|
الديمقرطية بين أمريكا وسوريا
ناجح شاهين
الحوار المتمدن-العدد: 8242 - 2025 / 2 / 3 - 12:05
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الديمقراطية بين أمريكا وسوريا يمكن لي أن أناكف الحكم الجديد وأتظاهر بمطالبة حكومة الجولاني بالديمقراطية، ولكن هذا أصعب واقعياً من تربيع الدائرة. لا يمكن لسوريا أن تكون ديمقراطية. "الحرية" في سوريا تعني انقسام المكونات المختلفة للشعب السوري إلى دويلات لا حصر لها. ولكي تنجح الديمقراطية يجب أن لا يتغير شيء عند تغير الحزب الحاكم. مثلاً في الولايات المتحدة تظل الليبرالية هي القاعدة السياسية/الاقتصادية، وتظل اسرائيل حبة القلب، وتظل الصين عدواً استراتيجياً، ويظل العرب بقرة للحلب، مهما تغير الرؤساء وأحزابهم. الف باء الديمقراطية ان لا يؤدي التغيير الى تغيير، أو ان لا يؤدي الى تغيير ذي بال، وهذا جوهر الهيمنة الطبقية في العالم الرأسمالي الصناعي "المتقدم" حيث يتم تبادل الحكم بين أحزاب أو قوى تختلف نوعاً ما حول مقدار الضريبة المفروضة على الأغنياء، أو حول حجم الضربة المفروض توجيهها إلى إيران، أو كمية المساعدات الواجب تقديمها إلى أوكرانيا، ولكنها لا تختلف في أي شأن على نحو جذري يؤدي إلى قلب اتجاه البلاد على نحو ثوري حاسم. دعوني أهمس في أذنكم بمعضلة لا تعالج من قبل خبراء السياسية المقارنة في قلاع العلم الأمريكي: لو كان معنى الديمقراطية تبادل الحكم بين قوى متناقضة، لأدى ذلك إلى دمار اقتصاد الدولة وجيشها وتعليمها ...الخ على الفور، لأن التقلب بين المسارات المتناقضة يشبه أن أنطلق في رحلة من عمان إلى دمشق، وعندما أصل اربد يأتي سائق آخر ويقرر أن علينا في الواقع الذهاب نحو السعودية، فيغير الاتجاه ليصل إلى معان ريثما يأتي سائق آخر ويقرر أن نذهب إلى بغداد، وهكذا نظل نتأرجح بين الاتجاهات ولا نصل إلى أي مكان على الإطلاق. بالطبع اللوحة الفعلية لبناء دولة بمقدراتها المتشابكة هي أشد تعقيداً من المثل المبسط أعلاه على نحو لا يقاس. الديمقراطية تتطلب ثبات فكرة الدولة/الأمة ورسوخها على نحو غير قابل للمناقشة أو المساومة أو المفاضلة. الأمة الفرنسية ودولتها أمر لا يجادل فيه أحد لا من منطلق ديني ولا طائفي ولا إثني. وهو ما يعني أن الفرنسيين جميعاً يصوتون في إطار هذا الثابت السياسي. من ناحية أخرى لا يوجد أحزاب تتحدى الأساس الليبرالي للاقتصاد والسياسة، وهكذا يظل الجدال السياسي منحصراً في أمور عملية تطبيقية لا علاقة لها بأعمدة البناء والأساس. في سوريا، مثل معظم دول العالم "الثالث" ما زالت الهوية القومية للدولة بعيدة جداً عن الثبات والرسوخ: هناك من يريد تدمير الدولة القطرية كلياً ليبني دولة الأمة العربية، وهناك من يريد تدميرها ليقيم الخلافة الإسلامية التي تتجاوز العرب وتمضي شمالاً باتجاه اللحاق بركب السلطان إردوغان المرشح لإعادة الخلافة الأخيرة "العصملية"، وهناك من يريد تقسيم البلد إلى كانتونات بين فسيفساء الطوائف الدينية والإثنيات العرقية التي لا عد لها ولا حصر. وهكذا عندما نمارس "الحرية" والديمقراطية تكون النتيجة وأد البلد الذي يفترض أن يكون ملعب تلك المباريات السياسية المنشودة. في الواقع إن ملايين العرب "المؤمنين" من أنصار الدين السياسي فرحوا بسقوط بشار الأسد وجيشه الذي كان يحفظ وحدة المجتمع على الأقل، لأنهم رأوا في ذلك بشيراً بولادة نظام إسلامي تابع للخلافة العثمانية. وهكذا فإن "الحرية" التي بحث عنها الناس في سوريا إنما تؤدي جوهرياً إلى نهاية سوريا بوصفها كياناً قطرياً، وربما بصفتها كياناً عربياً لمصلحة أن تكون جزءاً من خلافة إسلامية لا علاقة لها بسوريا أو بالعروبة من قريب أو بعيد. بداهة لم يدرك الليبراليون السوريون والعرب السذج أن هذا هو المتحصل النهائي لأناشيدهم السخيفة التي تضع قسرياً على أجندة تاريخنا مشروع الديمقراطية الليبرالية التي تتصف بخصائص جوهرية تتناقض مع شروطنا التاريخية على نحو لا لبس فيه. للأسف ليس هناك أية فرصة في السياق التاريخي الراهن للتحول "الديمقراطي" الليبرالي في سوريا أو ليبيا أو مصر ناهيك عن اليمن البدوي الأمي...الخ ومن يقول بذلك يكون خاضعاً لأيديولوجيا اللبرلة المستوردة أو أنه يركب موجة نداء الحريات وبريقها من أجل إسقاط أنظمة وطنية مثل نظام القذافي والأسد ويأتي بأنظمة حليفة لقطر وإسرائيل، وهذا النوع من الناس لم يجد غضاضة في أن يدعو للحرية في ليبيا وسوريا من منبر خليجي قروسطي في الرياض أو الدوحة أو أبوظبي. لن نمل من التكرار: الديمقراطية الليبرالية مثلما ولدت في سياق الرأسمالية الصناعية في انجلترا وابنتها امريكا ثم غرب أوروبا وكندا هي شأن خاص بهذا اللون من التطور التاريخي، وهي بخيرها وشرها غير قابلة للاستنساخ. وفقط عندما يتحقق الاستقلال ويتجانس المجتمع ويصبح علمانياً من ناحية جوهرية، ويبني اقتصاداً صناعياً متطوراً، ويوفر مقداراً من الرفاه للطبقات المختلفة، إضافة إلى هيمنة طبقية قوية للبرجوازية، فقط عند ذاك تصبح الديمقراطية ممكنة. بهذا المعنى كانت سوريا بعد حافظ الأسد من أقرب الدول العربية إلى وهم التحول الديمقراطي الليبرالي إن خيراً أو شراً. لكن الهجمة الاستعمارية/الأصولية المجنونة فتكت بنواة ذلك البناء، وأعادت المجتمع إلى زمن الهويات الصغيرة المتناحرة لأتفه الأسباب، وهكذا سبق استيلاء العصابات على دمشق تكريس انقسام سوريا تناحرياً إلى طوائف وقبائل وإثنيات إن أتيح لها "الحرية" فلن تتردد في إقامة عشرات الدول والكيانات السياسية. ليس الجولاني في رأينا هو من سيمنع وصول الديمقراطية الساحرة العيون إلى سوريا. وذلك لا ينفي أن برنامج "دولة الخلافة" لا يتلاءم مع الديمقراطية. من ناحية أخرى لا أمل في إقامة الديمقراطية عن طريق الثورات المدعومة من الاستعمار العالمي ودول النفط: تخيلوا كم هو مضحك بالفعل أن تقف دول النفط وراء "الثورات" الديمقراطية وهي التي تعيش خارج العصر الحديث كله. جوهر المشكلة هو أن الديمقراطية الليبرالية ليست ممكنة في سياق البنية الراهنة للمجتمعات العربية. ونزعم أن الاستقلال السياسي والاقتصادي وبناء الأمة/المواطنة هو "مطلب" التاريخ في هذه اللحظة. ونظن أن هذا ما كانت تقوم به سوريا دون نجاح كبير. أما مسار "الثورات" الواقعي لا الموهوم فقد شاهدناه بوضوح كاف: دمار ليبيا واليمن وعودتها إلى العصور البدائية، وإعادة إنتاج النظام نفسه في تونس ومصر. ووصول حكم العصابات في دمشق الذي دمر الجيش وترك سوريا نهباً للإسرائيلي والتركي معلناً على الملأ عدواته المبدئية للمقاومة اللبنانية دون غيرها من العالمين. حاشية: أوضحنا أيام تجمع الناس في ميدان التحرير وليس بعده، أي قبل سقوط مبارك، أن "الثورة" في مصر لن تذهب إلى أي مكان بسبب غياب "الكتلة التاريخية" والرؤية التي تقود إلى الثورة. والمشكلة أن الثورة بأي معنى جدي لا بد أن تعني في هذه اللحظة ثورة ذات مضامين اشتراكية ومعادية للاستعمار. لكن الهيمنة في "الشارع" المصري، كانت لأصحاب الاتجاهين الديمقراطي والدين السياسي مما أدى إلى عودة مبارك في النهاية في نسخة أسوأ منه اسمها السيسي.
#ناجح_شاهين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل انتصرت غزة؟
-
في انتظار دونالد ترامب
-
دون كيشوت وآلام فراق النزام
-
تحرير سوريا على يد الجولاني
-
الاحتلال السهل لسوريا
-
المقاومة وحدود الممكن التاريخي
-
لو كنت نتانياهو
-
استطلاع اللحظة الراهنة
-
الشيطان/المخلص والفراغ الذي حل بنا
-
الرد الإيراني اللبناني
-
اليوم التالي ومعضلة وقف إطلاق النار
-
غزة بين الكلبية وعقيدة الضاحية
-
قراءة في زمن ما بعد 7 تشرين
-
إسرائيل تفقد قيمتها وتتجه نحو اليسار
-
إدارة التوحش
-
غزة في الحسابات الدولية والإقليمية
-
الخوارزميات وسلوك القطيع
-
نورمان فنكلشتين والحرب في غزة
-
هوامش على خطاب السيد
-
إسرائيل واستعادة الردع
المزيد.....
-
بيونسيه حققت فوزاً تاريخياً.. أبرز لحظات حفل جوائز غرامي 202
...
-
إطلالات خطفت الأنظار في حفل جوائز غرامي 2025
-
ماسك: ترامب وافق على إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية
...
-
ألق نظرة على الصور الفائزة بجائزة مصور السفر لعام 2024
-
بيسكوف: روسيا ستواصل الحوار مع السلطات السورية بشأن جميع الق
...
-
الشرع يؤدي مناسك العمرة في مكة المكرمة (صور)
-
لبنان.. -اللقاء الديمقراطي- يدعو لتسهيل مهمة رئيس الحكومة ال
...
-
إنقاذ الحديد الجريح
-
مذيعة سورية تجهش بالبكاء وتناشد الشرع الكشف عن مصير أخيها (ف
...
-
كيف يمكن استخدام اليوغا كعلاج نفسي لتحسين صحتك العقلية؟
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|