم اصطيادهم واقتيادهم بهدف بيْعِهم في أمريكا الجنوبية وجزر بحر الكاريبي ثم في أمريكا الشمالية من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر، لتصبح الولايات المتحدة – بفضل العبودية والعمل المجاني في المزارع ثم في المصانع والسّجون – أكبر قوة امبريالية عالمية، وتعرّضت قارة إفريقيا – خصوصًا المناطق السّاحلية – للإستعمار الأوروبي المباشر، ثم الإستعمار غير المباشر الذي لا يزال سائدًا، لأن "الاستقلال" الشّكْلِي لم يُؤَدِّ إلى التّخلُّص من الهيمنة الإمبريالية التي نَصّبت عُملاءها على رأس جهاز الدولة ليخْدِموا المصالح الإمبريالية والشركات التي تحتكر استغلال الثروات الطّبيعية الهائلة...
قدّر برنامج الأمم المتحدة للبيئة، قبل أكثر من 12 سنة ( سنة 2012)، إن رأس المال الطبيعي الإفريقي يشكّل ما بين 30% و 50% من الثروة الإجمالية للدول الإفريقية، وإن الموارد الطبيعية للقارة تشكّل 77% من مجمل وارداتها، و42% من مجمل عائداتها الحكومية، مما يعني إنه يتم تصدير هذه الثروات الطبيعية الهائلة خامّة، دون مُعالجة، لتعود في شكل إنتاج مُصنّع، وتحتوي إفريقيا على نسبة 98% من احتياطيات معدن الكرُوم و 90% من الكوبالت والبلاتين و 70% من الكولتان والتانتاليت و 64% من المنغانيز و 50% من الذّهب و 33% من اليورانيوم أو ما يعادل 30% من الإحتياطي الإجمالي العالمي للمعادن و12% من الإحتياطيات المعروفة للنّفط و8% من احتياطيات الغاز، والقارّة قادرة على إنتاج ما يكفيها وزيادة من الغذاء، لأن 65% من أراضيها صالحة للزراعة، ولكن سُكّان القارة – الّذين تُشكّل نسبة الشّباب مِمّن تقل أعمارهم عن 25 سنة 60% منهم - لا يستفيدون من هذه الثّروات التي تستغلها وتستفيد منها الشركات العابرة للقارات والدّول الإمبريالية التي تنهبها، وتُغْرِق الدّول الإفريقية بالدُّيُون، وتُمثّل إفريقيا نموذجًا للتّقْسيم الدّولي للعمل وللعلاقات غير المُتكافئة بين بُلْدان المركز ( الدّول الإمبريالية) وبُلْدان "المُحيط" أو "الأطراف" ( الواقعة تحت الهيمنة الإمبريالية)، ويُتَرْجَمُ ذلك في اعتماد دُول الأطراف ( ومنها دول إفريقيا) على رأس المال الأجنبي ( الشّركات العابرة للقارّات ) لاستخراج ثرواتها الطّبيعية وتصْدِير الموادّ الخام ليتم تصنيعها وتحويلها في الخارج إلى آلات وتجهيزات يُعاد بيعها في بلدان المحيط بأضْعاف سعر تكلفتها، مما يُبْقِي بلدان الأطراف في حالة تَبَعِيّة للإستعمار الذي يحكمها بواسطة "نُخَب" مَحلِّيّة تابعة له.

من مظاهر الهيمنة
استعمرت فرنسا المغرب العربي والبلدان الإفريقية الواقعة جنوب الصّحراء الكبرى ( إفريقيا الغربية) وبعد الإستقلال الشّكلي ( أو الزّائِف ) بقيت الإمبريالية الفرنسية مُهَيْمنة بقوة من خلال الفرنك الإفريقي ( CFA ) ومن خلال القواعد العسكرية واستخدام اللغة الفرنسية كلغة رسمية للعديد من الدّول ومن خلال الهيمنة الإقتصادية للمصارف والشركات في 14 دولة بغرب ووسط إفريقيا وفي مقدّمتها الدّول التي تستخدم الفرنك الإفريقي - CFA - (بينين وتوغو وبوركينا فاسو ومالي والسنغال وساحل العاج والنيجر وغينيا بيساو وتشاد والكاميرون وجمهورية وسط إفريقيا وغينيا الاستوائية والغابون)، وهي مُضطرّة إلى إيداع نصف احتياطاتها من النّقد الأجنبي في المصرف المركزي الفرنسي – مع شُرُوط أخرى عديدة - أو ما يُعادل 500 مليار دولار سنوياً ولا تمتلك الدّول الإفريقية أي سُلْطَة لاستخدام هذه الأموال، ما يَحُدُّ من قدرة هذه الدّول على الإستثمار في التنمية الإقتصادية والزراعة والتصنيع، بل يُشكّل الفرنك الإفريقي ذريعة لتدفقات رأس المال إلى الخارج، بينما بقيت 11 من أصل 14 دولة من دول الفرنك الإفريقي - CFA – من الدّول الأقل نموّاً في العالم وتقع في أسفل مؤشر التنمية البشرية، وفق بيانات الأمم المتحدة، وبذلك بقيت فرنسا، بعد الإستقلال الشّكلي لهذه البلدان، مُسَيْطِرَة على اقتصاد إفريقيا الغربية والوُسطى.
قال الرئيس الفرنسي جاك شيراك ( آذار/مارس 2008 ): "لولا إفريقيا لأصبحت قُوّة فرنسا تُضاهي دولة من العالم الثالث " ، وسبَقَ أن صرّح الرئيس فرنسوا ميتران: " لن يكون لفرنسا تاريخ في القرن الحادي والعشرين، بدون إفريقيا"، ولذلك تعمل فرنسا بكل قُواها على استمرار علاقات الهيمنة واستغلال موارد إفريقيا وتستخدم النّهب والإنقلابات والتّدخُّل السافر في شؤون دول إفريقيا، فضلا عن تكثيف النهب الذي تمارسه المؤسسات والشركات الفرنسية في المنطقة.
اعلنت فرنسا "فك الإرتباط" بالفرنك الإفريقي ( أيار/مايو 2020) لكن لم يتغير شيء من حيث التطبيق العملي، ولم تتحرّر الدّول الإفريقية المَعْنِيّة من التّبَعِيّة والإرتباط المَفْرُوض لأن الترتيبات الجديدة – التي لم يتم تطبيقها - تسمح لفرنسا بمواصلة دورها كضامن لاحتياطات دول غرب إفريقيا ( إيكواس – ECOWAS ) واستمرار سُلْطتها على احتياطات تلك الدّوَل، ولكنّها لم تَعُدْ مُلْزَمَة بمساعدة دول CFA في حال حدوث أزمة، فيما تظَلُّ الشركات والأعمال الفرنسية تتمتّع بأفضليّة في مجال العُقُود والطُّرُوحات العامة، كما احتفظت فرنسا بالحق الحصري في بيع السلاح والعتاد وتدريب الجيوش الإفريقية، مما يَسَّر إشراف فرنسا على الإنقلابات التي تخدم شركاتها ومصالحها.

القواعد العسكرية الغربية وضعفها
أصبحت الولايات المتحدة تُنافس فرنسا، خصوصًا منذ إقرار برنام القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا "أفريكوم"، ووقّعت الولايات المتحدة ن سنة 2018،اتفاقية عسكرية مع غانا مقابل 20 مليون دولار، وحوّل الجيش الأمريكي مطار العاصمة "أَكْرَا" إلى قاعدة عسكرية تضُمُّ شبكة اتصالات ومخزن للذخيرة والأسلحة ومحورًا للرحلات العسكرية الجوية الأسبوعية من قاعدة رامشتاين الأمريكية في ألمانيا إلى غربي إفريقيا وأشارت "خطّة عمليات" وزارة الحرب الأمريكية للفترة 2018-2022، إن الجيش الأمريكي يمتلك أكثر من 568 ألفاً من الأصول، كالمباني والهياكل في 4800 موقع حول العالم، وتلعب إفريقيا دورًا مُهمًّا في الربط بين القواعد والأنشطة العسكرية الأمريكية في العالم، كما يقوم الجيش الأمريكي في إفريقيا تحت قيادة «أفريكوم Africom»، بمشاركة دول أعضاء في حلف شمال الأطلسي، بمهام "تضمن مصالح الشركات الغربية وتدفُّق المواد الخام الضرورية لصناعة الأسلحة والصناعات الأخرى في دول الناتو، والحفاظ على حركة البضائع دون عوائق..." كما تتمثل مهام إفريكوم في تسعير "الحرب الباردة الجديدة" من خلال مراقبة المصالح التجارية الصينية والروسية في القارة الإفريقية، وأصدر الإتحاد الأوروبي ( بعد التّشاور مع الولايات المتحدة) سنة 2020 وثيقة بعنوان "الإستراتيجية الأوروبية الشاملة تجاه إفريقيا" التي تضمّنت "قلق الإتحاد الأوروبي من المنافسة غير النّزيهة في إفريقيا، بشأن استخراج واستغلال الموارد الطبيعية في القارة..."، واحتدم الصّراع الخَفِي بين أوروبا والولايات المتحدة من جهة وروسيا والصّين من جهة أخرى، بداية من سنة 2021، إثر تغيير السلطة في مالي التي طالبت بانسحاب الجيش الفرنسي ( انسحب الجيش الفرنسي فعليا خلال شهر شباط/فبراير 2022)، ليزداد الحضور الرّوسي من خلال رفع المتظاهرين – ضد الهيمنة الفرنسية - العلم الروسي، ثم اضطرت القوات الفرنسية إلى الإنسحاب من بوركينا فاسو سنة 2023، ومن النيجر وطلبت تشاد كذلك سحب القوات الفرنسية الخ، وبذلك لعبت إفريقيا دَوْرًا رئيسيا في إعادة التّوازن وفرض معادلات جديدة تتجاوز تأثيراتها قارة إفريقيا، وأصبحت روسيا أكبر مورّد للأسلحة لإفريقيا، كما تُوَفِّرُ تقنيات جَمْع وتخزين المعلومات المُرْتَبِطَة بأمن الدّول الإفريقية...

من أسباب تراجع نفوذ "الغرب" في إفريقيا
لقد دمّرت المؤسسات الدوليّة التي تسيطر عليها الولايات المتحدة وأوروبا اقتصاد وأمن إفريقيا، من خلال تضخيم "المُساعدات" التي لا تخدم في واقع الأمر سوى مصالح الدّول الإمبريالية وشركاتها، كمامَوّلت هذه "المُساعدات" الفساد والحروب الأهلية، وأعاقت النمو الاقتصادي، بدل تمويل برامج التّنْمِية، وأصبحت هذه المُساعدات المَسْمُومة أحد أهم عوامل التّخلّف، وعلى سبيل المثال، عند انتشار وباء كوفيد، سنة 2020، وعَدَ صندوق النقد الدولي بمنح القروض دون شروط، وبتعليق تسديد الديون، وأعلن تخصيص مليارات الدّولارات بعنوان " مساعدة الدّول الفقيرة على التّعافي "، ونشرت مؤسسة أوكسفام بحثاً سنة 2021، أثْبَتَ أنّ صندوق النقد الدّولي اشترط ( في 13 من أصل 15 برنامجاً ) "فَرْضَ إجراءات تقشّف تتضمّن الضرائب على الأغذية والوقود، أوإجراء اقتطاعات ضريبية هامّة تُعرّض الخدمات العامة للخطر"، وأظْهَر تقرير "مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية" سنة 2020، بعنوان "مجابهة التدفقات المالية غير الشرعية من أجل تنمية مستدامة في إفريقيا" إنّ حجم الأموال التي تمّ إخراجها من إفريقيا بشكل غير شرعي، نحو الملاذات الضريبية بلغت حتى سنة 2010، ما لا يقل عن 32 ترليون دولار، ويضُرّ هذا التّهريب للثروة خارج القارة بأسواقها المالية ويسلبها الموارد اللازمة للتنمية، كما أَظْهَرَ مؤشّر "الالتزام بتخفيض اللامساواة" ( سنة 2021) "إن 14 من أصل 16 دولة في غرب إفريقيا تخطط لتخفيض الإنفاق بمقدار 26,8 مليار دولار من أجل احتواء نزيف أزمة الديون التي شجعت عليها قروض صندوق النقد الدولي أثناء الوباء"...
أدّى الإستنزاف والنّهب الذي تُمارسه الدّول الإمبريالية وشركاتها والمُؤسّسات المالية البتي تُسيطر عليها ( صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي وغيرها ) إلى البحث عن بدائل، فأصبحت الصين أكبر شريك تجاري لأهم الدّول الإفريقية – خصوصًا ضمن مبادرة الحزام والطّريق"، مما ساهم في كَسْرِ الهيمنة "الغربية"، لأن الصين تُقرض بفوائد أقل ارتفاعًا وبشروط لا تتضمن جوانب سياسية، وسمحت القُروض الصّينية بإنجاز مشاريع التنمية والبنية التحتية وتكثيف التبادل التجاري وتنويع الصَّادرات والتدريب وتطوير المهارات، وقُدِّرت استثمارات الصين في إفريقيا بين سنتَيْ 2000 و 2014 بنحو 180 مليار دولار ولا تقتصر هذه الإستثمارات على استخراج المواد الخام، وفق منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية، المناهضة للصين والتي تضم 34 اقتصاد عالمي، وفاقت تمويلات مصارف التنمية الصينية في إفريقيا جنوب الصحراء ( البالغة 23 مليار دولارا بين 2007 و 2020) ضِعْف تمويلات الولايات المتحدة وألمانيا واليابان وفرنسا، وأكثر من تمويلات البنك العالمي، وتحوّلت التمويلات الصينية من التركيز على البنية التحتية إلى تعزيز الشراكات والمبادلات التجارية...

الدّيُون
تزايَدَ اعتماد الدّوَل الإفريقية على الإقتراض من المؤسسات المالية الدّولية وخصوصًا من صندوق النقد الدّولي مُقابل فوائد وشُرُوط مُجحفة، وتضم إفريقيا – سنة 2024 - عشر دول من بين أكثر البلدان مَدْيُونِيَّةً لصندوق النقد الدّولي، ويتعين على الدول الأفريقية مُجتمعة سداد عشرين مليار دولارا سنويّا على مدى السنوات الثلاث المقبلة، وفق البنك الإفريقي للتنمية ( وهو فَرْعٌ من البنك العالمي) الذي أعلن عن إنشاء آلية الاستقرار المالي الأفريقي التي تتمثل في إعادة تمويل دُيُون الدّول الإفريقية مقابل "إصلاحات اقتصادية ومالية شاملة" بهدف "تقليل الاعتماد على الاقتراض المكلف من الأسواق الدولية"، وتتمثل هذه الشُّرُوط في خصخصة القطاع العام وممتلكات الدّولة، وخفض قيمة العُملة والتّخلِّي عن دعم السلع الغذائية والطاقة وخفض الإنفاق الحكومي على البرامج الإجتماعية والتعليم والصّحّة، مما يزيد من استدامة هشاشة اقتصاد هذه الدّول، فيما يعيش نحو ستمائة مليون إفريقي بدون كهرباء في مختلف أنحاء أفريقيا (أو ما يُسَمّى "فقر الطاقة")، مما يجعل فُرَصَ التنمية المحلية والتّعليم والرّعاية الصّحّية والمُساواة بين الجنْسَيْن محدودة لهؤلاء الفُقراء.
كانت 65 دولة فقيرة ( نامية، بلغة المُؤسّسات المالية الدّولية ) تُعاني من ارتفاع مُستوى الدُّيُون الخارجية، ومن بينها الدّول الإفريقية، بين سنتَيْ 2011 و 2019 – قبل انتشار وباء "كوفيد – 19" - وأعلن البنك العالمي ارتفاع "الديون العامة في عيّنة من 65 دولة نامية بنسبة 18% من ناتجها المحلي الإجمالي، وأكثر من ذلك بكثير في بعض الدّوَل، كما في إفريقيا ما تحت الصحراء، حيث ارتفعت نسبة الدين لتصل إلى 27% من الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول بالمتوسط"، ولم يتم إنفاق
هذه الديون على البنية التحتية والتطوير الاقتصادي الذي قد يؤدي إلى تنمية تُمكّن هذه البلدان من سداد الديون، بل تم استخدامها في سداد دُيُون سابقة، وعلى أي حال فالدّائنون يرفضون استخدام الدّيون من أجل التنمية، وأكّد تقرير نشرته منظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة ( يونيسيف ) سنة 2029 (قبل كوفيد) " هناك 16 دولة إفريقية من إجمالي 25 دولة في العالم اضطرّها الدّائنون الخارجيون على تخصيص مبالغ لسداد ديونها تفوق حجم الإنفاق على التعليم والصحة والحماية الاجتماعية"
حصل ذلك قبل انتشار وباء "كوفيد – 19" الذي أدّى إلى الرّكود والتّقشّف وإلى زيادة ضغوط البنك العالمي وصندوق النقد الدولي وارتفاع حجم الديون الخارجية وأعبائها، وخصوصًا الدّيون "قصيرة الأجل" التي استخدمتها المؤسسات المالية الدولية لفرض برامج "الإصلاح الهَيْكَلِي" مما جعل بعض الدّول – بما فيها التي تمتلك مخزنات هائلة من المواد الأولية، مثل غينيا التي تمتلك أكثرَ من ثُلُث مخزون العالم من معدن البوكسيت – تعجز عن تمويل الخدمات الأساسية الضّرورية، وتتَنَصَّلُ مؤسّسات التّمويل ( مثل صندوق النّقد الدّولي) من مسؤوليتها في فَرْض الشّروط المُجحفة، وتدّعي – بدعم من وسائل الإعلام السّائد – إن "أزمة الديون" ناجمة عن سوء التّصرّف وسوء الإدارة وعن الفساد، وليست هذه الأزمة ناتجة عن الشّروط الصّارمة مثل خفض الدعم والتعديلات النقدية وبرامج التقشف، وتأثيرات هذه الإجراءات على القطاعات الاجتماعية الحيوية مثل الصحة والتعليم والبنية الأساسية، كما يحصل في الدول الإفريقية العشرة التي حصلت على أعلى قروض من صندوق النقد الدولي حتى بداية كانون الأول/ديسمبر 2024، والتي تُعدّ من أكثر الدّوَل مديونية في العالم، وفي مقدّمتها مصر وكينيا وأنغولا (الغنية بالنّفط) وغانا وساحل العاج والكونغو الدّيمقراطية والحبشة وجنوب إفريقيا والكامرون والسّنغال، وتتميز هذه الدّول بالإعتماد على المواد الأولية وعدم تنويع الإقتصاد...

تأثير الدُّيُون على حياة المواطنين
ذكرنا في فقرة سابقة عدم استفادة المواطنين من هذه الدّيُون، بل كانت وبالاً على حياة النّاس، لأنهم يُسدّدون دُيُونًا لم يستفيدوا منها، بل تَضرّروا وتراجع مستوى عيشهم، مما زاد من غضب سُكّان مصر ( منذ كانون الثاني/يناير 1977) وتونس والمغرب ونيجيريا وساحل العاج وغيرها خلال العقْدَيْن الأخيرَيْن من القرن العشرين، وأدت الدّيون والأزمة الإقتصادية المستمرة، وارتفاع تكاليف المعيشة وانخفاض القيمة الحقيقية للدّخل إلى غضب المواطنين، وكانت تقارير البنك العالمي وصندوق النّقد الدّولي تتوقّع عودة "الاضطرابات الاجتماعية المتزايدة" خصوصًا في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا، لأن هذه المؤسسات الدّولية تُدْرِكُ جيّدًا التّأثير السّلبي لشروطها على حياة المواطنين، بفعل ارتفاع الأسعار وإلغاء دعم السلع الأساسية وخصخصة القطاع العام، لكن لهذه المؤسسات دَوْرٌ وظيفي يتمثّل في خدمة أهداف الإمبريالية ( الرأسمالية في الحقبة الإحتكارية) وشركاتها العابرة للقارات، خصوصًا بعد انتشار وباء كوفيد، ثم بعد انطلاق الحرب في أوكرانيا حيث ارتفعت أسعار الحبوب – والمواد الغذائية عممًا - وأسعار الوقود والأسمدة، وهي سلع تستوردها الدّول الإفريقية بالعملات الأجنبية، مما أدّى إلى انطلاق احتجاجات ضخمة في كينيا وغانا ونيجيريا وغيرها من البلدان التي رفع مواطنوها لافتات كُتب عليها: "نحن جائعون" أو "الأسعار مرتفعة جداً" أو "أين الدولة؟" أو "نحن فقراء لأننا نتعرض للسرقة وليس لعدم وجود المال في البلد"، وفق لافتات رُفِعت في نيروبي، عاصمة كينيا، وفي نيجيريا – أكبر منتج إفريقي للنفط والغاز - أثار رفع دعم الوقود سنة 2023 موجة من الاحتجاجات، من قِبَل النقابات العمالية والأحزاب والمنظمات الأهلية والطّلاّبية وغيرها، وفي كينيا حدثت صدامات بين قوات الشرطة والمواطنين الذين يحتجُّون على خفض الميزانية وارتفاع الضّرائب وارتفاع الأسعار ونسبة التضخم ( تموز/يوليو 2023 ).
اضطرت بعض الحكومات إلى التّراجع المُؤَقّت عن تطبيق تعليمات الدّائنين، مثلما حصل سابقًا وإثر احتجاجات عارمة في المغرب وتونس ومصر والأردن ونيجيريا وغانا وغيرها، بعد محاولات فاشلة لصدّ المتظاهرين، وبعد قتل وإصابة العشرات أو المئات من المواطنين، مثما حصل في ساحل العاج، حيث أعلن الرئيس الحسن واتارا عن سلسلة من التدابير الرّمزية الرامية إلى تخفيف التوترات، ومن بينها زيادة رواتب موظفي الخدمة المدنية، ووضع حد أقصى لأسعار الضروريات الأساسية، وتقديم مساعدات انتقائية للأسر الأكثر فقرا، وهي إجراءات مؤقتة وقصيرة الأجل، ولا تُلبِّي الإحتياجات الأساسيةن لأن الحل يكمن في التعويل على الموارد الذّاتية وتقليل الاعتماد على الواردات، ودعم صغار الفلاحين ووقف استنزاف الموارد وما إلى ذلك.
تُشِير الإحتجاجات الشعبية في البلدان الإفريقية منذ سنة 2022، إلى الغضب لأسباب اقتصادية تتعلق بانهيار مستوى المعيشة، وإلى ضرورة إرساء مجتمع عادل، لا يضطر شبابه إلى المغامرة بحياتهم في البحر الأبيض المتوسط أو في المحيطات بحثًا عن ظروف حياة أَفْضَلَ، لأن الوضع الحالي غير قابل للإستمرار.

خاتمة:
لا تهدف قُرُوض صندوق النقد الدولي والمؤسسات الشقيقة له، تنمية الدّول الفقيرة أو وضْع حدّ للفقر، بل تهدف استدامة الفقر وزيادة الدّيون لكي تُصبح مُزْمِنَة، لأن فَقْرَ دول الأطراف هو شَرْطَ ثراء الدّول الغنية الإمبريالية النافذة في صندوق النقد الدّولي، وبالتّالي فالصّندوق مُلْزَمٌ بالحفاظ على وبترسيخ واستدامة هذا الوضع، ولذلك تتجاهل وصفات صندوق النقد الدولي ضرورة سيطرة بلدان "الجنوب" على مواردها، بدل نهبها من قِبَل الشركات العابرة للقارات بذريعة اجتذاب الإستثمارات الأجنبية، وضرورة زيادة الرُّسُوم والضّرائب على هذه الشركات العابرة للقارات...
مَثَّلَ صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي وأمثالُهما نموذج الهيمنة الإقتصادية والمالية، بَدَلَ ( وأحيانا إلى جانب ) الهيمنة العسكرية، وحان الوقت لإنشاء مؤسسات أخرى بديلة تقوم على التّعاون بدَلَ المنافسة الرّأسمالية، وإيجاد بديل لهيمنة الدّولار الأمريكي على سوق المواد الأولية والتحويلات المالية والتّجارة الدّولية، ومن الضروري تطوير وبلورة بعض المبادرات مثل إنشاء عملة إقليمية ( مقترح مطروح في أمريكا الجنوبية)، وإنشاء مصارف عمومية قارّيّة لتسهيل المبادلات التجارية الإقليمية وتمويل مشاريع التنمية والقطاعات المنتجة، بالتوازي مع تنمية موارد الدّولة من خلال رَفْع نسبة الضرائب إلى الناتج المحلي الإجمالي، لاتثمار جزء منها في الإنفاق على البُنية التحتية وتعميم الطاقة والمياه النّقيّة والصّحة والتعليم والمسكن والنقل العمومي والضمان الاجتماعي، وما إلى ذلك...



#الطاهر_المعز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- متابعات، نشرة أسبوعية – العدد التّاسع بعد المائة، بتاريخ الأ ...
- سباق الذّكاء الإصطناعي ضمن الحرب التكنولوجية
- تواطؤ عمالقة التكنولوجيا في جرائم الحرب
- الولايات المتحدة: هيمنة الطابع العسكري على العمل الدّبلوماسي
- هوامش منتدى دافوس
- من أجل تحالف حركة مُقاطعة الكيان الصهيوني مع حركات النضال ضد ...
- متابعات، نشرة أسبوعية – العدد الثّامن بعد المائة، بتاريخ الخ ...
- الجزائر ، باسم -البراغماتية-
- دونالد ترامب رَمْز الغَطْرَسَة الأمريكية المُكَثَّفَة
- غزّة - تدمير المَوْرُوث الحضاري والثّقافي
- فلسطين – نهاية جولة، في انتظار القادمة
- متابعات، نشرة أسبوعية – العدد السّابع بعد المائة، بتاريخ الث ...
- عَسْكَرَة الدّبلوماسية الأمريكية
- الذّكرى السنوية العاشرة لوفاة الكاتب الإشتراكي مايك ماركوسي
- التمويل الأمريكي بَوّابة الإنقلابات -الخشنة- أو -النّاعمة-
- متابعات، نشرة أسبوعية – العدد السّادس بعد المائة، بتاريخ الح ...
- نماذج من الخلاف بين تَقَدُّمِيِّي -المركز- و -المُحيط-
- بَعْضُ تداعيات انهيار النظام في سوريا
- صناعة الرّقائق والحرب التكنولوجية والإيديولوجية
- متابعات، نشرة أسبوعية – العدد الخامس بعد المائة، بتاريخ الرا ...


المزيد.....




- جوائز غرامي الـ67.. قائمة بأبرز الفائزين
- الشرع يغادر المملكة العربية السعودية.. ماذا دار في حديثه مع ...
- تصعيد عسكري في جنين ومجموع القتلى بغزة يصل 61 ألفا ونتنياهو ...
- مهرجان -بامبلونادا ريمنسي- يحاكي سباق الثيران الإسباني في لي ...
- إجلاء أطفال مرضى من غزة بعد إعادة فتح معبر رفح
- مذيعة سورية تجهش بالبكاء وتناشد الشرع المساعدة في الكشف عن م ...
- القوات الروسية تواصل تقدمها وتكبّد قوات كييف خسائر فادحة
- قادة الاتحاد الأوروبي يجتمعون مع ستارمر وروته لبحث تحديات ال ...
- بيسكوف: الرئيس الأوكراني المنتهية ولايته فلاديمير زيلينسكي ...
- السعودية.. تنفيذ حكم القتل تعزيرا في مواطن بتهمة -تهريب المخ ...


المزيد.....

- الخروج للنهار (كتاب الموتى) / شريف الصيفي
- قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا ... / صلاح محمد عبد العاطي
- لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي / غسان مكارم
- إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي- ... / محمد حسن خليل
- المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024 / غازي الصوراني
- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الطاهر المعز - إفريقيا بين الثروات الطّبيعية والدُّيُون والفَقْر