|
ظلال هاربة
رولا حسينات
(Rula Hessinat)
الحوار المتمدن-العدد: 8241 - 2025 / 2 / 2 - 16:16
المحور:
الادب والفن
يا أمة عشقت ضرب العصا...وسحق المبادئ... ويا رياح البؤس ويا مقلّ العابرين إلى نجع الحيارى...أما كفاك ظلما وقهرا... كوني آلهة في أسطورة سحقت بدل المرة مرات... وارحمي جلود المقهورين...
الفصل الأول
قالت لي امرأة في يوم من الأيام: ليس من حقي أن أحكم على الآخرين “لأنني لا أجيد الألم”، ومن أجل أن ينصب المرء نفسه حاكماً وقاضياً، يجب عليه أن يكتسب حق الحكم بما يقاسي من الألم. فيودور دوستويفسكي
فاطمة
غيمة من السماء البيضاء هبطت فوق الحمائم التي بقيت تحلق بحلقات دائرية فوق تلك الحفرة الممتدة من متر إلى متر ونصف، وقد غدا هديلها وتغريد البلابل على الأذرع الممتدة للنخلة الباسقة، وشجرة الجميز اللتين ألقتا ظلالهما فوق الجسد الذي أرخى أجفانه وأطبق كتابه، غدا صوتها مجلجلا، وقد أذهل الأعين التي ظلت جامدة في محاجرها، وهي تنصت بصمت لذلك المشهد المهيب الذي حنط الوجوه السمراء، وسكنت الأجساد فيها وقد بلغت القلوب الحناجر...وبقي ظل رجل لفحته السمرة بين المد والجزر في تلك الحفرة التي اتخذت موضعها أسفل الشجرتين اللتين تخللت إحداهما الأخرى، وبدت كأنما جسدين بجسد واحد له فرع في منتصفه خضرة يانعة، وفي أعلاه أخرى تنحني بأذرعها العريضة وقد حملتها ساق باسقة لها قشرة بنية رقيقة قد تقشر كثير منها، و ألقى زينته حزناً على ذلك الجسد الممد بكفن رقيق أبيض اللون... وقد مدَّ الهجير قببا بيضاء، وموجة متوهجة من ريح محملة بالموت هبت على أجساد الفلاحين التي تقلصت وهي تستند إلى بعضها البعض، وكأن تماثيلها الشمعية قد ذابت فألصقت الرؤوس بالأعناق، وحبات العرق المالحة تقاطرت وهي تحرق تلك الخطوط العريضة والدقيقة، التي تبدلت ألوانها، واختلطت بين الحمرة والصفرة، وبدت معلقة بين الغيمة العالقة فوق حمائم تصدح بهديلها، وبلابل تشدو فوق الأذرع المنحنية، وبين ذلك الظل الذي أخد يمتد ويمتد حتى لم يعودوا قادرين على تتبعه حتى انكساره، وقد بدا كقطعة سوداء بجسده الأسمر وهو بمعوله يُعمل حفراً في التربة السوداء، عندما سكنت الحمائم عن هديلها وبقيت تدور في حلقاتها الدائرية تجلى صوت المعول، والأنين الخافت الذي بدأ يعلو شيئاً فشيئاً حتى كاد يشق بنحيبه جوف الغيمة التي انهمرت بمطرها باكية تغسل الوجه الباكي، وهو يمثُل إلى جانب الكفن يشكو الفراق بدمعه الذي انهمر والمطر...جفل الحاضرون وهم بعرقهم ورائحته النتنة يغتسلون تحت القبب البيضاء، والحاج طاهر وجسد زوجته فاطمة في الكفن تمطرهما غيمة وحيدة ولم تقبض الحمائم أجنحتها وبقيت تدور في حلقات. ظل منقوع من الصمت يدهن الوجوه التي التهبت مفاصلها، وقد انتفض الحاج طاهر والشيخ محمد يربت على كتفه بإشارة منه للصلاة....دقائق ثقيلة مرت على الكثيرين وهم يتململون وسيقان الفتيان تخترق الصفوف، وقد رمت إليهم رائحة العجول المذبوحة بشباكها التي أسالت لعابهم وأذابت قشرة بطونهم الرقيقة، وقد رتبت على شكل هرم من لحم أحمر ملتف على عظام أو مرخىً بلا أيٍّ منها على الصدور، التي امتلأت بالأرز الأبيض والكثير من اللحم... السيقان التي مُدت للريح نهبت الكثير من اللحم، وعادت تمرغ بما تحمله الأثواب التي تحمل رائحة الغيطان والشقاء، لتملأها وأصحابها بالدهن والسمن، بفرائسهم المتعجلة أرادوا أن ينهبوا قدر ما استطاعوا قبل أن يستيقظ ذلك الصبي النزق بعصاه ولسانه القذر من ذهوله بموت أمه فاطمة رغم أنهم يشكون في امتلاكه قلباً، تلك الصفوف التي بدا وكأنّ أحداً لا يعي ما يردده الشيخ محمد من وعظ وذكر لمناقب المرحومة وأعمالها في خدمة أمّ الغيطان...لسان حالهم الذي لم يفتر عن السخرية باعتبارها مجرد امرأة عاقر أنجبت بعد سنوات طويلة لن يتحملها رجل منهم، مهما تكن فلن تختلف عن باقي النساء غير أنها زوجة الحاج طاهر الذي يبدو أنه قد فقد عقله ليبكي أمامهم دون أن تأخذه عزة الرجولة...القبب البيضاء التي أخذت تدورهم في فلكها أزاغت أبصارهم في حرِّ هذا اليوم الذي لم تنبت أم الغيطان مثيله مع عمر أكبر واحد فيها، ولكن أكبرهم لم يعد يفرقونه بينهم فجميعهم يحمل تجاعيد الشقاء التي خطت خنادقها دون حياء... سيقانهم التي التفت حولها خدرة جعلت التنميل يسري فيها، ويغرس دبابيس في كل شوكة من الأشواك التي انتشرت عليها... تلك الدعوات التي دعا بها الشيخ محمد وأذابت قلب الحاج طاهر، بعد أن صدح صوته وهو يتلو:" كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ". ونفس طاهر تحلق في سماء فاطمة وقد فاض غيمها بالصدقات والحب، لم تصل أيٍّ منها إلى صيوان أسماعهم، بل انزلقت قبل أن تغترف منه شيئاً، لم يكن أمام الحاضرين سوى أن تتململ أجسادهم المشوية من الشمس الضاربة أسافينها فوق رؤوسهم، والنساء من بعيد يرقبن تلك الجنازة المهيبة التي أوغرت في نفوسهن حقداً دفيناً لتلك التي أغاظهنَّ حبُّ الحاج طاهر لها في حياتها، تمنت كل واحدة منهن في نفسها أن تكون لها جنازة مهيبة وقلب زوج يسجنها فيه. وبقيت نظراتهن ترقب كل صغيرة وكبيرة، وهن يزممن الشفاه، ويمددنها مع انتفاضة من الذراعين، وتقليب للكفين. الكحل الذي لم يتقاطر مع دموعهن الحبيسة ظل يوقظ الحجر، وأنّة قلب في أن يغفل الحاج طاهر عن عشقه لتلك التي دفنت للتو، ويصبو لزوجة ثانية...الولدان تجيء وتروح ورائحة لحم العجل قد بلغت مبلغها من الواقفين، وبطونهم تصدر صفيراً متقطعاً ما يلبث أن يحدث قرقرة من الجوع... عندما انكسر الهجير في السماء البيضاء وذابت الغيمة وابتلعت تغريد البلابل وهديل الحمائم، وساد السكون، وانفض الجمع، لم يتبق غير ظل الحاج طاهر وطفلة صغيرة قد جلست في حجره وأبقت على نحيب خافت، كان وقت الزوال الذي أتمّ فيه الشيخ محمد مراسيم الجنازة والحاج طاهر لا يلوي على شيء، لم يكن ليستطيع إبقاء الفلاحين ينتظرون تحت وهج هذا اليوم الصيفي الحار وقد دفنت فاطمة وانتهى الأمر... الحزن الذي يخيم على قلبه لم يكن بسبب رحيل فاطمة الطيبة، ولكن بسبب الحاج طاهر الذي يتفتق حزناً على حاله رغم حسد الكثيرين الذين لم يذرفوا دمعة على امرأة، فكيف لهم أن يفعلوا على فاطمة؟! والحال التي سيصير إليها الحاج طاهر بعد أن كان يشتهي الولد، وعندما منحه الله ما شاء وأنبت أرض فاطمة البور قضت وتركته مع صغار لا حول لهم ولا قوة، الأمر الذي يحيره ويُعمل طحناً في رحى تفكيره، بسيوني ولد الحاج طاهر الأكبر الذي لم يذرف دمعة واحدة، وانعدمت في قلبه الشفقة منذ صغره، صبي في سنه لا يبكي أمّه، وكأنه ليس ولدها، وكأنها ليست من حبلت به تسعاً وأرضعته من لبنها، وكأنه عجن من عجينة أخرى لم تكن فيها نطف الحاج طاهر، خشيته كانت من هذا الصبي الذي سيطغى على الضعفاء...وغاب وهو يقول : ربنا يلطف، ربنا يلطف. الليل أسدل ستارته سريعًا في قرية أم الغيطان في صيف حار، غير أنّ خيمةً صيفيةً أظلت البيت الكبير، الذي قُشرت صفحة جدرانه الزاهية إلى أخرى باهتة ومنكسرة خضراء ذات رائحة نتنة في الزوايا وقد مضت بلسانها الممتد على جزء كبير من الجدران وخلف الخزائن الخشبية، الصورة الناصعة لداخل البيت الكبير لم تعد كذلك، لم يكن أحدٌ ليلحظ ذلك الاختلاف الذي نبت على عجل في كل مكان إلا الحاج طاهر الذي ضاقت روحه، وصفية طفلته الصغيرة التي لم تعد تستطيع النوم ورائحة العفونة قد بدأت تنهش في مفاصل كل شيء. بقيت الطريق الضيقة التي أُسند على جنبيها الكثير من الأقمشة المزركشة بألوان كثيرة، وحبلٌ من الأضواء امتد على طولها جيئة وذهاباً وأنار الطريق وأحال الليل إلى نهار، وقد أظلت جميع الوجوه بلون سكني شاحب، وقد أصاب الخمول الأجساد الرابضة على الكراسي الخشبية وهي تغفو تارة وتصحو أخرى على صوت المقرئ وهو يتلو بصوته الرقيق، وقد أشبعوا بطونهم بلحم العجل والكثير من الحلوى... وجه واحدٌ من بقي بصموده ذاهلاً عمّا حوله، وكأنّ الأمر بجله لا يعنيه، وتلك الأخيلة التي تمط الشفاه وتلاصق الجسد بالجسد، وتغيب في أحاديث لا تعنيه ولا تعني حزنه على فراق فاطمة، الأجساد التي تحمل قلوباً خاوية، وانكسارات لنفس لم تعرف الحب، العشق، تنهيداته، توعكاته، وفقه الأمل، وجهه ظلَّ معلقاً في الظلال، حيث غابت كل زخارف الحياة من حوله، لقد انكسر ظل الحاج طاهر بانكسارها، وقد وقف مسلياً نفسه بذكرى فاطمة، وصورتها تراوده عن نفسه: -ما أجملك حتى وإن كنت في الكفن، هي أنت بجمال الدنيا ومباهجها ما طبعت في عينيّ، لِم نسجت من الفراق أغنيةً تمطرينني فيها حزناً، وقد مضت الغيوم لتحيّ الأرض الموات... ومضت غيومك لتميتني في أرضي؟ أيستقيم الحب يا فاطمة والفراق؟؟ أيُّ عشقٍ هذا الذي ابتليتني به ومضيت؟؟ أيُ دواءٍ سيهبني الحياة من جديد وتلكم أسرجة الدار قد شاخت وذبلت...؟! مضيت وبقي هديل الحمامة يأتيني من فوق الرف الخشبي أبكماً، وصدى صوتك وضحكاتك ترن في جوف البيت الكبير... -لمِ صممت على الذهاب مع السراب؟! أما أمعنت النظر ولو لليلة أتقاسم وإياك الغرام؟؟ أما تريثت يا حبيبة لأرقدك في قلبي كما اعتدت يا مليكتي كل ليلة؟؟. -ها قد شخت يا فاطمة وما لأحد أن يوقظني من غفوتي، فما طيب العيش إلا طيب وإياك. فاطمة، كم من مرة عليّ أن أبكيك وقد حرم الجهلاء البكاء؟! -ألا أبكيك فاطمة وأنت قلبي والروح معا؟! -هاهي صفية تدوس الظلام، وتأتيني لتسألني عنك، تقول: أن النسوة يقلن أن فاطمة في السماء؟!...أومأت برأسي وفرت من عينيّ دمعة أحرقتني... -ولِم أبا طاهر لِم ذهبت إلى السماء وهجرت بيتنا؟؟ ألم يعجبها؟!. -بلى يا صغيرتي أعجبها. أتلقفك يا صغيرة وأغرسك في صدري. - كم أنت شبيهة بفاطمة يا صفية؟؟ أنت أجمل من أن تكوني بدميمتك هذه. -رقدت والصغيرة يا فاطمة على الكرسي الهزار، وحلمنا بأنك غطيتنا بجسدك فتلذذنا حينها بنيمة دافئة. -لم تفارقنا ريحك وعطر جسدك الشقي.
البداية....
أجنحة الطير تصفق في هزيع الليل وقد أيقظتها أصواتهم التي أفزعت السكون، وقد أرسل عباءته فوق قرية أم الغيطان الصغيرة، حيث يسكن الفقر في جدران البيوت الطينية، وتزكم الأنوف رائحة القطن الأبيض ودودته التي تصيب الزهرة قبيل الحصاد، ولكنها عادت لتغفو في أعشاشها فوق أشجار الجميز المتشابكة حول البيوت المتباعدة، بعد أن اعتادت على اللعنات والسباب الذي تلتهب به الحناجر، من أولئك الذين يحملون شغفا لمعرفة كل ما يحيط بهم، هم يعرفون أن هناك عالماً آخر خارج حدود قريتهم، بعيداً عن انحناءة أجسادهم في زراعة القطن وجني ثماره، فكان فضولهم يقودهم إلى دار العمدة عبد التواب حيث تتزاحم أجسادهم وقوفاً، بينما أغنياء القرية يتأملون المشهد من على فرش خشبية، مزينة بالوسائد والسجاجيد الملونة، وأكواب الشاي والنارجيلة لا تفارق أفواههم التي تفضل إطلاق العنان للصمت والاستماع لما يحيط بهم وبما يدور في رؤوس الفلاحين، إلا الحاج طاهر بسمرته وجبينه العريض وتلك المسحة الدافئة في العينين حيث يطيل تمثاله النظر في أمنياته، في مستقبله وفاطمة، وامتلاك العصا السحرية التي سيلون بها مستقبل قريته، فيما بقي الآخرون ينفخون في سعير حمى اللعنات والسباب على تلك الترهات، التي ينطق بها جميل ذي الحادية عشرة من العمر، تأتاته وتلك العقدة بلسانه قوضت فهمهم للكثير من الأخبار التي يقرؤها لهم من جريدة بالكاد يستطيعون الحصول عليها، والتي يأتيهم بها مسعود رغم ما يدفعونه ثمنا لها كونها بالية وقديمة، ومسعود هذا صاحب الدكانة الوحيدة في قريتهم، وهذا الصبي الأخرق هو ابن زوجته، تلك المضغة السوداء في قلوبهم على مسعود وغشه واستغلاله لهم يحرك فيهم الرغبة في الثأر من هذا الصبي، بسبه وشتمه والانتقاص منه، رغم أنهم جميعاً يعلمون في قرارة أنفسهم أن هذا الصبي اليتيم وأمه الأرملة لا حول لهما ولا قوة، فمنذ وفاة أبيه وتوريثه وأمه الهم والشقاء والتعثير لم يروا ساعة خير، فالشقاء في قرية أم الغيطان يأتي بالمجان، عمل أمّه المسكينة في بيت الحاج طاهر أمنّ لهما الطعام والمأوى وجعل لجميل محبةً في نفس الحاج طاهر، الذي يطمح الكثيرون للتقرب إليه فقربه ليس له مثيل، تأتأته لم تجعل له قدرة على بيان مخارج الحروف وهذا الذي يثير استياء البعض، وضحك البعض، وامتعاض البعض، وصمت الكثيرين، إلا أن فوزي كان متزعماً لهواة الشتم والتحقير والضرب على القفا، فتراه ينزلق بشتائمه اللاذعة مستغلاً ضعاف النفوس الذين يهزون ذنبهم عند مسعود ليأخذوا القليل من التموين بالمجان، لم يكن الضرب على القفا ليكون حصرا على جميل بل كان المجذوب الذي حطت قدماه في أمّ الغيطان وكأن جنية ولدته سفاحا ومضت، فتراه ينال قسطاً وافراً من الصفع غير أنه يقابلها بالضحك، وإطلاق النكات التي رغم كراهية الكثيرين لها بقيت ملتصقة بهم، ويمسكونها بذلك على بعضهم البعض فلن ينسى أحد مثلا ذلك اليوم الذي علق فيه حرباية صغيرة في السروال الداخلي لمسعود...كيف فعل ذلك لا أحد يعلم...لكن ما يعرفونه أنهم ضحكوا حتى كاد الواحد منهم ينقلب على ظهره، وفي رأس كل منهم: هل هذا الصبي مجذوب حقا أم أنه يستهوي الاستهبال لغاية في نفس يعقوب؟!.... حتى مسعود بدناءته وسوء خلقه المبني على الاستغلال ضحك في نفسه، وقرأ المعوذات ثلاثمائة مرة، واغتسل بالماء المنقوع فيه الليمون، والمقروء عليه، ودلك عضتها بالماء والملح...لم يغيّر كونه زوج أمّ جميل من حال جميل شيئا، لم يهبه سوى منظرٍ يشبه منظر أهل المدينة الذي لا يستهويهم، فكانت الحادثة مفتاحا لمسلسل النكات التي كان الفتية الصغار يطلقونها، عندما كانوا يمرون بدكانه أو كلما مرّ على دراجته بالكثيرين الذين يغرسون رؤوسهم بالغيطان، فقد كان يريد أن يترفع عليهم ببساطتهم، وينزع عنه التزامهم بتقاليدهم في ارتداء الجلابية والصداري والعمامة... أعينهم تضيق ذرعاً بذلك المترفل بساقين مبينة تفاصيل جسد لم يعتادوها، ارتداء البنطلون القماشي والقميص ذي الخطوط الطولية الملونة، وكذلك جميل لم يكن أحد ليلتفت إليه أو يعبأ به رغم أنهم جميعاً يعرفون قربه من الحاج طاهر تاجر القطن، الذي جاءهم بعد خمس سنوات في عمله فلاحاً في مزارع القطن في النواحي الغربية، وغناه المفاجئ بعد زواجه من فاطمة، ابنة أحد أغنياء تلك الناحية، ويمكن أن يقدروا غناه هذا بعد عام أو عامين، اعتماده عليه في قراءته لدفاتره وتدقيقه لحساباته، كل هذا يثير حنق الكثيرين وغيرتهم وبالأخص فوزي رئيس العمال في حقول القمح الممتدة على مدّ البصر والتي تعود للحاج طاهر، كونه مرؤوسا من قبل جميل لم يكن ليعطيه ذلك القدر والجاه الذي كان يتمناه، بأن يشخط بالفلاحين، ويأمرهم بما يشاء، ويتمتع بما يشتهيه من حظوة بقربه من الحاج طاهر، فكانت هذه فرصته التي لن يتخلى عنها مهما كان، لكن جميل بقي المنتصر عليهم رغم إساءتهم له، تفوقه بالعلم، العلم الذي لم يستطع أحد من أولادهم الصمود لإتقانه وتفضيلهم العمل في حقول القطن، ورغم كل شيء تبقى حاجتهم إليه في معرفة ما يدور خارج حدود قريتهم، ولكن لم يكن سبابهم ولعناتهم وهيجانهم الذي أيقظ الطيور والبيوت الغارقة في السبات، من أيِّ شيءٍ من هذا القبيل بل كانت لذلك الخبر الملعون الذي سمعوه للتو من فم هذا الأخرق الذي خط الشارب وجهه على استحياء، وهو يعيده على مسامعهم مرة تلو الأخرى حتى يتمكنوا من حفظه، رغم أنهم أخطئوا بلعناتهم على الاتحاد السوفيتي سابقاً بأنّه شيوعي أم شيعي فبقيت تلك الكلمة تائهة بينهم، يزيدون من الحروف وينقصونها حسب ما يتذكرونه دون أن يفهموا الفرق الجوهري بين هاتين الكلمتين، جام غضبهم على ذلك الخبر الملعون تركهم في دوامة لم يعرفوا سببها: " القبض على عصابة لسرقة الأطفال الرضع من المستشفيات في الاتحاد السوفيتي سابقاً، بعد إصدار شهادات لهم والاتجار بهم في عصابات عالمية، حيث يقدر عدد المنتسبين إليها في جنوب أفريقيا ب 90000 عضو منتسب لأحد العصابات، وفي حين سجلت في غواما 110 عصابة بارزة، وتعتبر 30 منها من العصابات الإجرامية الشريرة حسب إحصائية 1983، وفي بورت موريسبي في بابوا غينا الجديدة سجلت أربع روابط إجرامية كبيرة مع العديد من الجماعات الفرعية، ويقدر وجود ما بين 30000-350000 عصابة في السلفادور وعدد مشابه في الإندوراس، وأما في الولايات المتحدة الأمريكية فهناك 31000 عصابة قد عملت منذ 1985 في 4800 مدينة كبيرة وصغيرة وفي أوروبا توجد العصابات بدرجات مختلفة في جميع أنحاء القارة، وهي قوية بشكل خاص في الدول ذات الاقتصاد الانتقالي كالاتحاد الفيدرالي الروسي." عيونهم التي تطلعت للحاج طاهر الذي تدور في فلكه حلول أحجياتهم، لكنها تاهت هذه المرة كما في كل المرات التي يبحثون فيها عن حلّ للغز غريب لا يقع في دائرة استثماراته، فالحاج طاهر تاجر القطن يكتفي بأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وهو يرسل أنفاسه في دخان النارجيلة وسحابة تتلقف الجالسين حوله، يميل إليه الحاج صديّق كعادته كل ليله وبعد أن يستجمع صوته الذي فارقه من كثرة ما أصابه من الكحة لإدمانه على النارجيلة، ويهمس في أذنه: ألا تريد الزواج بغير فاطمة، سنوات طويلة دون أن تأتيك بالولد... يسحب الحاج طاهر نفساً طويلاً من النارجيلة ولا يجيب، الحاج صديّق الذي يعمد إلى طرح السؤال ثانية، يطمئن نفسه أنّه لكبر سنه لا يستطيع إيصال ما يريد لمن يتحدث إليه، وهذا الذي يعانيه ليس مع الحاج طاهر وحسب بل مع زوجته رقية، التي يظهر أنها لا تستطيع سماعه عندما يحدثها عن تقصيرها في بيتها، فيما تدس أنفها في شؤون الآخرين، يميل بانحناءة أكبر ليطرق مسامع الحاج طاهر ثانية: ليأتيك بالولد ليخلد اسمك بعد عمر طويل... يرسل الحاج طاهر نظره إلى تلك الأجساد المتطاحنة على الأخبار، ثم ينبس ببضع كلمات: كله بأمر ربنا... يخفت صوت الحاج صديّق ويبقى السباب واللعنات عالقاً في أذن الحاج طاهر، وقد دخلت السياسة في خلافهم بين المعسكرين الشرقي والغربي، واليمين المتطرف، وحزب الحمير وحزب الجواميس، والديكة، ويصبون جام غضبهم على جميل الذي لم يكن سوى التلميذ الوحيد من القرية بعد خروج الكثيرين من أبناءها من كتاب الشيخ عبد الصمد. - لعدم فلاحهم- كما يقول الشيخ عبد الصمد- وأن في رأس كل منهم بهيمة. لم يكن في رأس المجذوب بهيمة بل في جيبه الكثير من الحصى الصغيرة، رغم صغره كان مراوغا و اتهام البعض له باتخاذ العبط حجة، ولسبب لا يعرفه أيّ منهم، لم يسلم أحد من تلك الحصى الصغيرة في جيب كيس قماشي قد خاطته له والدته قبل وفاتها والتي لم تطل البقاء في أمّ الغيطان بعد مجيئها ببضعة أسابيع، وجعلت فيه وردا يحفظه من كل عين...لكنه ملأه بالحصى الصغيرة التي كان يجمعها من الغيطان، ويتحين الفرصة لقذف أحدهم بها، لا يهم أين...المهم ما يناله من سيل من الضحكات... وبعد أن انتهى مشهد الكتاب بالعصي الكثيرة التي انهالت عليهم الواحد تلو الآخر، ثوبه الذي تملأه الرقع المختلفة الألوان هي التي أذابت عدائية أهل القرية له، وأحلت مكانها مشاعر العطف والطيبة، غير أن الكثيرين كانوا محافظين على مؤشر الحقد في قلوبهم، فيجازونه في الأطعمة والأشربة، ربما لن تنسى القرية ذلك الصباح التشرينيّ البارد الذي وجدوه يبكي بمرارة قرب أمِّ الغيطان... لقد بكى وبكته السماء وخيم الغيم الأسود أياما طويلة حتى كادوا يغرقون وماشيتهم، والصبي يبكي و ظلَّ جسده منقوعا بالماء، حتى توقف الصبي عن البكاء، فتوقفت السماء عنه، وكان عجبهم أنه لم يتغير ولم تكن له رائحة، ظلت قلوبهم وجلة منه كلما عنت على بالهم تلك الذكرى، والسؤال الذي يحيرهم: ألهذا الصبي شأن؟ أم يكون مبروكا؟!..... اهتمام أهل قرية أم الغيطان التي تبتعد عن كثير مما حولها من القرى في الأرياف بكثير من الأشرطة الملونة بالخط الأحمر، وكثير من الحدود التي ورثوها عن أجدادهم الذين شاركوا في ثورة أحمد عرابي والطهطاوي وسعد زغلول، لكنهم لم يعودوا، لم يخلفوا وساما واحدا، بل ورثوا الكثير من المرض والفقر والجوع والنسيان، لم تختلف حياتهم كثيرا عن الثلاثينات فهي لم تشهد ثورة التغيير في الثمانينيات، هي مجرد أرقام لن تحسم الكثير من القضايا، التي يرغبون في أن يكونوا ضمن جدولة حلولها، ما اختلف اليوم بعد خمسين عاما بثلاثة أو أربعة أجيال وإن كانت رغبتهم بأن يتغيروا، بأن يعلموا قليلا عما يحيط بهم، رغم أن اللسان الطويل المليء بالبثور الحمراء والحجارة السوداء، التي جعلتهم كنساك يتعبدون في قبب المساكين. الذي يبعدهم عن القرى المجاورة لا يتجاوز مسافة العشرة أو العشرين كيلومترا، هذه الأخبار مهما كانت هي التي سيتميزون بها، ربما الخبر الذي لا يعرفه الكثيرون و هو الذي يجعلهم مشاركين في تغيير ألوان الحجارة التي يحيطون بها قريتهم، جعلهم يتمسكون رغم كل شيء بذلك الأخرق الذي يتبركون به، بل ومساواته بجميل، الذي كان مختلفا تماما، غير أن حكم الظُلّام هو الذي يسقي الأشواك التي بالكاد توقظ البراعم. قدرته على تلاوة المصحف وقراءة الصحف، يجعلهم ضمن خارطة الأحداث المحلية والعالمية والأهم العالمية التي لا يعرفها أحد غيرهم، رغم علمهم أن ذلك الصندوق الذي يأتيهم بالأشباح بهيئة البشر يمتلكه كبراء البلد ولكنه مثبت على المحطة المحلية، سواء في أمّ الغيطان أو في الغيطان المحيطة، وبذلك لن يكونوا عرضة لسخرية القرى المحيطة بهم من عدم ثقافتهم وجهلهم، هذا الجهل يمكن أن يعزيه فوزي كما الآخرين إلى عدم وجود مدرسة في قريتهم وذلك من محاربتهم لأيّة فكرة لدخول أحد من المتعلمين من المدينة إلى قريتهم، ليغيّر عاداتهم ويباعد ارتباطهم بأرضهم، لقد كان جميل المتعلم الوحيد في قريتهم بعد أن تحمل ضرب الشيخ عبد الصمد له بعصاه النحيلة الموجعة على قفاه، وقد تركت جرحا غائرا لن يشفى منه. قدرته على التحمل ورؤيته لذل أمه على يد زوجها الثاني، معاملة لا تبعد عن كونها جارية للجشع مسعود وأولاده الشرسين جعلوه مصمما على البقاء مهما كلفه الأمر، لقد كان وريثا كما يعلمون للشيخ عبد الصمد بعد وفاته، لكن عدم إتقانه مخارج الحروف والتي يمكن أن يعزيها لذلك الرهاب الذي يصيبه من تلك الأعين التي لا تنوي به خيرا، وقد أعزى البعض أن هذا الصبي هو سبب وفاة الشيخ عبد الصمد، لولا تلك الصرخة التي يصدرها المجذوب فتفزعهم وتريحه -حي يا طيب يا صمد حي-. فكان إيمانهم الأكيد بعد ذلك وتسليمهم بقدرة الله سبحانه في الأعمار، قربه من الحاج طاهر هي رغبة في داخل الحاج طاهر على أن يكون له ولد متعلم أقصى أنواع العلم الذي لم يعرفه أحد يشتهيه، وما يدور في نفس جميل أنه سيصنع معروفا مع الحاج طاهر يوما ما... - تعلمه القراءة من المصحف الشريف لم يجعله شيخا... هكذا أجاب فوزي بسخرية على فهمي الذي نهاه عن ضرب الصبي والسخرية منه، الذي يعرفه الجميع أن فوزي فقد أرضه التي ذهبت بين الحاج طاهر وبين مسعود، فالأخير طالبه بدينه ولكنه لم يستطع الوفاء به، وكان قد رهن أرضه عند الحاج طاهر الذي بدوره أعطاه المال الكافي لسداد مسعود، ولكنه في نفس الوقت جعله يعمل فيها كرئيس للعمال، الحاج طاهر له من اسمه نصيب، هكذا كانت محبته تنبت في قلوب الفلاحين، الجميع يعرف هذه المعادلة ويسلم بها، ولكن فوزي بقي حاقدا ينظر بضيق لذلك الفتى وعينه معلقة بالحاج طاهر الذي لم يكن ليقنعه هذا الثراء الذي شبّ بين يوم وليلة، الحاج طاهر تاجر القطن الأول في المنطقة، وقد جرى المال في يده وجعله يشتري أراضيهم الواحدة تلو الأخرى. لم يعرف أحد تلك العلاقة التي شبت بين الحاج طاهر ومسعود رغم قلة اللقاءات بينهما لانشغال الحاج طاهر في المعمل، والأرض، ومراعاة العاملين ومراقبتهم، ومعالجة بيوتهم، وتقديم العلاج الصحي للكثيرين منهم، لن يستطيع أحد إنكار فضل الحاج طاهر على أيٍّ منهم، لقد أصبحت أحوالهم أفضل بكثير مما كانت عليه قبل فقدانهم أراضيهم، ما عوضهم به اهتمام الحاج طاهر بهم وبظروف حياتهم، فباءت محاولات فوزي في تأويل القلوب تجاهه بالفشل وماتت في مهدها، وهو في نفسه لم ير من الحاج طاهر غير الخير، وقد أكرمه حين أصبح رئيسا للعمال، وزوجته خديجة التي تعمل في خدمة فاطمة زوجة الحاج طاهر تعامل معاملة طيبة، لم يكن الحاج طاهر يفكر في أيّ مما يفكر به هؤلاء وهو يلف خرطوم النارجيلة ويهب واقفا مستأذنا الباقيين في سهرتهم، لكنهم ما لبثوا أن غادروا الواحد تلو الآخر حين غادر الحاج طاهر كمسبحة قد تناثرت حباتها فوق بلاط أملس صعب معه جمع حباتها... لم يكن الحاج طاهر ليخرج لوحده بل كان الجميع راغبين في أن يكونوا بصحبته لعلهم ينالوا برفقته شيئا يحلمون به، لكن جميل كان أسرعهم ومضى الخيالان يبتلعهما الظلام، وأعين المراقبين تكاد تتمنى أن تنشق الأرض وتبتلع ذلك الصبي. الحاج طاهر لم يجد تفسيرا لتلك العاطفة في قلبه تجاه هذا الصبي وهو يعرف كره الكثيرين له فهم لا يتذكرون البؤس الذي يعانيه منذ صغره، الفقر الذي لحق به وبأمّه أمينة بعد وفاة والده وعدم تركه لهم غير تلك الغرفة الطينية التي تخرّ على عروشها من وقع أمطار الشتاء وريحه الباردة، أمام هذا الطفل التعس الذي تبكيه في نفسها، لم تكن لترفض طلب مسعود لها بعد وفاة زوجته، وتركها خمسة من الأفواه الصغيرة، عودة مسعود لم تكن ببال أحد لكن انتهاء عقده وتفنيشه من السعودية كسائق في إحدى الشركات الكبرى على حد زعمه وربما كان سائقا أو مستخدما في أحد البيوت هناك، ومن يدري؟؟!! فأكاذيبه كثيرة... أمثاله لا يعرف صدقهم من كذبهم ويكنيه الكثيرون -بالحية من تحت تبن- ولكن جميل الذي تزوجت أمه بآخر لتخرجه من حياة البؤس، لم تستطع أن تمنحه الكثير غير ذلك الطقم من الملابس الذي ضاق على مسعود الذي بدأ كرشه بالتكور أمامه، ذكاءه هو الذي مكنه من التعلم أمام غضب الشيخ عبد الصمد وضرب المجذوب بتلك العصا الرفيعة، وهذا الضرب الذي لاحقه من ذلك الزوج النزق، أمه كانت بمثابة خادمة لأولاد خمس، ربما لعنة جميل هي التي جعلتهم يفشلون في مدرسة المركز التي أرسلهم إليها زوج أمه، لكنهم تفرقوا بين الأعمال المختلفة في التحميل والزراعة والتجارة وكانت دكانه الصغيرة التي يملكها بمثابة مغارة علاء الدين فقد درت عليه الأرباح الكثيرة، التي لم يستطع جمعها من عمله في السعودية. العمل في السعودية كانت ملجأ للكثيرين بعد أحداث الحرب العراقية الكويتية وحرب الخليج الأولى، وعودة الكثيرين منهم دون تعويض بل هروبا من ويلات الحرب الطاحنة التي حولت منطقة الخليج إلى مستنقع من التمثيل الدولي، أكثر من ثلاثين دولة أثبتت تواجدها وكثير من دول المنطقة أصبحت قواعد للخلاص من نظام صدام حسين، بعد أن كانت العراق والكويت بؤرة ثورة القرويين للعمل فيهما، رغم الظروف القاسية التي يعانونها هناك ولكن بعد تفنيش الكثيرين وإنهاء عقودهم تعسفا، كان لا بد لهم من إيجاد خيارات جديدة لا يزاحمهم سوء الطالع فيها، فبدت السعودية والأردن خيارا مثاليا للعمالة غير الماهرة في أسواقها المحلية... تلك الحرب الطويلة التي أعادت ترتيب التحالفات الدولية، بعد حرب الثمان سنوات، في نفس الوقت خلقت تباينا في الغنى الفاحش لكثير من العاملين هناك، بشرائهم الكثير من الأشياء بأسعار قليلة، وقد تكون بالمجان. ناهيك عن اتجارهم بالعملة، والتكسب من عمليات النصب والاحتيال، ربما يكون مسعود واحدا من هؤلاء، ولكن لا يوجد ما يدل على ذلك، دكانه هذه وتلك الأطيان التي اشتراها لم تكن تكفي ليعتبر واحدا من أغنياء الحروب... السكاكر والبون بون والسكر والسمن والحلاوة والطحينية والأرز والحلوى السمسمية والسجائر هي مصيدته للفلاحين البسطاء، وكان يختال بنفسه في بنطلونه وقميصه المخططين، وذلك المشط الخشبي الأحمر الذي كان يفرق به شعره من المنتصف بعد أن يضع عليه الكثير من الدهن الذي جاء به من السعودية، وذلك الحذاء الأسود اللامع، لكن غيرته من جميل عند مقارنته بأولاده جعلته يمنعه من الذهاب إلى المدينة لإكمال تعليمه ما جعله يسيء معاملته ويصمم على ضربه... فما كان من الحاج طاهر إلا أن آواه إليه، وأعطاه الكثير...نظرة الحاج طاهر في أن تكون مدرسة ليتعلم فيها الصغار حلم يأمل أن يحققه... بناء مدرسة كانت هي رغبته الملحة في التغيير ...كما كان قلب فاطمة ..."كل شيء لله." الصندوق الصغير ذي المؤشر الأحمر المتأرجح والذي تتبعه أعين الكثيرين كان كفيلا في إنهاء المشاحنات، حيث تتعلق به العيون والآذان وبخاصة عندما يخرج من مستطيله الخشبي أصوات وموسيقى كانت بالنسبة إليهم دخيلا على قريتهم التي هجرها الكثيرون وعاد إليها القلة القليلة، والذين لم يساهموا في تغييرها أو تحديثها، حتى التلفاز الأبيض والأسود لم يكن له تأثير عليهم لأن الجميع حولهم يشاهدون نفس الخبر ويسمعونه، يريدون ما يميزهم ولم يكن ذلك سوى بقراءة الصحف وبخاصة الممنوعة أو الغريبة، ومع ذلك لم يكن أيٍّ منها ليصيبهم بصيبٍ نافع، كل ذلك كان كفيلا لأن تنام قريتهم في سبات عميق... الذي لم يكن ليصيب فاطمة وهي تنتظر طاهر ليبيت في حضنها، جلوسها أمام التسريحة كالقمر البهي تمشط بمشطها الذهبي...الذي أهداها إياه من بيت الله، وتضع من العطر في زجاجات ملونة لتعطر له جسدها، عندما تأوي إليه، لقد رآها أزين وأجمل من ذلك اليوم الذي جلس فيه يندب حظه العاثر وفقره وإياها، على الحصير والمسند القاسي الذي يسند رأسه إليه... -أحلامي كبيرة يا فاطمة لكن ما باليد حيلة... لم تجعله ينتظر طويلا وهو يسير على خطى أحلامه، فقد وضعت صندوقها الصغير الذي يحوي ست غوايش وحلقتين من ذكرى أمها... لم يكن ذلك ليأتيه بالمبلغ الكبير، فزادت عليه قطعة الأرض التي ورثتها من أبيها في النواحي الغربية...كان ذلك بمثابة مغارة علاء الدين للحاج طاهر، امتلاكه لغرفتين من طين كان مجرد حلم يذكره البعض، وينكره الكثيرون. رؤية الحاج طاهر كانت مختلفة عن رؤى الآخرين، منتوج القطن الوفير واستغلال التجار لهم في طرح أسعار الشراء التي لا تساوي أيّا من مجهود الفلاحين، وهذا لا يعني إلا شيئا واحدا أنهم سيبقون طيلة حياتهم بالفقر وغنى الآخرين سيكون على حسابهم، هذا المنطق يرفضه وعليه أن يقف على كيفية حله، لم يكن لديه خيار غير أن يتعامل مع مسعود كونه أعرف منه بأناس المدينة، كما أنّه بحاجة لأحدٍ جشع وسيء الطباع، وقادر على التفاوض مع التجار الجشعين، مسعود بالضبط مفصل لهذه الغاية، أيام طويلة من البحث والجهد الكبير في دراسة السوق تمكن فيها الحاج طاهر من العثور على غايته، معمل صغير مجهز بآليات قليلة، المهم أن يبذر البذار ومن ثم يوسع جهده وتجارته، بعد أن أنهى صفقة المعمل، وشراءه بثمن معقول من صاحبه بمساعدة مسعود، ومن ثم تجهيزه بكل ما يحتاجه من معدات وعمال، لقد أحتاج هذا العمل منه وقتا طويلا، وهذا ما يتطلبه أي مشروع يبدأ من الصفر، لقد حتم عليه ذلك العمل الشاق البقاء في المدينة فترة طويلة من الوقت، فكان عليه استئجار شقة له وتجهيزها بكل ما يحتاجه، تلك الشقة التي كانت له فيها ذكريات عتيقة، لم يطل به الوقت حتى أصبح له صيته في السوق، سنوات قليلة جعلته يبني بيتا إسمنتيا كبيرا مليئا بالأضواء المستديرة سماه البيت الكبير، وأصبح من ملاك كثير من الأراضي الزراعية، ذكرياته البعيدة طمرها في بئر عميقة غير أنها تطفو إلى السطح بين الحين والآخر... الجوع والفقر والمرض هي الثالوث الأعظم الذي تعاني منه قريته أم الغيطان، وهو كذلك يعاني من حب فاطمة وبور أرضها...معادلات صعبة الحل وصعبة الموازنة...لكنه يسعى بأن يظلل بهذا الغنى الذي أصابه قريته أمّ الغيطان بالخيرات، سيجعل منه صدقات كثيرة...كما تقصده عينا فاطمة ..."شافوا مرضاكم بالصدقات..." مفهوم العبودية هو الذي يتفنن به أولوا الأمر وهم كثر...من التجار...الخمس سنوات من حياته كغني مبتدئ، فرضت قوانين جديدة لم يسنها هو بل سنها البشر أنفسهم، هم من جعلوه صاحب الأمر والنهي, وقد كان طيلة سنواته مع فاطمة صاحب الأمر والنهي...أيّ جنون هذا الذي يمنحه حبا إضافيا لا مزايدة فيه؟ بعد أن فقده من قبل وكسر قلبه وأنهى حلمه؟...مهما فعل لن يرد لها القليل مما تستحقه... أحضر لها تسريحة شعر مليئة بالعطور الملونة ذات الروائح الطيبة التي تثيره رغم أن قرب فاطمة بحد ذاته أثارة لا توصف... وكثيرا من الألبسة من الحرير والساتان الصفيفة وكثيرا من الألوان لتكحل عينيها وتدمي شفتيها... -ما الذي يبهجك يا فاطمة ليأتيك به..؟؟ وإن كان لبن العصفور...رغبة واحدة كانت في قلبه لا يريدها أن تخونه فتفضحه...يريد لرغبته في الولد أن تموت في داخله، بإمكانه أن يتحايل على أسئلة المتطفلين ... -الولد من الله...ولما يريد ربنا كل شيء بيتم... يتحايل الكثيرون على ألسنتهم بعدم قص القصص الكثيرة، وأكثرها غبنا بأنه لا يستطيع الإنجاب، لكن الحقيقة التي لن يغيّرها بأنه لن يتزوج غيرها وإن لم ينجب صغارا... لا يعنيه أيُّ شيء فهو يعرف نفسه وفاطمة وتلك الليالي الحميمة التي يقضيها في حضنها. محاولاته الجادة في أن يلئم جرح فاطمة، ويوقف نزف حزنها، وعشق الولد الذي يلتف على مسننات القلب فيجرح الجوى... ذهابهما في رحلة علاج طويلة في المدينة أمر يساعدها على البقاء عند الحد الفاصل بين التمني والواقع.. -هنا يا فاطمة الطب والأطباء... تطيل النظر بالبنايات، والشوارع والازدحام وحزم السحب الدخانية، الكثير من الأشياء تجعلها تلتصق به، حتى النساء في المدينة يختلفن؛ هن أجمل وأرق...أن يخونها طاهر هذا ليس ضمن حساباتها، لكنها امرأة وقلبها يغير، تضع يدها بيده وتسير إلى آخر العالم بثقة وأمل، شقتهما الصغيرة في الطابق الثالث، والأدراج الملتوية والأبواب المواجهة بعضها البعض، الجارات يرمين إليها بشباك أعينهن دون أن يلقين السلام...الحيرة تقتلها لكن ما جاءت من أجله أهم بكثير من كلام نسوة ينسجن من الخيال قصصا لا تليق.. فاطمة بعينيها الكحيلتين، وطولها الممشوق، وقدها المياس، وبشرتها البيضاء الغضة، وشعرها المنسدل كستارة سوداء إلى منتصف ظهرها جعلها حورية نسيت بوابة الجنة ...فلجأت إلى بابه، لم يكن حبها في قلبه لجمالها... أيّ نعم الجمال له حظ وافر من تفكير الرجل، لكن هدوءها وتلك المسحة الإيمانية في كل ما تفعله، وتضحيتها هي كل شيء...هي كل ما يتمنى الرجل تحقيقه...ولكن ثمن السعادة غال وهي صعبة المنال...دمعتها المتلألئة في عينيها هو ما كانت تملكه، حين عادت وإياه من عند الطبيب كلماته مازالت ترن في أذنها...: زوجتك رحمها يحتاج وقتا طويلا كي يستعد لتقبل الحمل... أوقعت قلبه حين سقطت بمجرد ما دخلا باب شقتهما، وأفزعه أنينها...: لن أحبل يا طاهر... ولسان حالها يحكي معاناة امرأة غلبها الحزن... - إقفال باب الشقة لا يعني سوى سجنا، نعم، يعني سجنك مع امرأة بور لا تنجب...، أنت يا طاهر تريد الولد والولد ليس عندي... يحضنها إلى صدره وتشيح بوجهها الذي تتدحرج عليه حبات سوداء...يغفو على كتفها...وتنسل من بين يديه... -وتديرين ظهرك لي يا فاطمة، وريحك في جسدي، أريني وجهك، أريدك أنت لا يهمني الولد بقدر ما يهمني أنت... أنت روحي. وتفيق على حب يجرفها لتنسى نفسها بين يديه...وتشرق الشمس الصغيرة، تتمعن بها وكأنها لأول مرة تراها... -شمس أم الغيطان أكبر... - القليل من الصبر يا فاطمة... -لا أستطيعه في شقة صغيرة...تغم على قلبي، يا طاهر روحي أحسها كما لو في سجن... - تريدين العودة؟ سأوصلك، وأعود ثانية إلى هنا، لن أطيل البقاء أمهليني فقط أياما قليلة...لتأمين المصنع وأعود... ويطيل البقاء في المدينة، والداية فوقية تزور فاطمة، وتدس في أذنها الكثير من خبرات النساء، وتزيل عنها الخوف: نساء كثيرات مثلك، لم يحبلن لسنوات ثم لم يعدن يستطعن التوقف عن الإنجاب... و آهة تفرُّ منها..: يا ليت... تعطيها الكثير من الأعشاب الموصوفة والماء المقروء عليه من شيخ يسكن في البعيد...تدس في يدها عملا للحبل وتهمس في أذنها: تضعينه في طعام الحاج طاهر عندما يعود وستحبلين يا فاطمة... و تطيل النظر في الطريق التي ستحمل طاهر... والصبي ينادي على أمه خديجة زوجة فوزي وهو يجر ثوبها: جيعان... خديجة امرأة طيبة يد فاطمة خصبة تدس في جيب الصبي ورقة كاملة من النقود، يقفز كالمجنون وأمه تسحبه للبعيد... وتطيل النظر إلى السماء وتقرؤها السلام: الكثير من الصدقات يا فاطمة تفرج الكرب... خديجة وفوزي أنعم الله عليهما بستة ذكور، أصغرهم يجري وراءها ممسكا بطرف ثوبها وهو يختلس بعينيه النظر لفاطمة، خديجة تنهاه عن سلوكه...: هو أغرب إخوته... تردد وهي تسحبه إلى البعيد، تطبع قبلة على خده يمسح أحمر الشفاه بثوبها الأسود. ومازلت تطرق الغيب وتكلم الحمامة: قليل من الصبر يا فاطمة لتلقين طاهر حبيبك. والطريق البعيد ترجع المرسال الواحد تلو الآخر، وبريد العيون يعود خائبا... -إلى متى يكون البعاد؟؟ - أما آن أوان طرق الأبواب المغلقة أملا في اللقاء؟؟ قليل من الأيام بقي قبل أن تفشل في محاولة حملها التي لم تعد ترصد عددها، ثمان سنوات وهي تجود بالصبر على نفسها... - إلى متى ستصبر يا طاهر على أرضي البور؟؟ وتفيق في الليل على صوت سيارة تحمل طاهر... مكفهرا حزينا مهدودا ورغم كل شيء يطبع فوق رأسها قبلة ويدس جسده البارد في السرير. -كم بقي دون أن ينبض قلبه بحبك يا فاطمة؟؟ تسدل الحمامة غطاء عينيها وتغفو. وتهيم روحها في الأفق فتقبض إليها جسدا مهموما، وروحا توصدها المزاليج المعلقة بكل تنهيدة... -ما سرك يا طاهر؟؟ تفيق بوابة البيت الكبير على صياح فوزي وهو يهرول إلى الدار يسحب وراءه فهمي، الحاج طاهر يتصفح الأوراق وجميل كالمعتاد، وكوب الشاي تطوف فوقه ثلاث ذبابات، يصيح بأبي المعاطي فيغيّر الكوب بآخر بعد أن صاح بخديجة التي تزم شفتيها وتمدهما...
كم من الأيام بقي مغاضبا حتى سكنت نفسها واستقامت ليد الله؟؟!! وهي ترمق حال طاهر بعين صابرة. يقبض فهمي ثمن أرضه وفوزي يطلب زيادة له وللفلاحين... همسة ترن في أذن الحاج طاهر تجعله يفيق ويفطن لقلب فاطمة...: الصدقات تداوي المرضى... تحول بين الدمعة والدمعة جلادته وصرامة وجهه، لكن العينين تفضحان غيمة حزنه الدفين... فيزيدهم أجرهم، ترتفع الأكف وتنطبع فوق الوجوه ابتسامة رضا... جميل كبر وآن أوان رحيله للمدينة، يطلب الإذن بالرحيل حيث سيدرس هناك.. لوحة من الطمأنينة ترتسم أمام الحاج طاهر ومن وراءه فاطمة وأجمل نقوشها انطلاق لسانه... جميل ساعد العمال في بناء المدرسة...صفان للبنين والبنات، يحمّل أمه رسالة: "بأنه سيدرس في الجامعة، و يصبح موظفا في بنك محترم..." الأماني المعلقة في قوارير تخرج من أسرها... تدمع عينا طاهر وتحمرُّ وجنتا فاطمة، ويغيب جميل وهي تودع بكل حركة من حركات جسدها هذا الفتى الذي بالأمس كان يهيم مع الحمائم... تهيم روح الحاج طاهر ويقبض بعينيه فاطمة ويأسرها في قلبه ويحمد الله على أنه أبقاها له ... منقوع الأعشاب فعل مفعوله، لقد أمضى الحاج طاهر جلّ ليله في الحمام...الحيرة أصابت فاطمة في مقتل...احتارت بما ستخبره...أمام وهنه تضعف، تعترف بخيبتها وقلة حيلتها...يمسح على رأسها: كله بإرادة ربنا... ويطوي وجه إلى البعيد وينام ما تبقى له من ليل... تطيل الصلاة والدعاء وتشكو حزنها لله، وتبكي بألم... مهرقة الدموع... تتحين الفرصة لتدلي بدلوها في نفسه لعلها تجد الوجع فتمسح عليه، ينحني إليها ويهمس في أذنها: -أحبك... ويقبل عليها كما لو أنها عروسه... - ستحبلين يا فاطمة صدقيني... ترمقه...وهو يطيل النظر إلى البعيد وبيده تلك الورقة الصفراء، تسرّ في نفسها: ليتها تقرئ وتعرف فك الحروف... تمد يدها إلى جيب جلابيته ثم تمتنع...: لم تتعلم هكذا... تدفع الدمعة تلو الدمعة ثم تبتلع صبرها في غصة في حلقها، وتسرق فرحة من عينيها وهو يضحك الصغار، ويوزع مسعود عليهم السكاكر، كما لو أنها ترى صغارها بين يديه، تحمل طشت الماء فتميل بها الأرض، الدوائر تدور في حلقاتها فتصيبها الدوخة، تسقط ما في يديها وتسقط في بركة ماء... لهفة الحاج طاهر وخوفه جعله كما لو أنه قطع المسافة بثوان، يحملها بين ذراعيه كطفلة صغيرة إلى الفراش، وهو يقرأ آيات من القرآن ويجهر بالدعاء:.. يا رب تحفظ فاطمة... أبو المعاطي يطوي الليل والطرقات وهو يوزع الصدقات، والسراج ينتعل رجاءً مشكوكا بالأمل.. الزغاريد تنهض الطيور الوادعة في أعمدة البيت الكبير...لم تشأ فاطمة أن تهجر الطيور البيت الطيني، بقيت قطع الخشب وعوارضها للفراخ الصغيرة لتسمع هديلها قبيل الفجر، ينهضها لتجهز الوضوء للحاج طاهر، ولتتلقف الخبز الساخن من الفرن وتضعه مع السمن مع كوب الشاي لحبيبها... ثمان سنوات تغيرت فيها الحياة التي تقطع فيها سباق التغير إلا هي لم تتغير... بقيت كما أنت يا فاطمة...تريدين أن تبقي كما أنت، لا تريدين سوى تكويرة صغيرة في بطنك وركلات صغيرة...تريدين ولدا، تريدين بطنا تكبر، وشعورا بالغثيان... تقيئا، ودوخة، ويدا تسندين إليها ظهرك، وصدرا كبيرة مليئة باللبن، وفما صغيرا ليلتقمها، تريدين طفلا تعيشين معه دور الأمومة ... الزغاريد تطرق باب الحاج طاهر والبشارة تقبضها الداية، ورقة الخمسين لم تكن يوما لتحلم بها، ولم تحلم بها... يميل إلى فاطمة ويهمس في أذنها: سأكون معك... الداية تقطع حبل الود بينهما...:مبروك يا حاج طاهر... ينزع من روحه قبلة ويطبعها فوق جبينها يمنعها من الحراك...: أريدك أن ترتاحي، الداية إلى جوارك... أريد ولدا يا فاطمة... الشهور تجري بها وهي تعدُّ العدة...وخديجة زوجة فوزي يكبر بطنها...يشبه بطن فاطمة، تضحكان، تغمضان العينين، ويفيقان على ماء حار ينزلق فوق الفخذين، وألم كرصاصة...تلو الرصاصة... وشق رفيع تشعر به لينزلق منه الصبي...أسفل بطنك ألم كالسكين... وتستيقظ وفوق عينيها غشاوة على صرختها وصرخة خديجة... الداية تدلك البطن بزيت الخروع والماء الساخن ليشكلا غيمة بيضاء، تقرأ آيات من القرآن وتستعيذ من الشيطان الرجيم...: يا رب تسهل يا رب... فوزي قلبه منقبض، والغربان تحوم فوق البيت الكبير، ينقبض قلب الحاج طاهر ويسير إلى صمت دفين وقد قلبّ وجهه في السماء، وقد رسم مراكب حمراء بذيول سوداء...لم يرَّ السماء ساعة الغروب يوما ؟؟ وكأنه يبصرها... كئيبة لأول مرة... ويبصر فوزي وهو يذرع المكان جيئة وذهابا... ست بطون ولم يخف لم تراه يخاف اليوم؟؟ وربما أخافه عارض ما مثل الذي يلاقيه اليوم من غرابة كل شيء حوله، وذلك الصمت المطبق حوله إلا من نعيق الغربان...يأتيه صوته غريقا : يا رب سترك، البطن السابع لا تحرمني يا رب. ويؤوي إلى الطير المطمئنة إلى أعشاشها لعل الطمأنينة تهوي إليه فتذوب في قلبه...ويسرق الليل ما تبقى من نور باهت... ويأتي النبأ سريعا وهو يقلب الحصى بين عينيه...:ولد واحد...يا رب عفوك...حكمتك يا رب... يطرق أبواب السماء، والأخبار تطرق أذنيه: بشارة الولدان...أبا الحاج طاهر جاك ولد... يعود وهو يتخطف الطريق... لم طالت تلك الأمتار؟؟ ...يفزعه فوزي وهو يئن ودموعه تملأ وجهه... وجسده يميل كما لو أنه يوقظ أفعى من سلتها...: وحدّ الله يا فوزي... -لا إله إلا الله... يأتيه صوته واهنا..: كنت والله عارف...قلبي لا يخفي ... الداية تنتظر عند الباب وهي تصطاد بشباكها خطوات الحاج طاهر، تتلقف ظله الطويل وهي تفتر عن ابتسامة: الحلوان يا حاج... يقلب الحاج طاهر الصبي وقلبه يرقص فرحا...ويؤذن برعشة في صوته في أذن الصغير: الله أكبر ...الله أكبر... ثم يقرأ بروية وفي صوته حشرجة حزينة: "قل هو الله أحد..." رعشة في جسده تمر كما لسعة عقرب تزيد من خفقان قلبه، وفيض عينيه... يطبع فوق جبينه قبلة وهو يدور، ويزيد برجة في صوته: الله أكبر ...الله أكبر... وفاطمة تغفو على صوته وتفيق من الألم...ترفع يديها بوهن لتضم إليها هدية السماء، ضمته إلى صدرها وهي تشعر بألم من نوع جديد...يخرج صوتها وفيه وخز إبر: صدري كالصخرة، وأشعر به يكاد أن ينفجر... تشكو للداية التي ضحكت وهي تبشرها بوجود اللبن للصغير... يلتقم الصغير الثدي يقبض بفكين أعزلين وكأنه فطر ليعرفه...وألم يصل إلى أحشائها كنصل يمضي تقطيعا فيها، والسائل الأحمر فوق الفخدين ينقبض، وتغفو وتفيق على لملمة جسدها الذي يتصبب عرقا وينتفض... والداية تحملق بالصغير وهي تنبس عن ابتسامة صفراء، وقد قبضت ثمن الموت وتبقي على قيود حريرية بين يديها وتطيل الصمت. ينسحب ظل الحاج طاهر وهو يلهج بالدعاء: الحمد لله، الحمد لله... ويتبعه ظل الداية تخترق عزلته مع الله وهو و يرفع يدين عاريتين للسماء، وقد صلى ركعتي شكر، تمد إلى أذني الحاج طاهر بسر...يقبض يديه، وتتساقط الخطوط العريضة فوق وجهه... ذهل وذهلت عيناه وقد ألجم لسانه... ينتفض الحاج طاهر وكأن عارضا من السماء جاءه على غفلة منه... لعنها وهو يقبض على سيف لسانه وهو ينعتها بالمجنونة... الداية التي وقفت كمومياء استيقظت من لعنة قبل مئات السنين، دون أن يرتد طرفها، دون أن يموت من فوق شفتيها البنيتين رسم الابتسامة...بصوتها الخفيض وكأن أفعى أرسلت رأسها من السلال... تأمره بصلادة بأن يخفض صوته...وتبقي على قوتها وهي تجذب إليها تلك الخيوط... الفزع ليس إلا خيطا رفيعا من الموت...غير أنه يمنح فرصة لأن يبقى الجسد ليقطع أشواطا جديدة... ولكن الحاج طاهر أمام خيارين...ثانيهما أمرّ من أولهما: أن يعترف أمام الخلائق أنه تأمر دون أن يعرف مع هذه الحرباية...ولكن من سيصدقه؟!...وماذا بعد؟ هناك الكثير من الويلات التي تقض مضجع الأتقياء... وفاطمة المسكينة ستسير بقلبها على شوك مطحون... فيولي وجهه إلى حيث يتنفس هواء آخر غير هذا المسموم...يسير وتسير لا تحمله قدماه...: يا رب لطفك... يا رب... وترتعش شفتاه وترتجف يداه...وتلملم الشمطاء نفسها وتهمس...:سرك في بئر... يفتح الرضيع عينيه، تبصر فاطمة أحدا غير طاهر.. -أين رأيته؟؟ تحدث نفسها بصمت... خديجة واهنة حزينة ورضيعها في القبر... تحملق فاطمة بوجه المسكينة، ثم تطيل النظر بالرضيع بين يديها، وتنسل دمعة حزينة ورجفة هزت قلبها وكأنها رأت شبحا لأحد ما... كم من الأيام مضى وكأن بساطها تجذبه الأيام على عجل... الطفل يحبو على أربع... والداية ترسل عينيها بضيق، وخط الكحل في عينيها الخاليتين من الرحمة، خط يسير معه بلا نهاية، وتقبض على الحاج طاهر واقفا في مهب الريح على عكازيين من خوف قاتل وتجعله وراء قضبان عينيها. حين هوت بذلك الخبر على أذنيه سوته بالأرض، ودقت عنقه في صخر عنيد. يطيل النظر في الأفق البعيد فيرتطم بجدار من وهم فيرتد إليه بصره...وهو ينسج من شريط الأيام ذكرى جميلة، والضحكات ترن في أذنيه وأدعية الفرح وابتسامة حبيبته...وتلك الخطيئة العقيمة يحاول الخلاص منها، فلا يجد متسعا من الوقت ليعيد ترتيب ضياعه... أوراقه ها قد بدأت بالذوبان في مستنقع، فتطفو على السطح بلا هوية، لكنه اسمه من يبقى عالقا بين السماء والأرض، بين الكراهية والكراهية...لقد غدا قزما في مصيدة... لا ناقة له فيها ولا جمل، لقد كادت له بالفعل تلك الشيطانة. الولد ليس من صلبه، ليس ذلك الذي حملت به فاطمة تسعة شهور... واكتوت بهن من وجع وألم، وهاهو المخاض العسير يسيّره إلى متاهة ليس لها نهاية، المنافذ يا عزيزي قد غُلّقت وقيل له: هيت لك... وأنّى له حينها بالفرار... لا يدري أيُّ الحقيقتين أكثر رعبا: رضيع فاطمة الذي لفظ أنفاسه قبل أن يخرج من بطنها، وخرج أزرق اللون...أم لهيب المعصية؟. لقد رجعت توسلاتها إلى السماء بالعدم، لم تستجب دعواك يا فاطمة...يضرب على صدره ويحبس انّاته... وهاهي اللعنة تصبّ فوق رأس طاهر، لقد كادت له الشمطاء فجعلته يصيء في مصيدة لا يستطيع منها الفرار.. -أهذا لأجل المال وايلاه.....راح يقلب أمره على جمر يحرقه... إن هو حاول أن يأتي بفعل سيقولون: كان على علم وقد كاد ودبر ويزج به في السجن... لن يكون مختلفا عن أولئك المناكيد السوفييت، ربما يكون معهم في عصابة واحدة وهذا سبب ثراءه! وما معمل القطن إلا واجهة خير لا غير...سيحيون الموتى، ويجعلونه سببا في وفاتهم، بل قد يكون سارقا لرماد في قبورهم... ويقولون: حاج طاهر إبليس في الخفاء... ويقولون: سارق الأولاد من بطون أمهاتهم... ويهون عليه كل شيء...: يا رب... ربما يقولون ويقولون، لن يرحموه، لن يلتمس له أحد منهم عذرا... حتى فاطمة ستذبل وردتها وتذوب ضحكتها وتموت في أرضها...، في العراء ستكون فاطمة سينهشون لحمها ويتركونها ذليلة... - ويلاه يا فاطمة ويلاه... ..يهب كالمجنون ليثور، ليغضب، ليقلب الأرض نارا... -أيتها الشمطاء... يهم بإمساكها ويرتد على عقبيه خائبا... أيمسك امرأة؟! جسد امرأة سيكون بين يديه بل جسد إبليس سيكون بين يديه ملعونا وإياه... يأتيه صوتها كلوح جليد يصفق جسده...:يا حاج طاهر، خديجة عندها ستة وأنت ما عندك، ولد واحد تساعدهم بيه، ويكون ابنك. يخمد بركانه فيسكت ويعود إلى كرسيه ويغمض عينيه على صورة فاطمة... تقف بينه وبين جهنم ملاكا حارسا، ستسجن في بئر أحزانها ولا تستيقظ... يجعل رقبته بين يدي جزار ويرتجي الرحمة، تهمس في أذنه...: لا تخف، سرك في بير، وأنت كلك نظر... المزيد من المال...المزيد من اللعنة...والمزيد من العفن يصيب جسدك بداء... سيكون ذليلا أمامها، كلمة واحدة منها تجعله في سجن الدنيا والآخرة...: لا يؤتمن جانبك أيتها الشيطانة... يسلم رقبته إليها بحبل من مسد، إن هو حاول الخلاص، أكلت من لحمه وأدمت جسده... وإن هو تركه أرداه قتيلا ذلك الحبل من مسد... إحسانه إلى من لا يثمر به، الإحسان ضرب من الجنون وخبل غير مبرر، قيدته زوبعة من جنون... ضربت شطآنه وأطفأت منارته، الأمر جله أنه سيوافق ويوكل أمره لله، والمهانة سيتحملها مهما حاول التملص منها، إنما هي المقادير التي تقضي في أمره فعسى الله أن تكون أحكامه فيه يسيرة... غشاوة فوق عينيه وهو يناولها حزمة الأوراق النقدية.. اللعاب الذي يسيل من فمها لن يسكتها إلا قليلا ولن ترضى بالقليل. يشهق بصوت ضعيف: كنت سأعطيك حتى وإن أعلنت موت الجنين... لكنها شهوة الدنيا الدنيئة التي خبرها في نفوس الكثيرين ولم يتوقع أن تصل إلى داره وأن يصيب البلل ذقنه... كم من أناس باعوا ضمائرهم ليحيوا، وما دروا أن ما من حياة ملؤها الذل والخنوع. وبقي ذلك الخبر الذي نطق به جميل من سرقة للأطفال، وأعواد المشانق يتطاير مع الطير الذي يحط في كل زاوية من حياته... بل ويسد قرص الشمس والجحيم قد اتقد... نظرات فوزي تؤرقه وهلع خديجة يذبحه وفرحة فاطمة تشفع له...: يا رب السموات، سترك يا رب. الصغير يحبو وسنه تشق اللحم وضحكته بسنه تشعل قلب فاطمة، لا تريده أن يدوس الأرض يصرخ قلبها إن أصابه آذى...النساء يمطن شفاههن ويزمنها وهي تتراكض وراء الذي أطلق أربعه للريح... القمح المسلوق بقدور كبيرة على الحطب، والماء يغلي، والقمح يطفو، والمعالق الخشبية تحركه والمغارف تملأ الصحون في البيت الكبير، والطرقات قد سدتها الأجسام المتكدسة، والرؤوس تنبش لها مكانا لإبصار الصغير، والأفواه تمضغ حبات القمح وتعلك الكثير من الأحاديث وتدسها في الآذان المرسلة صوب الأبواب المفتوحة... الحلوى والسكاكر توزع في صرر على الجميع... الأيدي المتشابكة، والأجساد المتدافعة والأفواه التي تبتهل بطول العمر تأخذ الصرر من بيت الحاج طاهر. الكثير من الخير وفاطمة تلون وجهها بالألوان، تتلصم الفتيات بالوشاح الأسود وهن يتنهدن..: ليت إحداهن تحظى بمثل الحاج طاهر... والأمنية تصل إلى أنّة الحاج طاهر فيرجعها مبعثرة يحملها الهواء... الزغاريد تصفق الهدوء في الطريق الترابي الطويل ودكان مسعود مليء بالكثيرين، وآيات من القرآن يتلوها الشيخ محمد القادم الجديد لمدرسة القرية ذات الجدران الإسمنتية، والأدراج الخشبية، والألواح السوداء وقد رصّ على قاعدتها الكثير من الطبشور الأبيض، الذي ملئت به شوارع القرية من رسومات، وثمرات القطن، وقلب شارد وراء حب غض... الحالمون الكثر ممن انتزعوا من الحقول إلى الأدراج، بقيت قلوبهم محشورة بين البذرة وحبة الرمل ورشفة الماء، والغيطان والظلال واللهيب والكثير من الصور...بعيدا عن الأوراق والسطور المبهمة والألواح الملعونة. الكثير من الأشياء سترص في أذهانهم وهم لا يريدون لدودة الكتب أن تنخر سيقانهم الفتية، وأن تزحف أرضة الأرض إلى محاصيلهم فلا تبقي ولا تذر... ويبقى صوت التراتيل يسمع القاصي والداني، والطيور السابحة في السماء تسمع بتحليقها بأسراب في السماء الصافية الأغاريد. اللون الأحمر بالمجان جميع المشروبات على حساب الحاج طاهر... الكثير من الأمنيات تحققت هذا اليوم، تقلب الرزنامة صفحاتها وتتغير التواريخ، وكثير من الحكم والأمثال تبقي نفسها خلف الورقة الصغيرة مستطيلة الشكل، والتلفاز بشاشته السكنية مغطى بقطعة قماش، والمذياع ذو الخط الأحمر يلقي بالكثير من الأخبار، والصغير يكبر... مرَّ عامان دون أن يتحنى الصغير بحناء أمه، دون أن يلتهب كل منهما بالأخر، ينقبض قلب فاطمة حين تلتقي العيون...: عيون الصغير تكرهني يا طاهر... - لم هذا الغضب؟؟ - طاهر الصبي يخيفني... في عينيه انتقام... - استهدي بالله يا فاطمة واستعيذي من إبليس الرجيم... بسيوني الرضيع الذي كبر ومشى على قدمين قويتين استعاذ منه الكثيرون، لم يسلم منه أحد في أم الغيطان...القصص الكثيرة تدور بمطحنة القرية وتسرد أفعال الصبي الشريرة... "يسير فيعترض فوزي وحماره، حمار فوزي يجري بسرعة...من صفعة على مؤخرته بعصا، يتعثر فيسقط... الكثير من الألم والوجع، لقد أذى نفسه بالكثير من الرضوض التي أقعدته في بيته، أولاده الفتيان يدعون أباهم إلى ترك العمل عند الحاج طاهر، جميعهم قادرون على جلب المال، وخديجة تولول وتسرُّ: الولد هذا فيه شيطان...وتنفخ في عبها. أسبوعان يتغيب فيهما فوزي ...غضب الحاج طاهر على ولده بسيوني، ليته يكون طفلا بريئا ويلعب كما الصغار..." -نحن لا نحاسب الصغار يا فوزي ...ألا تعرف أنهم أحباب الله؟!...قالها وهو يطلب الصفح من فوزي... لم تحتمل الجدران الضيقة الكثير من الصناديق المحملة بالفواكه والخضراوات، غضب فوزي ذاب وحزمة من الأوراق النقدية تدس في جيبه...يردد: الولد لسه صغير، والمسامح كريم... خديجة تزغرد بتلك الضحكات التي فرت من البيت منذ زمن... الشكاوى والهمز واللمز تسري كالطاعون في أذن أمّ الغيطان...: الولد ممسوس. الكثير من الأخطاء والفوضى تقع كل دقيقة...لم يعد الأمر محض صدفة، الجميع يأتون يندبون حظهم ويطلبون من الشيخ محمد الحل... - لازم نبعد عنه الشيطان يا حاج طاهر...يطرق الحاج طاهر التفكير والشيخ محمد يقرأ عليه سورة الفلق والملك والبقرة ويحرزه من الشيطان، وقرص الشمس يميل للغروب. - دخوله المدرسة سيصلح حاله...بسيوني ذكي دعه يتعلم. الغرف الثلاث الإسمنتية تضج بذلك الصغير الذي لا تمسه العصا، والسيقان تلهبها عصاه...المعلمون يشتكون للشيخ محمد...و قطرات العرق تملأ وجهه وهو يشكو للحاج طاهر: ربما تسرعنا، علينا التمهل مازال الطفل صغيرا. الصف السادس يمتلأ عن آخره بالصبيان، الفتيات لم يعدن يذهبن للمدرسة، الكثير من الفتاوى بتحريم علام البنات... كثير منهم قال: البنت شيطان، فكيف إذا تعلمت...؟ الشياطين تسكن في أجساد جميلة... - البنت ليس لها غير بيت زوجها... - بالعلم ستفيق البنات على المحرمات والخطايا تكثر... لم يستطع الحاج محمد قول الكثير عليه أن يسمع بهدوء... -لا علام للفتيات... خضع وبقي حلم البنات بالتعليم في قرية أم الغيطان معلقا... كما كانت أحلام فاطمة بالصغير.. عاودتها أوجاع الحمل من جديد، الكثير من القيء و الدوار والداية توصي بالتزام السرير، الحاج طاهر يكثر من السفر إلى القاهرة لن تلتقي عيناه ثانية بالشيطان في بيته، الكثير من العمل عليه أن يعده، وتبقى الرسالة من البعيد تأتيه بين الحين والآخر يشتمها ويذرف دموعا كثيرة... وفاطمة لن تستطع اللحاق ببسيوني وعصاه... فعهدت به إلى أبي المعاطي الذي يمسك ما تبقى من شاربه المنتوف...بعد أن نتفه له بسيوني. لم يكن يستطيع أن يقول شيئا... أجلسه أمامه وجعل ينتف شنبه الكث وبيده عصا... إن نطق ضربه بها ... الجميع يخافون الاقتراب منه والأيام تجري والبطن تكبر... آلامه تأتي وتروح، الطلق بعيد لكن الماء يسيل... الداية لم تستطع فعل شيء، منقوع الحلبة ورجلة الراعي لم يفيدا بشيء والماء يسيل، لم تنتظر لتموت فاطمة أو يموت ما في بطنها وتذهب عنها مغارة علي بابا... -الحالة حرجة يا حاج طاهر، الطفل لن ينزل بسهولة ... يمتقع وجه الحاج طاهر ويسهم في نفسه: لم عليه أن يمسك السراب، أيّ خطيئة اقترفها ليموت كل مولود له...؟ أتراه يدفع ثمن تقصيره مع...؟ -الحقيقة أن طبيب المركز بعيد والداية لن تستطيع توليد فاطمة، سيموت الجنين ثانية في بطنك يا فاطمة... ينظر إلى قاع نفسه وهو لا يدري ما المصير؟! في جوف الليل يبوح الصمت بصراخ صغير قد ولد، والأنوار تضيء البيت الكبير، والطبيب قد شق بطن فاطمة ليخرج بنتا جميلة... - مبروك يا حاج طاهر، لقد شققنا البطن ... كانت ولادتها الطبيعية مستحيلة.. لم يكن لدي خيار، تعقيم الجرح لازم وخياطته... كل يوم تغيير على الجرح حتى يلئم وتذوب الخيوط... الألم كالسكاكين، والدم المخلوط مع الماء يسيل من الجرح، والدماء تسيل بين الفخدين، وإفاقتها لإرضاع الصغيرة قل ... شهر كامل مضت منه أربعون يوما، كانت كفيلة لأن تستعيد فاطمة عافيتها، إفاقتها المجنونة على بكاء الصغيرة، والدماء تفرّ من وجهها، وبسيوني معلق ضحكته التي لا يكاد يفيق منها بذلك الجرح العميق الذي قطعه في وجه الرضيعة. الجرح الذي خاطه طبيب المركز بطول ثلاثة سنتيمترات احتاج كثيرا من التعقيم، وملاحظة من فاطمة المتعبة... ذلك العمق كاد أن يقطع الشرايين أسفل العين باتجاه الفم...كان كفيلا بأن يترك الصغيرة بإعاقة دائمة و بذبول في عينها.. -لن تتزوج صفية يا فاطمة... لا تتركيها حتى عند النوم. تبادل نظراتها بين الرضيعة والسماء وتطيل الصمت ودمعة حارقة تهرق من عينيها وهي لا تعلم لم كل ذلك الحقد في نفس بسيوني؟، وهي على يقين أنه لن يملَّ المحاولة بالإيذاء، لكنها لن تفيق من جديد على صرخة أخرى... لا تكاد تطبق الجفنين حتى تستيقظ...القليل من الصمت كفيل بأن يترك بصمته البكماء على حياة فاطمة، والحاج طاهر يطبع قبلة على جبينها. - عليك بالاتكال على الله، سلمي أمرك يا فاطمة لله، هذا قدر ومكتوب... الصغيرة تكبر كوردة وتزهر أوراقها، الفساتين التي كانت ترتديها لم يرتدها أحد من قبل، مشيتها مختالة بثوبها المليء بالورود جعل الأعين تتلقفها، عامان والصغيرة الجميلة بهية الطّلة إلا من تلك الندبة التي تصل بين العين والثغر، ابن الست سنوات لن يتوقف عن إزعاجها، ثأر قد نشب بينه وبينها... الصراخ الذي عصف بجدران البيت الكبير كان يشتعل...صفية تجر ثوبها الذي نشبت فيه النيران خلفها... العلبة المليئة بأعواد الثقاب أضاءته، وهي تلعب بدميتها كشمعة في ليلة ظلماء، الصغيرة التي ذرعت الصالة الكبيرة وقد لحقتها ألسنة اللهب، تناولتها فاطمة ببطانية أطفأت نيرانها ولم توقف صراخها. طبيب المركز يضع يديه على خصره وهو يهز رأسه مقرا بأسف... بأنها حروق من الدرجة الثالثة. العلامات الفارقة في جسد صفية كثيرة وجميعها لا يزول... تصرُّ فاطمة عينيها وترسلهما بدموع لن تملأ الآبار بل وستغرق من حولها... وتندب حظها. لم تمنت أن تحبل؟؟ هي لا تريد أحدا... هي تريد أن تحفر حفرتها وتموت... لماذا يا طاهر سمعتها ووافقت؟؟ الكثير من الشؤم يزف بشائره إليهم والكثير من ترف الدنيا... الخير الكثير والشر الكثير لا يمكن أن يجتمعا إلا بمصائب، وهو ما يقبض قلب فاطمة والحاج طاهر وأعينهما تتلقف الغيب بدعاء. ما تسوقه الدنيا إليهما من الأموال والأطيان والأطباء الذين يملئون شعبة المركز الصحي في قريتهم...المدرسة والمتعلمين، الجمعية الزراعية، والجمعيات الخيرية والكثير من الفقر قد زال شؤمه... لم إذاً لا تفارقه تلك اللعنة...؟؟ الأيام تمضي... وبسيوني شره زاد وتطاوله لم يعد له حدود... - المعلم في الدار شيء أساسي يرافق أبناء الذوات، وأنت منهم... أشار عليه مدير مصنعه للملابس القطنية، بأن يأتي بمعلم ومؤدب بنفس الوقت. - عليك بمواكبة العصر... العمال يحملون الكثير من الأثاث إلى تلك الغرفة الكبيرة الجديدة، والكثير من الألعاب التي تشغل بسيوني بتخريبها الواحدة تلو الأخرى، فالشيطنة عالم لا يمكن اجتثاثه منه. غير أنه يمد أفقه إلى البعيد، وكأنه حفظ كل شيء، وأدرك كل شيء ...إنه لا يهوى التعليم... ولا يريد معلما أو مدارس... مستقبل بسيوني خنجر طُعن به طاهر، الذي أخذت آماله تنسف الواحدة وراء الأخرى... قد يحتمل كل شيء، لكنه لن يستطيع احتمال الجهل...لا يريد لأحد من أبناءه أن يكون جاهلا... يريدهم أن يتعلموا ويصبحوا مساهمين معه في مملكته، مملكة طاهر وأولاده... لا يريد لأحد منهم أن يكون عاديا يريدهم أن يحصدوا الخير كله إن عاجلا أم أجلاً. لم يعاكسه القدر كما لو تحالف عليه مع قوى الطبيعة والبشر؟؟ لكنه مهما حال بينه الموج وبين ما يريد...سيزرع أرض فاطمة التي غدت تهزئ بقدرها وتسرُّ في نفسها...: ليتني بقيت بورا... أيام المخاض قد حانت، تسعة شهور لا تدري كيف مضت؟؟ تقول خديجة: حمل الصبي يختلف عن حمل البنت، البنت حملها ثقيل وألمها كثير و وحامها أسوء من مضغ الحنظل، لكن الصبي حمله سهل... سبحان الله للولد رحمة من ربنا... تطيل النظر بصفية وتمشط جسدها الذي عتت عليه يدا بسيوني، وحرقة تصيب قلبها... -ما كان قدرك يا طفلتي أن ترثي الأحزان منذ صغرك؟؟ - لم تثقل مناكبنا بأحمال تخرُّ منها الجبال؟؟ -الهزائم يا صغيرتي تلاحقنا... مهما ظننا أنّا ملكنا كل شيء... -ما رأيك بعملية تجميل للبنت..؟؟!!...يفاجئها الحاج طاهر بعد غياب أيام. - عملية تجميل من أين جئت بهذه الأشياء يا حاج؟؟ -الطب تفوق يا فاطمة... وربما يمدُّ الحظ يده للصغيرة... وتزفر زفرة طويلة وهي تردد: على بركة الله... على بركة الله. وتمدّ عينيها إلى السماء، فتلمح وميضا ...ترتسم ابتسامة في جدار نفسها الحزينة... أسابيع وتعود صفية من القاهرة، وهي تحمل ملامح جرح يحكي الكثير في وجهها، وجسد قد أبقى على رسم صغير لحرق قد ألهبه يوماً. أمام رحمة السماء يكون الخير، الخير الذي تلتهب معه مفاصل الجسد ويعمر خفايا الروح...أن تعود صفية بتغيّر كبير هذا ما لم تكن تحلم به فاطمة، وأن تضع مولودا ذكرا يحمل صورة طاهر فهذه نعمة من الله... بسيوني يبقي ناظريه بين صفية وبين كامل المولود الصغير الذي تحمله فاطمة بين يديها، وهي تشده إليها وتلقمه ثديها، وهي تمسح على شعره الأملس برقة وخوف. هل تجتمع الرقة والخوف معا؟ لكنهما اجتمعا في قلب فاطمة. لم لم ترمقه وهو يطيل النظر؟؟ ترمقه بنظرة قاسية تحرم عليه النظر ثانية، تحرم عليه إيذاء إخوته...! -أثقل عليها اللبن...؟ تعود أحاديثهن إلى أذنيها...: سبحان الله ...رزق الولد ضعفي البنت، علشان كده الراجل له ضعفي الميراث... - لِم لم تفكر بهذا الأمر مع بسيوني؟ -لمِ كان الخير أضعافا أضعافا؟؟ - أيكون له الكثير من الرزق ولهم فقط الضعف؟؟ تلقي بجسدها إلى جنب الرضيع، ورائحة اللبن تفوح منه، تزكم أنفها... شهقة صغيرة هي التي أيقظتها... شعرت بنفسها تسقط... لقد رأته وهو يضع منديلا على أنفاس الرضيع ليكتمها... تسرق كامل منه... قوته فاقتها، لكنها استجمعت كل أحلام الأمومة، وشبق الحياة لتثور كلبؤة...ولتفزعه بصرختها وقبضتها التي صفقت وجهه ورنت في أنحاء البيت الكبير. - من أنت؟؟ من أنت...؟؟ شيطان وإلا بني آدم...أنت لست ابني...أنت لست ابن طاهر!! شهقات الرضيع تسرق لهفتها على الحياة... تسمي باسم الله، وتلقي عليه ما تحفظ من قرآن، ثم توصد الأبواب وتخرج إلى الشرفة وهي تحمل الرضيع... تسرق من رئة الضباب أنفاسا لها ولكامل المضغة اللينة بين يديها وتشهق بالبكاء وصفية تمسك بطرف ثوبها وتعصر جسدها الرقيق في ساق أمها. وشبح بسيوني لم يفارق مخيلتها، تشعر به في كل مكان، محشورا بكل زاوية، ومدفونا تحت كل شيء... مازال ماثلا أمامها كشبح... لكنها لم تكن ضعيفة؟؟... لقد هددته ...:ستلقى أشد العقاب... لم أسامحك، إياك أن تقترب من أبنائي... - كيف قالتها؟؟ كيف خانتها الكلمات؟؟...بعيدا عن صفية وكامل... لم يحكم عليها انتقاء أبناءها وهو واحد منهم وبكرها؟ تريده بعيدا؟؟ هي لا تعرف لم؟؟ لكنه خنجر الكراهية المغروز في خاصرة قلبها... العاطفة بينهما وصلت حدها الأدنى...شيء لا تملكه..وإن ملكت فهو شيء يسير ... ينقبض قلب طاهر، يرى كوابيسا في أحلامه...شيطان بسيوني يطعن عائلته... ما عساه يفعل أو يقول؟! شيطان الصبي ولعنته تفيقه ممسوسا، يرتدي ملابسه على عجل، ويطرق أبواب أمّ الغيطان في بهيم الليل... عند باب فاطمة رآه تمثالا جفت منه العاطفة...عيناه حمراوان وقلبه ميت... الخوف تملك الحاج طاهر جعل يضرب باب فاطمة بقوة... أدخلته وأقفلت الباب وأبقت ذلك الشيطان يتأمل المشهد من وراء الأبواب. - ما الذي حدث يا فاطمة؟؟ يأتيه صوتها ضعيفا والبكاء يتلقف صوتها المتهدج وهي تردد: كيف ستكونون معا يا أولاد طاهر ...؟ كيف ستكونون معا يا أولاد طاهر ...؟ ...صوت الشيخ محمد يهز النفس ...:"كل نفس ذائقة الموت..." - أعظم الله أجرك يا حاج طاهر، الحاجة فاطمة، ربنا يرحمها ويدخلها في فسيح جناته... والكلمات لا تخرج منه، يقفل على قلبه، و تدور فيه أمواج الأحزان التي عصفت بأرضه وسرقت منه فاطمة، لم يحسب لها حساب... كل شيء في كتاب، لقد دقق في كل شيء... ورتب لكل شيء، لكنه لم يحسب حساب الأيام لتريه الأسوأ، ولكنه لن يستطيع... -أنسي أنه بشر؟! - والبشر مخلوقون من طين... ألم يدرك تلك الحقيقة بعد؟؟ لقد أسقطها من تفكيره بأنه الأضعف أمام إرادة الله. وأن في الكون إله قد كتب كتابا لكل البشر... كل البشر... لن يعجزه كتاب طاهر، ما ملكه في حياته... لم يكن ليمتلكه من قدرته وذكاءه بل من قدرة الله... لكن منطق الفراق هو الذي لن يستطيع التخلي عنه، وحيدا في حياته، في عالمه اليوم... وريح تلك الرسائل تأتيه من البعيد، هي التي تواسيه في غربة ما، وريح فاطمة تواسيه في حاضره... هاهنا مع الصغار؛ كامل لم يتجاوز العامين والصغار مازالوا جاهلين، ما الذي عليه أن يفعله؟؟ وبسيوني محبٌّ للأرض، محبٌّ للسيطرة عليها وعلى ساكنيها، على المغروسين في حقولها، على ثمارها والمحاصيل... دقيق في الحساب، رغم أنه فشل في مدرسته، ورجاء المعلمين بأن يخرج منها... بالكاد أكمل الصف السادس... الابتدائية هي التي مكنته من وضع ماكينة حسابية في رأسه...؟!! هذا ضرب من الجنون بسيوني ذكي وذكاؤه يفوق أيّ شيء، هاهو يدقق الحسابات وسيطرته أحكمها على كل شيء، لقد كبر قبل أوانه.. أسند إلى نفسه المهام رغم صغر سنه لكنه ملك كل شيء... كما كان يزعم، كان الأمر يضحك الحاج طاهر الذي أطرق التفكير في البعيد، الطمع هو النار الحقيقية التي تحرق كل شيء وتحرق ما بناه... - سترك يا رب... وصفية الصغيرة تجيد الغزل وأعمال البيت، وقد تعلمت القراءة والكتابة... الحروق في الجسد قد عالجها الأطباء، لكن الندبة في وجهها رغم أنها زالت لكنها تركت أثرا واضحا للعيان... يمسح فوق رأسها...: الكتاب يروقك فاقرئي وتعلمي ما شئت... وهي تحنو عليه، تمسك جلابيته وتحضنه، ولا تريد فراقه... - يا صفية كم تشبهين فاطمة... كما لو كنت أنت... قسوة بسيوني عليها، وضربها في حين غفلة منه، جعلها شرسة...بل أكثر شراسة من أيّ شيء وكامل مازال ذاهلا لا يدري بشيء... - لم تركتني يا فاطمة أهذي مع السراب؟؟ السحب التي تخرج من صدري لن تجعلني سوى مجنونا فيك... لم هجرت المحب وآويت إلى مخدع آخر... بعيد لا تطاله يد طاهر، ليداعب شعرك الأسود الطويل ويمس جسدك الغض؟؟!! مهما كبرت يا فاطمة تبقين صغيرة، صغيرة مهما كبرت يا فاطمة... لكنه الموت من يسرق كل ما أحب... لم تحالف كل شيء عليّ؟ أجيبيني يا فاطمة؟؟ مالك لا تردين؟؟ العصارى تنسحب بردائها في الشفق الأحمر، والأخيلة الذائبة وفاطمة...لقد رأى شبحا يهوي إلى القيعان السحيقة فاستيقظ فزعا، قبّل الصغار، وألقى نظرة على البيت الكبير، واندسّ في السرير، جعل رأسها فوق ذراعه... وقبلها، داعب شعرها الأسود بيديه... - مازلت جميلة يا صغيرتي... ...استيقظ في منتصف الليل، داعب وجنتيها...فوجدهما باردتان كالثلج... كما لو أنها قررت النوم في العراء... -أفزعتني يا فاطمة بثوان كنت قد أرخيتك على الوسادة وتابعت نبضك... أرهف السمع لدقات قلبها فجمد الدم في عروقه... -لم قررت الذهاب؟؟ - أكان ملك الموت منتظرا إياك وأنت تتقلبين بين الرغبة في البقاء والطاعة في المضي؟؟ - لِم قررت الذهاب يا فاطمة وخليتني وطاقة من الأمل مازالت تنير حياتي بنزرها الأخير؟؟ ألا تعلمين يا صغيرة أنك كل ما لي في الحياة؟؟ -وكنت يقيني أن لي الكثير من الحظ... -أتذكرين يا صغيرة حين قلت لك أني أحبك... أحبك وسأبقى أحبك فلم فررت؟؟ -كنت حينها فلاحا بسيطا فقيرا هجر أرضه، ومضى متعثرا في أرض الله، واستبقت القدر ساعة بلقائي بك... جميلة كنت ومازلت يا فاطمة... كنت وردة قريتك في النواحي الغربية، لم أستطع إلا أن أراك في كل طرفة عين، ماثلة أمامي بوشاحك الأسود بابتسامتك العذبة ونظرتك القاتلة... أيّ حب هذا الذي نشب في روحي؟؟ لم أدر كيف وقفت بين يدي أبيك الحاج عبد المولى، وأخوتك الثلاثة كانوا ينظرون إلى هذا القادم الجديد الذي لم يمض خمس سنوات عندهم، وقد برز من بين الكثيرين بأمانته وإخلاصه؟؟ بسنوات قليلة... كان رئيسا للعمال في أراض شاسعة، ذلك الشاب الذي فرض شخصيته القوية على جميع الفلاحين، لم يهب، لم يخف، لم يسقط الكلمات... قالها بقوة: أطلب منك يا حاج عبد المولى يد ابنتك المحروسة... لم لم أهب حينها؟؟ لقد كنت واثقا أنك نصيبي يا حبيبتي... الأجساد أرواح من تعارف منها ائتلف ومن تباغض منها اختلف، وكنت أكثر من روحي... الجبل الذي يناطح السماء بشموخ يخرُّ أمام جلالك يا فاطمة، لم أدر حينها ما قال... لكنه أومئ برأسه وأطرق التفكير...ثم وقف وسار إليّ بخطى ثابتة، وبعينين مثبتتين في عينيّ، ووضع يده على كتفيّ، وقال: إنك راجل وأنا اشتريت رجلا... جهزوا للأفراح، وصيتك فاطمة... لم يعبئ حينها بهذا الفقير البائس الذي لم تلطف به السماء يوما، لكنها فعلت ليسير لنصيبه في غير أرضه وعدت بفاطمة... أنت من أرادني أن أعود إلى الجذور... قلتها وأنت تطبعين فوق يدي قبلة، أنت تحبين الرجل الذي يتمسك بجذوره، وأنت تعلمين أن لي بيت من طين، من غرفتين وحصير ورف خشبي يسكنه زوج من الحمام، لكنه راق لك...وعشقت العيش فيه... -يا فاطمة من أيّ كون جئت ومن أي طينة جبلت؟؟!! -الغيوم التي تعتصر حزنا لفراقك، وتبكيك لن تكون أصدق مني يا فاطمة... رغم أني أبتلع دمعي وأهرقها في داخلي.. - لم يعجز الرجال عن البكاء؟؟ لم هو حرام عليهم وهو حلّ ؟؟ فما بالكن أيتها النساء لا تبكين فاطمة؟؟
صراخ الولدان خلفك يلهثون وهم يسرقون الطريق التي تلملم ريحك... أيُّ ريح تحملين يا عطرة في وهج النهار؟! ويثمل السراب في الأفق البعيد حيث تمشطين جدائلك يا فاطمة... وأنا أداعب الصور وأقلب الدفاتر وتخيطن الفراق عنوة. تسير قوافل من ذكريات، ما تلبث أن تلامس ذلك الخيط البارد من سطور اليقظة ... وتمتد العتمة إلى ذلك السراج، لتصبح سيدة المشهد الليلي... حيث تندس الأجساد التعبة على حصيرها إلا روحي الواهنة التي تعيش على ذكراك...
الفصل الثاني
أيها الغريب تطوف بك الدنيا فلا تعرف لك مكان... أو أصل أو زمان... غريباً تسيرّك الأماني، فما نفع يا ليت وما كان... رولا
جمال
- قرص الشمس أخذ يميل إلى الغروب و كلُّ ما حولي صحراء قاحلة، وكثبان من الرمال المفككة و المتراقصة كموج البحر، لم أجد غرابة أن أكون مرتدياً بزتي العسكرية، البرودة التي بدأت تسري في جسدي جعلتني جادًا في البحث عن ملجأ أقضي به ليلتي، من بعيد رأيت شجرةً متيبسة وقد تعلق على أغصانها العجفاء أشباح سوداء، شدني الفضول وقادتني قدماي المتيبستان إلى ظلها، أبحث عن ذلك الهمس الذي ما يلبث أن يصل إلى أذني ليسقط، عندما أدركت الشجرة كانت الذبالة من النور قد غابت، و أسدل الليل ستاره و القمر جلياً أنار تلك الأشباح المعلقة كقناديل سوداء، سرب من الغربان ربما تجاوز المائة، تتفحص هشاشتي بصمت رهيب، خوفي ومقدار الإنهاك الذي حلَّ في جسدي حال دون مضييّ قدماً، توكأت إلى جذع الشجرة وجلُّ ما أتمناه أن آمن هذه الغربان، التي آثرت البقاء فوق شجرة ميتة تنتظر الموتى، الكثير من القشور التي تغطي ساقها جعلت تصدر صوتاً خشناً كلما أحكمت إسناد ظهري إليها، وقد بدأت تهوي كسفاً من حولي، تلك الساق الملعونة أثارت غريزة الغربان بالنعيق، لم يكن الخوف قد وقع في نفسي رغم كلَّ ما حولي من سوء، لكن ذلك النور المتوهج هو من جعلني والغربان نضرب الغيب بأقدامنا ونتعجل الهرب بأرواحنا، ألسنة اللهب التي تعجلت المجيء من خلف الكثبان أوغرت في أنفسنا الرعب وحلاوة الحياة... بقيت كثير من الأسئلة لم أعرف إجابتها بعد... متى ومن أين أتت مثل هذه النيران؟ ما أعرفه أنني صرت أجري في فوضى هذه الطيور البائسة، اللعينة، وهي تضرب جسدي من غير اهتداء، ابتعادي لم يكن ليكفيني لآمن على نفسي، ألسنة النار تتحدى كلَّ شيء أمامها وتجعل طريقها إليّ أكثر إثارةً...كسكين يلتمع في الظلام ثم يهوي مخترقاً قلباً يعرفه ويريد الخلاص منه، كانت كمن يبحث عن شيء...عن شيء تجتذبه رائحته...لقد كانت تبحث عني...عني دون غيري!. نورها وذلك الوهج الذي أضرم نيرانه بالرمال وبلهيب الصحراء، أحال الليل إلى نهار، وأذاب الظلام الدامس في قعر فنجان، العرق المتصبب فوق جبيني لم يكن شيئاً مقارنةً بذلك الذي ينضح من كلِّ جسدي، الموت بات وشيكاً حيث لم تستطع قدماي المضي قدماً، لقد تسمرتا في مكان قصي لكنه ليس بعيداً عن يد الموت المجنونة، لقد بت أدور في مكاني وبساط الحياة يسحب من تحتي وأنا لا ألوي على شيء... لكن حبّ الحياة غريزة لن يهرب منها أحد مهما أقنع نفسه بالزهد، لا بد لي من البقاء حيث يمكنني أن أستبق العمر ولو ساعة أغير فيها المكتوب... أليس لنا خيار في أن نغير القدر؟! رحمة الله أكبر من أن نُسجن في زجاجة ليس لها فوهة! أنّى للنار أن تلتقمني بهدوء وتمضي ترفل بثوب الانتصار... الهزيمة لها طقوس وللانتصار طقوس ونصل كلٍّ منهما يُعمل نحتاً فيّ فإلى أيهما أركع بفن الاستسلام؟! لكن شبحاً أبيض أمامي كان يدعوني إليه، عشرة أمتار كانت كفيلةً بأن تنجيني، فلم يعد هناك الكثير لألتهمه بالتفكير العقيم، اندفعت إليه وخليت كلَّ ما حولي وأنا واثق بأن هذا الكهل سيمنحني طوق النجاة... كان هذا حلمي كلَّ ليلة يا سارة منذ فترة طويلة، هو نفسه يتكرر مراراً وتكراراً، لم أضف إليه ولو قليلاً ولم أنس منه شيئاً. قالها وقد اعتدل من فوره إلى مقعده القماشي، وهو مازال يدور ملعقة بيضاء صغيرة في كوب من القهوة المشبعة بمبيضها، كانت عيناه معلقتان بشيء مجهول لم يعرفه ولكنه لم يستطع التفكير بغيره، وهو عاجز عن الإتيان بشيء ولو قيد أنملة. أجابته سارة التي كانت جالسة بقربه على مقعدها القماشي وقد أرخت يدها على كتفه تربت على همل تارة وأخرى تمشط وجعه بمشط الصبر وقد كُسرت أسنانه، وهي تغيب بالأبخرة المتصاعدة من كوب القهوة الذي تحمله في يدها الأخرى، أسبغت بلكنتها المصرية الجيدة نوعاً ما من اللطف والحبِّ، تلك اللكنة اللذيذة أضفت نكهةً محببة لمن يسمعها، أتقنتها بعد زواجها من جمال منذ أكثر من ثماني سنوات... - أتظن يا جمال أن أمراً ما سيحدث لك في مكان بعيد من هنا؟ لظم شفتيه وهو مازال معلقاً عينيه في الملعقة التي يدورها ولم ينطق بشيء، لم تكن في الحقيقة هذه الشقراء ذات العينين الخضراوين وصفحة رقيقة من الوجه الغض، وقد غطاها نمش بني اللون، تنتظر بالفعل رداً من زوجها الذي عبر قبل عدة أيام خط الثلاثين، وبدأت بالفعل العديد من خطوط القلق تغير صفحة وجهه، عدة أشهر مرت والحلم نفسه يتكرر وليس فيه أيُّ جديد، كل ما تعرفه أن زوجها ضابط مثالي في قوات الاستخبارات الأمريكية، وملفه نظيف وقد تسلم أكثر من مرة وساماً من الرئاسة الأمريكية، وبخاصة بعد نجاحه في تنفيذ عملية تصفية ابن لادن في أفغانستان، وقد ساهم في كثير من الأوقات في كشف أوكار لخلايا إرهابية التي برزت بشكل كبير وبخاصة بعد أحداث 11سبتمبر... وهي تعرف جيدا أن تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن، كانا مسئوليّن عن مقتل المئات في هذا التفجير الذي دمرت به أعلى ناطحتي سحاب في العالم في أواخر التسعينيات، وهي لن تنسى هذه الذكرى المشئومة أبداً بعد أن فقدت قريبتها التي لم يسعفها الوقت كما الكثيرين ليفروا من مصيدة الموت... وهي بقدر ما تكره ما فعله أسامة بن لادن وتنظيمه بإرهابهم وقتلهم الأبرياء بعملياتهم التفجيرية في بلادها، بقدر ما تحب جمال وتحترمه، فهي تجده مختلفاً تماماً وبعيداً عن تلك الاتهامات للمسلمين: بأنهم متطرفون، ووصف الإسلام بالإرهاب. الحبُّ الذي في قلبها له لم يكن لتتخلى عنه حتى لو كلفها ذلك حياتها، هو مسلم طيب وهي تحب دينه وفي يوم من الأيام ستعتنقه، هذا ما تحضر له في نفسها لتفاجئه به. لم يكن هذا البتة ما يقلقها، ما كان يقلقها بالفعل أمر آخر، تلك الصحراء الكبيرة المليئة بالكثبان وتلك الغربان نذير شؤم لا محالة، ما تشاهده في عملها في غرفة الأخبار التابعة لتلفزيون محلي قريب من مكان سكنها في ولاية كنتاكي الريفية، والتي عاشت فيها عمراً أنبت فيها عقيدة تؤمن بالحياة وقيمتها، جعلها غير مغيبة عمّا يدور حولها من أوضاع سياسية صعبة، ومن تضخم أعداد المتورطين بحوادث تفجير حول العالم، وهذا الأمر لا شك يقلقها كما يقلق جمال فعمله في وكالة الاستخبارات التابعة لقاعدة فورت نوكس كنتاكي، يعني أنه سيواجه لا محالة في الأيام المقبلة الكثير من الأمور سيئة الطالع، القليل من الصبر والسيطرة على عواطفها هو الذي يحتاج إليه، فهي لا تريد أن تزيد من هموم جمال بل تريده أن يخرج بسرعة مما هو فيه. قالت وهي تقف عند النافذة المستطيلة الشكل وقد ارتسمت أمامها صور العابرين تحت حبات المطر التشرينية، التي انهمرت بغزارة على النافذة بخيوط متتابعة، وقد أخذت خطوات الكثيرين المسرعة تتحايل على المطر ليجدوا لهم ملجأ، في الطرق الطويلة المسيجة بالبنايات الإسمنتي، -هل سمعت شيئا من فرانك؟. تردد اسم فرانك في عقله وكأنه تذكر شيئاً ما قد طواه رغماً عنه، كان يكفي أن يتذكر اسم فرانك ابن خاله توفيق لترتسم على وجهه ابتسامة، وتعنُّ على باله ذكريات عذبة، لكنها اليوم زادته شحوباً، تلك الرابطة القوية التي كانت بينهما...يطرق التفكير:هل كانت بالفعل كذلك؟! فما تبقى منها غير الوجل والدفاتر القاتمة التي تنسل تحت مفهوم واحد وهو الغرق... فبعد وفاة خاله منذ وقت قريب بدأت صور فرانك وسلوكه المضطرب أكثر تكراراً وأصبح نزقاً لا يطاق، شيء في داخله جعله ينطوي على نفسه، يسرقه من عالم الصحوة إلى عالم الانقسام على الذات ربما يكون ذلك المرض الذي أكدته لهم طبيبته منذ زمن بعيد، قد عاد يطفو على السطح، بعد أن ظن الجميع أنه قد شفي تماماً، سيرينا زوجة خاله و...أمه...عرضته على أطباء نفسيين ومحللين للسلوك المضطرب، وهو ما يسمى الاضطراب التحولي، كما أكدت لهم طبيبته ذلك، وهو بالفعل ما كان يحدث له، لم يعد يحسن استخدام جسده، لقد أصابته اضطرابات في الجهاز الحركي عدة مرات بما يوهم بأن هناك مرضاً عصبياً كالشلل والتشنج قد أصابه، رغم أنه لا يعاني من أيَّ مرض عضوي، تلك الحالة التي كانت تصيبه في صغره بعض الأحيان وبخاصة عندما يغيب عنه جمال، وسببها تلك العلاقة الوثيقة التي ارتبطت بينهما وكانت أعمق من العلاقة الدموية، كانا تؤمين بالفعل، ولكنها اختفت أو هكذا ظنوا حتى عادت وبشكل كبير عندما توفي والده توفيق. لم يستطع أحد معرفة ذلك السر النفسي الذي يدور فرانك في فلكه، لم يكن قد تجاوز الرابعة والعشرين عندما عاد من القواعد الأمريكية في العراق بعد احتلال أمريكا لها بعد تلويح صدام حسين بالحرب الكيماوية عقب احتلاله للكويت...بعد ذلك التاريخ كان قد فقد توازنه، ولكنه بقي محافظاً على كيانه، وعلاقاته بالجميع على درجة متساوية، لقد استقل بعواطفه، بانعزاله، وأصبح إنساناً آخر أكثر تعلقاً بالمخاطرة، رغم تعلقه بجمال ورغبته في أن يكون نسخة عنه...ربما يريد الانتقام من نفسه لكن لماذا؟ الضباب الذي يغطي أفقه حالة خاصة، لا يمكن أن ينقشع دون إرادة منه، سيرينا التي لم تبخل عليه في شيء، هي التي منحته الثقة المطلقة بالنفس دون مساءلة، و حرية الاختيار في الذهاب إلى حيث يرى الحياة، ولكنها كانت تريده أن يطرق أبواباً أخرى، غير أنه اختار أن يعرفها ويختبرها عن قرب وإن كان ذلك من بوابة الموت، فعلت الكثير، قاومت، صرخت، لكنها لم تستطع أن تمنع ولدها من الذهاب إلى تلك المقبرة التاريخية الطاحنة التي تدك المذاهب وتحرق الإنسانية، هي تؤمن أن عليه أن يتخذ قراره، لكن ليس بأن يسلم كفنه للموت بالمجان... لم تكن تتوقف عن البكاء الصامت الذي نحت تلك الجبال الملحية الصامدة فيها، والتي كانت تحرقها فقد كانت أمام نارين: إما أن تفقد ولدها في انهيار عصبي بسبب وفاة والده، لم يكن توفيق أبّا وحسب بل كان صديقاً محباً يغمرهما بالود والمحبة، وبين أن تجعله يخوض معارك الحياة ليشتد عوده ويكتسب خبرة أكبر في دوامة الحياة التي لا تنتهي. قراره في دخول القوات الخاصة الأمريكية لم يكن إلا رغبة بأن يكون نسخة مصغرة عن ابن خالته ضابط الاستخبارات جمال، لا لشيء آخر وإن أقنع نفسه بكونه بطلاً، البطولة ليست بالتمني ولا بجمع الأحلام؛ إنها سلوك حرفي ينحت في الصخر تمثالاً من صمود، وقدرة على التغيير، على البقاء في مواجهة التيار... كل الأبجديات لا يمكن أن تمنحه لقب بطل... فهو لم يأخذ كثيراً من قوة جمال، جسده الهش لم يكن ليجعله يصمد كثيراً أمام الأنواء... دعواتها للسماء بأن تمنحها دمية تحنو عليها وتمارس معها طقوس الأمومة يبدو أنها تحققت بمنحها فرانك بجسده الرقيق، وأفقه الضيق، وحلمه الأنيق... شيء ما أوغر في صدرها: بأنها ستفقده، وربما تتغير الأقدار ليبقى طفلها الصغير في أحضانها، لكن الشريك في الحب هو من سيحول دائماً في منحها تجليا في الحب، تعلقه الأسطوري بتوفيق وجمال هو الذي تسبب له بذلك التشوه النفسي وعدم سويته، هذه الحقيقة التي لم يكن ليكتشفها جمال لولا تلك العاصفة التي حدثت بينه وبين سيرينا في مواجهة قاسية لأول مرة بينهما، بعد سنوات القحط التي جففت منابع الألفة بينهما، حينها أصبح متأكداً أن سيرينا التي عاش في حضنها عمراً لم تعد كما هي، لقد تغيرت، وقلبت الطاولة ومزقت الكتب... وطمست قاموس الذكريات...التي ظن يوماً أنها لن تمحى... العلاقة المقدسة بين الأمّ وابنها... لكن المفروض شيء والواقع شيءٌ آخر... والعناوين العريضة ليس بالضرورة أن تحمل جوهراً قيماً... لقد تغيرت ولن يكون بمقدوره مواجهة غضبها، وهي تصفعه بريح سموم في كل مفصل من مفاصل حياته... فهي أعلنتها حرباً ...وحرب الأقارب لا يمكن درؤها...ولا يمكن الهروب من مواجهتها ...ولا يمكن تجنبها...عرف أن هذه الحرب غضب من السماء. فهي تحملّه مسؤولية التحاق فرانك بالقوات الأمريكية، لم تستطع مواصلة التخفي وراء ستار الحكمة بعد أن وصل الماء إلى ذقنها، التنفس تحت الماء مهارة لم تمنح للكثيرين، وسيرينا لم تمنح مثلها، فقد ظهر ذلك بكل تصرفاتها وجفاءها واعتذارها عن استقبالهم في كثير من المناسبات، وأقربها مرض خاله توفيق وتعتيمها المتعمد على حقيقة مرضه...وأنه سيموت لا محالة في أيّة لحظة. بعد ذلك الجدل الذي دار بينهما، يذكر تماماً ما حدث وكأن الشريط يعاد بدل المرة مرات، حين ضربت بغضبها حطام سفينته، وقتها هاجمته بجفائها وغضبها أمام سارة علانية... - عليك أن تبتعد عن فرانك. تلك الدموع التي اختبأت وراءها، وذلك القناع الذي بقي متعلقا بحبه وسنوات طفولته التي اختل توازنها وسقطت كأوراق اللعب...التي تسقط من هبة ريح رقيقة أو من خطأ بسيط...خطأ أخلّ بميزان الدقة و قد سقطت أخيراً، تصمم على الدق بإزميل على زجاجه الهش بأنه مجرد غلطة، مجرد تاريخ مشوه، وحقيقة مزيفة، وتدعوه بالمصيبة الكبرى التي أصابت عائلتها ليسير من بعدها على الزجاج المطحون حافي القدمين. تلك المرأة الحديدية التي لم تكن كلمة ماما تبتعد كثيراً عن وصفها، أصبح جمال ببساطة عدوها الأول... العرق المتصفد فوق جبينه، وتلك الهزيمة النكراء التي ألمت بجسده، وكم الذكريات الهش الذي أخذ يتساقط فوق أرضه القاحلة، لم يكن ليفارقه لحظة واحدة، تلك القبضة التي أوقعت صف الصور الموضوعة على الرف ذي الإطار الخشبي، صور العائلة، خاله توفيق وسيرينا بثوب الزفاف، توفيق وفرانك في رحلة صيد للأسماك، صور فرانك يوم تخرجه من الجامعة، اهتزت جميعها إلا صورته القديمة التي مالت إلى اللون الأصفر، والتي التقطت له خلف السفينة المحملة بالبضائع وتمثال الحرية رافعاً الشعلة، لم يكن ليذكر شيئاً منها غير أنه كان ذلك الرضيع الذي ينظر لما حوله ببلاهة، ويحمله رجل أسمر البشرة يعتمر قبعة صوفية، كان ذلك الرجل خاله توفيق، تلك الصورة قد سقطت وتحطم زجاجها. تبدو الأمور على حقيقتها عندما ينضب الماء وتتوقف زفرة الريح، أرضه التي مرّ بها زلزال تركها محروقة وقد صدع ما تبقى من بنيانه الذي استغرق عشرين عاماً، ليتركها صعيداً جرزاً، والنهاية بأن تشحذه أبصار من يحب بعين الغرابة والاستهجان...لم تسقط سهواً عبارتها- أنت غريب بيننا- الدوار الذي أصابه لم يجعله يطيل المكوث،رغم أنه كان يملك الكثير في سلة ذكرياته، في هضيم أحلامه المنزوع فتيلها... ما في قلبه جمدت فيه الحياة... شراينه...أوردته لم تعد تسقى بالحبر الأحمر، لكنه سيقوم من قبره كما الزهور في الأصص الترابية المستلقية على الرف أسفل النافذة المطلة على الحديقة، التي امتلأت بنبات القراص متحدياً المرأة الحديدية... - إنك تلقين بالصبي إلى التهلكة وتزفينه للضياع بابتسامة، لقد جئنا هنا لنعيش، كيف لك أن ترمي بالصبي هكذا، إني لا أفهمك؟. كان الشقاء في نبرة ذلك الرضيع، نبرة الغضب وهو يشدُّ على ناجذيه، سيرينا التي وقفت كجدارعازل، أصابته بأزمة قلبية فقد انقطع حبل الوصال، وصقلت العلاقة بينهما بورق خشن، طأطئ رأسه، وطفرت من عينيه دمعة آسفة... يمكنه أن يتحمل المسؤولية بأيِّ شكل من الأشكال، بإمكانه أن ينبت نباتاً متسلقاً ليعيد ما كان، لكنه اجتث من جذوره دفعة واحدة، خرج من فوهة الزجاجة بعد أن انقطعت أنفاسه، وموت حزنه، خرج طريداً من البيت ذي الغرف الوردية، والصور المعلقة على حائط النسيان، وانسل إلى طاحونة الطريق... اختلطت الصور بغشاوة عينيه الرقيقة، ودمعة رقيقة تترقرق في عينيه تغلي في منجل دون أن تمسه نار... الغرفة الوردية... نبات القراص...ألعابه...صدى ضحكاته...أٌقلامه ووو... لم تكن سيرينا لتغير من هيئتها الهادئة التي اعتادوها، جلسة الوقار والهيبة... لم تكن سيرينا امرأة عادية لتمر في حياته مرور السحاب بل كانت مناضلة، لقد ربّت ذلك الصغير فيه الذي كبر برعايتها يوماً بيوم، وعبرت وتوفيق دروب الشقاء، ولبثت عمراً تجري في دولاب الحياة، السوبر ماركت ومن ثم محل الحلويات، و محل الأزهار، لقد استطاعت أن تضمن لهم معيشة فضلى، دون هذه القسوة لم يكن أيٌّ منهم ليخرج كما هو عليه إلا إذا سانده القدر، لن يتوقع منها أحد أن تكون رقيقة خلافاً لطبيعتها الصامتة، لكنها كانت بالفعل كذلك عندما خرجت عن صمتها لأول مرة ونطقت بعد عمر... أطاحت به بكلماتها التي كانت غصة في مستقبله... - أنت السبب يا جمال...في خراب كل أمالي وضياع صغيري... وهاهو يتحداها، تلك الغصة في حلقه لم يستطع ابتلاعها، وهو يشحذ نظرة في الخط الفاصل بين الصحو والغيم، وشعاع النور قد أنار له أملاً في أن يرى ما فاته، خطواته التي وطئت حبات المطر المنهمرة من السماء، وقد خلا كل شيء، ترك سارة هناك في البيت الجليدي ومضى. سارة لم تكن لتقف مع أي منهما فهي تعرفهما حق المعرفة، وتعلم أن كل منهما لديه أسبابه، لكنها تأمل لو اتخذ الحوار شكلاً مستديراً، كان يكفي أن يبقيا حبل الود بينهما دون أن يدكا كل شيء حتى العظام، تأملت المشهد أمامها كما لو أنها تقرأ من كتاب مفتوح، تعرفه تمام المعرفة كما يعرفه جمال: عندما جاء توفيق به رضيعاً، عابراً كل المساحات البعيدة، قاطعاً الأطلسي إلى حيث يبدأ حياة جديدة، بعد أن توفيت والدته حينما كانت تضعه، وكان توفيق غاضباً جداً من أبيه، فأخذه وفَّر به بعيداً، لأن ذلك الأب لن يستطيع أن يهتم به، كما لم يهتم بأمّه من قبل بعد ثلاث سنوات من زواج عقيم... كم كان أنانياً ذلك الذي ارتبط باسمه، حتى جمال نفسه لم يجد تلك الرغبة في أن يسأل: أين هو ذلك الأب؟. بعد تلك اللوثة الجنونية التي أصابت خاله توفيق ذي الهيئة المقدسة، وصفحة وجهه السمراء المرتبة الملامح، والخطوط العريضة التي تنسحب على صفحة الوجه بهيبة، العيون الملونة التي تقف جامدة أمام جريمة السؤال... والطول الفارع الذي ينكسر كلما هبت ريح الماضي، العيون الملونة هي من ورثها من أخواله، فما الذي فعله والده ليغضب خاله كل هذا الغضب؟، فليكن بخطايا الدنيا كلها، أفلا تغتفر؟، إن كان رب السماء يغفر الذنوب جميعا، فلم ضاق البشر عن التوافه وبقوا يخوضون في الوحل؟!، ربما له مبرراته وكذلك جمال له مبرراته أقلها سؤال الابن عن أبيه...! الخط الذي نسير عليه لا يجزم بالنهاية، لكنه يوضح معالم الطريق، هذه هي الحقيقة التي يهيم على أرضها دون أن يجد اليابسة. وكان قدر والدته أن تختارها السماء، كنجمة تضيء طريقه، وكان قدر والده بأن يغيب ليلتها، بأن لا يصل إلى مستشفى الولادة، وكان القدر هناك ينتظر كلا منهما لكن بطريق مختلف ونهاية ليست كما رسما...لا يمكن لرأسين أن يناما على وسادة واحدة دون حب...دون كلمة حانية أو...أو كثير من الأسطر البيضاء ترفق بنصوص لا يمكن قراءتها فوق الأسرة لكن كومة من المشاعر التي لا تصل إلا بالنبض...فهل قطع النبض بينهما؟؟!. أطرق النظر في اللوحة المسرعة التي تمر بشريط مليء بلحظات الفرح، الكثير من الذكريات التي لم يتم اغتيالها بعد، والنصوص التي لم يتم وئدها بعد... أيّ شريعة هذه التي يحكم فيها البشر ولا ينصفون؟! أيّ مشاعر هذه التي تصادر عنوة ويجبر أصحابها على الإذعان؟! تمر أمامه في الطريق المستقيم وصدى الضحكات يرجع إلى أذنيه، يفترش الطريق ويتوسد الظلال ويحلق مبتعداً في فضاءات رحبة لم تعرف معنى السجن أو القضبان... الطريق الذي ألف المرور فيه، وتعلق بصحبة فرانك، هو نفسه الذي عليه أن يحيله إلى خراب... لم تكن هناك مسافة زمنية تفرقهما عن بعضهما...صيغة الخمس سنوات ليست شيئا ّ بحكم العشرة والألفة والتخاطب الروحي.. بنيا معاً خلجانا من أسرار وعرجا على أدراج سماوية من زجاج، وهما يشيران لبعضهما بتلك الإشارات التي ألفا سيمفونيتها معاً وأسالا دماء العهد معاً.. عن أيّ تاريخ سيبحث لينقض أركانه ويحيله إلى سراب؟! أيّ أفعى مرت من هاهنا وبخت سمها ومضت؟!ا العمر الذي مر، والسنوات الخمس لا تعني سوى طفولة أبدية، وسجلاً مليئاً باللوحات الصيفية والتمرغ فوق العشب وطحن أوراق الخريف والتلحف برداء شتوي دافئ... ينصت إلى تلك الضحكات التي طرقت سكون الحديقة أمامه، وفرانك يطوقه بذراعيه ويتأرجح حول رقبته، وينبتان العشب وهما يدوران بجسديهما الغضين فوق الرمال، عن أيّ مكان سينبش بذاكرته ولكل الأماكن ذاكرة زمنية لا تأكلها النيران؟! هو يعلم أن فرانك تعلق به منذ طفولته وكان له المثل الأعلى، ولكن هذا لا يعبه... أيكون بين الأخ وأخيه حدود؟! وإن كانت فلم لم تضع أسافينها سيرينا مبكراً وتحنط القلبين...؟! ربما يكون قدرهما، لكنه لن يكون قدره، بأن يتركه يشارك في حرب دموية في عمق الصحراء، كونه ضابطاً في الاستخبارات الأمريكية وإفشاله العديد من العمليات الإرهابية، وقبضه على كثير من خلاياها، والتي أقضت مضجع الرئاسة الأمريكية منذ أحداث 11 سبتمبر لا يعيبه ولا ينسب إليه وحده، كل ما حظي به من نجاح كان حقيقة بفضل سيرينا إن شاء أم أبى، فهي التي لم تشأ لها الأقدار بأن تنجب، خمس سنوات كانت كافية لتنشئه خير تنشئة، وأن تجعله ليس بمثابة ابنها بل ابنها الحقيقي، الذي اجتثته اليوم من جذوره، وعليه أن يحاول هو اليوم ببساطة أن يتخلى عن تلك الرابطة التي لم تكن بالدماء... الأشجار والنباتات لا تنسى بيتها الأول ورائحة التراب وإن كانت قاسية وإن كانت جافة فهي تعود ثانية وثالثة لمسقط رأسها....والطيور تفعل ذلك والأسماك تسبح عكس التيار لتفعل ذلك...فلم تعيب عليه سيرينا أن يفعل ذلك؟! المشاعر التي تولد بالفطرة هي أصدق وأشد تأثيراً، لكن وسوسة إبليس اللعين تقلب الموازين وتشتت الخطى إلا ما رحم ربي، ولكن أيّكون إبليس كائناً بحد ذاته أم يسير في دماءنا...يعيش معنا ونمنحه دفة القيادة ليقلب الموازين ...ثم ينسحب بردائه الحقير ليتركنا ملعونين...خائبين؟! عن أيّ غيب يتحدث وكل العالم أمامه قد اختلطت أوراقه...؟! تاريخه وعمله وتفوقه لن تكون يوماً بين الإخوة محل خلاف، ولن تزرع الأمّ بذور الضغينة وتنتظر ميعاد إشعال النيران والدوس على الرماد؟! لعل إحساسه بتفوقه سبب لمثل هذا الخلاف؟! ربما و لهذا الأمر بالذات لم يكن الأصلح لاتخاذ القرار... و رغم أنها قضت عمراً في اتخاذ القرار لم لم تقف أمام ثورة فرانك وحسب؟! وهي التي وقفت إلى جانب خاله توفيق، وهي التي صبرت وتعلمت كل ما يحبه من تاريخ مصري، عرفت الأهرامات وخفايا المقابر... وأن الملك (خفرع): هو رابع ملوك الأسرة الرابعة من الدولة القديمة، وهو ابن الملك (خوفو)، وأمه هي الملكة (حنوت – سن) ويقال أن: الملكة (مرين – إت – إس) هي أم الملك خفرع، حيث تولى (خعفرع) العرش بعد أخيه “جدف رع”، وأنه تزوج من الأميرة (مر – إس – عنخ) الثالثة، وهي ابنة الأمير (كا وعب) ولي العهد القديم من زوجته (حتب – حرس) الثانية، وذلك فيما يبدو ليضمن ولاء أسرة هذا الأمير، بالإضافة لتأكيد حقه فى ولاية العرش، وقد أنجبت هذه الأميرة للملك (خعفرع) ابنه وولي عهده الأمير من (كاو رع) والذي تولى الحكم، وجلس على عرش البلاد بعد وفاة أبيه... ليمد جذوراً تربطه بعلاقة حميمية مع مصر رغم أنه لم يرها...لكن ..تعشق الأذن قبل العين أحياناً...هو لم يعرف الكثير ...لا يعرف بالضبط لم أهمل بحثه عن تاريخه ولكنه فعل وانتهى الأمر؟!. لكنها امتلكت ملكة البحث لتتفوق على نفسها وألا تهزم أمام أحد وإن كان أمام زوجها توفيق وأمام طفل صغير رضع من الغربة ما يكفيه. ما يعرفه كان لا يتعدى أن الملك(بيبي الثاني)، كان يصطحب معه مجموعة من العبيد ويدهنهم بالعسل كي لا يؤذيه الذباب. الحقيقة التي تسعى سيرينا بغضبها لطمسها هي أنها الأنثى الكاملة، وهو بلا شك الذي أحبه فيها، ذلك الجمال الذي يبرز من كل جسدها، وذهنها الصافي الذي جعلها تتميز في كل شيء، جعلها المرأة الحديدية، المرأة التي تمنى أن يعثر على شبيهة لها لتقدم له الحياة على طبق من ذهب...ذكريات كثيرة يحملها مع سيرينا، كم جميلة كانت!، فهي أكثر من أمّ، لقد أحبها من كل قلبه...الذي يتمزق في جوفه وعليه أن يطحنه برحى الغياب ويصبر. - لم تراه يتمرد عليها اليوم؟ - لم عيناه تذوِّبان مئات من الاسئلة اليائسة في ذهنه؟ لم ولم؟... مئات من الأسئلة التي يسألها يدور في دوامتها ليستفيق على متاهة توصده بداخلها...فأنّى له منها الفرار. التصميم على نظرية القطب الأوحد، أحادية الفكر لا تمنحك سوى وجهاً واحداً لكل ما هو أمامك، فقط ما تراه عيناك...زواية واحدة...وضوء واحد...وفكر واحد... بنظارة سوداء واحدة... جميعها من توقع المرء بشرك النرجسية التي توصل الإنسان إلى زاوية مغلقة بأنه: الأفضل...ولا وجود للآخر... النكران نصف الخيبة وتصديقه النصف الأخر. كما لا يعني النجاح المتكرر، الأفضلية المطلقة، هناك قوى أخرى غير عوامل النجاح ما تجمع الخيوط معاً في كرة اسمها الحظ... وهو ما يجافيه والذي لم يجعله سوى المالك الأرعن لشذوذه في التعامل مع أيٍّ كان وليس مع سيرينا فقط... لا بد أنه المخطأ ...لكن لم عليه أن يصدق أنه الضحية؟! الدوار الذي يجلده بسياطه لا يمنحه سوى أن يكون فاشلا وهو الذي لا يريده... ربما تكون لتلك الكوابيس التي لم تعد تفارقه ليلا أو نهار علاقة بسحابة الكآبة التي يعيشها وتجذبه إليها رغم عنه...بل وانسحبت كرداء مخملي أسود على ما تبقى من حصص التفاؤل لديه، عندما انسحب بجسده خلف ظله، كان وحيدا كصحراء مقفرة دون روحه، فهي هناك حيث كان يعبث في أرجاء بيت توفيق وسيرينا وفرانك، ويتدارسون كتب التاريخ، ويلعبون الكوتشينة والطاولة، ويشربون الشاي العجمي الثقيل... لكنه اليوم ينسحب بظله الثقيل إلى حيث تمطره سحابة سوداء بالكثير مما تحمله من مطر حمضي يحلله إلى عوامل كثيرة ليس واحدا منها. لعله يستيقظ، لعله يصحو، يمشط بعينيه كل ما كان، الطرقات، الحدائق، الأزقة التي أخذ مرتادوها ينسلون منها الواحد تلو الآخر، كتلك الأعمدة التي أخذت هرمة تنسحب منن حياته بعد أن توكأ عليها في مراحل ذابت كفص ملح لم تمنعه خشونته من البقاء، وهو يطوف بالأروقة ويختلي بنفسه وراء الأبواب... ها هو يغتسل بلهيب اللوم، ومن يمرون بجانبه ينصبون المظلات، ويحتمون بكومة الصحف، ها قد خلت الطرقات من ضجيج الخطوات العازفة على السلم الموسيقي للمطر، إلا من عاشقين، أطالا قبلة حميمية ينهمانها وقد غسلتهما حتى النخاع... لم يخلُّ هذا الطريق منذ أمد لقد كان الأكثر ازدحاما هنا في منهاتن، والذي مازال يحمل الكثير من العناوين للغرباء في وطن بديل، من مختلف الأجناس و البلاد ممن لفظتهم بحارها وجارت عليهم جبالها...هنا تتألف الدماء كما لو عرفت اللقاء الروحي ودفء العاطفة من مغارب الأرض ومشارقها، من العرب ومن الأصول الإفريقية والآسيوية وحتى الأمريكية. هنا تربض المحبة على الطرقات حيث تستدير الحلقات، وتطول الأيدي بالمصافحة، هنا عالم كبير تربى عليه، أنعشه، جعله غيورا، محبا، معاشرا للآخرين، وهو الطريق الضيق الذي سار به وفرانك أياما طويلة، وحفظ اللافتات الممتدة فوق المحلات، والبيوت وساكنيها، السيدة مارغريت وزوجها السيد ميشيل، السيد فاروق وزوجته سعاد من العراق، السيد ربيع من فلسطين وزوجته ماريان من الشام حيث أقاما محلا لبيع الأطعمة العربية من الكبة والتبولة وكل المأكولات الشامية، لقد نحتت هذه العائلة وغيرها تاريخا جديدا لكنه بنكهة التاريخ القديم... يذكر اكتظاظه في مثل هذه الأيام التي يحتمي الكثيرون فيها من الأمطار، ويحتسون القهوة العربية وينشدون أبيات من الشعر على أنغام عازف العود العربي، سلامة من الصعيد، كيف ومتى جاء إلى أمريكا هذا الشاب بسحنته السمراء وشعره الأجعد، ولكنته المصرية التي لم يستطع إخفائها رغم سنواته الطويل،ة وهو يجوب الطرقات ويعزف على أوتار العود لحن جبار ولسه فاكر وأغان تراود النفس فتهيم في فيافيها ...سلامة نفسه لا يعرف سوى أنه رأى نفسه هنا، واصطاد عودا من بئر أحلامه، وأصبح يعزف أغاني أم كلثوم ولسه فاكر قلبي، وعبد الحليم وأهواك، وأتمنى لو أنساك... نعم، أهواك وأتمنى لو أنساك وأنسى روحي وياك... لم يخامرني شعور بأنني وحيد، خالٍ من الإنسانية؟، لم أصبحت كهلا بعاطفتي هذه؟ التي لم تنطفئ مع سارة وأبقت على جذوتها متقدة، ولكنها اليوم على حافة الطرف الآخر من العالم الذي لم يعد يعرف طريقه... أمام الباب الأرجواني وقف يتأمل المشهد، تمتد أسماعه لماض بعيد، ينتشل صوت الضحكات والآهات والاعترافات، والكثير من الصور التي نحتت في ذاكرته، يمد يده ليضغط على الجرس فتسبقه يدها وتزكمه رائحتها العبقة كورود نيسان فيستفيق... قدمت له رداءا آخر بعد أن خلع رداءه الذي تقاطر منه المطر، وشكل بحيرة دائرية صغيرة عند باب المدخل الرئيس المؤدي إلى غرفة صغيرة، وقد اعتاد أن تستقبله مرآة كبيرة طولية محاطة بإطار نحاسي، وعند أسفلها وضع أصان من نبتة الأضاليا التي أضفت نوعا من الراحة على نفوس مرتادي المكان، سبع خطوات يعدها ليلج حجرة مربعة الشكل تنيرها النوافذ ذات الأقواس، والتي تمثل النظام المعماري الإسلامي، والكثير من الزهور المتعددة الألوان قد اصطفت بصبر وذوق رفيع على تلك الرفوف العريضة للنوافذ الثلاث، أقرب ما تكون لمسجد مضيء تتدلى من سقفه ثرية متعددة الطبقات، صممت كي يظل الجالس على الأريكة الزرقاء معلقا ناظريه بها في الطبقة الدائرية العليا، حيث تربض تماثيل صغيرة لملائكة بأجنحتهم الذهبية وهم يحملون القوارير ويرشون منها الرذاذ الذهبي على الساجدين في الطبقة المتوسطة، وهم أولئك الذين خلعوا ملابسهم وبقيت تسترهم قطعة صغيرة وعلى رؤوسهم الأكاليل الخضراء، أما الطبقة السفلى فكانت تضيئها الكثير من الشموس، وكأن الرحمة قد أنارت قلوب هؤلاء الذين استغفرت لهم الملائكة، هؤلاء هم الذين أسرفوا على أنفسهم بمعاقبتهم إياها بالكثير من الذنوب التي لم يقترفوها، ولكنهم ظنوا أنهم فعلوا، فلم يجدوا لهم ملاذا من الشقاء غير تنصلهم من مغريات الدنيا وتعلقهم بالآخرة. - وهي الحياة التي نتعلق بها يا جمال. قالتها بصوتها الرقيق الذي أصابه الوهن وهي تضع كوبا من الشاي الذي تتنسج الأبخرة المتصاعدة منه أفاع هاربة، قطعت حبل تفكيره وهو يعيد ما كانت تتلوه عليه كلما جاء لزيارتها...مريم العذراء هذا ما تحب أن يطلقه عليها مرتادوا هذا المكان، مريم العذراء التي أنست لكتب الأديان المرصوصة على رفوف مكتبتها التي لم يعد يتذكر متى دخلها ولم يستطع الخروج منها. - لقد مضى زمن طويل يا جمال... وكأنما كانت تقرأ أفكاره... - نعم...-مريم ذات الخمسين خريفا وأزيد- هي التي كانت تطعمهم القمح في صرر، والتي كانت تغسلهم بالماء المقدس، وهي التي كانت تباركهم بأسطر من الإنجيل، وكانت تحفِّظهم آيات من القرآن... لم يعرف أحد من أين هي؟، فهي تتقن جميع اللغات كما لو كانت هددهد سليمان، وتفقه ما في الصدور... - من أين أنت يا مريم؟... أول مرة يسأل هذا السؤال، وهو يتم ارتشافه لفنجان الشاي الأبيض المزركش بعقد من الورد الأحمر القاني... نظرت إليه وكأنما كانت تنتظر أحدا ما أن يسألها ...وكأنما عمرا انتظرت... - أيهمك حقا أن تعرف؟؟...قالتها وهي تبتلع خنجرا بنصل طويل يجترحها إن هي همت باقتلاعه وإن هي أطلقته لحاله. أومئ برأسه وهو يجيبها: نعم، حقا أريد... - ربما لن تعجبك الإجابة... - وربما تعجبني... -إنها الحقيقة التي لن تعجب أحدا، في كثير من الأحيان يا جمال نسعد بما نحن فيه، ولكن الغرور يصيبنا فلا نستطيع سوى أن نبحث عما يشغلنا، عما يجعلنا ندور في دوامته وحسب كي يؤرقنا، ويسجننا في ماض لا نريده، يزيد أيامنا المقبلة تعاسة... نحن في الحقيقة نبحث عن الشر ولا نبحث عن الخير، نبحث عن الظن، ونحن معنا اليقين، كل الأضداد نهوى البحث عنها وإراقة المزيد من الدماء، كي نقنع أن هناك حقا آخر لم نعلمه من قبل... قلب المكان حوله وهو يصغي لكلماتها التي ذابت في فنجان الشاي وأضفت طعما لاذعاً... - المحرومون من الروح القدس هم الذين سلكوا طريقا ظنوا أنّه طريق الحق، ولكنه في الحقيقة قد يقودهم إلى الهلاك...كلٌّ منا موقن أنه عُلِّم الحق دون غيره فزاد بطشه، هذا ما كان عليه الرسول بولس قبل اهتدائه إلى المسيحية، كان يضطهد المسيحيين بل ويطاردهم بغية قتلهم، أتظن يا جمال أنه كان يعرف حينها أنه على باطل؟، بل كان على قناعة أنّه يفعل الصواب، لكنه عندما التقى بالسيد المسيح وهو في طريقه إلى دمشق تغيّرت حياته، لم يكن فقط أعظم المبشرين بالمسيح بل وكتب اعترافاته في رسائله التي أصبحت جزءاً من كتاب العهد الجديد. من أجمل ما قاله: "كُلّ ما كان حقّا فاشغلوا أفكاركم به وأعملوا بما تعلّمتم وتلقيتم وسمعتم مني وما رأيتم فيّ." إنها جذوة الإيمان في داخلنا التي تضيء القلوب المطمئنة، التي لا تعرف النكران بل تبقي على العرفان، إنه ميثاق أخلاقي يا عزيزي لا يمكن أن تُدَرسه الكتب. أتعرف أن من أكثر الدروس التي أثرت فيّ وغيرت مجرى حياتي مذ عرفت أن للإنسان قيمة لا تأتي لا بالمكان ولا بالزمان إنما تأتي من الداخل كالنور الذي يخرج من الأرض فيلهم الكثيرين بالنبوءة...نبوءة اليقين، ذلك الدرس الذي أثرَّ فيّ قدمه الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم...(عندما غارت السيدة عائشة وقالت: "والله قد أبدلك الله خير منها." قصدت نفسها. - يا عائشة، لا، والله ليس في الدنيا مثل خديجة، لقد آوتني حين طردني الناس، وصدقتني حين كذبني الناس وواستني حين حرمني الناس، أوَ في الدنيا مثل خديجة!. رد عليها النبي عليه الصلاة والسلام .) -عندما ينجح المرء منا يا جمال ينسى كل من قدم له يد المساعدة، ليس هذا وحسب بل يسارع إلى طعن من ساعده بخنجر مسموم كي لا يقال: أن فلانا قد ساعده يوما. أتدري ما فعل النبي محمد صلى الله عليه وسلم عندما فتح مكة؟، كان من المنطقي أن يشعر بسعادة لا يتسع لها صدر الدنيا، أتدري ما صنع؟، ذهب عند قبر خديجة التي لم تشهد له انتصارا، ليخبرها: -أننا هنا يا خديجة بعد أن طردنا وأُذينا. هذا ما قاله لأصحابه. "انصبوا لي خيمةً عند قبر خديجة"- -من منا يفعل مثل ذلك مع الأحياء ، ليفعله مع الأموات؟. - أنت تعرفين كل شيء يا مريم، فمن أنت؟؟. -قد يبدو ما سأرويه لك رواية مالت أوراقها إلى الصفرة، وشاب صفحاتها الاهتراء، رواية من الروايات التي حدثت في العصور الوسطى، ولكنها الحقيقة، سأرويها لك كاملة: " في نزل حقير كانت هناك امرأة قد مال لونها لحمرة داكنة مع زرقة أعلى الوجنتين وبرودة تخللت أصابعها فمال لونها لبياض مزرق...ولا يستر جسدها سوى ثوب بال تمزقت أطرافه وأرسل أشرطة رفيعة في كثير من جوانبه...رقدت هذه المرأة على سرير خشن من خشب قاس مغطى بقطعة بالية من الأسفنج الرقيق...لم يكن يفصلها عن جَلد الجسد شيء؛ فليس هناك ما يدفئ أوصالها، والقشعريرة سرت في جسدها الوهن؛ فتراها تنتفض تارة وتسكن أخرى...وقد وضعت طفلة صغيرة غاية في الجمال بعد مخاض عسير، كانت قد فقدت زوجها قبل بضعة أيام حين انزلقت قدمه من طرف الرصيف الذي يرتفع نصف متر عن سكة حديدية طويلة؛ فلقي مصرعه فوقها...لم يكن ليظن أنه سيقضي أسفل عجلاته وقد أطعم بطنه بالفحم...القطار الذي امتلأت بطنه وشبع، نسي من أطعمه فقتله...تلك السكة التي تسير محاذية للبيوت البائسة وتُقرع أجراس قطاراتها في قلب النزل ليل نهار، وتبقي نبضا لعجلاتها في شرخ الحجرة الكئيبة قد رسم النهاية... - إنه القدر... واست نفسها... لكن الحزن العميق وقلة المال لم يكن ليمنحانها خيط السعادة، فقد تفاقمت أوجاع الولادة لديها، وأخذت تهذي من حمى النفاس، أيام قليلة صارعت فيها الحياة بفضل ما قدمته لها امرأة كانت تعمل وإياها في سوق الخضراوات، حيث كانتا تجمعان البقايا النتنة ويكنسان المحال، الفرنكات القليلة لم تكن تكفي أن تطعم هرا جائعا فكيف لها أن تأتيها بالدواء أو حتى طبيب مخمور؟ مصارعتها للحياة لن تجدي فقررت أن تغادر عليلة؛ لتمنح روح ابنتها الصغيرة روحها لعلها تصيب صيبا نافعا...الرضيعة التي خلفتها ورائها لم يتجاوز عمرها عدة أيام نجت بأعجوبة...القدر يخط فوق أوراقه أسطرا ويمحو أخرى فلا يُعلم السبب... الدعاء للرب و الضمادة من خرقة بالية لم تجديا نفعا في تخفيف سعار الحمى للأم المسكينة لكنهما تهادنا مع القدر في إبقاء ذبالة الشمعة مضاءة تتأرجح في زفرة الريح التي تطوي الغرفة الباردة جيئة وذهابا لتبقيا الطفلة بسلام، عندما هبت الرياح الباردة وبدأت خطوط المطر تسطر النافذة المكسورة كانت كتلة من السواد تدخل عربة القطار مبتعدة عن الغرفة الباردة في ذلك النزل اللعين، الرضيعة المسكينة التي لم تبك، لم تئن...وأمام عينيها البلوريتين وقفت المرأة المسكينة عاجزة عن حملها إلى بيتها الفقير؛ لتموت بين أفواه صغارها الجائعة، فقررت أن تركب القطار إلى الشمال حيث يوجد دير يؤوي إليه الأيتام، في ذلك المكان المقدس فقط يمكن أن تسلم هذه الأمانة...لقد أقسمت للأب صموئيل: بأنها لم تر أحكم من هذه الصغيرة، منذ أن تفتحت عيناها على الدنيا، وهي تنصت بصمت لما حولها، وكأنها تريد أن تعرف كل شيء. بارك الأب صموئيل الصغيرة وعمدها، لقد أدرك عندما تأمل عينيها الزرقاوين أن لها شأنا، عهد بها للراهبات ليعلمنها الأخلاق والفضيلة، وكبرت الصغيرة ودبت بقدمين ثابتتين على الأرض، و كلما كبرت أكثر أدركت أن هناك المزيد مما لم تتعلمه بعد، كان شغفها للعلم لا يوصف كسيل عرم لا يمكن إيقافه، معرفتها تجاوزت كروية الأرض وميتافيزيقيا الكون، درست كتب الدين ونهمت ما في المكتبة الضخمة، أثارت إعجاب الأب؛ فعهد إليها بأن تدرس الطالبات وتعلمهن مما منحها إياه الرب، علمت الكثير والكثير...علمت المحبة والتسامح والإخاء، النضج الفكري الذي كانت تتمتع به منحها جمالا مختلفا عن بقية الطالبات...لقد كبرت تلك الصغيرة لتغدو من أجمل ما يمكن أن تبصره عين،... روحها التي كانت تتمتع بها جعلتها محبوبة من قبل الجميع فكانت تجوب كل مرافق الدير لتمنح مرتاديها بركة علمها... للسيدة جين طباخة الدير كانت تنشدها الشعر وتعرفها فوائد الموائد الربانية أيام الآحاد، لم تكن لتشعر بمن حولها وهي تسمو بروحها ولم تعرف أن عينين بنيتين كانتا تحفظان كل كلمة تقولها، حتى نطق بـ :يا إلهي احفظ ملاكك الذي يمشي على الأرض...حينها أبصرت ذلك الشاب، فالتقت أعينهما وتعلقتا بروح واحدة... لكنها انقضت على طرف ثوبها وجرت مبتعدة بأقصى سرعة، دقات قلبها كان يمكن لأي أحد سماعها، لم تعرف ما الذي حدث لها، تلك الرعشة التي انتابت جسدها، أياما امتثلت لرياضتها في إغماض العينين عن مفاتن الدنيا، ورهبنة المشاعر فهي لا تريد أن تمنح الرذيلة الشيطانية مدخلا إلى قلبها، ما أرادته حقا حب القديسين وعشقهم، رغبتها الملحة في البحث عن الحقيقة جعلها لا تبصره ثانية وتنساه، ولكنه القدر من يدلي بقرابه للبؤساء فيفيقون على قداس جديد، ففي يوم من أيام الشتاء الباردة، أمطرتها فتاة متعجرفة بأسئلة عن أصلها، وطلبت منها علانية أن تثبت أنها ليست ابنة الخطيئة، أثارت رغوتها هذه الشقية الكثير من اللغط حول من آمن بالمحبة الإلهية، ومن لم يؤمن بها لن يستطيع تقبلها...أثار ذلك شجونها وطرق زجاجها بالحجارة وأنبت أشواكا كثيرة من الأسئلة: أتكون لقيطة وهل هي ابنة غير شرعية؟، أحقا تدعي الأخلاق؟، لقد أوجعتها هذه الكلمات وكانت كالطعنات التي لم تتمكن من الإفلات من سكينها التي تجترح كبريائها قبل قلبها...هل هي حقا ابنة الرذيلة؟؟ جسدها يرشح عرقا باردا، وهي تشده في سيرها محكمة قبضتيها على آخر ما تملك من كبرياء في الممر الطويل الذي تنتصب على جانبيه المشاعل، طرقت باب حجرة الأب صموئيل الذي عنده سرها بالتأكيد، وعنده ما يشفي غليلها، عندما أذن لها بالدخول كانت ترتعش فانهارت ببكائها وهي تسأل: من أنا؟، من أنا؟، أمام هذا الموعد قبل الانهيار يكون القدر قد سيّر كتبه ودفاتره والكثير مما قد يظهر الحق... الأب صموئيل الذي شدت هذه اليافعة انتباهه جعلته ينبش بذاكرته عن معلومة ما تمكنه من البحث عن أهلها...معجزة كهذه لن تكون مجرد طفلة مات عنها أهلها وانتهى الأمر...نبش الأدراج ورقة ورقة فلم يجد سوى ذلك الملف بحمرته الداكنة البائسة، لم يكن فيه سوى ما حدثته به تلك المرأة الفاضلة التي حملتها إلى هذا الدير رغم الشتاء القارص ... كم من الزمن مر؟! ما أسرع أن ينبت الشيب في أرض السواد...يا رب رحماك يا رب...تقطع ابتهالاته طرقات قاسية على الباب الخشبي، يعود إلى مكتبه وهو يضع ذلك الملف أمامه وكأنه يعلم أنه قد حان الوقت. لم يكن لديه الكثير ليرويه عندما رآها تجر الغضب والحزن... من بين تلك الغشاوة الرقيقة فوق عينيها كانت ترى تاريخا ضئيلا، لم تحاول يوما أن تبحث فيه، لم يكن في أيّ كتاب من كتب الرحلات أو السيّر أو التراجم، لم يكن لديها سوى قصاصة واحدة فقط، لتعرض تاريخها.... صوت الأب انهزم قبل أن يصل إلى أذنيها، ونشيجها يسكن في جسدها ويعصرها إليه، ثم يطلقها تقطع القلب، لكنها رغما عن كل شيء أنصتت:... أليست نصف الحقيقة أن تنصت؟!، فعليها أن تفعل ذلك... لقد روى لها قصتها المقتضبة التي تحكي بؤس عائلة تكبدت الكثير من العناء وألفها الموت وعن فقر عائلتها، ذلك الفقر الذي تمكن من ضحيته وأعمل فيها نهشا، وكانت هي القدر الذي يمشي على عكازين هرمين من ضياع... طفلة صغيرة كان قدرها أن تعيش هنا لتبدأ حياتها، ربما هو الأمر الذي يواسيها أن يحتضنها بيت الله...فكفاها فخرا أنها فقيرة ونبيلة الخلق، ولا يهمها أي شيء آخر، لم تكن الرذيلة في دمائها هذا أهم ما تريد أن تلتقطه أذناها.... القرارات الحاسمة تأتي بعد مخاض عسير باردة على أصحابها تمشي على الزجاج المطحون دون أن تسيّل الدماء... مرت الأيام ثقيلة عليها، لم تستطع أن تبقى في مكان مقدس طعنتها فيه خناجر مسمومة، هي لا تهوى الدفاع عن نفسها، هي تريد أن تعترف بإنسانيتها وأن تحارب من أجل أن تكون هي، كانت أمام رسالة مقدسة بأن تفر إلى عالم آخر قسوته عليها مبررة، فهي لا تحمل دما أزرق أو سلالة نبيلة هي تحمل فكرا وهو الذي لن تجد له تجارة حتى بعد الثورة الفرنسية التي قامت من أجل الفقراء أمثالها... خرجت من الدير...وهي تودع كل ما قرأته، كل كتاب حفر في ذاكرتها...ودعت الدفء والبرودة معا... ودعاها الأب وقد باركها وهو يدعو بأن تحفظها رحمة الرب...وأن تعود في أيّ وقت دون تردد فهو بيتها وهم عائلتها... نعم هو كذلك، فقد رأت العالم من أوسع أبوابه في الكتب، لكن هل ستراه كما قرأت عنه؟، احتضنت كتابا وارتدت معطفا ثقيلا، ومضت تطرق أبوابا لا ترجع لها صدى فكل الطرقات غريبة وكل شخوصها خرجوا من أُطر الكتب، من بين السطور، لم يكونوا أوفياء هناك في عالم الفضيلة فهل سيكونون هنا؟؟ الضياع الذي فتح شدقيه ليلتهمها منحها فرصة الإنصات لقلبها، وهي تناجي الرب في السماء الذي منحها بركته عندما كانت طفلة؛ فهو لن يتخلى عنها وهي بأمسّ الحاجة إليه...رغم أنها لم تكن تعرف إلى أين ستذهب؟ سارت في كل طريق وهمست لكل حجارتها... الطرقات والحجارة تمتد أمامها كما بساط سحري رغم أنها تعج بالكثيرين لكنها كانت وكأنها لها وحدها... لم تكن تعرف إلى أين ستذهب؟ وبمن ستلتقي؟ الأسوار العالية التي بنتها حولها من الكتب والدفاتر والتي أبحرت في بحرها الأزرق كانت تبصر فيها كل الألوان لكنها هنا لا تبصر سوى لون الشحوب... لم تعرف التعامل مع هؤلاء، ليتها ترى صدورهم لتعرف ما فيها...زفرت زفرة طويلة فغابت في أبخرتها ... ولم عساها تريد ذلك؟!، الكثير من الكتب الرخيصة بإمكانها أن تجلد بأثمن القشور، ما عليها سوى أن تنصت لقلبها وحسب. لم تكن قد تجاوزت السادسة عشر من عمرها... السقم الذي يصيبها من نوع آخر، سقم مخلوط بالخوف والضعف، أرادت أن تبقي خط سيرها كما اعتادت، ولن تعود متعبة القدمين إلى حيث خرجت... بدأ شبح الليل يهبط سريعا والسماء الداكنة تنتشي بمطر غزير، والريح تهزئ بردائها الطويل، لم يكن عليها سوى أن تستجدي الليل والخوف يقرض قلبها والنور الذي تلاشى مع السماء السوداء...كل شيء تغير بعد أن هجرت ذلك الدير، الجوع يقرصها والخوف يقرضها والليل يا وجعي يسد أنفاسها... في عثرتها تراءى أمامها شبح إنسي، أتستعيذ منه ومما جاء فيه؟، القليل من الصمت عليها أن تكون أسوة بالآخرين الهاربين من القدر، لكنه مدَّ إليها يده وهو يلقي إليها بالتحية وشعاع ضئيل من الأعمدة الشاحبة انسل لينير وجهه، لقد كان هو ذلك الفتى الذي هربت منه، من أول نظرة كانت بينهما، هل أدركتها رحمة الرب فأرسلته لها؟! -هل تسمحين آنستي أن أرافقك إلى أيّ مكان تريدينه؟... لكنها لا تعرف إلى أين تذهب؟، هي في الحقيقة هائمة على وجهها، ابنة السادسة عشر ربيعا قررت أن تبدأ من الصفر وأن تعدو مثل الخيل وأن تحلق مثل الطيور، هي تريد أن تكون هي دون أن يشير إليها أحد يوما بأنها ابنة الفقر، الفقر الذي يتسم به الضعفاء، ليس عيبا ولا خطيئة، إنما هو منحة السماء ليعيش هؤلاء في نعيم الله ورضاه، وهو ما تبحث عنه في عالم فسيح من فوق أدراج الدير إلى أدراج تنبش دعائمها وتسير عليها بثبات، إنه هو الذي منحتها إياه العناية الإلهية لتلتقي به وتعدو وإياه إلى حيث تنسى ما كان بها من خوف وسراب... نبست بصوت خفيض: لا أملك مكانا. لم يفكر كثيرا قال بصوت مهذب: إن أذنت لي آنستي أن أستضيفها في بيتي، وأمي السيدة العجوز؟! كان من السهل الاختيار لأن الخيارات كانت محدودة ومحدودة جدا، الجميع يقصدون أقرباءهم وهي لن تجد لها واحدا مهما حاولت، البشر يؤوون بعضهم في بيوتهم فمن عساها هي؟ ومن أيّ طينة؟!، من سيحفل بفتاة بارعة الجمال إلا السفهاء؟، سارت وراءه، ساعدها في ركوب عربة يجرها حصان أسود، جعل يسير في الطرقات المبللة بمياه المطر والبقع الكثيرة من المياه الآسنة التي تجمعت في كثير من البلاطات المكسورة والعتمة يشقها الحصان وكأنه لا يحسب لها حسابا... قطعا الطرقات الضيقة ووصلا إلى البيوت المتراصة، كانت الأنوار تنسل ضئيلة من نوافذ البيوت القريبة، أوقف العربة عند باب بيت صغير، وساعدها على النزول، لم يكن شعور الرهبة أو الفزع الذي يخامرها، إنه شعور الإيمان، وأن الرب سيرعاها، لم تكن كـ هنبيعل عندما اقتيد، ولن تكون كملكة قرطاج ألسيار عندما أحرقت، ولم تكن كجان دارك عندما خرجت من رحمة الكنيسة، لم تكن كأيّ منهم لكنها هي التي ستصنع تاريخها ولن تتخلى عنه ببساطه... عندما ولجت إلى المساحة الضيقة التي نظمت بعناية أصابتها الراحة والسكينة بعد أن عبرت الباب الخشبي، بادرتها المرأة العجوز بالتحية والترحيب والود يخرج من حنجرتها الضعيفة التي ظهرت كل معالمها الهشة للعيان، دعتها للجلوس قربها قرب الموقد الحديدي، وقد ركبت عليه وعاء نحاسيا مليئا بحساء من الذرة والبطاطا، رائحته الشهية التي أزكمت أنفها جعلت عصافير بطنها تزقزق..، ألقت التحية فتقبلتها السيدة بابتسامة طيبة، الطيبة والدفء هو ما وجدته في هذا البيت الصغير، لم يتحدثوا كثيرا...تناولوا الطعام وآوى كل منهم إلى فراشه، لم يكن هناك سوى سريرين آوت إلى أحدهما والعجوز إلى الآخر، وبقي الفتى متوسدا الطاولة وهو يراقب الشمعة إلى أن انطفأت فغط في نوم عميق. أيام قليلة كانت كافية لتكوّن علاقة وثيقة مع الفقراء أمثالها، لكنها لن تبقى طويلا عالة على الطرقات وأحذية المارة الرخامية...بعد بحث طويل عثرت على عمل عند بعض العائلات الغنية فهي تمتلك الخبرة الكافية لتعلم لغات كثيرة، وتعلم الخلق والسلوك بعد شهادة الأب صموئيل التي حملتها معها عندما غادرت، كان لديها الكثير من الأحلام والآمال لم تكن لتتخلى عنها أمام ميول عاطفي لشاب منحها القدر فرصة لقاءه بسخاء، سنوات طويلة قضتها تتنقل بين البيوت الفارهة والأمزجة المتقلبة...جعلتها تقرر مغادرة بلادها فرنسا، والذهاب مع الهاربين من الفقر إلى الحياة الرحبة. أسفل البيوت المعلقة فوق السحاب هناك ظلال التي تخفي كثيرا من الأنين...كثيرا من البؤس والشقاء..هؤلاء لم يمنحوا صكوك الحرية التي منحت للأقوياء.. الفرار إلى حيث تستطع الشمس وتصبح أكثر دائرية، إلى حيث يمثل تمثال الحرية، واحة للمهاجرين والمكتشفين الجدد، لم تستطع المغادرة دون أن تودعهما رغم أنها فارقتهما منذ سنوات بعيد،ة لكنها لم تستطع نسيان المعروف ورحمة السماء، فقدمت الكثير من المال للشاب وللسيدة العجوز، ودعتهما وقطعت المحيط الأطلسي لأشهر طويلة وأمواج البحر تقذفهم إلى المجهول، ودوار البحر أصابها فلم تكن لتخرج من قمرتها الصغيرة، بقيت تقرأ كتبا كثيرة عن عالم البحار والاكتشاف، عن العصور القديمة، عن الحروب والمعارك ونشأة المدن، عن الكثير الكثير من عصير الكتب الذي ارتشفته مع فنجان مغامرتها الجديدة، ، كانت تلك المرأة التي درست الأديان ودرَّستها في المعاهد، وقد اختزلت تجربتها كلها في بيت صغير، هو بيت البحث عن الذات... لم تكن تلك السنوات التي قضتها في دراسة الأديان أجمل خط رسمته وسارت عليه، عرفت فيه طريقها عندما وقفت في ذلك الفكر الذي أمتع المرأة بحق، كان عليها أن تنصب خيمتها، لتدعو الناس لاكتشاف ذاتهم، أعرف نفسك...كان هذا هو الأساس الذي أنصتت لصداه..." هذه ببساطة مريم العذراء التي تسأل عنها، حياتها أشبه بالحكايات التي لا يمكن تصديقها ولكنها تبني طريقا للكثيرين، الإيمان هو السبيل الذي يوصده الكثيرون لعدم معرفتهم به، أو رغبة في إنكاره، لكن المواجهة الأكيدة يا جمال هي أن تعرف نفسك، عليك أن تواجه حقيقة من أنت؟، وماذا تريد؟، إنها الحياة السهلة التي تؤمن بها بأن لوجودك غاية..." من السهل القول: أنه خرج، ولكن هل سيعود؟!...هذا ما كان يدور برأس سارة وقد خرج جمال غاضبا...دموعها لن تفي بالغرض...ما تخشاه هو أن يصيب الشرخ هذه الأسرة الطيبة، فالغياب وحش لن يستطيع أحد الفرار من سياطه... ربتت على ظهرها...وهي تردد: لا تقلقي يا سيرينا، سيعود إنني أعرف تماما أين هو؟. - حقا، أين؟. _ إنه عند مريم وسيعود. هما تذكران مريم العذراء تماما، تلك المرأة العصامية التي تجاوزت الستين من العمر، ومازالت محافظة على فكرها وجسدها وكأنها لم تتجاوز الأربعين بعد، سيرينا تتأمل تلك الزيارات التي كانت تؤمها هي وتوفيق إلى بيت اكتشاف الذات، لقد تجاوزا الكثير من الصعاب، واستطاعا أن يتعاملا مع مشكلة جمال ومرض فرانك، لقد كانت حياتهما تنساب في خريف العمر انسيابا هادئا شفافا، كم كانا بحاجة إليها في ذلك الوقت العصيب، القرارات الخاطئة تلتصق كالخطيئة فلا يستطيع المرء الخلاص منها مهما حاول، وكذلك كان ذلك القرار الذي اتخذه توفيق في لحظة غضب لم يكن حكيما، وكاد يزج به إلى السجن، ولكن الأقدار هي التي حالت دون ذلك وهي التي تصدت لها سيرينا، لقد تحالف معها القدر لأول مرة أمام تراجع توفيق عن تلك المسؤولية الكبيرة... أحيانا العاطفة هي التي تسيّرنا وتجعلنا نغيّر نمط تفكيرنا، هي التي تحجمنا وهي التي تضعنا في مواجهة قاسية مع أنفسنا... ولكنها لم تكن ضحية سهلة أو فريسة يسهل اقتناصها...إمساكها الحديّن معا: العقل والعاطفة جعلاها أمّاً لجمال وأمّاً تستحق الاحترام، وهذا الذي تعلمته سارة من تلك الجلسات التي كانت ساعدتها فيها مريم العذراء، وكان لها عظيم الأثر في تخطي مصاعبها والوقوف على مسافة متعادلة ما بين الرفض والقبول، رفض الواقع وقبوله، الحالة النفسية التي كانت تعاني منها، والمأساة التي شاهدتها أمام عينيها بمقتل والديها على يد متطرفين، كل ما تذكره أنها كانت تعيش مع والديها في العراق حيث كانا يعملان في إحدى شركات البترول هناك، عندما فقدتهما إثر اعتداء إرهابي على قافلة من الرعايا الأمريكيين في العراق بتفجير انتقامي، كان ذلك الفيديو الذي شاهدته لمصرعهما على يد متطرفين رافضين للوجود الأمريكي في العراق، لم يجعلها سويّة الانفعالات، ما عانته من خوف أثناء خروجها الآمن برعاية من قبل الحكومة الأمريكية من العراق عام 2003 لم يبدد خوفها بل زادها عجزا، ونفورا من واقعها الهزيل الذي تنهيه بندقية متطرف وقنبلة تائهة، سنوات كثيرة احتاجتها للتأهيل والتي أشرفت فيها مريم العذراء على إعادة ثقتها بالواقع، وهي اليوم تخشى على جمال من المستقبل، تقف على مسافة غير بعيدة من ماضيها...الفقدان عبارة قد يبدع الشعراء في رسمها والفنانون في نحتها لكنها تبقى نسيجا معقدا يغلف قلب الإنسان. سنواتها الثلاث الأولى شهدت ولادة بذرة الحب للمحيطين بها من العرب والمسلمين في حي هادئ من أحياء بغداد، والتي فقدتها بعد الحادث الملعون، وأصبحت فوبيا الاختلاط مع الآخرين نديمها في كل مكان وزمان، بل وفي كل مراحل حياتها، وبقيت تداعبها فكرة الانتحار... سن الثالثة عشر حمل نعش محاولة الانتحار المائة التي كادت أن تنجح، لكن عمرها لم ينته حينها فقد تمكنت الأسرة التي تكفلت برعايتها من إنقاذها، وعهدوا بها إلى مريم لمساعدتها على تخطي محنتها، ما ملئ فراغ قلبها من صلاة وتراتيل وحلقات اعتراف وبحث عن الذات هو الذي جعلها تعرف ما تريد، ولا تخشى الآخرين، وغدت تنظر إلى الأمور على ماهيتها وليس كيفما تتوقع، كان هذا ما ساعدها في التعامل مع الكثيرين، وهيئ للعلاقة الوثيقة بينها وبين جمال، الشاب الذي أحبته...وأحبت كل ما فيه...صيغته كإنسان مفطور على التميز أبهرها وجعلها تنساب في محيطه، لهجته المصرية وطلاقته الإنجليزية، أشعرتها معه بالأمان... وأنه من يستطيع أن يخطو معها خطوات الوجود الأولى... لم يفترقا، فقد درسا في الجامعة معا القانون الدولي، وحتى بعد التحاقه بالقوات الأمريكية، فقد اجتمعا معا في زنزانة الحب الذي جمع قلبيهما، وسكنا حيث هي أرادت وتهادن معها القدر في أن يعمل جمال في قاعدة فورت نوكس كنتاكي. عملها في التلفزيون المحلي في التحقيق الصحفي جعلها تعرف الكثير عن أسرار الظلم، وما وراء قصص التعذيب، ما وراء غوانتنامو، وسجن أبو غريب، حروب التطهير، وأزمات اللجوء، وخفايا الحرب المتوحشة التي تقوم بها التنظيمات الإرهابية والجماعات المتطرفة بأيّ لون وبأي دين، والتي بدأت في الحقيقة بعد تصفية أسامة بن لادن، من قبل الاستخبارات الأمريكية وجمال نفسه قد شارك في هذه القضية كان ذلك كما تذكر في مايو 2011، بالطبع لم يكن جمال ليخبرها بالكثير عن تحركاته لكنها تعرف أنه تمكن من تنفيذ كل المهام الموكلة إليه بنجاح... كان شاردا بتلك الصبية التي واجهت نفسها قبل أن تواجه العالم وعرفت من هي، وكيف تقيم عودها في عالم لم تعرفه إلا من وراء السطور، إيمانها الحقيقي بنفسها وأن لوجودها غاية مكنها من مساعدة الكثيرين، وهو الذي حاول جاهدا أن يوصله لسيرينا، هو لا يريده أن يذهب للعراق أو أفغانستان أو البوسنة أو الهرسك أو نيروبي أو أثيوبيا أو حتى ساحل العاج...هو لا يريد أن يفقده من أجل البطولة فلتذهب كل بطولات العالم إلى الجحيم وليسمو السلام ...السلام الذي نحمله كبشر بين جوانح الروح ونطفو على سماحته...ونعمد للتبرج بالخطايا وذنوب الأبرياء والبائسين... الفوضى بين الطوائف والمذاهب شكلت تحديا جديدا وموتا ذا نكهة بشعة، وهرمونا اسمه الشغف ...الشغف لإراقة الدماء... لكنها لم تكن لتصغي إليه وهو الذي سيتحمل تلك النهاية المأساوية لفرانك، لا يدري لم يفكر بهذا الشكل؟! لكن الشعور بهذا الفال السيئ لم يكن ليفارقه...وطيف الفراق ينتظره كلما أغمض عينيه. لم يكن أمامه بعد أن ودع مريم العذراء غير الذهاب في رحلة ينسى فيها نفسه، لعله يصطاد شيئا جديدا بشباك عينيه، كان المطر قد توقف وعاد الهدوء والحياة إلى الطرقات والأشجار، التي عادت إليها طيورها، بينما بقيت الشمس مترددة في إرسال أشعتها الباردة من بين الغيوم المرتجفة وبين إخفائها... قادته قدماه إلى حيث لا يلوي على شيء، يمد بصره إلى ما حوله، يشعر بنفسه غريبا لأول مرة في بلاد عاش فيها عمرا. لم يراوده هذا عن نفسه؟ لم يشعر كأنه سمكة بلا محيط ولا قيعان؟ يعيش في الهامش وعلى الهامش، دون أن يعيَّ اللغز الذي يراوده... استوقفته ورقة إعلانية كبيرة، لم يدر إن كانت هنا منذ زمن! كثير من الصور حول خيمة غجرية، صغيرة، غريبة الطراز، مشغولة بالمطرزات، وعند بابها صورة امرأة غجرية، لم ير شيئا من هذا القبيل من قبل، لم يره هنا من قبل... طأطأ رأسه وتمتم: كل شيء يتغير فلم أسأل؟! ربما كان موجودا، لكنه لم يلحظه من قبل، وكيف يلحظ أي شيء وهو بالكاد يأتي إلى هنا، كم تغيرت منهاتن عما كانت عليه مذ كان صغيرا!، مذ كان يمد بساط الريح ويرنو إلى حيث يشاء وقتما يشاء، لم تدفعه نفسه ليفعل شيئا يرفضه، يعرف أنه مسلم وهو ليس مضطرا لتصديق الآفاقين، هو سيدخل لكنه لن يصدق شيئا مما هو مكتوب على هذه اللافتة: 5" دولارات تكشف لك مستقبلك...!!" ثلاثون عاما مضت...متى سيرى المستقبل إن لم يكن حقيقة ما يراه الآن؟ كانت جالسة إلى طاولة دائرية صغيرة وكأنها تنتظره... - ادخل يا جمال... قالتها بثقة. أصابه معها الاضطراب، وهو الذي لم يكن ليقع في نفسه في أيّ من العمليات العسكرية التي قام بها وتلك التدريبات العسكرية القاهرة، لكنها نجحت في دق أبواب قلبه الموصدة كناقوس خطر، هو لا يؤمن بالسحر، لكنه سيتسمع إليها حتى النهاية، عن أيّ خدعة ستتحدث، وعن أيّ لغز ستكشف؟. لم يجب وهو يسحب كرسيا خشبيا قديم الطراز، ذا خلفية خشبية طولية، أراح جسده وهو يتوسد الطاولة، وقد شبك يديه وهو يعبث بالخاتم ذي الفص الزمردي، الذي أهدته إياه سارة يوم عيد ميلاده الذي لم يمض عليه الكثير. - أهدتك إياه سارة ؟ هوت بها على صمته لتحطم متاريسه...أصم أذنيه عما يجول في عالمه المشحون باليأس.. -أنت تسأل يا جمال من أنت؟... -هذا السؤال الذي يتمدد في نفسك لم لم يجبك أحد عن أبيك؟ -لم لم تره؟ -من حقك أن تراه ولكنك لا تعرفه...صمتت وهي تقلبه على نار هادئة، ثم أردفت لكنك قريبا ستراه، كن حذرا... ربما لن تتمكن من إنقاذ أحد إخوتك ستكون نهاية أحدهم على يدك...فلا تحزن. رجت تلك النبوءة كيانه، قد عاش عمرا وحيدا لولا صحبة فرانك، فلم تبدو هذه الحكاية حقيقية؟ الحقيقة المبهمة التي أمدته بموسوعة الألغاز التي يحصدها يوما بعد يوم، سنوات طويلة التي لم يجدها حتى في كوابيسه... أراد أن يسألها عن التفاصيل لكنها صمتت وأشارت إليه بيدها أن يخرج ...ببساطة طلبت منه الخروج بعد أن علقته بخيط رفيع من الأمل وهو يتأرجح فوق نيران غاضبة... خرج مثقلا بالكثير... عبر الطريق لاهثا في تيار معاكس، أراد العودة من جديد ليحثها على المضي في قراءة المستقبل سيمنحها الكثير لتعطيه القليل، عندما عاد لم يجد شيئا، التفّ حوله، دار دورة كاملة لكن حبات المطر هي التي سقطت في كل مكان وغسلت وجهه. الذكريات الكثيرة دارت في فنجان قهوته الذي لم يكن متعجلا لإتمامه، ذكرى فرانك والوضع في العراق لم يعد مطمئنا...الهاتف الخلوي يضيء، وسارة تصمت دون أن تحرك ساكنا، شاحبة كما هي السماء...انتظرها كثيرا لتقول شيئا... أمسك الهاتف وضغط زر الإجابة دون أن ينطق دون أن يتكلم... -قد عاد فرانك... -............. - ولكنه مصاب....وصوت بكاء ونحيب يهز قلبه... ينزلق الهاتف من يده... انفجر غاضبا وانتفخت أوداجه... -إنها المواجهة الثانية يا سيرينا، إنها عودة النهاية يا سيرينا. لم تكن تلك سيرينا نفسها التي وقفت أمامه قبل ثلاث سنوات، لقد كانت هرمة كفاية لتلحق اللعنة بنفسها، المرأة التي امتثلت لإرادة فرانك في أن يكون بطلا في ملحمة الموت كجمال تشظى تمثالها النحاسي في اليم، وهاهي تحصد ذلك، الحقيقة التي لم يدركها جمال إلا متأخرا، أنه السبب وراء كل ما يحدث لفرانك الذي أحبه وتعلق به. نحن لا ندرك مدى تأثيرنا على من نحب لأن موجة من العنجهية تصيبنا فلا نرى سوى أحلامنا، عندما يفاجئنا الواقع بمآسيه ندفن رؤوسنا في الرمال ونستمرئ الإنكار، ولن يكون تغيب الذهن مفيدا في هذه الحالة... سيرينا اللوحة السريالية التي مدت جذور شجرة المحبة بينهما وروت الثقة بصبر هي نفسها التي قطعت كل شيء ونسفت بغيرتها العمياء كل شيء... نشئا معا أكثر من أخوين بل صديقين، ليموت فرانك وهو يظن أنّ جمال عدو له... هذه التهمة التي لم يستطع جمال تحملها...لكنه مضى بساقين تقصفان على أرض قد مرَّ بها زلزال... لقد كان مشدوها تماما أمام هذا الشاب المقعد الذي وصلّ جسده بالأسلاك الكثيرة، والأكياس من حوله، لم تكن هي الصورة التي خرج بها، وقد لوح له بيمينه وهو يرسل فرحته العارمة في أول مهمة حقيقة له ليثبت بطولته، ليست البطولة في تحدي الموت يا صديقي العزيز فرانك... لقد كانت نجاته من براثن الموت أعجوبة بحد ذاتها، بعد سقوط الطائرة العسكرية وإسقاطها بصاروخ في البصرة... الكثير من الصمت حوله، وعليه أن يتحلى بالشجاعة الكافية كي يستقبل فيها نبأ وفاة فرانك بعد أيام قليلة، حياته معلقة على مؤشر الحياة والموت بخط سير ركيك، نبضات ضعيفة وقلب هش، مشى بخطوات وئيدة وهو يخرُّ كجبل أصابه تصدع في ثوابته... اليوم يواجه فقدانا حقيقيا... أياماً قليلة وفارق فرانك الحياة... مراسم العزاء والحزن شكلت سحابة أفاقت عليها هذه الأسرة المحطمة وقد أصاب جذعها النخر، ولم تمتد أوراقها بعد أن ماتت البراعم... - لقد مضى أسبوعان وإجازتك شارفت على الانتهاء، وأنت تعلم أن عليك القيام بكثير من الأمور، عليك العودة إلى حياتك الطبيعية، الموت هو مصيرنا الذي لن نفرَّ منه، هذه هي الحقيقة يا جمال...قالتها سارة وهي تضمه إليها، لم يرفع رأسه وقد غاص بلحية قد ظهرت شعيراتها بغير انتظام فوق صفحة وجه مال للصفرة. - لم يعد هناك مبرر للبقاء يا سارة... -على العكس يا جمال...أمسكته من كتفيه وقد ركعت أمامه وقد أغرورقت عيناها... - الكون لا يستقيم إلا بالاستمرار، هذه هي الرسالة التي تمتد من إنسان إلى آخر، الله أخذ وأعطى، أخذ فرانك لكنه أعطانا فرانك الصغير، الذي يركل في أحشائي، هو الذي سيستمر يا جمال، لا تكن أنانيا وتبقى تمثالا من جبس... احتضنها وهو غير مصدق أنه سيصبح أباً، أخذ يبكي وإياها والغيم الأسود قد تبدد وأشعة الشمس قد أشرقت من جديد... الساعات الأولى في عمله كانت تحمل كثيرا من الأخبار العاصفة، لقد كان شاردا في كل ما مرَّ بكيانه وتلك العاصفة التي أخذت معها فرانك إلى غير رجعة... مضى فرانك في محاربة الإرهاب الذي غيّر الخريطة، وها هو يلقي بظلاله الثقيلة عليه من جديد، هو لا يفهم تخبط المشاعر الموغلة في صدره، لقد تغير... الإنسان الذي في داخله لم يكن هو... الذي يسامح هو الذي يملك القدرة على التغيّر، فلن يقبل المساومة على صبره بعد اليوم... مهمته الجديدة كانت الذهاب إلى مصر، لم يفكر فيها يوما، رغم أنها كانت بكل مفصل ألهب أوجاعه... -أن يعود إلى مسقط رأسه، ثلاثون عاما مرت... !!! -وهل له ماض ليبحث عنه؟ -أيكون بإمكانه حقا أن يعوّل على ذلك ... لقد يأس من كل شيء... أيكون العيب بمن حوله...؟؟ ولكن يقينا العيب فيه ولن يتجنى به أحد عليه... المهمة العسيرة في أن يوقف تقدم الجماعات المتطرفة في سيناء، والتي انسحبت على المدن المصرية ولم تفرق بين مسلم وقبطي... مهمته تتضمن تمشيط المنطقة وإنهاء حمى التطرف... هل حقا هذه الحقيقة التي ينقلها له قادته، ما يقرؤه في الكتب: هو ذلك الضوء من الحقيقة التي أمدته بها مريم العذراء... " لا تسلم بأيّ حقيقة يمنحك إياها الآخرون بالمجان، عليك أن تبحث بنفسك عنها مهما كلفك الأمر... " وهذا ما جعله مكبا على دراسته للطبيعة العربية، والتوزيع الديموغرافي، هو يعرف أنها تجمعات تقوم على روابط الدم فلن يكون اختراقها سهلا كما يعتقد البعض . هل سيكون مصيره هو أيضا التسليم بأن الصحراء هي مقبرته؟، ولكن قانون الاقتتال سيمنحه التفوق في التطور التقني والتفوق في التسلح، القضاء على التنظيم الإرهابي في سيناء والمحافظة على مصالح أمريكا في إبقاء مصر منطقة آمنة من الإرهاب لتؤمن وجود القوة الأمريكية في القارة الإفريقية، هو حقيقة ما تدبره أمريكا... لم لم يكن يرى الصورة بهذا الشكل من قبل؟! هذه المرة سيرى الصورة من وجهة نظر أصوله المصرية ورغبته في تطهيرها من المتطرفين... ودع سارة وقبلها و حضن سيرينا التي حضنته بقوة وهو يقرؤها السلام، وأسرّ لها: سامحيني. ارتفعت به الطائرة فوق المحيط وهي تحصد الأعين الحزينة على فراقه...أخذ ينظر إلى تلك الأرض الممتدة بعيدا والمياه الزرقاء أمامه، هناك متسع من الوقت ليستذكر المستقبل قبل الحاضر... هل سيكون الكابوس الذي رافقه أياما طويلة، حقيقة لا يمكنه الفرار منها؟ أين ستكون حقيقته واكتشافه للذات؟ وهل سيكون ذلك الذي يرتدي الثوب الأبيض حقا منقذه؟ أطاح رأسه فوق المقعد وغط في نوم عميق....
الفصل الثالث
ألا يستطيع هذا الدهر الغادر أن ينام ساعة واحدة عن هذا الإنسان ؟ ألا يستطيع أن يستقيه كأساً واحدة لا يخالطها كدر ولا يمازحها شقاء ؟ ألا يستطيع أن يحرمه السعادة بتاتاً فلا يذيقه من كأسها قطرة واحدة ما دام يريد أن يمنحه اليوم ليله غداً ؟ مصطفى لطفي المنفلوطي
خيرية
وقف الحاج طاهر عند بوابة البيت الكبير وهو متوسد عصاه الخشبية، وقد انكسر الضوء المتوهج في ظهيرة ذلك اليوم الصيفي الحار، ظله زحف إلى حيث وقف بسيوني وقد ارتسمت الملامح الجامدة على وجهه الأسمر، وعيناه الزائغتان تتأرجحان وهما تتبعان الظل الذي بدأ يتأرجح متعامدا مع طوله الفارع، حتى انكسر ثانية إلى سقف الغرفة الكبيرة التي اعتاد الحاج طاهر أن يستقبل فيها عليّة القوم من الزائرين، والعمدة وكبار البلد وممثلي السلطة المحلية وغيرهم كثير من تجار القطن في المدينة. لكنه لم يعتد أن يكون الضيف الوحيد الذي يستقي من ظل أبيه الغاضب عناقيد الصلابة والتجهم، ولكنه رغم ذلك الهاجس الذي توغل في دغل نفسه الغائمة، وهو يلعن تلك الوقفة بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من السيطرة على كل شيء، كل الأطيان التي تمتد مع البصر والبيوت بكل ساكنيها من الفقراء، وكانت كلمته لا تصبح اثنتين في كل شيء، هوت همساته في نفسه مطلقة أنّة غضب مقهورة: لن يوقفه أحد ولو كان الحاج طاهر نفسه... الصمت الرهيب هو الذي كان يرجع صدى خطوات الحاج طاهر ووقع عصاه الخشبية ذات القاعدة المعدنية المستديرة، التي تصدر صريرا على الأرض من ثلمة رفيعة فيها، في منتصف المسافة بينهما تدلى النور من النوافذ المربعة ذات التقويسة المغطاة بالزجاج الملون، في هالة من ضوء النهار قد رسمت الملامح الغاضبة بوضوح على وجه الحاج طاهر، الذي غارت فيه التجاعيد التي أرخت المساحة المتدلية أسفل عينيه، وقد مالتا إلى أسفل عند الزاويتين وملامح الجمود المغموس في الخوف الباهت، التي غارت في وجه قد تجرد من الرحمة...لم ترتج له صفحة وجه بسيوني، بقيت صامتة صلدة أمام ذلك الهدير الذي جرف هالة النور، وأبقى على تمثال بسيوني المعجون من الجبس، سرعان ما سقطت تلك الهوجة عند قدميه. - لماذا فعلت ذلك يا ابن ال...؟ -أتصل بك الوقاحة بأن تكون تاجرا للسلاح والحشيش والمخدرات أهكذا علمتك يا فاجر؟؟ لكن تلك الموجة العاصفة لم تصفعه، ولم تحرك له جفنا، بقي صلدا لا يرجع صدى، أمام ذلك الظل الذي بدأ يقصر شيئا فشيئا، وهو يقبض على عنقه... ولكن بسيوني أزاح ثقل تلك القبضة التي رجت جسد الحاج طاهر الهش، وقد كسر موجته الغاضبة بقواه العنيدة التي لم يكن ليتوقعها الحاج طاهر يوماً من هذا الذي يسمي نفسه ابنه...وهو متيقن أنه ليس من صلبه وأن دماؤه لم تخالط ماءه... - أنا حر، ولن تملك إرغامي على فعل شيء، لقد أصبحت كهلا ويكفيك، أتريد أن تبقى لتبول على نفسك أيها العجوز؟. - ماذا تقول أيها النجس؟، لن تمكث في بيتي هذا بعد اليوم، أخرج وإلا... كانت هشاشته الغاضبة قد لملمت ظله ليبتلع ضعفه، والعتمة قد سرت كالقشعريرة في جسده. صوتها قد أتاه كالعقربة التي تصيدت ضحيتها في المقتل. - البيت بيتنا يا حاج والذي لا يريد المكوث فيه... فليخرج منه... لن تقوى على شيء بعد اليوم الأمر والنهي بأيدينا. قالتها خيرية زوجة بسيوني وهي تربت على كتف زوجها، مرسلة عينيها كالحرباء لتنخر جسد الحاج طاهر، الذي لم يعد يقوى على الوقوف حين بدأ يمثل لسلطان الضعف، لقد انهارت إمبراطوريته الكرتونية دفعة واحدة. -من يوم يومك يا ابنة الجارية وقحة، ولن تكوني غير ذلك، وقحة وقادرة على العهر. - قطع ألسانك. قالتها وهي تدفع بسيوني ليواجه أباه، عندما فض بسيوني بجلافة ما بينهما. - لن يكون لك كلام مع خيرية...(قالها وهو يلوح بإصبعه أمام وجه الحاج طاهر الذي اهتز وأخذت الدنيا تلف به...حين أكمل بسيوني غير مكترث)... هي الآمرة الناهية في البيت الكبير. قالها وهو يجرع أباه آخر جرعة من السم، التي لم يقو على احتمالها فخرّت به جباله من أعلى قممها إلى أعمق قيعانها. في أرضه ها قد انغرست قدماها في وحل الخطيئة...ليته اعترف بها قبل زمن قبل أن تدك قدماه، وتنهار أسافين حياته دفعة واحدة، عندما علا صراخ الخدم وهم يقبلون على الحاج طاهر يحملونه، وأبو المعاطي يسارع في طلب المستوصف من الهاتف الأسود ذي العجلة الدائرية، وعينا خيرية تفرّ منهما الخيبة وقد انتزعت فرح الانتصار. وضح الأمر كما الشمس التي هبطت بين يديها لتغزل خيوطها بمغزلها، وترسم فيها الرسوم، لم يكن ليعكر صفوها ويقبض قلبها سوى بقاء ذلك الساذج ولسانه السليط، الذي قد يبوح بالسر، وإن أذاعه، انتهت إمبراطوريتها التي للتو آوت إلى عرشها، رمت نظرها إلى البعيد ثم قبضته وهي ترسم ابتسامة صفراء... تتمتم: وإن فعل، فمن سيصدق معتوه مثله...؟ هي الوحيدة التي تعرف أن بسيوني لا يملك شيئا في كل هذه الإمبراطورية، كيف يكون له شيء وهو ليس من صلب الحاج طاهر؟! وإن لم يكن له منه شيء، فكيف يكون لها ولأمها الداية، التي قضت وهي تقبض نقودا كثيرة لقاء صمتها، كانت الوحيدة بظنها عالمة بكل شيء، لولا أن أمها رأفت بتلك الحشرة... بذلك المعتوه، لولا الشفقة التي أسالت لعابه وأمضت لسانه، لما أبقته يهنئ بتمثيلية عتهه، لكنها بعد أن حصل كل ما تريد و خطت أول خطواتها في عالم المال والسلطة التي لا ترحم، جعلته يرتع قريبا منها... خيرية التي ملكت من الفطنة والدهاء ما يجعلها ملمة بكل شيء، رغم صغرها أسرت فؤاد بسيوني ذلك الفتى الشقي الذي راود الكثيرات، وهزئ بالعادات والتقاليد، وخمّر في رأسه فكرة الرغبة...في أن يستبيح كل الخطوط الحمراء، ويرعى وراء القضبان المحرمة، حلمها أن تقبضه إليها وأن تتسلق النجوم كي تصل إليه، لم تكن لتتخلى عنه، ما أفرزته من سم جعله يقع في شركها... في شباك ظن أنها شباك الحب، اللحم البارد الذي لا يمت بصلة للحم الحاج طاهر الأزرق وأبنائه، كلاهما أبصر ما لم يبصره الآخرون، إنها هبة الغدر والدهاء، فهي لغة لها محترفوها، وليس هؤلاء السذج أمثال الحاج طاهر منهم، وهذا ما تعشقه...ما تحارب من أجله... مرافقتها لأمها الداية في بيت الحاج طاهر وبخاصة بعد وفاة فاطمة، كان يجعلها على خط التماس مع بسيوني الذي شبّ على الفحولة مبكرا، جسده القوي، عضلاته المفتولة وغلاظة في الطبع، سرعان ما امتثل لجمالها وكأنما نفخت بين عينيه بالسحر الأسود...وأرادها رغم كل شيء...أرادها بالخطيئة، وهو ما أرادته... المرأة التي تستولي على قلب الرجل، والتي تجعله يلهث وراءها، هي امرأة قادرة على سحق هذا العبد فهو لا يستحق الرحمة... وهي هذه المرأة التي ستذله في كل لحظة، وسرعان ما تلقيه إلى الكلاب المسعورة، ولكن قبل ذلك عليها أن تكون المحرك لتفكيره ولجسده ...الموجه للحقد وللقبح، ومن الجميل أن يشعرها بسطوته على إخوته ليرضيها ...ليظهر لها جبروته وقدرته...وهي تعلم أن رجلا كهذا لا يمكن الرهان عليه، هو كحجر النارجيلة سرعان ما ينطفئ، ما أرادته حقا أن يصفع صفية مئات المرات، صفية الجميلة لولا تلك العاهة في وجهها وهي التي جعلتها أكثر فتنة وأكثر جمالا، كأنما فاطمة ما ماتت... هي تعرف مهبط الحروف ووقع الآهات فلن تعدم الحيلة، لعبها بجديلتها، غنجها الذي كبر معها يوما بعد يوم جعلها فتنة ومهوى للهوى، اجتازت الكثير من عثرات الطبقية، وعبرت الجسر الذي يرفعها من مصاف البؤساء، والدونيين إلى مصاف السادة، وها قد آن الأوان لتكون سيدة الدار دون ذكرى فاطمة، ودون نفس الحاج طاهر العجوز الذي لم يشخ بعد، كل ما يمتد أمامها ليلامس خط الأفق سيكون لها ولبسيوني فقط. لكنها لن تغفل عن ذلك المجذوب الذي يدور في القرية ضاحكا: بسيوني مش ابن الحاج طاهر. آذان الكثيرين تنصت، رغم أنها غير مصدقة -لكن العيار الذي لا يصيب يدوش- هي تعرف أن هذا الطنين سيزيد اللهاث وراء الأخبار، إن لم يجدوا لها منبعا فلن يتوانوا عن خلقه. هذه التفاصيل التي تمر عل الهامش هي التي في كثير من الأحيان تؤثر على مجرى الأمور المصيرية، بل ربما تقع في بئر المصير نفسه... كثير من النصوص التي تسقط سهوا، أشد بأسا وضراوة... الذي كان يزعج الحاج طاهر ليس هذا المعتوه الذي جعله حبل الخير الذي يصل به إلى الغيمة التي تمطر قبر فاطمة، فرمانه بإيوائه وإطعامه وسقايته والإحسان إليه كان صدقة على الرغم من حبه لها إلا أنها كانت تخيفه، أيمكن للصدقة أن تخنقه؟ أيمكن لها أن تقيده إلى حبل من مسد؟ إن كان هذا ما كان يخيفه في الماضي فهو الذي يتمناه اليوم، أن يفضح هذا المعتوه سره الذي تمكن من رقبته، لا يشك في أنه يرتدي هذا الرداء ليخفي شيئا، ليواري أمرا، مهما يكن فهو يدعو له بأن ينتصر رغم ضعفه على هذه الأفعى التي بخت سمها والتفت على حياته. يمد حبل ذكرياته إلى تلك الليلة المريرة التي غيرت تاريخه، بأن يكون أباً له مضغة في بطن فاطمة، لتخرج لحما طريا، لكنها كبلت فرحته وأوصدتها... لم يكن يعرف بوجوده بينه وبين الشيطان، حتى الداية ما عرفت بوجود أذن ثالثة، أذن المعتوه الذي فاجأه بطلب الحلوان، حلوان ابن فوزي... جاهدا حاول الحاج طاهر فعل شيء، أي شيء ليمسح من ذكراته- ابن فوزي-...ليؤمن أن الصغير من صلبه، وأن بسيوني ابن الحاج طاهر... جعله ينصت وهو يؤذن في أذنه، لكنه نظر مطولا حتى قال: هذا عفريت وليس صغير... -كيف عرف المعتوه ذلك؟ -هل إلهامه بالفعل إلهام من الله ؟ هل هو مفتاح الفرج اليوم الذي سيدعو الله قانتا أن يبقيه إلى جانبه... ضربته الداية وبخته بخت في وجه...ولكنه لم ينته عن أمره. قال: الحرباية من غير سنان... أياماً بعيدة تلك التي أوقدت حطبا في أخدود الماضي والحاضر ولم تدع شيئا للمستقبل... خطيئته التي سيدفع ثمنها كل لحظة، والتي ستنهش لحمه وتتفله فيما تبقى له من أيام... أتراها تطول أم تقصر؟ أيّا كانت هي مجردة مما يريده بالفعل... هي التي جعلت كل شيء ينمو ويسير تحته في جدول ضئيل، يضيق في أغلب سيره المتعرج بالتواءات حادة حينا، وانفراجات في كثير من الأحيان، قد نبتت على جانبيه تماسيح تستلذ بلحمه دون غيره. سطوة بسيوني على صفية، هي في سرٍّ عرفته، في الحب المتوقد في قلبه لخيرية وقد أشعله ولم يستطع إطفاءه، وهي تريد أن ينمحي أثر صفية، كي لا يباريها أحد في الجمال، ضربه لها يزيدها ولعا به ففي عينيه وحش الرغبة، وهي لن تضنى عليه بالقليل، لتشحذ قوته، من دلالها وميل جسدها الممتلئ... بسيوني الذي ملأ صدره بالهواء، هواء له عنوان الفتوة... للفتوة الحمقاء ألوان وهي بذات الصيغة بين كل البشر، ملحها له نفس المذاق عند الغني والتاجر والفقير...لكل منهم حلمه وهو الذي لا يبدأ إلا بالضعفاء. عندما غطت صفية جسد أبيها بالغطاء الوردي، الذي لم يطق فراقه وفيه ريح فاطمة، مذ رحلت، خمسة عشر عاما ها قد مضت وكل ما حولها قد تغير، هي تعرف أن بسيوني قد ملك كل شيء بالقوة، وهذا الذي لم يلحظه الحاج طاهر، لم يلحظ أن هذا الثعبان رغم أنه أخوها قد سيطر على كل شيء، بطبعه النزق وجلافته التي تمرّسها بالظلم، لقد شاخت أم الغيطان تحت سطوته ونخت أمام ظلمه، أنّة صقية وهي ترسلها إلى السماء لم تستطع أن تبوح بها للحاج طاهر... - ألم تلحظ شيئا يا حاج طاهر...؟ لم لم تخبره؟ أما ملكت دقيقة من الزمن لتميل إليه بسر؟ ولكن هيهات للندم الآن بعد أن هدَّ سقف الدار وانهارت جدرانه، منذ زمن قد شاطت رائحته في تعاملاته المريبة مع الذين يجيئون ويروحون من الأعراب، وتلك الغيابات الطويلة له، أغمض الحاج طاهر عينيه وكان مثقلا بتلك النهاية التي نطق بها الطبيب، ورجت في أصداء البيت الكبير، وقد خلت جنباته من هديل الحمائم، وتلك الأعشاش التي طرحت في حاويات القمامة وعلق فوق الرف الكبير سياج ذهبي وصورة خيرية وبسيوني، عند انحناءة التاج الذهبي البارز. لم يعد هناك ما يقال، صفية لديها الكثير من الأسئلة المعلقة على الصحف المقدسة التي اغتيلت، وكامل غفل عن حلمه وانغمس بتلك القوارير والكيمياء ولعنة السحر...ذلك العالم الذي طارحه الهوى جعله بعيدا عن كل شيء، بعيدا كل البعد عن التمدد في سحر خيرية، ربما كان خياره الذي لم يظن يوما أنه سينهار أمام نتائجه... يظن المرء أن له القوة الأبدية ليعيد الكرة بدل المرة مرات، لكنه لا يستطيع إعادة ما فات وما قضي به الأمر. ومن السخف الجزم بملك مفاتن الدنيا، فهي كالقابض على السراب بكلتا يديه. يقف الحاج طاهر مشدوها: ما الذي عليه أن يفعله بعد أن عرف متأخرا جريرة ما تخلى عنه؟! السيارة الخضراء من طراز بيجو وتلك الأغبرة التي خلفتها وراءها، لم تثر فضول الفلاحين وحسب بل أثارت اهتمام الحاج طاهر، الذي للتو كان عائدا من مصانع الغزل والنسيج في المحلة، رحلته كانت تمتد لعدة أشهر، بعد أن توسعت أعماله وتجارته هناك، ولكن الضربات السياسية والحروب التي كانت تمر بها المنطقة، والضربات بالأسلحة الثقيلة والفوضى التي لم تُعد ترتيب الخارطة بل وأعادت ترتيب مكانته في السوق هي التي كانت تقض مضجعه. في زمن الحروب لا مجال للعاطفة، ولا وجود للأخلاق...القبب الحمراء التي تمتزج بلون الدم هي التي تتسيد المشهد وتحرك الأجساد وفق مصالحها. الخروج عن النص لم يحقن دماء الأبرياء بل أراق الكثير منها، بعد تسلق الانتهازيون للسلطة والزج بالكثيرين في السجون في كثير من البلاد المحيطة، وبخاصة مع ذلك التغيير الذي دعم تجارته فترة الرخاء والمد وراء الأفق في عالم السوق والاستيراد والتصدير، ولكنها قوضت من قوته اليوم. ما الذي اختلف؟ لقد انهارت تجارته الكرتونية وطفت فوق المياه الراكدة. هو يدرك أن أوراقه التي قصفت لن يعيد بناءها من جديد، لن تمنحه السماء معجزة أخرى غير تلك التي كانت بين يديه عمرا، الحقيقة التي يؤمن بها... أنه لن يمسك العمرين معا. ويمضي بخياله النحيل وتجاعيد الزمن، لقد أصبحت هشاشته أكثر وضوحا، لم يعد راغبا في العودة خائبا إلى البيت الكبير، لم يعد قادرا على استنطاق الجدران، ومحادثة فاطمة التي لم ينبت غيرها في حياته، كل ما بينه وبين هذه البلدة التي قسا قلبها منذ أمد وسرقت الكحل من عيني فاطمة ولم تبكها. رؤوس الأفاعي المتراقصة في السلال، جعلته هدفها لتطرق أبواب السكون التي كان يأنس للتوسد عليها، صفارة النهاية تمر كموجة صارخة في أذنه، كأزيز طائرة نفاثة... الاقتراب من النهاية والتأرجح على عامود الصمود، ضرب من الجنون، لا يمكن سوى المراهنة على فشله، وهذا الذي لن يقاومه. غير أن تلك الخيوط الرفيعة هي التي كانت تشده إليها، خيوط رفيعة ضئيلة تشده لصفية وكامل، والنمو البطيء في غابة شائكة، متشابكة الأغصان... لن يستطيع أن يطأها دون أن تدمى قدماه، تلك الأشواك التي زرعها بسيوني وسقاها من جشعه وقلة مروءته، والكثير من الرذيلة، كفيل بأن ينبت غابات من... من رؤوس الشياطين. وهذا الذي لم يبذره الحاج طاهر وحسب بل أنبته ورعاه وسقاه وقرأ عليه، وأرسل معلمين ليجعله سويا ...غير أن الذي به مس من الشيطان، لا يمكن أن ينبت غير رؤوسها... استعاذ بالله من هذه الأفكار التي تلاحقه، والتي تجعله بأسا منكسا رأسه، تتلاطم به الأفكار إلى مدن وبلاد لم يعرفها قبلا، لكنه عرف أنها تقتله وتقتل آماله، لقد فقد الكثير... فقد لحمه ببساطة وسمح بذلك، وفقد اتجاه البوصلة، لقد غاب ذلك الطيف، وغابت كل الآمال في أن يلاقيه ولكنه زمن الهجرة إلى الموطن، إنه الحنين... تلك اللغة التي لا يعرفها سوى من يعرف تفسير لغة الروح لا، بل وتبادلها... خيرية التي تشتعل بها نيران الغيرة ويتأجج في صدرها لهيب السيطرة، لم تعد ترى سوى صورها الماثلة كأسافين على جدران البيت الكبير، أركان البيت الكبير الذي تسوده أشباح الضغينة، وتحكمه قبضتها الملعونة... لم تعد ريح فاطمة وقد فارق البيت هديل الحمامة... فوق الجدران تهم الفجور معلقة وراء قضبان الحب، ذلك الذي كانت تعلنه أيام صغرها وامتشاقها لجمال الجسد، لم يكن ليخفى هذا التمثيل وهذه الروح الشيطانية على صفية، تمثيل بارع من حقيرة حرباء تلك التي داست بيتهم قبل سنوات طويلة، مذ قضت فاطمة ولبثت الداية فيه تسقيهم من كرهها، وترسم صورة الأم الرؤوم غير أنها لم تكن غير صورة باهتة... قناع الحب لا يمكن أن يكون صادقا وأن يلامس شغاف القلب إن لم يكن نابعا من القلب حقا. الحاج طاهر نفسه لم يكن ليصدق شيئا، وما كانت تلك الشمطاء لتغيّر من قناعته وصورتها الشريرة تنبض بها أرضها الرطبة، ومهما طال به العمر أو قصر، فلن ترقى خيانتها إلى مرتبة الشرف الذي باعته منذ أن قدمت له التهلكة على طبق من ذهب، واحتسى منذ ذلك اليوم الجزع والخوف وتعلم الجبن، واشتكى من صداع يقرؤه السلام من الشجاعة المنكسرة كل ثانية من عمره. لم يعد يرغب بالعودة إلى أضرحة البيت الكبير، أمضى الكثير من العمر بين القاهرة والمحلة ورغم أشواط البعد، لم يترك صفية وكامل للغربان والخراب، صفية تحلم بأن تكون معيدة في الجامعة، وكامل يحلم بأن ينبت بين القوارير مختلفة الألوان. الأكاذيب التي لاحقتها عفاريتها جعلتها توصد بابها عن الجميع، وتتمدد في الوحدة ما كان يؤنسها هو المجذوب...صفية مهزومة أمام نفسها وهي تصارع البؤس... ماذا رأت فيه ولم يره أحد؟ والكثير من الأكاذيب الملفقة حول علاقات مشبوهة، هي التي روجت لها خيرية، هو متيقن من براءة ابنته صفية، لكنه لم يعرف أن خيرية بهذه الشراسة... الآذان التي ترهف السمع للترهات كثيرة في مستنقع الغيرة والغضب حيث لا ينبت الحب ولا تضيء شمعة مخافة الله... في أمّ الغيطان تغير الصدور، وتهيم العيون، وتتسلق آفة الأقاويل التي تجلبها الريح، وتسيّرها قوافل النخاسين... لكنه سيكون الحضن الدافئ الذي لا يمكن إلا أن يكون وثيرا لتغفو صفية بأمان. صفية التي رأت عهر خيرية وتقربها الفاضح من أخيها الشرس بسيوني، الذي يصيبها بقشعريرة باردة كلما صفعتها عيناه من جليد... والنار والجليد لا يجتمعان لكنهما معا في صدر بسيوني وتفضحهما عيناه... البرودة والرعشة تسري في جسدها كلما مرَّ على بالها مرغمة وهي تجفف دمعها...وكلما فكرت بأمره، وما أكثرها تلك الرعشات، تلك القبلات الحارقة التي كانت تنهش جسد خيرية في طوق الحمام لم تعد تريد تذكرها، ترفض أن تحبو تلك الأنّة إلى مسامعها، حين كانت تستند إلى جدار هش من عينين صغيرتين دائريتين، لصغيرة لم ترَّ من الدنيا بعد ما هو أسوء مما رأته من عهر. ضربات قلبها ورجوعها على القلة الكبيرة التي تمتلئ بالماء القراح، وقد تعلقت بأذنها كوب معدنية وأخرى انكفأت على صفيحة معدنية دائرية الشكل هو الذي فضح وجودها شاهدة على تلك العاهرة. الخوف نصف الواقع، ونصفه الآخر الهرب...لكنها ملكت النصف الأول وخانها الثاني، كوز الماء سقط وكسر طوق الخلوة الفاسقة... ورمقتها عيانا خيرية فزعة متوعدة، وقد جعلتها منذ ذلك اليوم خصمها العنيد...وقد ولد بولادة تلك اللحظة هاجس الانتقام والنيل منها. العفة لن توصف بها بعد اليوم، لكنها ستتمسك بالقشة حتى لو غرقت...هذا الذي تسعى صفية له مهما كلفها الأمر... رغم أن خيرية لم تستطع الهرب من بين قضبان الخطيئة التي وصمت الكثيرين بها واستثنت نفسها، واحتكرت أقنعة الحقد وقد كان ملحها الانتقام... القبور التي ينبشها الأحياء ويسعون فيها إلى إحياء الموتى، عصفت في البلاد مع ريح الموت والخوف والرعب، في عجالة الأحداث كانت كالحمى التي دبت في أنحاء البلاد. البحث عن الأمن في ظل هذه الظروف هو العملة الصعبة، وهي التي يسعى إليها الحاج طاهر مثله مثل الكثيرين، في المنطقة التي مازالت شعلتها المتقدة وحركاتها الانتقامية لفصائل ضد فصائل، وحرب التسلح والحرب الأهلية في ليبيا، والتي جميعها أدت إلى تلك الحركات المتطرفة التي امتدت إلى سيناء، والعمليات التفجيرية في رفح وغيرها من فوضى سياسية، هي التي تشغله، وبخاصة ما يعانيه العراق والجماعات الإرهابية هناك، والغُسل فيها من دماء الأبرياء....بالقتل وقطع الطرقات... وتكالب الكثيرين على هزائم السلطة. الأحداث التفجيرية وهزالة الأمن جعلت تجارته على المحك، لذا قرر أن يبقى إلى جانبها قدر الإمكان حتى يستطيع المساومة على بقاءها، لم يكن في تفكيره أن يفعل أيَّ شيء، عليه أن يفكر بطرق ليحمي بها جهده طوال سنوات... ثروته التي تسيل أمامه وتتسرب إلى أفواه الشرهين للثروة... دون أن يكون قادرا على حفظها أمرٌ يزيده ألما ويستمرأ عجزه، كان عليه أن يستعين بقوة للحماية، ثلة من مرتزقة مفتولي العضلات... كان ذلك حلا إجباريا وفقه الواقع الهزيل. أمام كل هذا الطوفان على الحاج طاهر أن يقف صامدا ثابتا عاري الصدر...وأين سيكون البيت الكبير في ظل هذا كله؟ سيختار الأمان له ولعائلته...بأن يحمي هذه الثروة المغتصبة.
فوق أشجار الجميز شمس لاهبة وقبب بيضاء تسرق بفضول تلك الضحكات الخافتة، لجسدين يقبعان بين الظلال، يطلقان الأماني بأن يحصدا النجوم من السماء وأن يشكلا أسوارا أو شريطا منيرا لقدّ جميل لفتاة النور التي كانت تلهب حماستهما، إنها التي تمتلك عصا النور التي تضرب بها على الأرض لتستحيل جنة، وتضرب بها قلوب الناس فتتمايل ولعا وحبا. كلا الجسدين يمد خيالا قصيرا يسارع بأن يلملم أطرافه، لقد كانت صفية هي التي تبني البيوت بحبات البون بون وكان(المجذوب) هو من يأكلها. ما الذي وجدته صفية في هذا المسكين ولم يجده أحد؟ من هذا الذي كبر وترعرع على تلك الصدقات من الحاج طاهر، والتي ورثتها صفية من فاطمة؟ - يا له من قلب طيب الذي تحملينه يا صغيرة! الأيام القليلة التي كان الحاج طاهر يقضيها في البيت الكبير، يطيل فيها النظر لأبنائه... لم ير الحاج طاهر سوى البراءة من عينيّ فاطمة في براءة النور في عينيّ صفية، وفي عينيّ ذلك المسكين، الذي لم يعلم مما حرم شيئا، مجذوب أم الغيطان كيان آخر، مع صفية ظلها الظليل بل وحارسها الشخصي الذي كان يقض مضجع خيرية، بعد أن اشتهت أن ترى لذة الانتقام وشهوة السيطرة، غير أن صفية ملكت مساحة صغيرة من أشواك الطيبة، ونثرتها في أرجاء البيت الكبير لتدوسها خيرية، التي انتعلت حذاءين من رخام. القلب الذي ينبض بالخبث لا يمكنه أن يستشعر الرحمة أو العطف...لا يمكنه أن يحمل نطف الخير ويجثو ساجدا على ركبتين وكفين يصافحان التراب، خيرية كما نقطة حبر سوداء سقطت سهوا في كوب ماء فانتهى السم إلى آخره. ما أوغر في صدرها لم يكن ليمحوه حب، وإن كان بسيوني بشحمه ولحمه فلن يكون سوى الوسيلة وليس الغاية، لكنه رغم تلك الأقنعة التي يتزين بها والتي يريدها أن تتحدث عن رجولته قميء لا يفقه سوى الزعيق والصراخ والضرب بالكرباج... وبسيوني نفسه لم يفطن بأنه يعشق أفعى بمئة وجهه وألف قناع لم يعرفها بعد، عشقه لها جعله لا يعرف معدنها وربما معدنه الرديء، ورغم كل شيء انجذب إليها... النيران التي اندلعت في محصول القطن وأيقظت كل الكون إلا فلاحي القرية في ليلة قضت على كل شيء، حين غاب عنها قمر تموز وآب الذي تمتد به حفلات السمر إلى ما قبل الفجر بقليل، لكن تلك الليلة بسمرها وأناسها وحلقة النار الصغيرة، واستكانات الشاي وشرب المعسل والأحاديث الغارقة في الشكوى غابت عن المشهد... عندما تتحالف كل القوى مع القدر لا يمكن الجزم بنظرية المؤامرة ، بغياب القمر وانتشار النار في المحصول كالرمد في العيون، التي لم تستيقظ، لم تجر أجفانها لصحوة بليدة، لم يعلم أحد بالحريق إلا بعد أن قضى على المحصول. بسيوني وعجالته بسرواله الأبيض وصداريه حافيا أرعنا، وأبو المعاطي الذي بدا عليه الوهن وقد أنهكته السنوات، وتلبدت فوق صحراءه العجفاء آلاف من العلل والأمراض، التهابات المفاصل التي أوهنته فخارت قواه، وفوزي لم يكن قادرا على محاربة ألسنة النيران، التي لم تشبع من قطرات اللبن من ثدي البساتين، بل ونالت ما نالته من المخازن، تمددت حتى بزوغ الفجر وتقلصت حين تسلل النور، السحابة السوداء التي أحاطت بأمّ الغيطان دون سواها، في وضح النهار لم تكن لتمطر، فقد كانت محملة برائحة القطن حين كان كل شيء قد انتهى... كل شيء...اكتسى بالسواد، وبسيوني لم تفارقه السترة السوداء وهو ينقش بعصا صغيرة ملامح الحسرة والفقدان، فوق المساحة الكبيرة من مخازن القطن التي كانت تنتظرها شاحنات النقل في صبيحة اليوم. ها قد نبحت كلابك وأهاج عواء الذئاب ضرع القانتات... ها قد غدت البساتين حصيدا جرزا... ذلك اليوم الصيفي الباهت، أطلت شمسه من فوق سحابة ممطرة من أحزان بسيوني الذي عقد شاربيه ونفخ صدره، وتضخم صوته، واحمرت أوداجه...ومارس الخطيئة منذ صغره مع خيرية، وأمرَّ نفسه على البؤساء ليزيد من بؤسهم... حمى الطغيان والسلطة، ما كانت تسير في دماءه، تلتهب بها أضلاعه وأعصابه التي كان يفقدها في كل حين، وهو يكسر قبب المساكين ويمنع عنهم صنابير الخير، التي فتحها الحاج طاهر بالمجان، تلك السياط التي ألهبت الظهور كانت محرمة ولكنها حُللت أشهر السنة كاملة ولم تستثني الأشهر الحرم، قسوته لم تستلذ بغير ظهور البؤساء والمساكين لتعيش فوق الجروح المتعفنة وقد فاحت منها رائحة الكراهية، كل ما في المشهد أبكم أصم غير ذلك المجذوب الذي يتحرك مع بسيوني كظله، والذي لا يروق له تسمية بسيوني بغير: يا لقيط، يا أيها البائس. كان يمكن له أن يقتله، فليس هناك من يدافع عنه، لا عزوة ولا أحد قد يطالب بديته وهذا بالفعل الذي يجتاح نفسه الغاضبة، التي خشيتها أعين الفلاحين وظهورهم. عند انتهاك الخط الرفيع للكرامة لن يكون هناك سوى المهانة...وهي التي نفشت في نفس المسكين... حتى الشفقة الملعونة من الفلاحين لا يمكن التعويل عليها، سوى تقليب الكفوف. المخازن المليئة بالمحاصيل لم تكن مبولة للصغار، حيث يفعل الصبيان الكثير في زواياها. المخازن التي حفظت بالمفاتيح كانت الفئران الصغيرة تتسلل إليها...من أين؟ لم يكن أحد يمتلك جوابا، حتى كاد أحدهم أن يقول: أنها مبولة للجان. لم تكن تفتح ليعرفها أحد، فقط يكدس فيها بسيوني المزيد والمزيد من محصول القطن... المحصول الذي حصدته النيران، أيقظ الحاج طاهر من سباته...لم يكن ليأمل مثل هذه النهاية، أن يجرد من كل شيء بفعل النيران... الصفقات التي وقع على تسليمها... الكمبيالات والشيكات والديون التي تنتظر أن يسددها إنتاج المصنع من القطن...تعامدت مع عقارب الزمن والعد التنازلي... ما هاجر إليه ...وما خلّا صغاره من أجله...انتهى...أصبح ضربا من الماضي الذي لن يصدقه أحد... بطون المارقين نهشت ما تبقى من الجسد البالي...التهمته حين مدّ عنقه والهجير إلى السراب إلى حيث الهشيم...عن أيّ بوح يبحث وقد ابتلعت شكواه والحسرة... الغيظ الذي يلفح الوجوه الصماء، وينسكب في القلوب المنهكة من الأحقاد، هو لهجة الواقع الذي يعيشه من يسكن أم الغيطان... الحقد الذي إن اشتعل له فتيل لن تبلغ نيرانه أسوارا وحسب بل ستحرق الوجوه وتقلب القلوب وتتراقص على بحر مسجور، ولن يوقفه طوفان... فليس بعد الحقد توبة، وكل ما قام به الحاج طاهر طيلة عقود من نشر للحب، ورفع للأسوار والحجارة، التي امتدت على طول اللسان الممتد مع القرى المجاورة قد محق بين ليلة وضحاها. ها قد أذنت شمس الحاج طاهر بأن تأفل ... -يا الله أغثني يا مغيث...يردد بجزع... وكأن أُذن الرحمة قد سمعته ولكنها لم ترجع إليه صدى...التف بعباءته وذاب في الظلام، كما ذاب أثر ذلك الغاضب في بطن الحوت، غير أنه وهب السكينة فبدا قديسا في صموعته... الجهر بالخطيئة في قرية غاص ساكنوها بالأتربة، التي تسلقت حباتها نباتات خضراء باسقة تحمل رؤوسها كرة هشة صغيرة، كرة ثلجية رقيقة ناعمة، تقرص بنعومتها الأصابع القاسية التي غيرت جلدها أكثر من مرة، أكثر من جزء منها أصابته الكآبة وبقي منطويا على نفسه يعاني القسوة وحده... خيرية التي لم يهتز لها طرف من المشهد...بقيت صامتة وفي نفسها سعادة لا توصف...يا لها من هدية أهدتها لها السماء! حزنها أو فرحها بالكاد تظهره ما تربت عليه على يديّ الداية أمها، وما تعلمته من المشاهد الساخنة في المستطيل الصغير بالأبيض والأسود بما يسمى التلفزيون الذي كان بيت الداية البيت الثالث الذي يدخله في أمّ الغيطان بعد الحاج طاهر والعمدة... لقد رأت في ذلك المستطيل الذي تسير فيه الأجساد وتتربع فيه النساء في أحضان الرجال ما لم يجعلها تشعر بأن ما تفعله مع بسيوني خطيئة...فلن يقتلها أحد إن كانت هذه النهاية فلن تتعب نفسها بالتفكير فيها. ومن يقتلها؟ لا قريب لها ولا بعيد، غير ذلك الساكن في البعيد، والغارق في السلاح للبيع أو للقتل لا يهم، هي لم تخلق سدى لقد خلقت لتكون غانية، وشيطانة تمشي على قدمين من ذهب بما تتميز به دون غيرها من فتيات أمّ الغيطان المدفونات في البيت وفي الغيطان...لها جسد ملفوف، وردفان مكتنزان وصدر ممتلئ، وشفتان بلون الدماء، وشعر طويل أسود فاحم... اختلافها عن فتيات أم الغيطان الساذجات، اللواتي تقلصت أحلامهن إلى رجل يملك معولا وسقفا وجدرانا من طين وعشرة صبيان يتراكضون حولها، ينبشون الأرض من أجل كسرة خبز، ليموت من الجوع أشدهم تعلقا بريق الحياة، هي لا تريد أن توصف حتى -بزوجة البهيم- و البهائم كثيرة التي تساق إلى الغيطان...، قد يكون الفرق في الأجساد لكن العقول البليدة هي التي يوصف بها المرء هنا، كما البهائم هم يزرعون ويفلحون بانحناءة ظهورهم، وهم يرتعون بالتعب والكد، لينالوا من كبراء القوم القليل من النقود، التي تصدر طنينا في أذان البيوت اللابثة في الشقاء... هي تريد حياة أخرى، أكثر شهوة، أكثر أبهة، أكثر رخاء، وأكثر سيادة وسيطرة، وهذا لن يكون باقترانها بواحد من شبان بيت فوزي الستة، هناك مازال واحد منهم شارد في البعيد، بعيدا عن لهيب الشقاء، يرتع في الرخاء ويسود القوم الرعاء... وهو ضالتها... ما تريده... فتوة، جسد مفتول، سمرة تروق لها، عينان لا تخشيان النار، تنيران في الظلام وتسيران في طريق الأشواك... بسيوني فريستها التي ستلهبها نارا لا يرجى انطفاءها... خيرية ابنة الداية ستعلمهم معنى أن يتسيّد العبد مناصب السادة... ذهابها ورواحها مع أمها إلى البيت الكبير، على سبيل المساعدة في تربية الصغار، بعد رفض الحاج طاهر الزواج بغير فاطمة جعله تدخله من أوسع أبوابه... أسئلة حيرتها كما حيرت الكثيرات: ما الذي أحبه رجل بامرأة كما فاطمة وهي تملك أكثر مما ملكت؟ من هي فاطمة ؟ "ما كان يميزها شيء كما كانت الداية تقول"، إذاً أهو سحر...؟؟ فما مبرر حبه الذي لا يخفيه عن أحد حتى بعد موتها؟. هذه الصورة المحنطة لفاطمة تريد أن تستحوذ عليها، تريد أن تكون القلب والقالب، وهذا لا يتأتى إلا برغبة، وهي الرغبة التي أوقعتها أمها في نفسها، تريدها أن تكبر بسرعة أن تنبت امرأة ذات جمال وشهوة، تثير الحجر قبل البشر... أنثى تفضحها الغريزة، تسيّل اللعاب لرؤيتها ولهف النفس عليها... لقد كانت كذلك، كانت تصنع لها تلك العجينة السكرية، وتعري جسدها، وتزيل عنه تلك الشعرات السوداء التي تزيده بشاعة ليغدو حليقا ناعما، من غير ما يكسر النظر، وتكمل دهن الفخذين بالزيوت ليغدو طريا رائقا، وتلون الأظافر، والوجه بالألوان لتبدو أكبر وأكثر اتساعا... أكثر وأكثر، لم يكن لأنثى أن تكبر على عجالة بغير هذه الأشياء، التي كانت تجلبها الداية، الألبسة الدقيقة التي تبرز مفاتن الجسد والساتر الأسود الشفاف، الذي لا يزيد جسد الصغيرة جمالا وحسب بل و يشد إليه الرحال، لم تكن تريد رجلا آخر، تريده وحده... ذلك الذي منحته الدنيا ملكا لا يستحقه...
لا يمكن لخيرية الجزم بأن لهذين الساذجين شيء من الثروة... ما كان لصفية أو كامل أن يتصرفا كالنبلاء، وذلك التعليم الخاص الذي كانا يعيشان في بذخه، لن يستطيعا أن يغيرا من مخططها شيئاً، أيّ تأثير سيكون لهاذين وقد خلّاهما الحاج طاهر للغرباء ومضى...؟؟ هي والداية ليستا مجرد زائرات بل مالكات للبيت الكبير، الذي تفضح الحمامة القابعة على بيوضها بهديلها... الداية تهمس في أذنها: خليك جدعة وخليه يموت فيكي... هي تعلم جيدا أن عينيه الصارختين تنفذان إلى جسدها، فتنحرف لتصده عند تلك الفسحة الضيقة من المنور، الذي يفضي إلى الخارج، ليطل بعدها على الباب الخلفي للبيت الكبير حيث تجتاحه حزمة كبيرة من النور، إلى خلف البيت الكبير حيث تجثم الجنائن المعروشات قبل ذلك الالتواء الحاد، هناك بهذا الممر الصغير يخفت النور وتنسل أسترة الغروب، وتصمت الأفواه ويغترب المارقون إلى البعيد، في هذا الجزء الصغير بالذات تنعدم الحياة، وتهجره حركة الذاهبين، بينما تنساب الحركة الاعتيادية في كل مكان، حيث يخرج الكثيرون للعناية بكل ما يخص البيت الكبير إلى الخارج، حيث تقصد الداية ذلك... ويبقى الجسدان يتلمسان طريقهما إلى بعضهما برفق... أصوات الموسيقى الشرقية والإنارة الحمراء، وخيال الجسد الذي يتراقص في ظلال الستارة البيضاء، الجذع المنحني على بسيوني وهو يميل إليه برقة وعذوبة، يملك عينين ذباحتين، تذبحانه في كل ليلة لا يفيق إلا على رعشات جسده وأنينها، لكنها في تلك الليلة لم تجعله يفيق إلا على صوت أبي المعاطي المتعالية وهو يجري، ليبصر من نافذة البيت الكبير، المخازن المشتعلة وألسنة النار وطقطقة العيدان ورائحة القطن المحشو بالآهات الحزينة تتطاير في الليل البهيم، لم يجد بسيوني نفسه إلا حافيا مرتديا ملابسه الداخلية، وسرواله القطني الضيق، وهو يجري يقلب عينيه بين الشرر المتطاير... غضبه الذي استشاط لهيبه وتطاير لم يملك ما يطفئ به غليله إلا جسد ذلك المجذوب ليهوي بكرباج أبي المعاطي على ظهره الهش، دماؤه المتناثرة مملوءة بالأوجاع، المجذوب المكبل بالحسرة، تلقن الدرس عوضا عن فلاحي أم الغيطان... لهيب السياط يفرغ ما في قلبه من غلّ وما عنده من جبروت، من ذا الذي يتجرأ على إيقافه وقد التهمه الغضب...؟ والصمت المطبق والسبات الذي يملأ العيون المفتوحة في قرية أمّ الغيطان لا يرجع له صدى ... صفية لم تحتمل المشهد، لم يحتمل قلبها الرقيق رؤية إنسان يتعذب...ومن يعذبه هو أخوها بسيوني الذي هجرت قلبه الرحمة منذ أن ولد!... ركضت لتنتشل المجذوب من بين يدي أخيها ولسعات السياط والشمس قد استوت إلى السماء، لم تكن لتخشاه بل كانت ترسل شررا من عينيها، ولغة التحدي التي لن تستطيع أن تخفيها بعد اليوم، هي التي جعلت بسيوني يضعها في حساباته، من أجل أن ينهي وجودها وينتهي الأمر... أنّى لكاره له أن يستظل تحت جدرانه من قرِّ الشمس ولهيبها، فليلقى بالعراء أيٍّ كان... - ولكن كيف له أن يثأر منها... كيف؟ أرسل تنهيدة كبيرة وصلت إلى أذني خيرية، وهي ترسل الفرشاة في شعرها الطويل الفاحم، ثم تعيد إرسالها من جديد أمام التسريحة الممتلئة بالعطور الملونة، وقد أراحت قدما فوق أخرى وانسل رداؤها الأحمر عن فخذين ممتلئتين، لم يُشعرا بسيوني بالاشتياق بل تنهيدة غاضبة فرت منه، أرسلت نظرها إليه وهي تطيح بأسئلتها بدلال... - لم هذا الحزن...؟ لمخازن القطن!؟ لتحرق كلها... ما الذي يهمك؟ ستخصم من أجر الفلاحين كعقاب لهم، وسيعوض كل شيء الحاج طاهر... لكنه لا يجيب، تسرع بمشيتها التي حجلت بها لتنتصب إلى السرير، وهي تجلس قبالته وتعيد السؤال: لم ترسل تنهيدتك؟ يجيبها وقد اعترته الحيرة: في صفية، أريدها أن تختفي من وجهي. قالت بلهجة مستهزئة: بس كده، على خير، ولا يهمك... المرآة التي كانت تهزئ من تلك الدميمة في وجه صفية غابت حين أمر الحاج طاهر بإزالتها لكنها بعدد كبير قد زرعت هذه المرة، تلك المرايا التي زرعت في الجدران تضج بها الأجساد المارقة، ووجه صفية ينبض بدميمتها، بكل واحدة منها، لم تكن تعرف أنها بهذا القبح الذي لم ترد أن تراه رغم أن الجميع يحيطونها بعينين حاسدتين، مذ عرفت أن الجمال هو كل شيء للفتاة، وتلك الدميمة لن تمنحها أُنسا لأحد غير المجذوب، الذي لم يجد بدا من السؤال الصعب..: ما الذي في وجهك؟ مئات من العيون التي تحدق بها، مئات من القهقهات، مئات من الوجوه بعيون جاحظة ...مئات من الدمائم... ومئات من الجروح النابضة بالألم التموزي... رغم ما يقال: عن سحابته الممطرة، لكنها لم تكن كذلك، تلك السحابة الصيفية المارة فوق البيت الكبير، محملة بعيون ملآى بالدموع، وهو الذي انفطر عليه قلب صفية وهي تتلمس طريقها منسلة من جسدها تتبع الأرواح في البيت الكبير، تبتلع أنفاس فاطمة العابقة في كل أرجائه. لم تستطع الوقوف على حرف في عالم تحكمه خيرية...حطمت المرايا ودوّى حطامها كدويّ القنابل وحمى الرصاص... الخوف والفزع عصف بنفس خيرية التي أدركت أن مملكة الجان تحالفت على النيل منها، رغم ما تقدمه من قرابين لتبقى تحت سلطانهم... ما الذي فعلته ليتغير الأمر كله...؟ لم الخوف الذي مد أذرعه إلى قلب خيرية؟؟ حين كانت واقفة على رؤوس أصابعها تتلمس جمالها المحنط بالصورة ذات الإطار الذهبي، لم تكن لغيرها، خيرية مالكة كلِّ هذا النعيم، وحيدة هذه المرة بلا إطار يحميها، أبقت صورتها دون صورة بسيوني، لقد تخلت عن العظماء الذي يشاركونها عقيدة السلطة وفقه السيطرة. شعرت برعشة باردة لامست جسدها، لم تدر ما سببها، كانت تحدق بتلك الجميلة في الصورة وحسب، كانت تمسك بالشعرة الفاصلة بين الإيمان والإلحاد، الإلحاد بكل الموجودات، وهي لا تعني سوى الموت البطيء في نهر الضحايا المسموم بالدعوات، التي تطفو على السطح وتتركها مجردة في اللاشيء... أحلام كبيرة لسيدة البيت الكبير، راودتها عن نفسها الآن، جعلتها تسير حافية القدمين على جسر من ورد، عندما هوى بها... تناثرت حولها الزهور، وهي ترى المرايا تتكسر أمامها وتترامى شظاياها في كل مكان، فتنزلق بين كفيها لتحبس هطول الغضب، وهي تجرُّ ذيول ثوبها حبوًا باحثةً عن قشةٍ، ولجت لغرفة صفية وهي تراها جاحظة العينين، يزداد صراخها، فتخرج جزعة لا تعرف ما الذي يحدث... لم تستطع الوقوف على قدميها، زحفت وهي ترتجي من الجان أن يرفقوا بحال امرأة مسكينة. دستور... دستور... سلام عليك...سلام عليك...- لا تعرف طريقًا إلى حجرتها، لتحبو تحت السرير ذي القوائم النحاسية، والملاءة الوردية الرقيقة. الشهر الثالث لملم أغراضه وحزم حقائبه وغادر، والحمى الزائرة رحلت مع الكثير من الأوجاع، وفارقها التهاب المفاصل كأنما نفخت فيه الروح ثانية... الشبح البارد مازال يخيف خيرية، التي أمرت خادماتها بحزم الكفن وعدة العزاء، وهي تمشط ما تبقى من مظاهره، تمط شفتيها، وتزمهما وتلوح بحركة منتظمة ليديها طاردة شبح صفية الهزيل، وظلها القصير... السيارة التي مسحت عنها الأغبرة ونفخت عجلاتها قطعت الطريق ثانية، كامل غادر مع صفية. ثلاثة أشهر من التقرب للموت بأجساد الأحياء كانت كافية لأن يتمسكا بالحياة أكثر، انطلقت بهم السيارة وقد غابت في ضجيج المحرك، وزوبعة الدخان... - لقد تغير كُلُّ شيء...همس بصوت ضعيف، وهو متوكئ بذقنه على كلتي يديه، تسندهما عصاه، أبو المعاطي بالكاد سمع تلك الهمسة الضئيلة، حركته الثقيلة وجسده السمين قد ترهل، و الكثير من البياض لون شعر رأسه، وضعفٍ في عينيه لم يعد يبصر جيدًا، لكن غير ذلك من جلابيته البنية وصداريه الأبيض، وبندقيته على ظهره لم تتغير، وكأنما أخفى وجودها عن دفاتر الأيام وتكلساتها... حافظ عليها وقدر أنه سيموت من أجلها، بادر الحاج طاهر بسؤال وهو يحمل كوبًا من الأعشاب... اليانسون والحلبة والمستكة خلطته السرية، التي اعتاد الحاج شربها منذ أمد بعيد من يدي فاطمة، وذكريات الغرفة الطينية ورائحة الحب... - لم تُر الست فاطمة تعنُّ على بالك أبا الحاج؟ - قدرنا لا مهرب منه... أرسل تنهيدةً طويلة، ظلت تحوم في جوفه البائس من غير أن يجد لها متنفسًا، إلا بدمعة حارقة ابتلعها هي الأخرى، الحشرجة في صوت الحاج طاهر هي التي كانت تحكي الكثير. - كم سنة عملت هنا يا أبا المعاطي؟ لم يدر بما يجيب، فكر قليلًا وهو يرسل فكره إلى البعيد، لم يسأله راغبًا بأن يرد له الجواب، يعلم في قرارة نفسه مقدار سذاجته، وطيبته، كما يعلم أنه لا يعرف الحساب، براءته هي التي أدامته عمرًا في هذا البيت الذي شهد ولادته. أجاب بعفوية: والله لا أدري... وعلامات الخيبة... كانت مرتسمة على محياه، الذي يميل إلى سمرة خفيفة. الحاج طاهر يعلم حقيقة، من أين جاء أبو المعاطي، يرسل شباك الذاكرة إلى البعيد ليرى ذلك الصبي التائه مع أبوين يدوّر عينيه في الفراغ المسكون بالأشباح. مجيئه صغيرًا إلى أم الغيطان مع أبيه الحاج سلامة، وأمه التي لم تطل البقاء حتى ماتت بنفس العام الذي جاء فيه ثلاثتهم من بور سودان، أبحروا من النيل الأزرق بمركب صغير يعلو هديره، وهمٌّ ثقيل ورائهم يطفو فوق الماء وما يلبث أن ينقلب مع هيجانه، هجروا أرضهم بثأر.. يلاحقه في منامه بكوابيس لا يستطيع الاغتسال منها، الاقتتال الذي اشتعلت نيرانه بين أبناء عمومته وأبناء قبيلة أخرى، هربوا من ويلاته وحمى الموت التي قضت على معظم أبناء قبيلتهم... أبو المعاطي الذي تخفى تحت ستار اسم لم يصلح له يوما لكنه كان كفيلا في أن يبقيه حياً ...فهل بقي من قريته أحد؟! هو لا يدري إن بقيت بيوتهم الطينية أم احترقت هي الأخرى؟ أبو المعاطي أسقط اهتمامه بهذه التفاصيل، بعد أن مرّ على دفاتر أيامه سنوات طوال، دون أن يتزوج لينجب له سندا يقتله التائهون في الأرض... لم يرد أن يبني له بيتًا... اكتفى بأن يكون في بيت الحاج طاهر الذي اعتبره بمثابة أخيه الأكبر...
صفية تقف بجديلتها وهي ترتدي زيِّها المدرسي، تنورتهُا الزرقاء الطويلة، وقميصها الأبيض وحقيبتها المليئة بالأحلام، وابتسامتها الحنون. الحاج طاهر لم يعرف لم يراوده شعور أن شيئا سيحدث، هذا الذي لازمه طيلة بقاءه في المدينة وأدار مرجلا يغلي من خوف...صفية وكمال طيفهما يتراءى أمامه وكأنّ مصيبة ستحدث.. شيطان بسيوني وخيرية يراه في كل حركاته وسكناته... يملأ عينيه منها فلا تشبعان وكأنه يشك في الروح التي سكنتها من جديد بعد أن قلبها الموت على سيخ فوق نار هادئة...ونجت... أتكون روح فاطمة هي التي أنقذت الصبية من الموت...؟ آواه يا فاطمة بركاتك حتى وأنت في القبر! صفية التي تدور بتنورتها الزرقاء وتلعب بجديلتها ولمعة العينين تجعلانه يخاف، يراوده صيب من وجع يقتله... -ترى ما الذي تخبأه يا زمن الشقاء؟! يحلق فيها... ها قد عادت للحياة وكأنما بعثت من رقدتها، لقد رحمته برجوعها السماء... ها قد عاشت من جديد، صفية التي عاشت من جديد ونفخت فيها الحياة كانت مودعة الدنيا بما فيها قبل ثلاثة أشهر، قد فرَّت من قبضة الموت... انقباضة قلبه يجعله يرتب لنفسه الساعة نهاية ما دون حبيبته صفية ومن قبل فاطمة. - لِم لم يحضر ويواسيها في الأشهر الثلاثة الماضية؟ لقد انتظر طويلا ليقرر المجيء، رغم سكون جسده قربها لكنه كان واثقا أنها ستزف إلى حيث فاطمة...لقد غسل يديه من نجاتها. - ما الذي يمنعه عن ساعة ليحتضنها، يقبلها، يودعها ويبكي بحرارة؟ ليته يبكي دون أن يمنعه أحد...ظلّ طيفها معه في كل أنّة...يرمقها دون أن يسرق النظرات، يريد أن يشبع منها...فلا أحد يعلم ما الذي يخبئه القدر... - صباح الخير أبي الحاج. قالتها وهي تطبع فوق جبينه قبلة التفاؤل، وتدور أمامه وهي تضم إليها حزمة من الهواء، وضمة من أشعة الشمس، وتلامس خديها برودة النهار. - ما أجمل هذا اليوم... لم تنتظر أن تجيبها عيناه المذعورتان وهي في نفسها لم تعلم كيف وهبت لها الحياة من جديد؟. وألف سكين وسكين تنازعه بين الحرص والخوف، والغفران والتسامح. -ماذا لو علمت؟ ماذا لو أخبرها؟ ماذا ستفعل؟ لكنه اكتفى بالصمت. مررت أصابعها فوق الهواء وهي تعزف أغنية: ورغم بعد السنين أنا حستناك، مش حنساك. ليته مثلك يا صغيرة، يتقن صيد الألحان!. - هيا يا كامل أسرع...صوتها يعلق كجرس في أذنه، وهو يرقب كامل صغيره الذي كبر دون أن تعلق صورته في رأسه. كامل الذي ظهر بكامل هيئته المتعبة، ظهر بهالة سوداء تحت العينين، جفنين منتفخين، وكأنما سهر الليل بطوله، بل لم ينم في حياته يومًا. - ما الذي يؤرق ذلك الشاب الصغير؟ تهمس في حجرة عقل الحاج طاهر المتخمة بالمصائب. تهرول إليه صفية، تعدل هندامه، سترته الزرقاء، قميصه الأبيض، تعيد إدخال الأزرار، وربطة عنقه الحمراء، تملس شعره الكستنائي بأصابعها، شعره المائل للحمرة المنطفئة، لامعا مصففا، رغم كلِّ شيء يظل محافظا على بروده، مشيته البطيئة بغضب... تخاطبه: هيا اعدل نفسك، وشد حيلك نريد الوصول إلى المدرسة بسرعة... سلم على الحاج طاهر وقبّل جبينه...ومضيا في السيارة تلفهما سحابة من الأغبرة البنية المتصاعدة...ودعاء أبيهما أن يحفظهما الله من كل سوء. طقوس الشعوذة التي كانت تنصت لها خيرية بكل جوارحها، لم يكن أحد يدرك مدى خطورتها، السحر والرجس والحقد كلها عوامل مشتركة لا يمكن فصلها عن بعضها البعض، وهذا الذي كان محدقاً بأبناء الحاج طاهر دون أن يدري أحد بها، أيامه الطويلة في المدينة متعلقا بأحلام الثراء، جعلت الكثيرين يسقطون إمداده بالتفاصيل وهو الذي فضل تفاصيل تجارته على حياة أولاده ومآسي الظلم التي كانت تحيكها خيرية ليل نهار... خيرية لن تعدم الحيلة... يقال: أن الشياطين قد تزاوجت مع الإنس، وهذا لم يحدث في الأساطير... ولكن خيرية التي خاوت الجن لن يمنعها شي،ء ما دامت تريد الإطاحة بأحد، فلن يمنعه أحد عنها. عندما تنعدم القيود تكون اللذة أعمق... والخطيئة أوفر حظا... وسيدة المشهد... ذلك الغرُّ الساذج الذي يحتال على نفسه بأنّه معجونٌ من عجينة البراءة، غير تلك العجينة التي حمّلت بني آدم الذنوب، والطينة طينة العبيد...عبيد الشهوة، وهي مهما علت لن تتخلى عن جذورها من دونية البشر. كامل الذي لم يتجاوز السادسة عشر، يريد أن يكون رجلا، فرعونا دون شهوة و نساء، هذه حقيقة لا يمكنه إنكارها، و إن كانت صورته العالقة في الأذهان مغروسا بين القوارير في مخيلة الكثيرين، لكنها مصممة على جعلها فيه، سيكون بئرها الذي ينضح بالخطايا والرذائل، ولن يطمره الغياب الطويل لبسيوني، والمال الوفير والذهب والكثير من المصاغ الذهبي الذي يمتلأ به صندوقها عن آخره، ذلك الصندوق المرصع بالصدف، و تخبئ مفتاحه في عنقها بسلسلة ذهبية، لا يعرف عنه أحد وإن تعاهد مع الجن، فلن يفشوا سره، لن يعصوا لها أمرًا، فهي التي تؤمّن لهم معيشة مليئة بألاعيب شيطانية... فركت كل جزء من جسدها بعطر الياسمين، ارتدت أجمل فساتينها وأكثرها جاذبية، الليل الطويل الذي غاب قمره وحمل رائحة الياسمين، لم يتعلم السهر بعد الوحدة التي لم تعرفها... جدران الحجرة الملتصقة بالبيت الكبير، والتي تغص جدرانها بالكثير من القوارير من مختلف الألوان، هذه الحجرة لم تعرف الوحدة التي تسهر مع ليل العاشقين، والكأس المر، لم تشأ أن تشربه وحدها، بل تريد أن تجرعه للحاج طاهر... مشت بخفة على رؤوس أصابعها والقمر أغمض طيفه عن النوافذ الزرقاء، ومرر فوق السلالم الخشبية شريطا رفيعا من نور أبيض، تضج به أغبرة الياسمين، حفظت خطواتها و اقتحمت عباءة الليل بعطرها الفواح، في حين أنّ الأجنحة الصغيرة التي بدأت بالتشقق ترصدها عينا كامل بدقة، الحشرة الحمراء التي تغطي جسدها بصدفة مبقعة باللون الأحمر، الدفتر ذي السلك المذهب، كانت صفحاته مليئةً بالسطور السوداء وقد رسمت خيوطًا متشابكة، هي لا تعرف القراءة، لا تعرف كيف ينمو الخط فوق السطور لتمتلئ به الصفحات البيضاء، مجرد خربشات لا غير... إنما هي سخرية القدر التي تمنح أمثال هؤلاء ما يريدون كما الحلقات البيضاء، التي سرعان ما تتلاشى من القارورة، التي تختنق فيها فقاقيعُ وأبخرةٌ هاربة، رائحة الأدخنة الرقيقة والفقاقيع التي تجمعت في فوهة القارورة وقد انسل البعض منها، ليشكل حلقة بيضاء تسير فوقها بعذوبة وخفة. لم يشعر بتلك العينين اللتين ارتسمتا فوق قارورته، حين دخلت حجرته البعيدة عن البيت الكبير في ملحق إضافي، غرفة صغيرة اختلفت بحشوتها عن باقي الغرف النظيفة، المليئة بالأثاث الفخم بعيدا عن القوارير الزجاجية التي تتحرك فيها الحشرات القذرة، التي لا تثير اشمئزازها وحسب بل حساسيتها، الضوء الخافت في الغرفة كان كافيًا، لأن يخفي الأخيلة المارقة أمام هذا الشاب المنشغل باكتشافاته، لم يعرف أن دخيلًا اقتحم خلوته الشرعية مع عشيقاته... الغريب قد تجاوز حدوده في كشف أسراره، وسقوط الأقلام الموضوعة في حزمةٍ بشريطٍ ملون على الأرض، ذلك الصوت الضعيف كان كافيًا، ليكون كأفعىً بخت سمها في كأس لذته وخمرته، ليثير اهتمامه، ليرفع رأسه فيسقط نظره على ذلك الجسد، الذي اخترق حاجز جدار الصمت الذي يعيش فيه... تعلقت عيناه بها... لأول مرة يرى حسناءً تسير حافية القدمين على بساط غرفته الرخامي، لم يتبينها حتى وقفت قبالته، قبالة الضوء الرفيع الذي يظهر جسدًا كامل الأنوثة، يمشي إليه على مهل، حتى جفت عيناه... لقد كانت خيرية... - اشتقت إليك، ألم تفعل؟ قالتها بغنج وهي تكوي جسده، تلامس جسده المفتول الذي غزته القشعريرة. مرت في جسده وأمامه... خيالات بسيوني... الحاج طاهر... صفية... وأمِّ الغيطان... الغضب... الخيانة... مفردات لا ترحم. دفعته إلى سريره كما جسدٍ هش... الخطيئة لها وجوه كثيرة، ناعمةٌ وطاهرة، لكنها لم تبتعد بعد عن كونها خطيئة. جلست إلى جانبه ومررت يديها الناعمتين على الشعرات الرقيقة النابتة على استحياء على صدره، احتبست الدماء في وجهه، وهي تهمس في أذنه: أحبك...ولن أعيش من دونك... أذاب الجليد المنتفض من السرير وهمّ إلى الباب، مضى ليتنفس الهواء...هواءً آخر أكثر طهارة.. عبرت الدهليز واختفت...وكأنما ابتلعها الليل... فتح رئتيه وحبس النسمات فيهما... أخذ يدور وهو يقلب بصره في السماء إلى الفضاء الرحب، حيث يمد القمر خيطه المنسل... أيقظه صوت الانفجار في غرفته والتي طوحت بدموع من الغيم الملبد، والذي أثقل أجنحة البعوض المنتشر في غرف البيت الكبير، أفاقت الجفون الناعسة، والطيور الوادعة فوق أشجار الجميز، انتفضت من الأغصان المتشابكة وقد نفضت عنها رداء الآمان... دفعته قدماه ثانيةً إلى حجرته، آمنًا على نفسه بيقظة الكون حوله، من تلك العاهرة، خوفه كان مشحونًا بفزعٍ من نوع آخر، عندما أضاءته الانفجارات من الحجرة التي تدافعت إليها الأجساد باحثةً عنه... - أ...ي...ن أين كامل...؟؟ صوت صفية مفزوعًا يأتيه، وهو يبحث عن صوره المسجونة وراء قضبان الخوف... الزجاج المهشم، السائل الأصفر والسوائل الأخرى امتزجت معا في لوحة جدارية لحجرته، والفقاقيع المتطايرة غابت مع الحلقات البيضاء ... -فما الذي سيفعله؟ -هل كان مجيء خيرية إليه حقيقةً أم ضربًا من خيالات تراءت إليه؟؟ -هل عليه أن يعلنها أم أن يكتمها وكأنَّ شيئًا لم يكن؟
-العدل أساس الملك. مازالت كلمات الشيخ محمد ترن في أذن الحاج طاهر؛ وهو يرمي شباك عينيه في البعيد ليحلق في سحابةٍ من دخان النرجيلة في فمه، عندما قام بزيارته قبل سنوات مضت... كم بعيدةً يراها وكأنّه يلتقط صداها من قاع بئرٍ عميقة ! ابتسامته أثارت شجون الشيخ محمد، لم يبتسم كان متجهمًا كسماءٍ تشرينية، يائسًا بائسًا، كان نذيرًا من سوء العاقبة... - ما هكذا تورد الإبل يا حاج طاهر... - ماذا تقصد... قالها وهو يسحب نفسًا طويلًا من النارجيلة... - إن كنت لا تعرف ما يفعله بسيوني، فعليك أن تعرف، لا يعفيك هذا من المسؤولية، بل ستكون ستكون... ستكون... - ماذا؟ - عاقبتها وخيمة، الظالمون جميعهم يعاقبون...ربنا في كتابه العزيز يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ ببِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا..."صدق الله العظيم
يرمي الحاج طاهر شباك عينيه في البعيد، ينفث دخان النارجيلة ويلقي بخرطومه إلى الأرض، كما لو أن نار جهنم قد مسته، لسعاتها تكويه... أخفتني...ماذا عندك؟- - بسيوني، لم يعد صغيرًا، أخطاء الصغر تغتفر، ولكن أخطاء الشباب وصمة عار...لم يعد يطاق...لقد تطاول على الكبير والصغير، لم يعد يرى أحدًا في وجهه، ليس هذا وحسب بل... تضيق عينا الحاج طاهر والخطوط الغائرة في وجهه تنبض بهمٍ كبير...حشرجةٌ في صوته تعلق بفسحةٍ صغيرةٍ من الأمل: بسيوني بسيوني عليك اللعنة. -إيذاؤه النساء ومعاكسته الفتيات، ونحن في أمِّ الغيطان...الشرف عندنا كلِّ حاجة...لسنا في المدينة يا حاج طاهر، الشرف هو ما نحاول أن نحارب من أجله، لا يمكن لأحد أن يدنس أرضنا. -ما الذي تقوله؟ كل هذا يحدث دون أن أعلم. - وها قد أعلمتك يا حاج طاهر، الفلاحون في أمِّ الغيطان، لن يطيقوا الظلم وإن فعلوا اليوم فلن يفعلوه غدًا. طافت الحيرة في نفس الحاج طاهر، وهو يلملم أشلاءه الممزقة، لم يكن يتوقع يومًا أن يأتي أحدهم على ذكر اسمه واسم عائلته: أخبرهم أن يمهلوني... - وعن أبي هريرة قال : بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث إذ جاء أعرابي فقال : متى الساعة ؟ قال : " إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة " . قال : كيف إضاعتها ؟ قال : " إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة." قالها وهو يهمُّ بالخروج، يلملم جلابيته ويغيب في البعيد ويترك الحاج طاهر في حيرةٍ، تفيق على كابوس وقد استعاذ من كابوسٍ ليبصر آخر. لتحلَّ خيرية سيدةً للدار، الأسابيع التي حمد الله بمفارقته لأمها الداية الشيطانة، ليبتلي بشيطانة أخرى... -لِم خرجت من باطن الأرض من جديد؟ هو لا يعلم، لقد ترك جميع فتيات أمِّ الغيطان وتزوجها تزوج جنية بهيئة امرأة؟ -أيييه يا حاج طاهر، لقد هنت وهان أمرك، ما الذي سيحدث بعد ذلك؟ لن يحتمل أكثر ولن تكون نهايته هكذا...
كامل الذي بقي منعزلاً مع حشراته، وقواريره، وأوراقه، وأقلامه، وبقي هاجس مجيئها إليه يراوده رغم إنكاره... الصيدلي إميل لم يتركه يومًا، كلَّ يومٍ يذهب إليه...بعد العودة من المدرسة، قبل ركوب السيارة مع صفية... الثلاثة شهور التي انقطع فيها، وفرت له معرفةَ خصائص الأدوية من المجلداتت التي منحه إياها الصيدلي إميل... علم الكيمياء وأسرار الحياة، لم يهو إميل القبطي أن يقيم علاقةً مع أحد بقدر حبه لعلم الكيمياء والكتب، حبه للفقراء وإشفاقه عليهم، فمنحهم الكثير من وقته، استطاع أن ينقلها إلى كامل الذي أحبه، وهو يراقبه من نافذة صفه المطلة على الطريق، الذي تربض على جانبه صيدلي إميل، حبُّ الفقراء الذي ورثه عن فاطمة التي لم يرها ولكنه سمع عنها الكثير... غياب كامل أقلقه، جعله يضرب أخماسًا بأسداس...
بسيوني الذي كبر كرشه واستدار، وامتد شارباه على صفحة وجهه السمراء، والمال الكثير الذي حمله لخيرية، تجارته راجت وانتشر اسمه في النواحي كلها، السلاح والحشيشة محرمتان في البيت الكبير لكن كيساً من الحشيشة لا يغرق المركب، بل سيصطاد الفأر، والعرس حينها عليه شهود وستتخلص من كامل بكل بساطة...
الفصل الرابع
إذا المرء أعيته المروءة ناشئا***فمطلبها كهلا عليه شديد... ابن الرومي
بسيوني
الأجساد الستة السوداء أتمت خروجها من الفوهة الصغيرة المغطاة بالصفيح، من ذلك النفق الذي يسير كدودة شريطية تحت الأرض، حيث ينكتم الصوت وينقطع المارق عن الوجود، وعن تلك الأقدام الكثيرة التي تحرس الطرقات... وقف ستتهم وهم ينفضون ما علق بهم من أغبرة، لم يكن في الغرفة الصغيرة متسع للبشر، وهي بالكاد تتسع لخمسة واقفين و تلفظ سادسهم، أكتافهم تحف بعضها البعض، والضوء العويل المنكسر من مصباح زيتي معلق، بجانب الجدار متوسطًا شقين رفيعين في الجدار الإسمنتي بمسمارين طويلين، قد ظهر عليهما الصدأ وتوشح الجدار باللون الأسود بلسان طويل، امتد إلى السقف، وأخيلة الواقفين تتمواج مع سراب السراج. لم يدر أيٌّ منهم متى يخرجون من هذا القبر؟! وكأنّما علم الواقف ما في بالهم...فجاءهم صوته رزينًا مقتضبًا: لم يحن الغروب بعد؟ كانوا واقفين وكأن على رؤوسهم الطير، يمدون أعناقهم إلى الأفق الموصد أمامهم، لم يعرفوا من الرائحة المكتومة رائحة النهار، ورائحة الليل كلاهما اختلاطا معا، ولم تعلق في تلك الشعرات النابزة من أنوفهم. - أتجاوزت الشمس كبد السماء؟ -أم ظل الهجير يرسم قببا بيضاء؟ أم هام ذئب الليل وبومه في ستاره؟- الوقت قد قارب من الغروب وقرص الشمس بأعينهم مازال في كبد السماء، ورائحة العرق تعبق أنوفهم، صمتهم كان كفيلًا بأن يمنحهم متسعًا من الوقت، لتحمل وقت إضافي من ساعات الوقوف متلاصقين، سيقانهم التي تتمدد فيها العروق الرقيقة كدالية زرقاء لم ينبض ألمها بعد، مازال أمامهم متسع من الوقت كي يصيبوا راحة مؤقتة، متذكرين ساعات سيرهم الطويلة منحنية ظهورهم، ورائحة الرطوبة كغشاوة ضبابية تضيق بها صدورهم، وهم يعبثون بنظرهم الضعيف في بيوت العناكب التي ظلت مشلولة الحركة وهي ترقب تحركاتهم. الحاج عبد الوهاب يمرر يده على شاربه الطويل، وقد تمددت فوق رأسه لفافة بيضاء ضخمة، تثير الاهتمام، أخيرا جزم أمره ليدخل هذا الشاب الغِّر من أمّ الغيطان، في إحدى عملياته، استجابة لرجاء ابنة أخته خيرية، رغم أنه لم يعرفها فقد كانت ملامحها الحادة الملونة تُغيّب الشبه بينها وبين أمها الداية، لم يحتمل دمعتها وآهاتها وهي تضرب بيديها على فخذيها برقصة منتظمة مع جسدها الممشوق... -نريد العيش بعيدًا عن الحرباية...يظنُّ نفسه شيئًا وهو لا شيء مجرد غبار يحتاج من ينفضه. تريد أن ينقلب حالهم أن يخرجوا للدنيا بعيدا عن الحاج طاهر، حين قدمت إليه وجلست تحكي ساعات عن الحاج طاهر وظلمه لبسيوني وإيثاره أخويه صفية وكامل... وهذيانه بفاطمة التي أكل الدود جسدها منذ زمن بعيد. تندب بؤسها وسوء حظها، فار دمه وحلف يمين... جسدها كما لو أنها تريد إخراج أفعى من السلة، وهي تضرب على رأسها وتستجديه بأن يكون معينا... لا تريد خراب بيتها بالفقر... أمسكت بتلابيبه وهو يهمُّ بإمساك البندقية... - لا بالله عليك يا خال لا تقتل أحدًا وترملني... لا، يمّا تعالي وساعديني. - أنا رقبتي لك يا ابنة أختي... أنا خالك، أنت من لحمي ودمي... أيًّا ما تريدين يكون بين يديك كما تشتهين! -أقعد وأنا احكي لك يا خال... جلس وهي تضع سرها في أذنه، لقد كانت حاجة قد تكلفه حياته، هو لا يحب أن يعرفه ولم يخبن ما فيه... في تجارة السلاح تُحمل الأكفان على راحة اليد، وتغدو حرب الرصاص مطرًا تشرينيًا مألوًفا فهناك لا يُعرف أحد، ومن يُزج به في السجون لن يجد له مكانا آخر، إلا إذا كانت لديه ما تفيض به الجيوب... النهايات لا يمكن التيقن منها، والنهاية السعيدة صعب إيجادها، ليست لعبة في الغيطان وليست كجمع القطن... المهربون لا يرحمون، أقل تعريف لهم أنهم لا يتورعون عن فعل شيء فقد يقتلون... وفي هذا القبر الأسمنتي قتلة تتلاصق ظهورهم مع المقاتلين...تحوم علامات الاستفهام في رأسه بين القاتل والمقاتل، كلاهما يحمل سلاحا، وكلاهما يسرق الأرواح، والأبرياء يقتلون من الاثنين حيث لا اعتراف بالهويات، لكنه ليس واحدا منهم، بدا غريبا بينهم، أوقعته خيرية في فوهة المدفع رغم رغبته في امتلاك الكثير، هويته هوية السلاح ومهمة القتل... بعينيه الضيقتين يرقب كل ما حوله، ويرقبه آخر دون أن يدري طيلة الطريق يقلب هذا المتطفل الذي سيحشر أنفه في كعكته. هل سيكون ذراعه اليمين؟ الشك يساوره... ربما سيستفيد منه، ولكن عليه أن يحافظ على سلامته، وبهذا سيثقل كاهله بفاتورة النجاة...ومن سيضمن نجاته، هو نفسه لا يعرف إن كان سيعود إلى بيته، وأولاده مكللًا بالنجاح. ما الذي يريده الحاج عبد الوهاب كما يُعرف؟، رغم أنه لم يحج ولم يتوجه للقبلة يوما، لكن فص الثوم الذي أراحه على جبينه أياما وليال، أثمر ليترك علامة السجود في وجهه، والتي وفرت عليه الكثير وقدمت له الكثير.. ما يريده أن يكون كلمح البصر في إتمام صفقته المعتادة، خمسون سلاحًا رشاشًا وذخيرةً، عددًا من القنابل، رأس الحربة اسم كبير على هذا الغرِّ، وهو برأيه أحمق و فارغ العقل، لا يدري لِم خيل إليه ذلك؟!، ربما من وصف خيرية له، وهي تتمايل كأفعى تتراقص من السلال. الشيخ فوزي ملك الصحراء، وبوصلتها الرملية، لا يحب الوجوه الجديدة، لا يحب اللعب في مصلحة العمل، لِم لا يكون مخبرا أو مندسا؟... أيٍّ كان هو لا يرتاح له، الشيخ فوزي أيضًا رغم أنه ملك الصحراء وإخطبوط السلاح، لا يعتبر نفسه تاجرًا، ولا يهوى إثارة الفوضى حوله، بل يريد أن يعيش بسلامٍ فوق صفقات السلاح... هو بنظره ليس تاجرًا، وليس مسلحًا، إنّما موردٌ للأسلحة، بالتأكيد هناك محركٌ له خارج اللعبة أكبر منه، وهناك أذرعٌ كثيرةٌ تدعمه ويهمها وجوده وبقاؤه حتى يأتوا بآخر ليحرقوا ورقته... الشيخ فوزي مجرد جزء صغير من شبكة المتنفذين المتورطين بقضايا التهريب، وربما جزءٌ ضئيلٌ جدًا، وانتشار حمى الأسلحة بكافة أنواعها... وتهريبها كفيلٌ بأن يحييَّ الموتى، ويبعث من في القبور، وهذه رغبة بسيوني أن يولد من جديد ببحرٍ من الأموال. عمليات الأمن المباغتة يعرفونها مسبقًا، هذا الذي كان يدور في بال عبد الوهاب، فقليلاً ما يصدفهم أو يعاني معاناة الهروب، ولكنّه لن ينسى المرة الوحيدة التي احتبس فيها أنفاسه تحت روث الأغنام يومًا كاملًا، وصفارات سيارة الأمن ووقع أقدامهم تمسح المنطقة... حتى اليوم لا يعرف لِم خطر بباله أن يختبئ هناك؟!، ولكنه حمد الله أنّه اختار هذا المكان الذي لم يفكر به أحد كي يبقى على قيد الحياة... رغم كل شيء كلٌّ منهم يحمل رغبةً في البقاء، والدخول في نفق الموت، والاتجار به لتُدَرَ عليهم أموالا كثيرة، وهي التي لا تدخل في دائرة مكافحة الفساد، بل في غسل الأموال، ربما استحوذ المتنفذون على منصة التسلح؟!. الكثير من ضرائب الحرية لا يستطيع دفعها سوى تجار السلاح، الذين يقدمونها للعصابات المقتتلة، سواءً بدافعٍ نبيل أم بغيره في الكثير من البلاد المجاورة... في لعبة الحروب لا يؤخذ النبل بعين الاعتبار... المرتزقة والجماعات غير الشرعية، التي تتاجر بالسلاح على أعلى المستويات، هم أيضًا متورطون في لعبة الفساد. التجارة السوداء، والصفقات المعقودة تحت الطاولات المستديرة للتفاوض، والأوراق الرابحة هي التي تنجو من النيران، مع الإجراءات الطويلة، والمماطلة في المفوضات بين المهربين والمقاومة، حيث يلتزم الطرفان بفقه الواقع... غزة تقاتل في العراء، وتحمل هم النجاة من فم الموت، ولا أحد يراهن على ورقة نجاتها الخاسرة، إلا هؤلاء المقاتلين... القصف الإسرائيلي المستمر لهم وتسوية بيوتهم بالأرض، مع الكثير من الدمار ورائحة الموت، جعل لهم بديلًا واحدًا، وهو اللجوء إلى التسلح الفردي... غير أنّها لم تملك الكثير لتقديمه، وتستثمر كل ما لديها من أجل أن تؤمن فرصةَ البقاء في ظل هذا الحصار المفروض عليهم كالطوق. كل هذا في الحقيقة لا يدور في بال بسيوني، كما كانت تمرُّ في أذهان الأربعة الباقيين... بسيوني الذي لأول مرةٍ يغادر أمَّ الغيطان، ولأول مرةٍ يبتعد كل هذه الكيلومترات التي قطعها بالسيارة، ثم راكبًا ثم ماشيًا ثم عابرًا الأنفاق التي لم يتصور وجودها يومًا. -ثم ماذا؟ -ما الذي سيبصره؟ -يا رب... قلبي لم يعد كافيًا لمن أحبها... فهي تعادل في الدنيا دنيا... ليكون في بلادٍ لم يعرفها، ولم يعلم عنها ما تبتلعه الرمال، أنَّها ضمن الخارطة السياسية التي تنتهي عنده بأمِّ الغيطان، حدودها وأبعادها المرصوفة بالحجارة السوداء، الأوتار الطويلة أو التي كان يظنها طويلة، هي التي كان يسيرها على الأقدام في الغيطان والمزارع، وعلى ظهر فرسٍ بيضاء شهباء أو عربةٍ يقودها حصانٌ مزركشٌ بعقدٍ من الجدائل الملونة، مشكوكٌ فيها قطعٌ من النقود المعدنية. عدُّ الأمتار ليس من هوايته، بقدر ما كان يفضل، بأن يرمي نظره إلى البعيد، فيرى كلَّ الأملاك التي لن تأكلها النيران حتى جاءت النيران, وأكلت أكبر محصول تجنيه، فيرى كل الأملاك التي وهبها طوعًا لنفسه رمادًا أمامه بما جمعه من بطونها، هذا الذي كان سيعول عليه كثيرًا وكذلك الحاج طاهر، لتكون معينًا على السنين النحسات، لن يستطيع البذخ وخيرية سيزداد عويلها وشرورها... تفكيره الطويل بهذا الانحسار للجزر، وتلك المكاسب التي ذهبت مع الريح أمنتها له خيرية ثانية، بأن عرضت عليه أن يعمل مع خالها عبد الوهاب، هذا الذي لا يتوقف عن التجشؤ، ولا يملك كرشا كبيرًا، إنّما تكويرةٌ بارزةٌ بعض الشيء، بانت إن انحسر عنه ثوبه بفعل الريح، وأسنانه الصفراء بينها الكثير من الفراغات السوداء. قبيلةٌ من الهزائم التي تسكنه والتي تنبت فيه روائح كريهة، ثرثرته ومبالغته في وصف نفسه، بأنّه الأفضل، المغامرات، المقامرات التي قام بها، ومنها كان فراره، هواجسٌ قدمها الحاج عبد الوهاب لبسيوني على طبقٍ من ذهب... تلك المطاردة التي قاووم بها الجيش المصري في سيناء، ولكنهم لم يستطيعوا القبض عليه، بل وسقط الكثير من أولئك الجند قتلًا بالرصاص، لم تغب هذه الحادثة عن باله، ويحلف بالله بأنَّ رائحة الروث مازالت عالقةً بجسده يشتمها كلما سكنت الريح. عبد الوهاب هو الصورة التي لا يبحث عنها بسيوني، فهو ليس مقتنعا به، يمرر أصابعه على لحيته التي بدأت ترتسم فوق صفحة وجهه السمراء، إن كان ما يقوله هذا الذي اسمه عبد الوهاب صحيحًا فلِم لم يُصب بسوء؟ وهيئته تنبأ أنّه ليس بطلاً؟.... الأسئلة الكثيرة التي تدور في باله، غابت عن هؤلاء الذين اعتادوا الإبحار في الدماء بقاربٍ من ورق، المقاومون بؤساء يظنون أنّهم حاملو قضية ولكنّهم في حقيقة الأمر، مشتركون بداء الإبادة... ثرثرة عبد الوهاب لا تعنيه، حتى حقيقة أولئك الجنود، الذين قتلتهم رصاصات المهربين التي يتمت أُسرًا يعولها هذا الجندي أو ذاك أو أيتامًا يعيلهم بعد وفاة أبويين... - أما كفاه بئر الفقر والعوز ينتشل منه لقيمات ليطعم الأفواه الكثير منها...!؟ قالها بجلافة المقاوم الأول. -من الظلم التباهي بقتلكم الجنود، هم يفعلون ما يأمرهم به واجبهم، هم يريدون العيش بسلام...قالها المقاوم الثاني بلهجة حادة، لم تعجب الحاج عبد الوهاب الذي توقف عن لوك المسواك في فمه، وتفل ما في فمه من بصاق، وأخذ يقلب وجه ذلك البائس الذي يحمل حياته وحياة الكثيرين على كفه... لم يعرف لم استوقفه حديث ذلك المقاوم الشرس الذي كان حريصا على لفِّ وجهه، لم يتذكر تفاصيله أو أيّا منها، ما تذكره صوته الحاد ودقات قلبه التي لم يسمعها رغم تعامد الجسدين معا... الحقيقة المجردة تضيع في الكثبان الرملية فلم يبحث عن ماء مهدور؟ لا يعنيه أيٌّ منها بقدر ما تعينه رغبته في تعلم هذه التجارة، والأهم من هذا كله إدرارها الربح عليه، وتعويضه الأموال الكثيرة، التي بإمكانه اللعب فيها وتكوين إمبراطورية جديدة، ليست كإمبراطورية طاهر، إمبراطوريةً من ورق. إمبراطوريته ستسيطر على البيت الكبير، وعلى تخوم أم الغيطان، وليذهب كل من يوالي الحاج طاهر إلى الجحيم... السؤال الذي يعلق في حلقه ولا يستطيع لفظه: لِم لم يحب يومًا الحاج طاهر، لِم لا يشعر بأنَّه...بأنَّه من صلبه؟؟؟ هواء الصحراء الحار يلفح الوجوه، وجوه أهل الصحراء مخمليةٌ سمراء، لها نكهةٌ أخرى لم يألفها رغم أنَّه يعيش في قاع الكون، وهم في قبته في مواجهة الشمس، والقبب البيضاء تمدُّ أسطرًا على امتداد الأفق، نوبةٌ من السعال انتابتهم، عندما تعرضت أجسادهم لحمى الحرِّ والخوف معًا من الخطوة القادمة... وحده من استمر معه السعال، في حين توقف عن الخمسة الآخرين، الذين يبدو أنّهم كانوا معتادين على هذه الظروف... الشمس الحارقة التي ترفل في ثوبها الأحمر، كانت لا تزال في قمة توهجها، رغم أنّها تنصت بصمت لأنين الليل... -الحمم في الصحراء المفتوحة تأتيك من كل مكان، ما عليك سوى الحذر. جاءه صوت المقاوم رخيمًا قاسيًا...وما لبث أن ابتعد ليسير مع صاحبه خطوةً بخطوة... بسيوني الذي تعلم للتو لغة الصحراء، بات متيمًا بها، خيطٌ رفيعٌ يربطه بهذه القماشة الصفراء، يتقلب فوق رمالها بعينيه ويبصر خباياها بقلبه، في الشفق الأحمر يرتحل فوق راحلةٍ لها أشفارٌ وسنام، يميل به الجمل يمنةً ويسرة، وهو يسير عبدًا لسادة الصحراء ولسلطان إرادته. إلى ما وراء الأفق مقدارٌ ضئيلٌ من المسير، والجمل يتهادى بمشيته فوق الرمال الذهبية... كم عليه ليغترف من الذهب الأصفر؟؟ كثبان من الرمال المرتحلة مع هبات الريح، تقتفي أثرها البيوت المتكدسة، فوق صفحتها الركيكة الكثير من الصفيح وبيوت الشعر، المتناثرة كحصىً سوداء بين البيوت الإسمنتية... على طول النظر يتلو ما بين السطور في عينيّ المقاوم السوداوين، ويفسرُّ ما يرنو إلى أذنيه من همهمات ولغة العيون والقليل من لغة الجسد، كأنّما تدربا على اللغة الصامتة التي تلتهمها الصحراء الحكيمة. ما تبقى من إنسٍ هائمٍ على وجهه مع القليل من رؤوس الأغنام، وما تبقى يتصيّد رزقه فوق رمالها... -لا يخطأ من توكل على الله...فهو يرزقه دون حساب-... الجن في بطنها يطفق في المسير، يقلبُّ الرمال باحثًا عن خوفٍ ما، حين تجفل الدواب تضطرب القلوب... -النزول عن الراحلة خيرٌ من البقاء فوقها. هذا ما صرح به صاحب الحاج عبد الوهاب، وهو يتمُّ لف ما انسدل من عمامته على صفحة وجهه... لم يسمع من أحدٍ تعليقًا مخالفًا فجميعهم لا يهوون ركوب الإبل... أقدامهم مازالت تغوص في الرمال المفككة... تنسل همهمات المقاوم لصاحبه إلى مسامع بسيوني المنصت عنوةً: بطنها من الجن، يقال: الصحراء تلدُّ الجن في الليل. ضربات قلبه لم يعد خافيًا على أحدٍ سماعُها كطبول الحرب... أعادها على مسامع الماشين ثانيةً الحاج عبد الوهاب، وبسيوني مغلقٌ عينيه، تدفعه بعيدًا عن اتصاله مع العالم المخيف حوله... -مالو الكرباج والمجذوب؟ مالها الفهلوة على الفلاحين؟. لقد فقد السيطرة وسط الأجساد التي ضاع ظلها في غياب الشمس. الحرقة التي أصابت عينيه، أدرك معها أن الشرايين و الخطوط الحمراء تنبض من عينيه الملتهبة... بسيوني لم يعد يعرف نفسه، أين ذلك الجبار الذي يبطش بكل من يراه؟ ولا يروقه أي شيء غير خيرية التي تعبُّ من دماءه... خوفه من الجن أبقاه صامتًا مرسلاً أذنيه لكل حفسةٍ، وقد راقته تلك البقعة الدموية التي بدأ الشحوب يلملم حمرتها. ثوانٍ وشبح الظلام أطبق بعواء ذئابه على بحرٍ أسود، لم يستقبلهم أحد، لم يشعر بشيءٍ من الألفة مع الرمال المفككة، والبيوت الممتدة على حافة من العالم، لم يكن ليعرف شيئًا لولا رغبته في المال، ربما هذه الرغبة هي التي تجعله يفكر في التحالف مع الشيطان... بل سيتزوج امرأة من الجان... -ما الذي يخشاه؟ -لم عساه يخشى الجان؟ -أليسوا أممًا أمثالهم وربما العكس؟ ما يدريه...؟! استعاذ بالله من الشيطان الرجيم وهو يمدُّ فكره إلى حيث لم يرمد أحد.. أن يسير في مثل هذه المتاهات، التي لا تجلب إليه سوى اللعنة ضربٌ من الجنون، استعاذ بالله في سره... - آه لو تدري خيرية عما يحدث له؟؟ وما ساور نفسه من حديث مع الجان... الهمس يُسمع في الصحراء، فابتلع لسانه وأخذ ينصت لهمسٍ من نوعٍ آخر، نعيق البوم وعواء الذئاب، ونباح الكلاب، والأفاعي، والرفوف، والمزامير التي تصدح بها الخيام البعيدة، وهالةٌ من الضوء تنبعث منها في قلب الصحراء... الأعين المختلسة غابت، ابتلعها الظلام وكأنّما وحوشٌ افترسها الدهيم ومضى... البيوت خلاء.... هجرها ساكنوها... إن كان لها ساكنون؟؟ -يومًا ما تحت قيظ الصحراء ستستيقظ العظام، وتحيط بموجة من الذهول، وتنازع الموت من جديد...لِمَ يخطر بباله هذا الخاطر؟ يمضي بحبل من الأفكار...يمرر بيده على جبينه حمىً تفترسه، ألهبت أنامله... سياطٌ لهيبها أوجع جسده، عندما غطت الغيوم هالةُ القمر... الخيمة الكبيرة التي ابتلعت الأجساد الستة، هوت بدفوفها، تقارع طقوس الظلام، وتهادن ريح الخوف... ما يريده أن يتقن لغة الصحراء، ولغة ناهبيها ليغترف من بئرهم ويرتوي، ولم يخطر بباله سوى أن يتعلق بالآمال الكثيرة، التي سيحملها لنفسه، ولخيرية ليفيق عليها... المطر هو الذي أفاق عليه في الضوء الأول من الفجر، لم يكن ذلك المطر الذي اعتاده في أمِّ الغيطان، حينما تتراكم السحب، وتعتصر لتتساقط منها حبات المطر هادئةً سلسة، تمتلئ منها الترع والغيطان والآبار، ويستحم الصغار وتغتسل النساء... والدواب تنبطح على ظهورها لتتقلب في الوحل الذي امتلأ بالروث، وفاحت رائحته ثم تنتفض لترشق ما اكتسى به جسدها من براغيث في الطين، ثم تغتسل من جديد بمياه السماء، ودموعها المنهمرة لتحييَّ الأرض الموات، وترتعش على أوتار حبها ونباتها، مراسم العرس المطري مبالغ فيها... لكن هذا المطر، لم يكن ليحمل سوى دويًا عاليًا وأجسادًا متراميةً، تسبح في بركةٍ من دماء امتصت الرمال لزوجتها، لم يكن ليعرف إلى أين يذهب؟!... غير أن عبد الوهاب لكزه في كتفه ليتبعه، لم يكن لديه الوقت الكافي ليفكر، ليعثر على أمواله التي كانت مرصوصةً في الحزام القماشي الذي يوثق به سرواله... لكنه انسحب دون أن يرتديه، دون أن يعثر عليه، ما تمكن من إيجاده سحبه على عجل، وهبط من دائرة الضوء إلى الدائرة المعتمة، وصور الروث ورائحته تقتحم أنفاسه، وهو يحبس ارتجاعه بشق الأنفس... انسحب بهدوءٍ مرسلاً ظلاً قصيرًا محدودبًا ليتوارى من بيتٍ لبيت، في البيووت المتلاصقة لا توجد قوانين ولا قواعد غير قانون الطبيعة. العيون السوداء التي تطلق أسهمها من وجوه ملثمة، معصوبةَ الشفاه لا تبين سوى شعلتين سوداويين من الوجوه السمراء، وكلٌّ منهم اعتاد بصمتها رؤية الأشباح الهاربة، والتي اعتادت مطر الرصاص... سكنوا كما سكنت البيوت والأجساد والصغار الذين ينفخون من الصمت قرابًا... كل شيءٍ هنا بالمجان... الموت هنا بالمجان... والحياة بالمجان... هزَّ الفنجان من القهوة عند إعادته لتلك اليد السمراء، التي أرسلت إليه نظرةً طويلة، لم يبن منها سوى العينين كانتا مختلفتين عما يحيط به من خوف، عينان تشعان بالحياة والأمل... معشقتان بالود... سمرةُ الوجوه تمدُّ طيبتها إلى البعيد... إلى أدراج سماوية... لم يعثروا على أقدامهم ليتسلقوها... ليلتمسوا رحمة السماء، لعلهم يروا وجه الحياة، بعيدا عن عين الخوف الممزوج بالفقر والخضوع... عينان تبصران نبض القلب، الذي يتحرك من مكانه على نبضات مشاعره، و يقبض عليها من مكانه ليتبعه بنظراته، غير أنَّ دويَّ الرصاص المنهمر كان يصل إليه من بعيد، حتى خالجه شعوره أنَّه في تلك العين الصغيرة للبندقية، التي تحمل جواز سفرٍ للموت... لبوابة جهنم... أغمض عينيه ونطق بالشهادتين...: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله... شعر ببرودةٍ تتغلغل إلى جسده. كم مرَّ عليه دون النطق بها، دون أن يسمع دقات قلبه، وتلك الرعشة التي سرت في جسده كوميض من كهرباء؟. عندما تحين الساعة تترفع النفس عن الخطايا، وتسعى الجباه لتسجد على الصفيح قبل توهجه... مذ متى يغير الخوف النفوس، وكأنّما يعيد عجنها من جديد ؟... يقال: إن أردت أن تغير من تحب فابدأ بنفسك...وأدخل معه في شرنقة الواحد والعشرين يومًا... ما قصة الأرقام الأحادية التي تسير معه بخط متوازٍ منذ قرر الولوج إلى عالم الجريمة... الجريمة التي يحنطها المجتمع، ويستبيحونها من وراء حجاب... ألف شريط وألف سؤال دار في فص رأسه الأيمن، فأثقل عليه الصداع، والتهبت مفاصله، والسائل الأصفر يمرر شريطًا رفيعًا في جسده... وكأنَّما يختم كتابه في تلك الساعة...وعماذا سيكتب؟ وهو ما كتب منذ أن نزل قطعةً من لحمٍ، وقد دبت الحياة في أوصاله... أهكذا ينهي جبروته أم أنّه مجرد جبان...؟ لم يكن ليتصور أنّه سينتهي هكذا بهذه السرعة، سيختتم حياته هنا مع هذا الذي يسمي نفسه العبد الوهاب... الذي قتلته أنفاسه كما قتلته رائحة عرقه... تلك الحقيقة التي سيصارحه بها... إن تسنى له العيش بعد هذه الدقائق القليلة، التي لم يستطع ابتلاعها... أي حكمة هذه التي ربض على جثتها ومضى يقتفي أثر وجوده التائه...العاق للطبيعة وللقدر؟ ابتلع نبضات قلبه الذي هبط لقدميه، وهو يلتف على جسده كأفعىً على غصن خرب...وهو يرى خروجها كلمح البصر... كنسمةٍ ربيعيةٍ باردةٍ نبتت من أحشاء الشوك... كلفحةٍ صحراويةٍ حارقة... مرورها المتعجل من أمامهم كشبحٍ قد آثر الولوج إلى النور الضئيل... تسارعت نبضات قلبه... ازداد تخشب مفاصله، لم يستطع فك معانقته لنفسه...وهو يسمع صراخها واضحًا كما هو وقع المطر... تتسابق سيقانها المغروزتان في الرمال، ووقع صراخها كدويٍّ هشٍ تحت مطر الموت... - المطاردون مروا من هنا... من هنا...هوت كلماتها بلهجة لم يفهمها، لكنها كانت كافيةً لأن تجعلهم يسيرون إلى الهاوية... أيُّ حمق هذا الذي ينوء من ثقله ويهوي به إلى جهنم؟! فرارهم ... عيونها... كحل قهوتهم... فنجان عمره المهتز على أجنحة الإخفاق... هاهم يساقون هكذا إليهم... لم تكن قدماه لتحملاه... هذا... هذا الشيء الذي لا يشك فيه، والذي يؤمن بعدم قدرته فعليًا عن الإنجاب من جديد... - وهل أنجبت خيرية من قبل؟ -وهل كان هناك طفلٌ من قبل، يحمله ويكاغي له؟ مؤلمٌ حقًا أن تلمس الجرح بعد كيه، فالكي نفسه عذاب، ونصيبه هذا، ولكنه يهون إذا كان له أمل في أن يعيش... الكؤوس قد ضربت في الهواء، وهي تمتلئ بالشاي العجمي، أجسادهم متوكئةٌ الراحة، بعد ساعاتٍ من العودة في النفق الطويل... النفق الذي أُنير بأنوار الأمل المنبعث من صدورهم، ها قد بُثت الروح فيهم من جديد... الليل قد أرخى سدله... وهم يطفئون النار، وقد رشفوا الكؤوس، وعلامات السرور على وجوه ثلاثتهم، لم يعرف أيٌّ منهم ما حدث؟... كل منّهم مدَّ تفكيره لفعل تلك الفتاة ذات العينين القتالة... -هل كانت معتادةً على ذلك؟ -هل كان سهم الحب الذي أوقدَته في قلبه ومضى؟ -أكان ذلك وكرًا وكان هذا دورها؟ -أسئلةٌ كثيرةٌ مرت في باله، و الصداع الشديد عصف في رأسه... لملم أنَّةً في البعيد، و قد انطفأت آخرُ جذوةٍ للنار، وقد هدأت طقطقةُ الحطب... النوق تنتظر، الحاج عبد الوهاب ومساعده سليمان... ثلاثة أخيلة حملتها النوق وسارت تتهادى في البعيد، والخرج على الجانبين مليء بالسلاح... السماء الرمادية والألسنة السوداء الهاربة من الحطام، ينتظر أصحابها سلاحهم، بنادقهم، والصغار يجمعون الرصاص الفارغ بأكياس ألعابهم يحصون فيها عدد القتلى... الأسلحة التي تنتظر شاريها، كنز قد وقع عليه بسيوني وامتلأت به جيبه، سيشتري كل شيء أملاك طاهر والبيت الكبير ويطردهم من كل شيء كما تنسل الشعرة من العجين... ساعتان كانت كفيلة بعودة المقاومين هم أيضا محملين بالأسلحة والعتاد رغم العدد القليل... ما معهم لم يكف لذخيرة بمعنى ذخيرة... الحيرة تملكته وهو يرقب انتهاء الصفقة واستلامهم للأسلحة من الشيخ وهدان... ربما كانت صدفة أن يختزل الرصاص كل ما معهم، أموالهم التي نهبت في رقصة الخوف... لن يمرَّ الأمر بحسن النية... -لِم مضَ الجنود دون أن ينظروا إليهم؟ -هل حقًا هم من الجنود...أم هي مكيدةُ الشيخ فوزي ليستولي على ما معهم ثم يهبهم القليل ؟؟ - لا بد أن هذا ما حدث... -وما يدريه أن عبد الوهاب ومساعده الذي لم يره حين دخلوا إلى خيمة الشيخ، وغاب مع جن الصحراء... -لم يدر أكان عليه أن يشفق عليهم أم على نفسه...لكن مهما يكن لقد كسب شيئًا ما ... مقابل ما معه.. متاهةُ المشاعر تستولي عليه، على ما تبقى من رحلته، وتلك الفتاة مازالت حاضرةً تعنُّ على باله يهيم معها، ولا يقطع تلك الذكريات الجميلة أيّ شيءٍ حتى خيرية... المهمة المستحيلة انقضت والأيام المتوالية في التجارة كذلك، أصبحت أكثر سهولة والتلصص على ذات الخمار غدا أكثر لذة... ما الذي تغير فيه هنا؟ تلمس نفسه لم يجد أيّ فرق، غير أنّ نبضاتٍ جديدةٍ دارت رحاها في روحه... وسط الرمال المفككة والكثبان المترامية... قبب السماء البيضاء والهجير... بسيوني اكتشف أخيرًا معنى الحب الذي يعيشه هنا، وليس الذي كان هناك لونه، ولذته، لها طعمٌ مختلف مع ذات الخمار... الأموال التي بدأت تتدفق بين يدي خيرية، جعلتها تغض النظر عن السرحان، الذي يغط به بسيوني وغفلته عن مداعبتها والتحرش بها... أغفلت الغياب الموحش له، الذي لم تظهر عليه بعد اليوم آثار الوحشة والخوف، بل كانت أكثر شراسةً وضراوة... عندما تختلط المشاعر ما بين الجشع والغضب والكراهية والرغبة والسلطة... يصبح التعايش وفق معايير، يتفق عليها الأطراف وديًا... دون أي لفظ أو أوراق، بحكم العادة يصبح تطبيقها ضمن موافقة ضمنية... وهذا الذي لم يستطع بسيوني نسيانه... الفتاة الملقاة إلى السرير تنتظره، كلما هاجت نفسه إليها واشتياقه للصحراء وللفحة نيرانها، التي ولدت بعد زمن... لم ينته اشتياقه بقدر ما أنّه قد بدأ للتو... هو يريد نهايةً واضحة، وعليه أن يختار طريقه، تبقى خيرية واحدة من خياراته، ولكنها ليست خياره المطلق، لم يعد اللعب بالأوراق مريحًا بعد اليوم...
الفصل الخامس
قالوا سكتَّ وقد خوصمتَ قلت لهم … إِن الجوابَ لبابِ الشرِّ مفتاحُ والصمتُ عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرفٌ … وفيه أيضاً لصونِ العرض إِصلاحُ أما ترى الأسدَ وهي صامتةٌ ؟ … والكلبُ يحُسى لعَمْري وهو نباح الشافعي
كامل وصفية
السماء الحزينة الملبدة بالغيم كما هو عالمه في الطب والدواء والبحث في علم الطبيعة، غير أن هذا العالم لم يكن ليعجب خيرية التي اتخمت جيوب بعض الولدان في أمِّ الغيطان، والذين يقارب سنهم سنه، للعبث معه واستمالته إلى طريقهم، ربما تتغير طباعه، لكن كامل عملةٌ صعبة يصعب فهمها... هي لا تريد ناسكًا في صومعة... أسوارٌ قائمةٌ بينهما... لا تدري لِم ومما تكونت ونبتت؟... عرق الأيام قد مضى من غير رجعة، وبسيوني يمتلئ كرشه بالمال، وصفية تروح وتجيء تثير جنونها... الحاج طاهر ولت أيامه... حقيقةٌ لا يختلف عليها أيٌّ ممن يعيش تحت سقف أمِّ الغيطان، كما السماء التي لم يأن أوان انقشاع غيومها بعد... صورة مسعود وحنفي مدير المصنع المرتعشة، تقلب عليه الساعات التي ضرب فيها على قفاه، وقد جعلاه أحمقًا... أشترى مسعود المصنع والضحكة المجلجلة كانت ترن في مكتبه ذي اللون البني، وأثاثه الجلدي، والمزهرية الزجاجية التي تمدُّ أزهارها الحمراء أعناقها إلى حيث يغيب عن مشهد الخيانة، وقد بدت تلك الصور التي تربعت على جدرانه لأمِّ الغيطان، وزهرة القطن البيضاء باهتةً كئيبة. كلُّ ما له من آمالٍ في المدينة، قد خسرها وجُعلت في خزائن الخائنين...صادر الزمن منه كلَّ شيء، و نهب منه حفنة الذكريات... ويبقى ذلك الحلم الذي كبر وفاطمة... قد عاد وإياها إلى قبر الدنيا...ليته مضى وإياها منذ زمن، وما بقي ليرى نهايته... ها قد عاد خالي الوفاض إلى أمِّ الغيطان التي منحها الكثير، ولكنها لم تستطع منحه إلا الحق بسخاء... الحق من وجهة نظرهم، وهو ذاته الخذلان الذي لا يرى سواه في كل الوجوه وتقاسيم الزمان والمكان.. آن أوان عودته، ها قد حانت نهايته... دقات قلبه المستلقية على ظهرها، لم تستطع المضي قدماً مع الجسد الذي هزل فجأةً، قد استطال أمامه المدى، وتقلصت كل الآفاق، وبقي يجري وراء الوهم الذي لم يعد بوسعه اللحاق به... ولم يعد يملك شباكه ليصطاد بها... النعيم الذي أراد أن يورثه لأولاده قد ولىّ إلى البعيد، وبساطه الطائر قد حلق إلى سماء غير سماءه، كلُّ الجوانب المضيئة في حياته آن لها أن تخلد إلى سباتٍ عميق، وليلٍ دهيمٍ صامت ... بلا نبض... بلا همس... بلا سريان لدمه الجامد في شراينه... كامل وصفية بلا مأوى... بالكاد عليه أن يسرع إلى أم الغيطان التي تنازعه في أمره ولا يقوى على شيء... أيمهله العمر ليتم ما سعى إليه؟- لِم لم تقدر المقادير بؤسها قبل هذا اليوم؟- -لِم تقسط الهموم كي يتمكن من الوقوف على ساقين من خيزران أو من أعواد أعجاز نخلٍ خاوية أو خشبٍ مسندة؟ قلبه الذي بات يتنفس من محيط مليء بالأوبئة، لم يعد قادرًا على استئناف دفع الفواتير الباهظة... -هل ستكون نهايته ويُبقي على ذكراه دموعًا محنطة؟ ما وافق البنك عليه هو ثلاثة أيام، كي يجمع ثمن السداد، ثمن ما عليه من فواتير مؤجلة... الشجرة عندما تهرم تمتنع عنها السحب، و تنحبس عنها الأمطار، وتقصف أوراقها، وتنكسر أغصانها، وتنفصل تلك القشرة التي تغطي الساق عن لحائها، فينكشف ما في داخلها، وتصبح أكثر عرضة للأمراض، والانهيار الذي لم يكن في الحقيقة قد بدأ بالفعل هذا اليوم... بل منذ أمد بعيد... مع أول ساعات النهار... كان يهبط من سيارته، ربما سيكون الوداع الأخير، جلس يرقب البزوغ، وآخر إظلالةٍ للبساتين وحقول القطن، وأشجار الجميز، والأملاك تطلُّ برأسها النحيل بين أوراق حظه، التي بدأت بالانحسار عن مدى بصره حتى وقفت عند قدميه، في دائرته الواقفة عندها أعمدة القسوة التي أفنى عمره على جمعها، بتعبه وعرقه زرعها بذرةً بذرة... هاهنا بين أنامل الكون وسياط القدر، كلُّ الطرقات طويلة... وكلُّ الوجوه معتمة... حتى وجه الصباح أُجهضت أحلامه... نهض من عتبة الطرد معتمًا ذا رائحةٍ مليئةٍ بالوجوم... الأوراق المرتبة أمامه، والتي تزخر بالأرقام، لم يعد مقتنعا بها، ما كان يفعله طيلة السنوات الماضية في الحقيقة، يستثمره للآخرين... جمعه لهم...و منحهم إياه على طبقٍ من ذهب... ما جمعه بسخاء أفقده صفية وكامل...
عندما ناولتهما خيرية رزمة من النقود، ووعدتهما بالكثير إن عملا ما تريده وقد أخفقت أمام هذا الصبي مرتين، عندما لم تستطع إغواءه، وعندما فشل هذان الأحمقان في استمالته، لكن -العيار الذي لا يصيب يدوش-. الرجال يسيل لعابهم من لفظ امرأةٍ ذات جمال، فلِم لم تنزع قلبه؟ لم تُسل لعابه؟ لقد نجح في الهروب من قبضتها... هرب من الخطيئة وهي تنظر إليه من بين الجموع، التي وقفت تحوقل وتندب كامل حتى ظهر واحتضنته صفية، وغابت عيناها بعيدًا عن عينيه لكنها ستكيل له الصاع صاعين، ستحرق قلب طاهر... لم تكن لتطيق وجوده على عرش مملكة أصبحت في ملكيتها، وصاحبة اليد الطولى فيها، وبخاصة مع السطوة التي كان يفرضها بسيوني، على الأجساد المزروعة في حقول القطن أمِّ الغيطان. ولكن حقد الفلاحين كان يتزايد، لم يكن يروق لأحد أن يعيش ذليلاً من أجل لقمة العيش... فليكن ما يكن، وليمضي البؤس إلى البعيد... العدالة التي لا يمكن أن يكون لها وجه آخر... يجب أن تكون لها وجوه. تسللت إلى غرفته ثانيةً، وضعت كيس الحشيش، خبأته بين قواريره، ألقت نظرة الوداع على هذا الشاب الذي سيحرق قلب طاهر بفراقه، أطلقت ضحكةً طويلةً ثم خرجت، وهي تشرح صدرها لنهايةٍ سعيدة... وهي تغني.... - إلي في بالي وبحبو... السائق شلبي لم يكن هناك مجهود لتتبدل سريرته، المال يكفي لأن يشتري الذمم، الشر عنده موجود لن يحتاج وقتاً ليبذره في داخله، يرتديه معطفًا آخر، وينتقل من منبر الأخلاق لتطيح به إلى جحيم الباطل... أسهل ما يكون شراء الذمم، وهذا بالضبط ما تحتاجه من المحاولة الأولى، والعرض الأول لم يكن بعيداً عمّا تعرفه عن النفوس الخسيسة، وهو لم يبد اندهاشًا لما ستقوم به...و لما سيقوم به.... وبما اشترت ذمته من أجله... ما كان يشده، هو رائحة المال... الجمال... فماذا لو كان هو في حضرة المال والجمال معاً؟ جعل يشتم رائحة عطرها، الذي عشش في دماغه وخمر... كيف وهي تدس يدها إلى صدرها، لتخرج الأوراق الخضراء... مضى وهي تدير جسدها... فتنتزعه عيناه من جسدها الغض وألف رغبةً فيه... وهي تقول بخنج: ابعد عينك عني... خرج وهو مازال يصيد بنظره الجاف ما تبقى من ظلال... ثم يستدير... مفزوعًا ليرجع قدمين وهو يرى المجذوب، يقف في وجهه... يهمر بصوت أشبه بقطٍ شرس: أبو رجلة مسلوخة في راسي...عامل سوسة... يضربه ويزيحه عن وجهه، وهو يسير متحاشيًاً النظر وراءه وهو يستعيذ من الفأل السيئ، لكنه كان مصممًاً على اعتراض طريقه، حتى انسحب راكبًا السيارة، تاركًاً المجذوب محتجبًاً بغبارها... صوته الغارق بالغبار يأتي غريقاً: ربنا يستر... ربنا يستر...
صفية التي عادت من مدرستها كما اعتادت ركوب السيارة، و كامل الذي غاب مع أصحابه هذا اليوم، وأخبرها بأنّه سيتأخر... ليس من عادته، هي تخشى عليه... لم تعتده يفعل ذلك. صديقه إيميل... وأين هم منه؟ -ما الذي فعلوه ليلعبوا بعقله؟! ضيقٌ يصمُّ صدرها، يقتلعه ويجعله تحت قدميها على صوت السائق شلبي البارد، وعينيه اللتين تخبران قصةً طويلةً، أولها الجبن ونهايتها الجبن... لم يطل نظرها إلى الوراء من الزجاج، وهي تتبع كامل، يغيب ضاحكًا مع أصحابه، وفي عقلها ألف سؤال وسؤال... لكن انقباض قلبها يجعلها تفكر جليًا بالذي سيحدث، خاطرٌ مرَّ في بالها لم تعرف أصله... صفية تطيلُ النظر في خطوات كامل المترنحة، ينقبض قلبها، ونظراتها تنحسر عنه شيئًا فشيئًا. إيميل يتبعه بنظره، والبيوت البعيدة تُغيّبُ الأخيلة الثلاثة، شق في خيط الأفق ابتلعهم، الحاجز البشري حال دون رؤيتهم، والتقمهم المجهول. ابتعدت بها السيارة وعيناه تتوعدانها بالكثير، لم تدرِّ أين تذهب بعينيها، وهو يقتحم وحدتها حتى هدأت عجلات السيارة، توقفت في طريق النخيل، حيث تتكاثف وتتشابك في الطريق الجانبية، تنظر بخوف وحيرة... تسأله بقوة: لم أتيت بي إلى هنا ما الذي يريده شيطانك؟؟ يصمت، ويغيب في سحابة سيجارةٍ علقها في فمه، وقد أطلق نفسًا طويلًا، أفاقت على كحتها وجزعها، تغيب صيحاتها في دخان سيجارته، الكحة تطيل بقائها في صدرها، لم تعِ شيئًا إلا أنّ يدًا أمسكت تنورتها الكحلية، انكمشت وهي تشدها إليها في المقعد الخلفي، استنجادها المختنق غاب في سيجارته، والغريب يقتحم خلوتها، فتحت الباب بيدها المرتعشة، وقد أطلقت سيقانها للهواء، للغياب بين الأشجار بعيدا عن السيارة، التي كانت للتو مأمنها، أخذت تتطاير كورقة خريفية، فقدت رونقها والعرق البارد يتصبب فوق قلبها ليختزلها إلى جسد خواء. ليت الأرض تنشق وتبتلعها، وهي تقبض على قلبها وأنفاسها اللاهثة شجيّةٌ، وشبحه خلفها، تنحني خلف السراب، وتستظل بالغمام، كم مشت؟ كم بقي عليها من ضوء النهار وهي تعبر أم الغيطان؟... -أن يعلنها أم يخمدها بسلم كل ذكرى لقطع يده عن مساعدة صفية، أمرٌ لا يمكنه الجزم فيه رغم انهياره كان هناك منفذ بأنه الحاج طاهر، لكنّه شلَّ تماماً عن الحركة... لم يدر كيف حدث ذلك؟ لكنه حدث؟ نعم، حدث في ذلك الخميس البارد الذي لم تخرج فيه شمس، ولم تمطره سماء، سماؤه جامدةٌ وأرضه ميتةٌ كالمقابر... حتى المقابر ملها ساكنوها، فاشبعوا الليل بالأنين وبالهمهمات التي كانت تأتي منها، هناك كانت المشاعل تسير، والأخيلة البيضاء تلوح للمنتظرين بدنو آجالهم، كان الأمر مرعبًا، لكنّه بقي مسليًا للوهم.... وأرحم من هذا الجشع الذي ربي في بيته، ونفث أنفاسه الخبيثة في كلِّ شيء، جاء ذلك اليوم وهو يطلق خواراً... وهو حاملٌ لبندقيته المحشوة على الدوام... لم يكن ليعلم شيء غير مجيء أبي المعاطي الذي أتاه على وجه السرعة، وهو في دوار العمدة يحاسبونه على ما يجري في أمّ الغيطان على يدي بسيوني وخيرية... -الكلام الذي تنطق به لا يرضي ربنا...قالها العمدة وهو يفرك بيده عصاه ويضربها بالأرض... لم يكن ليجرؤ هو أو غيره من الجالسين على أن يرفع عينه بالحاج طاهر، لقد أساء بسيوني كثيرًا، ولن يسامحه أحد... -الكد والتعب والشقاء ينهب أجسادنا ويلتهمنا في الغيطان من غير أن نأخد أُجرتنا، وما يسدُّ جوعنا...ما نطلبه هو حقنا... حقنا فقط. -ابعد يا حاج طاهر خيرية عن بيوتنا وبناتنا واجعل عارها على نفسها ...ربنا لا يرضى بالعهر والفجور...فليكن سخطه عليها إنما نحن بريئون... كلام كثير سقط عند أُذني الحاج طاهر ولم يستطع الإجابة عليه... الدوامة التي كانت تعصف به أخرجه منها أبو المعاطي، لتعصف به أخرى في البيت الكبير... عندما عاد متعجلاً إلى بيته، وقد اشتعلت المشاعل حوله، وأوصدت أسواره بالرجال والبنادق وكان صوته كالهدير... قالها بسيوني بشراسة: صفية ملعونة ما تريد سوى السوء والبلاء و تلويث سمعتنا بالطين، يجب تزويجها لأيّ كان... كان وقع ذلك كالصاعقة... صفية الصغيرة ذات الجديلة التي تشبه فاطمة وجمالها، لولا تلك الندبة على وجهها، أصبحت بنظر الخسيس بلا شرف.
أغمض كامل عينيه ليطيح بذلك الكابوس الذي يتمنى ألا يكون حقيقة... لكنها لدغته في تلك اللحظة في يده... وبالكاد استطاع أن يتمكن من السيطرة على جلوسه في مكانه...دراسته علم الكيمياء، واختياره علم القوارير والمعادلات الكيميائية يعني الهدوء والاسترخاء وجسدًا ميتًا...وأعصابًا موضوعةً في غرفة التبريد... صوتها جاء باردًا، والملح المتدفق من خلاياه يحرق ما تبقى من ذاكرة مؤقتة ...باردا كما هي دروسه في علم الحذر، باردا لدرجة أنه يُذهله عن العالم من حوله ... يقطرها قطرة قطرة...ليستقي منه تطهير الكائن الحيّ من جذوره في الحياة... سره في الحياة بقي مجهولًا، وعناصر تكوينه هي ما يستطيع تجريدها منه ومع كل ذلك بقي... وبقي وقع حديثها مجردًا له من حقه بالاحتفاظ بسره اللعين... لم يعرف حتى هذه اللحظة كيف قدر له أن يكون باحثًا عن حظ عاثر... كان يمكنه أن يقرأ الكثير من الكلام الفارغ في عامود الأبراج في صحيفة ما، ولكنه رفض أن يكون متعلقا بالقشور التي تكتفي بسلسلة من المغريات، تجعله مرتبطا بعالم منحط... البحث عن شغف دنيوي، والبحث عن الغيب، ومعادلة النجاح أو الفشل في المستقبل...كلها مبهمات كالساعي إلى السراب... عليه أن يعيش حاضره ...دون أن يعيقه ماضي أولاد طاهر... أو مستقبل يتعلق بآمال مجنونة... لكنّه اتخذ قراره اختطف خطوطه من القدر وهرب...نعم الهروب يا فريدة هو الحل... بقي يركض ويركض يخترق أجسادًا كالتماثيل، وأحلامًا قد خلت منها الطرقات، وابتُلعت البيوت المتناثرة كعلب صنعت من الطين والقش، وسماء قد حفظت الحبر الأسود... حيث يستحيل أن يتوقف، وهو ينهب طرق النجاة المسقوفة مع السماء المظلمة... عليه ألا يتوقف... رغم أن صوت بسيوني يأتيه كالوحش وقد كشر عن أنيابه ... -عن أي حشيشة يبحث...؟ -و أيُّ صندوق هو سارقه من عاهرته؟ ولو كان ذهب الدنيا ما فطن إليه. أي صورة تليق بك أكثر يا فحل الجبروت؟ يا بغل العاهرة؟ خيرية تسمعه قهقتها من خلف الجدران وتقتحم خلوته وتلقي بمصاغها بين يديه وتسقط جسدًا دنيئًا يكبله فلا يستطيع الفرار... ما لم تبصره يا بسيوني أنّي بريء منها... هي من قدت قميصي من الخلف ... هي من غلّقت أبواب الدنيا وراودته عن نفسه فاستعصم... لم لا تصدق كامل؟؟ أخوك الصغير الذي ربيت وإياه في البيت الكبير منذ أن ماتت فاطمة ... ألا تعرفها أم تنكرني؟؟ وتستل البندقية من جدار الهزيمة... ويهزمك رصاصها الملعون وأنت تعمر بيت النار ... أين أنت يا بسيوني...؟؟ كامل قد حقت نهايته في كتاب أنت كاتبه... فلِم تتبعني كالمجنون.. لم أمسسك بسوء ... أقسم لك... والليل ألتهم القسم والتهمه والتهم كلَّ شيء... لم يبق سوى الخوف، والجمود، ونعيق البوم، وصوت البندقية، والرصاصات التي تشق الصمت المطبق، والأضواء الزرقاء والحمراء... وكلّ المآسي للحاج طاهر وصفية... ليلتقمه الحوت... ليبتلعه القدر ويُسقطه الشهيق... وليبتلع صوتي الجحيم يا بسيوني... لن أتوقف... لن أتوقف عن الجري... كثبان من رمال سوداء تتمثل أمامه... وشبح خيرية، يذرع الطريق بناره... دعيني... أقسم أني سأقتلك... سأقتلك يومًا... فلا تدعي الموت يأخذك من بين يدي... يا الله...
الفصل السادس
أنا الغريق فما خوفي من البلل؟ المتنبي
ما قبل النهاية
عندما تمطر السماء ذهبا فلن تفيق الأرصفة إلا على وقع الرنين، هذا الذي لم يحدث في تلك العصارى القاتمة، التي لم يكن بينها وبين الجدران الرمادية أي حاجز، بل كانت تتلاقى معًا بسلاسة، عندما حلت عليهم كموج يتلقفهم وهم لا يستطيعون التوثب، وهذا الذي ذهلت سماء الحاج طاهر عنه، وقد انسحب البساط من تحته، وبقي يصفع الذباب أمام وجهه. سقوطه هذه المرة لن يعني له قيامة أخرى، رغم أن ساقيه تحملانه وقد تحملانه لكنه لا يريد... ما يريده بالفعل أن يعتزل الناس... والوجوه القميئة...في أن يبقى وحيدًا، منزويًا في إحدى غرف البيت الكبير، غير غرفته، لا بأس... علها الجدران من تبكيه ويبكيها...و كلها مع ذلك تبقى جدرانًا. لن يمنعه أيُّ شيء عن ذكرياته مع فاطمة، حتى لو جردوه من كل ما يملك، فاطمة سجنه ومعها مفتاحه، وهو السجين... كامل ها قد انسحب ظله ميتًا حيًا!؟ هو لا يدري، لكن قلبه يخبره أنّه على قيد الحياة. تلك البندقية التي لهثت خلفه في عتمة الليل لم تصبه، ورجال الأمن الذين تراكمت أجسادهم حول البيت الكبير لم يستطيعوا إمساكه، لقد فرَّ... فرَّ إلى البعيد، وهو كذلك انسلخ ظله ليواري ابنه في البعيد، لا يدري ما قرأ من آيات الله؟ لكنه قرأها عن ظهر قلب. خيرية ارتدت ثوب الحداد مبكرًا، وغسلت البيت الكبير برائحة الموت، لكن الحاج طاهر لم يسلم روحه إلى ملك الموت بعد، رغم إيمانه بجدوى حراكه متقلصًا على نفسه. رائحة البول في المبولة أصبحت لا تطاق، وأبو المعاطي يحملها بأطراف أصابعه، ليواري سوءة الحاج طاهر، وصفية تمرُّ بخيالها على الجدران، على عجل يرسل يده للحاق بها فتنسل من بين أصابعه. -وي وكأنه كابوس يخنقني ويخنق صفية ... صفية ذابت بلا رجعة؟ - صفية هربت يا حاج طاهر... ينصت أبو المعاطي لنبضات قلبه التي هوت مع الحروف، والدمع انهمر في جوف نفسه... - لا، صفية هنا بين شباك الروح المعقود بناصيتها الأمل، ستأتي أنا أنتظرها، هي قالت: إنها ستعود لن تتأخر. -لا حول ولا قوة إلا بالله، هات يدك يا حاج لأُريك نور النهار وتعاود لك روحك. ويتستر ظله بظل شجرة الجميز ويشمُّ ريح صفية، هنا كانت تلعب... هنا كانت تجدل جديلتها، وترسل رسائل إلى السماء، أشجار الجميز شاخت هي الأخرى، والأعشاش لم تفقس بيوضها والثعابين ملأتها ببيوضها... فلا يسمع نواح ولا أغاريد الطيور... تغيب في سحابة الصرخات، حيث ذهبت صفية وكامل ولم يعودا، مرَّ الشريط سريعًا في ذاكرته، تذوب شيخوخته ويذرف الدمع وهو يئن... آن الأوان لقد انتصرت خيرية، خيرية التي رقصت ليلها، وصوت خلخالها تسمعه كل بيوت أم الغيطان حتى الفجر، رغم غضب بسيوني وجموده، ولكنها أرخت جسدها فوقه، وغاب عن مصير صفية، ليلتها ماتت، ليلتها تزوجت، ليلتها هربت قبل ليلتها، وانتعلت سخط الغياب وعويله. - لقد التقمها الحوت... همست في أذنه... وهي كذلك، الصبيان يقفان في ظلة الخلفية للبيت الكبير، ينتظران ذلك الجسد المتمايل، ورائحة الأنوثة، يمسح أحدهما على شاربيه، والآخر يُسيّل زغبًا أبيض من فمه، تضرب على صدرها... وتلوح بيدها... -وتظنون بأنفسكم أنكم رجال يا أشباه الرجال... ثم تضربهما على صدريهما، وتشدهما إليها... - اجعل عينك أنت وهو في الطين، وإياكما من رفعها، أنا خيرية، أتعرفون من؟ خيرية... سأواريكم التراب وأرقص على قبريكما حافية القدمين... يعيدان ترتيب ملابسهما... - لا يا ست خيرية لكن... -لكن ...وما الذي يطيره الحمقى سوى الريش ...ما الذي تريده؟! انطق... - أنت أنت... أنت جميلة جدا، تلهبين العظام فتشتعل واللحم فيذوب، وتعجبين الكل يا ست الكل. - طيب... خذ... حسابك بالكامل... الجيد في الأمر أنكم أكملتم مهمتكم. -نحن في الخدمة، لقد أدينا الواجب... أيّة أوامر ثانية نحن جاهزون... - لا، يا ولد... والله... لتكن في محرقة جهنم ثم تفيق فيها فلا يغمض لك جفن... انقلع وخذ معك ذيلك خشية قطعه. تنفض يديها، ها قد صار كل شيء لها... -صفية لك هدية يا حاج فتح الله، المهم أن تتمَّ تأمين الرجال والقلوب كما اتفقنا...يميل بسيوني إلى الرجل الخمسيني الذي تتشكل على وجهه خريطة من التجاعيد الغائرة. - الاتفاق اتفاق لا تجعل في خاطرك أيّ حاجة... كله لدي في رقبتي(وهو يضرب على صدره). - أنت أتمَّ صفقة السلاح، ولا تهتم، وسنكون معك، بمجلس الشعب يا كبير، ظهرك الذي لن يخونك... حديث طويل ألقى ظلاله الثقيلة على الرجلين في صالة البيت الكبير، والرجال يصطفون بأسلحتهم المكان، مدَّ بسيوني يده ودس كومة من المال في جيبه... يتمتم: والحاج طاهر؟ - حجر وتم رميه... الحاج طاهر انتهى ولن يعود، لا تجعله في بالك، صفية لك... يذوب الزبد فوق أصابع الحاج فتح الله، وهو ينظر إلى عروسه المستلقية على سرير أحلامه. أم الغيطان تنهب الطريق الرملية لرؤية تلك الفتاة، التي دخلتها ممزقة الثياب داميّة الجسد، وكأن الأرواح تطاردها... بعض الفتيات سترنها بوشاح يلف جسدها الهش... تتناقل الألسن: صفية قد مارست الرذيلة... لقد قضي أمركم يا أولاد طاهر... المأذون والمعازيم يحضرون، والمشاعل الملونة ترتفع بخيط رفيع فوق الطريق، والبيوت المزركشة تُنصب استعدادا للعرس، خيرية تتهيأ، والشفق الأحمر قد ذاب بجمر الظلم... صفية تخترقها العيون، وبندقية بسيوني، وهو يلتفت لتلك الصرخة البائسة، التي تشق إليه رغم الحشود التي أبكمت لحظتها، ورنين صوتها: بسيوني، ساعدني... تغيب صورتها في العار، ورصاصة الميت كانت في بيت النار، يمسك بندقيته، يضغط الزناد يمسكه الحاج فتح الله: أنسيت أم ماذا؟ ... إياك ونسيان اتفاقنا. وخيرية تسوق صفية لتجهيزها، تقبض إليها شبح الموت إلى الموت نفسه... الحاج طاهر يأتي مفزوعًا مقبوضٌ قلبه... كامل يركض مترنحًا من رقصة الموت ويغيب. والليل يقبض على بندقيته ... خيرية تمسح بالعطر على الندبة والدماء التي تسيل من جسد صفية، وهي ترمق الطريق البعيد والأنوار قد بدأت تنيره. لقد حانت الساعة... صفية المتزينة بالصدمة... الحاج طاهر الذي دفعه بسيوني وصده عن طريقه... الحشيش في الملحق... وكامل يدندن أغنية النهاية... كم مرَّ على ذلك من الزمن وأشجار الجميز تتساقط في خريفٍ دائم، وبرودةٍ تكسر عظامه؟ الوحشة في تركه حجرة فاطمة إلى حجرة أخرى، وأخرى، ليكون في الملحق، لينتهي به المقام فيه مع ريح كامل تواسي جراحه، وتطببه برائحة الأحبة... ما الجريرة التي اقترفها ليصيبه نزفٌ دائم في خلجات الروح؟ القليل من الكلام، بل صمت الجدران، الجدران التي تختبئ فيها ذكريات كامل...والأخيلة المرسومة فوق حلبتها... خيال صفية الذي يتأرجح...عندما حاول بصوته وهزة واحدة لعصاه أن يُسمع بسيوني، الذي أصمّ أذنيه عن كلِّ ما حوله... عصاه التي أسمعت الموتى لم تُسمع بسيوني، ورجاله، ورجال الحاج فتح الله، لا يحركون ساكناً أمام طيفه... لقد تغيرت قوانين اللعبة، كما تغيرت حجارة اللعب، وآن أوان كش ملك... صفية تفلق الحجر بأنينها وصراخها الذي يشق الجبال الصماء... تزف بثوبها الأبيض ودماء الخطيئة تلطخه... خطيئة بسيوني، وخطيئة الحاج طاهر في التخلي عن ابنته صفية وابنه كامل وفاطمة ومن لفه الغياب. إسراعه الخطى يقبض على شياطينه، لم يفلح فقد جابهته شياطين أخرى أكثر شرًا، وأكثر فتكًا. ها قد تفتت جسد صفية... ها قد صودرت روحها... إسراعه الخطى، ليمسك بسيوني بقبضته، بين قبضته ورقبة بسيوني ألف يدٍ ويد... وألف سلاح وسلاح، وأولها سلاح بسيوني... كانت هذه المرة الثانية التي لا يستطيع فيها الوصول إلى بسيوني... كانت الأولى خيرية وشياطينها... وهاهي الثانية... آواه منك يا زمان... لم يعد له وجود... لقد انسحبت ظلاله، ولففت عباءتك ومضيت... عشر سنوات ربما، أو إحدى عشر، والعمر يمضي، وأسافين الكهولة قد ضربت في جسده الطاهر... ذقنه ترتكز على عصًا تغور في لحيته، لحيةٌ بيضاء... عن أيِّ حمامةٍ تبحث؟، وكلُّ الحمائم طارت إلى البعيد من غير رجعة، أصوات السيارات وأبواقها تنصب فخاخًا في كلِّ وقت... وتنسلُّ مودعةً ضحكاتٍ قبيلَ الفجر...
رائحة العفونة قد فتكت بالبساتين، خيال جميل تتراءى أمامه وهو يخرج من سيارته مسرعًا وقد انحنى مقبلاً رأسه، وأسئلةٌ كثيرة تتدحرج أمام حجر عينيه... يتلقف الأوراق الواحدة تلو الأخرى، الأموال الطائلة في حساب بسيوني وخيرية البنكي...في البنك الكبير الذي يعمل فيه، يقسم أنه رأى بسيوني بعينيه اللتين سيأكلهما الدود... لقد رأى بسيوني بالفعل ولكن الأخير أنكره... بعد أن غابت عنه لعنة التأتأة، بعد أن غابت عنه الوضاعة والبلاهة، بعد أن غابت عنه سخرية أمِّ الغيطان، وسيطرة مسعود، وحزن أمّه، لقد غابت عنه كلُّ الصور وبقيت صورٌ لردّ الجميل للحاج طاهر...بعد أن عضه مسعود في أعزّ ما يملك. القانون الجديد يلزم السؤال: من أين لك هذا؟ الفساد وقضاياه تجتاح حمّاها البلاد، وتعصف بالكثير من البيوت، وتسحب كثيرًا من سحر المناصب... الأوراق الكثيرة التي تعرّف عليها من ملكيته للأرض، والوثائق التي جاء بها صديق له يعمل لدى محام مشهور بالفبركة، وقضايا المخدرات، والسلاح، وها هي صورً عن الوثائق، معلوماتٌ كثيرة عن شبهة في الفساد. ومزيدٍ من الصفقات المشبوهة... رائحة بسيوني في مستنقع القذارة لم يعد ممكناً التغاضي عنها... هذا الذي كان على الحاج طاهر ملاحظته... التغير الذي حدث بعد حريق القطن... لكنه سقط في قعر بئر ولم يكن قادرًا على إبصار موطئ قدمه... المال يغير كلَّ شيء... فكيف إن كان بسيوني عجينةً غضةً قابلةً للتشكيل القذر أقذر ما هو عليه؟! لم يشك الحاج طاهر بعجزه أمام القوة، فكيف إن اجتمعت القوة والسلطة بيد ظالم؟! القوة في صور الثراء...السيارات المصفحة... الأسلحة... الرجال... الأموال... أمور لا يمكن أن تخفى على أحد. وعلى الحاج طاهر الذي نسي المفاتيح بيده، أن يرميها لأنّ الأغلال قد تغيرت... البنك الذي حجز على كلِّ شيء... هو نفسه الذي يعمل فيه جميل، أقصى ما استطاع فعله، أن يؤخر الأمر ثلاثة أيام، ورغم أن البنك وافق على هذه المهلة، لكنّه ركع أمام أموال بسيوني للأطيان في أم الغيطان، ومسعود وفتحي في المصنع، وبقي الحاج طاهر خارج اللعبة. ممتلكاته التي تمتد إلى خط الأفق وتطوف فوق حدودها الجوارح آلت إلى بسيوني، بما فيها البيت الكبير... وخيرية لم تكن بعيدة عن القسمة، فلديها ما لديها من كنوز وذهب... الذهب الذي وجدوه في غرفة كامل، لم يكن سوى جزءٍ بسيط مما عندها، بجواره رزمٌ من الحشيش..
- والرأس الثمل كيف هرب؟ كيف استطاع أن يهرب من رجال الأمن... ومن رصاصات بسيوني؟؟ إشارات استفهام تتطاحن في رأس خيرية، التي كادت ودبرت... كلُّ ما دبرته خيرية لم ينجح بالصورة التي أرادتها، لكنَّ النتيجة واحدة في الخلاص منهما وهذا حقاً ما لم تكن تحلم به... نجحت في جعلهما يهربان، يختفيان، يموتان محرومين من كلِّ شيء... كامل الذي ينتظره حبسٌ أبدي... وصفية التي تنتظرها رصاصة لترصع بها جبينها. لقد انكسرت الظلال... فلتصعد إلى حلبة الجنون، ولترقص حتى الثمالة.
الثمالة هي التي أسكرت الحاج طاهر، لم يعد شيئاً يذكر منذ أن وقفت أمامه تلك المرة، وقد قوضت ظله إلى عنقه... لقد انكسر ظله في ذلك اليوم وهوى صريعًا إلى حلقه... اليوم الذي أعلنت فيها خيرية، أنّها صاحبة البيت الكبير... كلُّ شيءٍ ذاب كما لو أنّه في نبع حار... حلقة النجار الدائرية قد اخترقها جسده، كما لفَّ مدار السرطان، المنطقة الصحراوية التي ملكها أصبح الآمر الناهي... لم يعد عبد الوهاب ليستطيع الوقوف أمام الأخطبوط الذي اسمه بسيوني، لا أحد يعرف كيف ومتى كان له ما كان؟؟ ولكن السر كان في ليلة الرصاص التي لم تمهل الحاج فوزي كثيرًا، فقد عملت العصابات التي تملك السلاح على تصفيته، لم يعد هناك وقت لإمهال أحد بعد أن ذاق طعم الخيانة، ولعب بذيله لحسابه الخاص، ثم ماذا؟ انتقاء أحدٍ آخر... صورته جديدة... أجرب بطنه... نظيف ملفه الأمني... يؤمر فيطيع ... يداس عليه فيصمت. هو بسيوني الذي وقعت عليه القرعة، لا أحد يعرف من تجار السلاح الصغار، ما هو الشيء الذي ميز هذا الشاب الأسمر البشرة لتستيقظ الصحراء على ملكه؟؟ حلقة البخار والتأوه التي رفعت قببًا بيضاء فوق رأس الحاج طاهر، قد اخترمها جسد خيرية التي ظهرت له بسحنتها الشريرة، بكامل حلتها، وتجبرها الشيطاني، دارت حوله وهي تسير على أصابعها فوق لحيته، وجسده الوهن... مررت أصابعها ثم انحنت لتهمس في أذنه... جحظت عيناه، وتقاطر العرق البارد من جسده ثم اعتدلت، مجلجلةً ضحكتها في أرجاء جسده الذي أخذ يضرب بوهنه كل أركان الغرفة الباردة... ضجت بضحكاتها أكثر فأكثر... أخذت ترقص وترقص وتميل بجسدها إليه... عيناه لم تغمضا...لم يرتد أليهما جفنه...ويده الضعيفة تقبض على عصاه أمامه... بخلخالها وجلجلتها مازالت ترن في صدى كلِّ مكان، يقبض أثرها من البيت الكبير... هبّةٌ من الريح عصفت بجسده، وارتعش، وغمضةُ عينيه تفارق الأحبة، لم تعد الحياة ورقة الرهان الوحيدة... بعد أن فقد أركان حياته، وأعمدة البيت قد سقطت عليه، وهاهي روحه تنسل منه شيئاً فشيئاً... تخرج من جسده الوهن، لكن شيءٌ ما منعها... فوضها أمرها لترتد إلى مجرى الروح من جديد... جعلها ترتد إلى جسده... كانت يد المجذوب من حطت على كتفه، وألقت على نفسه السلام... - صفية هربت... صفية وكامل بخير... تطبطب عالحمامة، والحمامة طارت. يهم بسؤاله فيقطع حبل أفكاره بالهذيان... يعنُّ على باله فوزي بعد أن خارت قواه، وخديجة التي سقطت أسنانها وهي تلوك الطعام ثم تبصقه، أولاده الستة، وقد ثارت عليهم أجسادهم، وانتشروا في الأرض... ليته يدري أن هذا الشيطان الذي كبرورتع في ماله... هو ابنه... وأنّه ليس من صلبه... لم يعد يهمه أن يعرفه أحد بعد أن قُضي الأمر... وفات الأوان... وخسر صفية... وكامل... وأخاهم من قبل... أنّى له بقميصه، ليرد إليه بصره... وأنَّى له بريحه لترد له الروح ...
الفصل السابع
إن من الصعب على شخص آخر غيري أن يعرف عمق الألم الذي أعانيه ؛ وذلك لسبب بسيط هو أنه ليس أنا بل آخر... فيودور دوستويفسكي
النهاية
-الاستخبارات المصرية ترحب بك، أهلاً وسهلاً... قالها رئيس الاستخبارات المصرية وهو يرحب بالضابط الاستخباراتي، الذي استطاع القضاء على ابن لادن، وإنهاء أسطورته، وها هو هنا اليوم يستقبله، في مكتبه الفاخر وقد أسدل العلمان المصري والأمريكي خلفهما، وكثير من الصور التي التقطت لإتمام إجراءات البروتوكولات العالمية... اللكنة المصرية الجيدة جعلته يتساءل: من هذا الأمريكي؟ بادره بسؤال عفوي: لك لكنة مصرية رائعة، وكأنك ولدت هنا...!! أطرق النظر طويلاً بالطبق المليء بالألوان...وقد توقفت الشوكة بيده عن الحركة... وكأنّ سحابة سوداء مرت على أرضه الجدباء وأمطرته... وكأنّ ريحا عاتية مرت على هشيمه فنثرته بين الأشواك ومضت... ارتد إليه طرفه رغم تلك الثواني التي استعان بها، ليلتقط دعابةً مصريةً ما من قاموس قديم... دعابةً حفظها من خاله توفيق... - من يشرب من نيلها ويله إن نسيها. - والله، عظيم... قل لي أعشت هنا من قبل؟ لم يذكر رئيس المخابرات أنه قد رأى في ملفه ما يفيد بذلك... لم يجد بعد في ملفه أيَّ شيءٍ، ومكان ولادته في أمريكا. لم يدر جمال بما سيجيب لكنه وجد مخرجاً يثير سحابة من السكون بعضاً من الوقت... - ما لقوش بالورد عيب قالوا: يا أحمر الخدين...قالها مبتسماً وهو يرفع يديه، باسطا كفيه... أسئلة كثيرة تحوم عصافيرها في رأسه، لكنه أدرك أن لهذا الضابط شأناً كما يقال عنه. تبادلا الضحكات....والصمت يخيم عليهما.
كان العمل بالمختبرات عصيبا عندما غادر حزمة أبحاثه لدى البروفيسور المشرف على دراسته، لم يلتفت لفريدة اكتفى بتحية عابرة ومضيا يقطعان الممر الطويل، وصورتهما ترتعش فوق صفحة رخامه... فريدة التي بقيت بانتظاره ساعات طويلة، أمضتها في مختبر العلوم وهي تتم بحثها في علم الجينات، لم تستطع رغم تلك الأبحاث الطويلة، والأيام العصيبة من التجارب الفاشلة، والهزائم المتكررة، لم تستطع التعرف على حقيقة مرضها، الذي لم تستطع الشفاء منه... رغم العشرة الطويلة بينها وبين كامل و صفية، لكنها تمكنت من عكس صورة غير صورتها لا تنبت نبات ألمها... لم يعرفه أيٌّ منهما... لم يستجب جسمها للعلاج، لأي أدوية قد وصفت لها، هي لم تشأ أن تُحزن كامل... لم تشأ أن تفشي سرها إليه... ما عليها فعله هو الصبر، والتحامل على نفسها من أجل أن يحقق شيئًا من أححلامه... تطلق زفرة طويلة وهي ترقبه من النافذة الزجاجية لمختبر الأجنة الفيروسية... همست: مسكين كامل... تطلق خيالها للبعيد وهي تزيل الأغصان الكثيفة عن ذلك الجسد الملتف على نفسه، والذي خيل إليها لأول مرة أنه جسد زجاجي، قد أمضى ليلةً باردةً في العراء... أخذت تدور حوله دورةً كاملة، وهي تبصر جسداً أدمياً لأول مرة، بعيداً عن شيخوخة أبيها وجلافة البواب وأجساد معلميها المتهاوية، تبصر جسداً طويلاً متشرنقاً في دائرةٍ كاملة. غريبٌ يقتنص وحدتها... الوحدة القاتلة التي كانت تسكن فيها منذ طفولتها، منذ وفاة والدتها بحادث سيرٍ مفجع كانت الناجية الوحيدة منه... الأسوار تزداد طولاً يومًا بعد يوم... تشعر بجسدها كرأس دبوسٍ غرس في الأرض، وكلُّ شيءٍ يدور في فلكه لا لغايةٍ سوى مراقبتها... حتى كادت أن لا ترى ضوء الشمس... -من أين جاء هذا الغريب؟ -من أين هبط؟ -أيكون كائنًا فضائيًا كما قرأت في قصص الخيال العلمي، أم جنيًا أُزيلت عنه عباءة الاختفاء، أم خرج من جوف الأرض؟! الفضول لم يقتلها بعد؛ فأمامها مشوارٌ طويلٌ لتعرف عن الكائنات الأخرى خلف الأسوار الكثيرة... جلست بقربه فترةً طويلة،ً هادئةً، ساكنةً، دون أن تبدي أيَّة دهشةٍ أو تصدر عنها حركة، تريد أن تكتشف ذلك الجسد عن قرب بكل تفاصيله، وحواسه، وانفعالاته، ولحظة خروجه من شرنقته. والسؤال في دائرة دماغها محاط بهالة حمراء: من هو؟ كائناً من يكون وقع حبه في قلبها فلن تبصر غيره... -ياه لقد كان ذلك منذ زمن بعيد بنت العنكبوت شباكها على بوابته وخيم الليل، عشر سنوات لا يسمع لها الرنين. أطرقت التفكير وهي تسير في الطريق، منحنية بجسدها عليه وهو يلفها بذراعه. عشر سنواتٍ قطعاها معًا منذ أن توفي والدها سميح باشا... والدها الذي صمم على العزلة بعيدًا عن اللوثة العقلية، والأخلاقية التي أصابت البشر، وأطاحت بالكثيرين، ربما يكون خوفه مبرراً لكن يجب أن يكون معقولاً.... وربما يقول ذلك لخوفه عليها، دون أن يتعب نفسه بخلق مبرراتٍ حقيقية. لكنّ الشيء الوحيد الذي أدركته الآن: خوفه من فقدانها... فقدانه لأمها والصدمة الكبيرة التي أصابته، جعلته يدور في دوامة الرهاب الذي لا يمكن الخلاص منه هكذا... كان يريد الفرار... يريد الذهاب بعيدًا إلى عالمٍ يتسمُّ بالغرابة... يهجر فيه البشر وكان أول ما هجر... هجر هذه الفتاة الصغيرة، وأقسم أن يتفق ولعنة الحياة والمرض عليها... هي تبحث عن الرحمة... عن الحبِّ الخطير الذي تتسلق وإياه الأسوار... هي لم تزل تود أن تلقن تلك الأسوار الجبانة الكثير من الركلات، واللعنات، حتى جاء كامل ليعرف لها...: أن هناك بشرًا آخرين على وجه البسيطة... وحدتها... دميتها... أصدقاؤها الخياليون... المدرسون لم يكونوا سوى ألواحٍ خشبيةٍ تكتب وتمحو، تنطق حين يحلو الصمت وتصمت حين يكون الكلام مباحاً. رغم أنّها تعلمت كلَّ شيءٍ بين الجدران الكثيرة للقصر، الذي تعيش فيه مع أبيها والخادمة والبواب... أربعة أشخاصٍ في مملكةٍ من الوحشة، ينطقون لغة الصمت... وكفيلون بإتقان آفة مصطلحاتها... لم تكن لتملك من أمره شيئًا عندما، أمسك به البواب كبعوضة... ذلك البواب فاقدٌ للإحساس، لم يمهلها حتى تتبعه... إحساسها بالتعب التقمته فجأًة ككتلةٍ لحميةٍ ثقيلة... وأرقدتها في ستار الألم الغاضب وتشرنقت فيه في موجة ٍ من الألم والصراخ مع مرضها... هيجانها أبكم الجميع ومحاولة الخادمة تهدئتها باءت بالفشل... لم يستطع كامل الوقوف على الحياد والاستمتاع بمنظر التعذيب الذي تمارسه هذه الفتاة على نفسها... ركع بقربها وأمسكها برفق... ونطق: لا عليك كلُّ شيءً سيكون بخير...أخبريني ما الذي يؤلمك؟ الفضول ملأ الأعين المستديرة التي تراقبه بحذر، فأزال ستار الريبة من عليها برفق... كلُّ مشاعر الحزن لديهم تحالفت على هذه الفتاة، التي حرمها المرض صحوة العذوبة، التي تفيق عليها كلّ أنثى في زمن ما... حزنها الذي سجن بين قضبانه البواب، الذي سرق منها هدية السماء بل ضالتها، و ربما الاثنتين معا؟ لم تكن لتعاند ظل أبيها الطويل، الذي يمتد لينسلَّ رقيقاً من أسفل باب غرفة مكتبه، ذي الجلد الأسود والزخارف البارزة على الجدران. - رائحة الكتب والأوراق العتيقة، كفيلةٌ بقتل حشرات رأسها... كما كان يقول لها عندما ضبطها متلبسةً تعبث برفوف كتبه المتراصة، رغبتها في أن تعدَّ كتبها، لم تستطع أن تحققها، بقيت أمانيها تتراكم فوق بعضها البعض... المرة الوحيدة التي دخلت فيها تلك الحجرة، التي تنبض بروح ذلك المتمرد على صنوف الحياة ومعاشرًا لأخيلة الصمت التي تسكن الكتب... لم تستطع حينها إلا أن تهرب... أن تفرَّ إلى حيث تتنفس أنفاسًا أكثر حرية... رغم الأسوار أرادت أن تحلق مع الطيور بعيداً سجنها الأبدي... أن تتسلق الأشجار لتصل إلى عنق السماء، وتقبل صفحة وجهها، وتغتسل بماء غمامها... لكنه مات فيها... خلد ذاته الهرمة فيها ومضى... -تعالي، أطلقي العنان لروحك وحرريها..دعيها تطير... انسي كل شيء...وطيري... دوري معي... مدي يديكي ولا تخشي القيود... تعالي وحسب... خلت كلَّ شيء منه في أعماق الكتب العتيقة... فارقها بجسده وحسب... أيُّ حبٍّ يمكن لقلبٍ صغير أن يحتمله، ويحمله بين شقي رحاه ويمضي؟ لكنهما مضيا دون أن يتركا القلب يحب... -لم تصممين على تعذيب نفسك، لم تعتصرين هامش الذكريات، في مساحة جسدك الضيقة انطلقي إلى حيث لا يمكن لأحدٍ الإمساك بك... - لا تأبهي للغروب..هناك دومًاً شروق...هناك دومًا شروق... انظري إلى السماء... - لا أراها ... -هيا تعالي... دعينا نتسلق السلالم... - إلى أين؟ - إلى الفضاء... إلى حيث لا يبصرنا غير الخالق... - لا... لا ...أستطيع العبور... - ستعبرين... - لا، لا أستطيع...
انقبض قلبي حينها لا أدري لم فعلت ذلك...؟ فتح باب المختبر وخرج كامل ليهمس: مرحبا... كانت بكامل تفكيرها مع عالمه... - فريدة... -هاه... -أممم أينك يا جميلة...بما تفكرين؟ -أنا أنا هنا...ما رأيك في لقاء عند مريم... -مريم من...؟ - أ نسيت...؟ عند مريم العذراء... - أوه نسيت... لكم علينا أن نمرّ على صفية لأخذها معنا... - لا، أكيد هي سبقتنا...يبدو أنّك نسيت أن اليوم هو يوم التحاور مع الأديان وهذا اليوم بالذات لن تفوته صفية المعيدة في الجامعة بتاريخ الأديان صحيح ...؟! -صحيح...يتضحكان وهما يغيبان بسيارتهما في زحمة الطريق.
صفية التي تتهيأ للعرس... نجت من ذبحٍ لذبح، وهي ترى نفسها تقدم كقربان... وترى الحاج طاهر قد قُضم ظله وهوت به عصاه بعد أن لكزه بسيوني ببندقيته... لقد أنهى ذلك الوقح كلَّ الأوراق، وقتل ذلك المكان الذي ينبشون فيه عن ذكرياتهم. لقد برّ بقسمه بأن يقطع الخيط الرفيع بينه وبينهم... وكلبته ظلت تعوي في أرجاء البيت الكبير بضحكتها الشيطانية... القليل من الصبر يعني أن تزف إلى قاتل أو مجرم، إلى تاجر سلاح يقتات بالدماء، دون أن يعيّ أنَّ للروح سراً لا يعلمه إلا الله... ما الذي عليها أن تفعله بينها وبينه أقل من ساعات لتصبح زوجته... وكامل إن انتظرته.. ما الذي يستطيع فعله؟ قطع تفكيرها المجذوب حين همس إليها، وهي تمسح دموعًا انهمرت... كما هي سماء الحاج طاهر الذي بكى في قلبه، وهو ينقل إلى المشفى، وقد حزم أمره في المضي إلى القبر... الجدار الذي كان يمكن أن تستند عليه صفية هوى أمام اجتماع عصبة بسيوني وبنادقه في وجه طاهر الوحيد... قد فارقها الألم مع غياب صوت صفارة الإسعاف، وهي تغيب في موجة صفارات الشرطة التي ذهبت في إثر كامل الذي أطلق ساقيه للريح ومضى... بعيدًا... بعيدًا عن رصاصات بسيوني الطائشة، وقد أخطأته، كما أخطأته سيارة الأمن، وكأنّه فصُّ ملحٍ وذاب... وكأنَّ الأرض انشقت وابتلعته، ومضت السيارتان ترسل ظلالهما للطرقات، بألوانها الزرقاء والحمراء... الكفن الذي نجت منه صفية قبل أشهر، ارتدته اليوم دون أن يمسح عن عينيها الكحل. المجذوب الذي جاءها صوته خفيتًا، وقد تسلل إلى حيث تنتظر صفية الموت بهدوء، لم تكذب صوته الذي جاءها واضحًا كما لم يكن يومًا... كلماته التي تأتيها دون أن تبذل جهدًا في معرفتها... أنصتت إليه والتقمت كلماته على عجل، كان يقودها بخفةٍ وخلسة، وكأنّما انفض الجمع عن طريقهما، الذي للتو كان مهيئاً لزفافٍ باطلٍ، وقد اتجهت أنظار الجميع مشتتةً بين الحاج طاهر كامل...و بسيوني... بين الغضب والاهتياج ساحاتٌ كبيرةٌ من الجدل والتأويل... مرت بجانبهم وكأنّما ارتدت ثوب جنيةٍ، وقد هوى ستار الليل على الجزء الخلفي من البيت الكبير، الذي مازال ينبض بقلب فاطمة، لم تكن قد خلعت فستانها قبل أن ترتدي ثوب الزفاف، ثوب العرس، كان سيسجن جسدًا حرًا متحضرًا للفرار، كعصفورٍ أخطأته بندقية صياد، ظلا يسيران ويسيران... إلى حيث غابت أثارهما، ولم تترك أثرًا.
لم يكن ذلك الأثر ليجده أحد... لقتلة تلك الملثمة التي هواها بسيوني، واستلقت بجسدها على فراش من سلاحٍ وخديعة... لقد ماتت مقتولةً... هذا ما وجدها عليه في الدار التي بناها لها... أثار الدماء كانت في كلِّ مكان... السجاد الوثير، وأثاث البيت، والجدران كلها ملطخةٌ بالدماء ومنقوشة بالرصاص، وكأن معركةً قد حدثت في هذه البقعة من الصحراء، دون سواها... لِم لم يفطن أن هناك أناسًا لا يحبونه؟! الفصائل التي أرادت أن تستحوذ على مكانة الشيخ فوزي بعد مقتله، هي أيضًا شاركت بتصفيته... السعي وراء المال والسلطة، كانت أبرز الخلافات بينهم، وهي التي رفعت بسيوني وأوجدته بديلًا للشيخ فوزي، وملكته الصحراء، وهؤلاء هم جنوده أينما ذهب... هم المليشيات والفتوات الذين يبسطون له القوة، ويبثون الرعب في القلوب، وهم أنفسهم الذين يأتونه بالصفقات عبر الدول، التي دبت في أوصالها حرب الصراع الدموي، والسباق للتسلح والتصفية العرقية، والتطهير الديني... لكن كلُّ هذا، لا يهمه...ما يهمه هو المال وحسب... وهو الذي يسعى لتحقيقه... الشره لديه للمال، والسلطة لم يخيب ظنه فيهما... هو النائب المستقبلي لمنطقته في الصعيد، هو الذي سيمثل الكثيرين في مجلس الشعب، ومن يعلم ما الذي سيكونه فيما بعد، الدعوات التي تلقاها من أشخاص لم يعرف عنهم شيئا، كانت هي التي سيّرته ليكونّ قوة السلاح، ويبسط سيطرته على سوق التهريب، والمهربين... فُتح أمامه باب السلطة الملطخ بالدماء، والنجاسة... لم يعد يبصر أيَّ شيء، لم يعد يريد أيَّ رابطةٍ دموية... اسم بسيوني سيكون شريان الحياة، والاسم الذي يحلف به، والذي يرتجف لسماعه الكثيرون... لن يقف أمامه أحد، ولن يوقفه أحد... سينتهي من صفية، وكامل، ويستحوذ على الملكوت، ويلعب بتلك العاهرة خيرية ثم يرميها...
الغربان التي تحلق قريبًا منهما لم تجعلهما يشعران بالأمان، أومئ برأسه... وقال بصوت هادئ:أنا إلى جانبك، هوني عليك..دعي الخوف جانباً. أنصت للسؤال الدار في رحى نفسه: كيف يكون بخير من هو هاربٌ من الموت والفراش يهوي إليه؟ الثأر الذي قد يطيّر رأسه، في أيّ وقت... المذبحة التي دارت حماها في بلدته البعيدة...البعيدة... فرَّ منها منذ صغره...أوصلته أمه إلى طريقها الرملي، وانبتت فيه بذرة الأمل، ودست معه مصحفًا صغيرًا يحفظه، دموعها التي غسلته وحرقت بملحها جسده، لم تكن لتفارقه حروقها ولمسات يديها، ووجهها يضيء، بنور القمر المنسل من بين الغيوم... كم مضى على جريه؟ كم طريقًا رمليًا عبر؟ كم حجرًا نفخ فيه الحياة وأنبأه بسره؟ كم كان كم اللعنات التي ألقيت عليه بالمجان، وهو يسرق أرغفة الخبز؟ كم سار ليصل... ليصل إلى حيث القمة... الحاج طاهر آواه وأورده إلى ماءه... روى الكثير والكثير لصفية التي ذرفت دموعًا على حاله، وقد نست حالها... وما هي فيه... إلى أين ستذهب؟ لن تكون قلقة من هذا السؤال... فالذي أعان البؤساء في حياتهم، لن يمنعها من أن تأوي إليه... ليس عليها سوى أن تفيق في عالم آخر بعيدًا عن مرمى البصر، ليتها تعرف أين كامل لتأوي إليه إلى أين ستمضي بعد كلّ هذا؟
كامل الذي أدركه صاحب المنزل، وعرف قصته لم يرده... لم يكن يريد أن يؤوي إليه المجرمين... لم يرد أحدًا مشبوهًا في عزلته، طرده... لكن فريدة لأول مرة نطقت... وقالت كلمتها: بأنها تريده هنا في هذا القصر...تريده أن يكون معها وأن يعيش نصيبه من الحياة، بعد سنوات طويلة... نطقت فريدة... - ياه يا فريدة، أربع سنوات وأنا بانتظار سماع صوتك... أنّاتك، ولما جاه هذا الولد تتكلمين؟... ياه يا فريدة صوتك آية سماوية ملؤها الرحمة كما صوت أمّك المرحومة... ونظر إلى كامل... - وأنت يا كامل الفضل لك، الفضل بأن فريدة عادت للتكلم، لكن يا ريت أن يبقى أمننا وسلامنا كما هو دون فوضى أو مشاكل...هنا بيت محترم وسيبقى محترمًا... كان يومًا هادئًا أشرقت شمسه، وقد بدأت صفحة جديدة في حياته، بقيت صفية تسير والمجذوب حتى عثرا على ذلك القصر الكبير... طرق بابه، وطلب شربة ماء أراد القليل من الطعام، أمره البواب بجلافة بأن يبتعد، لكنه لم يفعل علا الصراخ بينهما وجفلت الطيور... من بعيد كان كامل يسير في الحديقة مع فريدة يخبرها عن الحشرات، وعالمها الفريد، وعلم الكيمياء وأحلامه البعيدة في أن يكتشف اكتشافًا لم يعرفه أحد من قبل... حين خيّل إليه أنّه يسمع صوتًا مألوفا... - ترى من... من هو؟ أطلق صرخة أفاضت وجهه بالدهشة وركض باتجاه مصدر الصوت... فريدة أخذت تتبعه بقلبها، وعينيها، كان البواب قد أقفل البوابة الحديدية، أسرع كامل بفتحها وخرج دافعًا كلَّ حواسه باحثًا عن المجذوب الذي لم يجده، وكأنّه السراب... شعرت فريدة بالبرودة وهي ترى الطريق لأول مرة، رأته موحشًا، وكلُّ ما فيه يمنحها مزيدًا من الخوف، ركض كامل وصاح... لم يرجع له الصدى...عاد ثانيةً، خائبًا منقبضًا قلبه، وقرص الشمس قد استقر في وسط السماء... ظل جوفه فارغًا وهو يلج إلى البوابة وفريدة تمسكه من يده، والبواب يصرُّ عينيه، وهو يلعن ذلك الزمن الذي جاء به الأوباش إلى مملكته... خطوات ضيقة تلك التي عبر فيها كامل وفريدة تربت على ظهره، وطرق خافت على البوابة يطرق جوف كامل المفرغ، فتح البواب البوابة وعيناهما متعلقة بذلك الطارق، ثوان وكان جسدان يمدان ظلهما الرفيع إلى الداخل، كان المجذوب وصفية يلجان إلى بوابة القصر الكبير. صوت الأنين ولحن البكاء يمد طيفه الحزين فوق الأخوين، وهما يتعانقان حتى هوى جسداهما، وفريدة تطوف في حزن عميق وهي تربت فوق ظهريهما، وسامح باشا يرسل نظره إلى تلك الأجساد التي نهبت في لحظةٍ وحدته، وحطمت الزجاج المحيط بقلب ابنته الوحيدة... قصت صفية ما حدث أمامهم وهي تئن... قلب الأب استيقظ في صدر سامح باشا، ورق لها، ولأخيها، وقرر أن يبقيا في حمايته، وهو يرمق بفرح لحظات البهجة التي تحيط بابنته فريدة... أما ذلك المجذوب فقد ودعهما، وهو يقبض على يد صفية، ولسان حاله بأن تحفظ سره، وذهب إلى البعيد، حيث أغلقت البوابة وراءه بالمتاريس... الفشل الذي أصاب بسيوني في تزويج صفية، كان سيلحقه بالعار، لكن المأذون لم يكتب عقدها بعد... هذا ما يريحه...هي ليست زوجة الحاج فتح الله، فلن يخافه، ولن يهدده، إنما هي وعود هاوية بينهما... - ما الذي تطحنه الرحى ويتعارك في البطن يا حاج بسيوني؟! -بسيوني باشا يا حاج فتح الله... - حاضر يا بسيوني باشا... البنت هربت، ودمها في رقبتي، إنها زوجتي... - لا، هي ليست زوجتك، لم يحدث شيء..الكلام ليس عليه عقود، عندما تصبح زوجتك، لا تفرط بشرفك وعرضك. - أهذا آخر كلام؟!... - نعم كلامي الأخير والقطعي يا حاج فتح الله، الشغل الذي بيننا هو شغل بعيد عن صفية وعن النسوان... - حاضر...نحن كما اتفاقنا غدًا في الليل يكون كل أمرنا كما اتفقنا بلا نقصان... السلام عليكم... - وعليكم السلام... وأخذ يمسح بسيوني على شاربه ثم استند على بندقيته، وهو يلقي شباك عينيه إلى البعيد، إلى حيث صفية وكامل وكتابهما الذي أقفله للتو... -سنوات طويلة مرت يا كامل...قالتها فريدة وهي تهم بالنزول من السيارة... -نعم، طويلة مرت وكأنها بالأمس... - ماذا ستقول لنا مريم العذراء اليوم عن الأديان...؟ - لا أدري ما الذي حضرته؟ - وماذا ستقول صفية المعيدة في معهد الأديان العالمي؟ أمام بيت المحبة وقفا يتأملان زحمة الأجساد، ورعشة القلوب وثباتها... دخلا متأخرين، فقد كان المكان مكتظًا بالكثيرين... صفية كانت توزع الورود، والشموع على كل الجالسين، ومريم العذراء ترسل صوتها العميق كتغريدة عصفور أُطلق للتو من قفصه... -اسمع دقات القلوب، وأنصت لصوت الروح، وشمعته المشتعلة، التصالح مع الذات هو أول خطوات الحوار... -الحوار بين الديانات: هو اللقاءات الإيجابية بين أهل الديانات السماوية، من أجل العمل على نشر الأمن والسلم في العالم، و البحث عن أساليب نبذ العنف والحرب، ومكافحة الفقر وحماية البيئة، وصيانة كرامة الإنسان. أعطوني آراءكم ما الذي تريدون إيصاله أو التعبير عنه...قالت مريم العذراء التي قطفت ثمار عمرها السبعين، غير أنّها كانت تقرأ في كتاب الأربعين... صفية رفعت شمعتها وقالت:أنا مسلمة...و سأقرأ آية من القرآن الكريم : " قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ"(آل عمران 64) ميتشل رجل في العقد الخامس من العمر رفع شمعته: القلب والعقل يجب أن يتفقوا على عدم التعصب، ويجب نزع العنف من قلوبنا، وأن ندعو إلى الله بإخلاص، ويكون لنا قدرة على التعايش مع بعضنا، ونحترم الفروق بيننا، وخصوصية العبادة، والأهم هو الوصول للحق. السيدة فيدرا التي لم تتجاوز العقد الثالث، وتربط شعرها الأشقر الطويل كذيل فرس، قالت وهي ترفع شمعتها: ليس من الضروري أن نتمسك بالتمييز بين أهل الديانات ما دام الكل يدرك عمق نفسه، وأنها تلتقي عند الغاية نفسها من الطمأنينة إلى المعتقد، في الحقيقة ليس علينا الوقوف عند كلمة التمييز كثيرا، فالعبارات اللغوية كثيرًا من الأحيان توجد نوعًا من التطرف الفكري. السيدة سيرينا انهمرت دموعها وهي ترفع شمعتها، تذكر قصة زواجها المؤثرة، وكيف أنّها أحبت مسلمًا وتزوجته: ...لكنه مات وأنا مؤمنة بدينه، الذي هو دين السلام والمحبة... أيدتها سارة التي قالت: كنت انتظر الوقت المناسب لأعلن إسلامي، وابشر زوجي الذي هو في مصر الآن بأنني قد أسلمت... ساعتان أمضوها جميعهم، كلٌّ منهم يفصح عما يجول في صدره، وقرص الشمس قد غرق في الشفق الأحمر، كان لذلك اللقاء أثره الطيب في نفس صفية، التي توثقت علاقتها بأسرة سارة وسيرينا منذ سنة تقريباً... لهجتهما المصرية، جعلتها توجد بينهم أواصر ألفة، و مناسبات دائمة بينهم لقضاء أمسية الأحد معا في بيتهم، الذي كان الحزن يسطر أسطره فوق جدرانه، والأشرطة السوداء ترسم مثلثا في زاوية الإطارات الخشبية المائلة فوق الموقد... لاحظت سيرينا ذلك الفضول في عيونهم، فأخذت تقص عليهم قصتها، وسارة تضع طبق الحلوى فوق الطاولة الزجاجية، وهي تربت فوق بطنها راسمةً ابتسامةً حزينةً فوق وجهها... -هل يركلك؟ قالت فريدة... سارة: بالتأكيد، لا بد أنّه شقي كأبيه، ستة شهور على فراقه، وسفره إلى مصر. - ما اسم أبيه؟ سألتها صفية بلطف... - جمال... - إن لديه اسمًا عربيًا؟! تنهدت سيرينا وقالت: إنها قصة طويلة... ولكن ما هي قصتكم؟؟ راح كل منهم يروي ما مرَّ به من معاناة، وكيف أنّهم جاؤوا جميعًا إلى أمريكا... ليتعلموا ويبتعدوا عن المأساة، التي كانوا يعيشون في دوامتها، وأنهم في خلال هذه الستة أشهر تعرفوا إلى مريم العذراء، التي في بيتها تعرفوا إلى سارة وسيرينا، ليتهم تعارفوا من قبل، وعرفوا جمال... التنهيدة الطويلة والدموع التي ذرفتها صفية، وهي تروي وحشتها لأبيها الحاج طاهر، وسارة تلفها إليها، وتربت على ظهرها، وكلٌّ من كامل، وفريدة مطرقٌ النظر في السجادة الليلكية الصغيرة ذات الوبر العالي، بينما علت وجه سيرينا صفرة وشهقة... وهي تقوم من فورها، وتغيب عن أبصارهم، وكان أمرًا مريبًا قد حدث، ظلت وجوههم تقلب بعضها البعض، لم يكن هناك ما تقوله سارة لهم، وهي أكثرهم دهشة من سلوك المرأة الحديدية الذي تعتريه الغرابة... دخلت سيرينا حجرتها، وهي تلملم دموعها التي فرت من عينيها، ولم تستطع أن توصد أبوابها لم تستطع سوى الهروب... الهروب من القدر الذي مازال يبحث عن جريمتهم... الجريمة التي حرموا فيها الابن من أبيه، ربما ليست جريمتها، لكنها عرفتها، وشهدت عليها وكيف أنّها وتوفيق قد غيرا مكان ولادته... لقد وثقاه في أمريكا... وجعلت جمال ابنها بالتبني... ابن زوجها، وهي وهبت نفسها الحق في أن تكون أمّاً لعشر سنوات... وتحرم أبا من ابنه عمرًا كاملًا... -طاهر لِم تراود ذاكرتها عن نفسها؟ - لم تصرُّ على الظهور بعد هذا العمر؟ الخطيئة التي اقترفها زوجها يبدو أنها لن تموت أبداً... الصندوق الخشبي الذي خبأت به صور جمال الصغير، والرسائل التي كانت تأتيه من أبيه طاهر، ترتجي أن يعيد له ولده... ولكن قلب زوجها كان حجرًا... لقد فرَّ بالرضيع...هربّه وأدخله إلى هذه البلاد... وتبنياه... الحقيقة التي شوهت بأنّه ولد هنا دون أب شرعي...وقد توفيت أمّه وتلفت أوراقها ...أقسما أنهما لم يجدا لها أوراقاً... وشهدت بذلك في المحكمة الأسرية، وتعهدت بتربيته والعناية به، وفق الأوراق الرسمية، وهذا الذي فعلته هي... لم تقترف جريمة... هي اعتنت بطفلٍ لم يهتم به أبوه... بل لم يعرفه... وترك أمه تموت في المشفى لوحدها، حملت الصندوق ووضعته أمامهم، وهي تمسح ما تبقى من دمع في عينيها وسط ذهولهم لتصرفها الغريب، وكلٌّ منهم يوجه السؤال نفسه: ما الأمر؟ وما هذا الصندوق؟ أشارت إلى كامل بأن يفتحه، أمسكه كامل وعيناه عالقتان بسيرينا، وجعله على ركبتيه، وهو ينظر إلى صفية وفريدة إلى جانبه، لم يدر ما الذي سيراه أمامه؟ لكن مهما يكن لن يكون مصيريًا بالتأكيد... ما هو متأكد منه تعامله الدقيق والحذر مع كلِّ الأجسام والعينات التي أمامه، كانت كفيلةً بأن تجعله يتمنى أن يغير الكون بكلِّ حذافيره... تمنى أن يعاد الشريط ثانيةً، لتنبت لهم أجنحةٌ في حياة أخرى، دون أن تموت والدة جمال، دون أن تموت أمه فاطمة، لتخلو الصورة من بسيوني، أن يبقوا جميعًا دون أن يؤذيهم أحد... تحت مسمى عائلة... عائلةٌ تحضن فيها الحمامة فراخها وهم يلقون أجسادهم للرحمة الإلهية... كلُّ ما حدث كان يعني سيناريوهات غريبة... لم يستطع أحد أن ينتفض من وقع الصدمة، أو أن يتقصى أحداثها... هل يعقل أن يكون لهما أخ، ويأتيا إلى عائلته طوعاً... كما فرقهم القدر يجمعهم ثانيةً، والواحد فيهم لا يعرف صورة الآخر أو حتى اسمه... دون أن يعرف أيّ منهم تاريخ الحاج طاهر ودفاتره التي علتها الأتربة... ربما الحاج طاهر نفسه لم يعرف إلى أين أبحر اليم بابنه!! هو القدر الذي هيئ الأسباب، ليكونوا هنا لغايةٍ واحدة...
ما تعرفه فريدة أن جنينًا أصبح يسبحُ في رحمها، أنها ستصبح أمًّا... لكن ما كان يخيفها ذلك الشعور بالألم، والذي لم تعرف له سبباً غير أنّها مصابةٌ بمرض أعجز الأطباء في صغرها... وحملت جينه لا تعرف إلى متى ستصمد... لكنّها لن تستطيع التخلي عن الجنين، الذي حلمت به منذ سنوات... لن تستطيع التخلي عن برنامج علاجها... - ولكنّها بخير... هذا ما تهمس به الحركة القليلة التي أخذت تتمدد في جسدها... التي جعلتها توقف أبحاثها وتجلس في البيت... وهذا ما كان يشغل بال كامل الذي لم يعرف سبب ذلك الجين المرضي، والذي يهمد جسد فريدة شيئاً فشيئاً... هذا ما أقلقه بالفعل، وما كان يتهيأ لفحصه في المختبرات عينةٌ من دمها...ومن الخلايا الجذعية لديها... لولا انشغاله بالاختبارات النهائية لتجربته الغريبة من نوعها على جرثومة، لم يتوصل العلماء لعلاج ما تسببه من وهن على الأجساد، حتى هذه اللحظة التي رفع فيها ملفه البحثي... والذي وثق فيه اكتشافه ... ما توصل إليه من علاج لهذه الجرثومة... لم يعد هناك مستحيل في علاج انهيار النظام الداخلي للجسم... لم يعد هناك موت بطيء، أصبح حلم النجاة منه أكيداً...هذا ما كان يفكر فيه. غير أنّه أسقط فريدة ومرضها من حساباته....وهي تذبل يوماً بعد يوم... ما كان يتوقعه أن الجنين هو الذي يسبب الضيق في صدرها... لم يمض وقت طويل إلا وانهار جسد فريدة، ودخلت المشفى... كان ذلك متزامناً مع إجازته لاكتشافه الذي منحته إياه اللجنة العالمية للاكتشافات... وإعلانه باسمه: كامل طاهر... كان ما يريده أن يفرح قلب فريدة التي لم تستطع الحضور... لكن الهاتف ظل يرن ويرن...دون أن ترد... والحمامة فوق رأسه طارت من غير رجعة... القلق الذي جرى في شراينه وضيّق أنفاسه...لاحقه وهو يجري نحو سيارته، وصفية تلحق به دون أن يدرك خوفها هي الأخرى... على لوحة هاتفه نبضٌ يشير لرقم سارة تخبره...: بأنّها في المشفى مع فريدة، عندما وجدتها مغمىً عليها في منزلها، وهي الآن معها وأخبرته بعنوانه... في زحمة الأضواء، والطرقات، في زحمة الوجود، والذكريات الموؤدة في ذكرى فاطمة التي لم يحفظ معالمها... في كلِّ هذا الشرود وصل إلى المشفى لاهثًا، مغتصباً من القدر ساعةً يروي ظمأه من فريدة... يلعن كلَّ دقيقةٍ تأخرها... وكلَّ نجاحٍ أصابه على حساب عنايته بفريدة... الفراق المحقق لها هو ما يدق قلبه... ما الذي جعله ينتظر طويلاً ليحمل همها؟! هي التي منحته كلَّ شيء، كلَّ ثروتها، كلَّ الأمل الذي يتمناه المرء، بعد أن طردته رحمة بسيوني، وضيّع عليه كلَّ حياته... أيُّ صخب هذا و أضواء حبه قد انطفأت؟ أين هي فريدة بين كل هذه الأوراق؟ الدموع في عيني سارة كانت كفيلةً بأن تخبره: بأنَّ كلَّ شيءٍ انتهى... لم يستطع التماسك... لم يستطع أن ينطق بعد أن أخرسه الفراق... لقد ضاع الحبُّ وانسل من بين يديه وهو لا يدري... كامل الذي ربح اللقب بالإبداع، خسر فريدة، وخسر معها خيط الأمل الذي تعلق به في حياته... مضى مفرغا، أجوفاً، حزينًا... -فريدة... فريدة... فريدة...ظل اسمها يرجع صداه في أرجاء الكون الذي ذابت كلُّ تفاصيله... بأيِّ لغةٍ سيحكي اسمها... ويناديها، بعد أن قبض ملك الموت روحها، وتركه يسود عرش اليأس... دخل غرفتها وهي مغمضةٌ العينين... أمسك يدها، قبلها، هزها، ضمها إليه... - فريدة لماذا قررت الفراق دون أن تنتظري جوابي؟؟ ما الذي عليّ فعله من غيرك وأنت كلي وأكثر... غفران الذنب ليس بيد أحد، فما في القلب لا يمكن أن تتقشر أغلفته دون ثمن... الحياة ليست ملكاً لأحد، كما هو الموت ليس حكرًا على أحد... -إنّها سنة الكون، إرادة الله الذي خلق كلَّ شيء... قالتها صفية له بعد مضي أسبوع على تنسكه في محراب الوحدة والظلام... لحيته التي تناثرت على وجهه، شعره الأشعث، ملابسه، حياة الفوضى التي تلفه، إطالته النظر إلى اللاشيء...صور جديدة له. -قبض ملك الموت فريدة ومعها ابني...قالها بألم... -هذه إرادة ربنا... حكمة ربنا يا كامل... - لا حول ولا قوة إلا بالله... ونعم بالله... -أبونا طاهر فقد فاطمة ونحن صغار، وفقد كل تجارته وظل واقفا... وأنت عليك أن تظل واقفا دون أن تنسحب ظلالك الهاربة.... كل الكون من حولنا يريد إفنائنا فهل تريده أن ينجح...بسيوني وخيرية...وتوفيق وسيرينا وقيودهما على جمال...وحرمان الأب من أبنائه ...إنها القضية فهل ستساندهم يا كامل؟ أغلقت على نفسها غرفتها، وذابت في حزنها دون أن تشعر بشيء، و استيقظت على صوت المنبه معلنًا نهارًا جديدًا... - لم عليها أن تستيقظ؟ جسدها الوهن... ملابسها السوداء... وجهها... وتلك العلامة الفارقة... والكثير من اليأس... من الحزن... ما الذي ستفعله؟ لا شيء، عليها أن تغتسل من الذنوب، وتصلي، لعل الله يفرج لها أمرها، وينبت أملا جديدًا، خرجت من غرفتها بلون جديد أبيض، أكثر إشراقا تريد أن تمارس حياتها الطبيعية دون رذيلة اسمها التشاؤم... الحياة لن تتوقف إلا عند الميت وهي عليها أن تواصل ركوب القطار، حتى تنتهي صلاحية تذكرتها... تهمس في سرها: ليتها تعود لتراه. أغمضت عيناها وأهدته قبلة، وابتسمت... في الصالة وقف كامل بكامل هيئته، حالقا ذقنه، مرتديا ملابسه، وقد وضع للتو فنجاني قهوة محلاة بالشكولاتة، وقد رسم على وجهه ابتسامة، أدخلت إلى قلبها فرحةً كبيرةً، وتلك الدعووة المستجابة وهبتها حياةً جديدةً وأملاً مباحاً... ما قاله سقط عند أذنيها وقد فاق قدرتها على الاحتمال...ذهابهم لمصر كان أمراً خارجاً عن قدرتهما، بعد هروب من فكي الموت وقد طحنتهما الرحي بشقيها... لم تستطع أن تبوح بمخاوفها فهي لن تقدم جديدا لا يعرفه...تلعثمت وهي تسقط الكلمات الواحدة تلو الأخرى: ولكن... لكن... أبحاثك...أحلامك... - أنت أول واحدة تعرفين أني نلت بعثة، أكمل فيها هنا أو في أي مكان في العالم...من أجل أن أعالج الناس البسطاء...وأنا يا أختي العزيزة اخترت بلدي... قفزت من مكانها وكأنها تسمعها ثانية ولكن لأول مرة...ثم توقفت وسهمت وهي تنظر من النافذة الزجاجية المطلة على رؤوس ناطحات السحاب... - لكن... لكن...هل نسيت بسيوني وحكاية الذهب الذي سرق، والحشيشة والرعب الذي لفقته لك خيرية، أم تراك نسيت الحاج فتح الله ومطالبته بي كزوجة؟!. - أنا لم أنس...، وعندي محامين كثر وهم من سيتولى المهمة، أنا أريد... الحاج طاهر سيفرح قلبه بنا. ياه... يا صفية، عشر سنوات مرت، يا ترى سيذكرنا؟!.. يا ترى سيفرح عندما يكحل عينيه برؤيتنا... ويعرف أننا تعلمنا وحققنا حلمه بعد أن طفت الأحلام فوق أفق غطس فيه السراب....؟ - يا ترى أمازال ينعم بأنفاسه...وإلا...؟ صفية التي استذكرت كل شيء، الزواج وبحر الدم ذلك الذي كان قدرها لولا ...لولا المجذوب. لن تنسى خيرية، وحلف الموت، الصفقة التي كان بسيوني سيبيعها بها، كلُّ شيءٍ مرَّ كشريطٍ سريع لكنه توقف عند المجذوب الذي خفق قلبها له، هل سيذكرها يا ترى؟؟
الحاج طاهر الذي عفا عليه الزمن، والذي فارقه أبو المعاطي، وقد مات وجعله وراءه...ظلاً ثقيلاً، ظل محافظا على هيكله، على كرسيه المتحرك الذي يدفعه المجذوب، وقد أخبره بحقيقته، وروى له حكايته، وما فعله ليعيش، وأنَّ اسمه سليم، وقصَّ عليه ما فعله مع صفية... وكيف ساعدها على الهرب، وأنّ كامل وصفية وتلك الفتاة الغنية قد سافروا بعد ثلاث سنوات إلى أمريكا، وأغلقوا العزبة التي كانوا يعيشون فيها بموت سامح باشا... لم يكن ليصمد الحاج طاهر لولا هذا البصيص من الأمل الذي يروي ظمأ أرضه العطشى للحنين لريح الأحبة... السنوات التي مرت عليه ثقيلة، أسلم أمره فيها لله، لولا هذا الشاب الذي أرسله الله إليه في عزلته في صومعته بعيدًا عن ذلك العهر الممتد بصخبه حتى الساعات الأولى من الفجر، رغم أنّه بدأ يشعر بأنّ أمراً قد حدث لتلك الشيطانة...لعل طاعوناً أصابها... وبسيوني الذي لم يعد يراه...كم سنةً مرت؟ هو لا يدري فقد كانت تلك أمنيته بأن تنقطع غيوم بسيوني عن أرضه .. لم يرد الحاج طاهر البقاء، يريد أن يمضي إلى البعيد...
الكثير من الفضول كان ينتظر الضابط الأمريكي من أصول مصرية، والذي كان يهوى التلاعب بإجابتها... جمال لم تكن تنقصه الحيلة والذكاء وقد أنهى بذكائه، وتخطيطه الاستخباراتي ابن لادن وقيادة تنظيم القاعدة... وهو اليوم في مصر لهدف واحد فقط... للقضاء على الإرهاب... للقضاء على بؤرة التسليح في المنطقة، والتي رصدتها وكالة الاستخبارات الأمريكية والاستخبارات المصرية، غرفة العمليات التي أقامها مع الكثيرين من الضباط المصريين، والتي جعلت أمامها خطة محكمة للتوغل إلى داخل الجسد... الإرهاب والقضاء على رأسه... الأوراق الكثيرة أمامه والاسم الأكثر شهرة... هو بسيوني... بسيوني طاهر... والتقرير الشامل عنه... وثائق تعاملاته البنكية... كل تعاملاته، حركاته، ممتلكاته، صفقاته، ومرتزقته، وأسماء الفاسدين الذين أوصلوه إلى مجلس الشعب، ملف شائك، ومتخم، يستطيع ببساطة أن يفهمه... أن عليهم تصفيته... لن يبقى اللغز... ولكن ليس قبل أن يتعرف على ثكنته العسكرية في الصحراء، والتي أصبحت مصدر خطر حقيقي على الجنود المصريين، لقيامها بالكثير من التفجيرات في المناطق القريبة، في محاولة يائسة لقطع طرق الإمداد، يريد أن يكشف عن الحصانة الدبلوماسية التي يحملها... جعلته فوق المساءلة وهيئت له الكثير من الصفقات، دون أن يتمكن أحد من إيقافه. ويبقى السؤال: هل هناك أكثر من شبكة؟ ومن يعرف أيٍّ شبكة هذه التي سيتعامل معها؟، والتي تؤمن التسليح للدول المجاورة في حرب فصائلها... السيارة العسكرية التي أقلته ليتبين الصحراء عن قرب، جعلته يتيقن أن عدوه صعب، وعليه أن يتعامل معه بذكاء... التحصينات التي أقيمت، تعني أنّه بحاجة إلى تكتيك عسكري متكامل، هو بحاجة إلى دعم جوي بالإضافة إلى الدعم الأرضي..هو ببساطة يريد منظومة دعم لوجستي وفرق تغطية... التسلل من أجل القبض عليه متلبسًا، لكنه يعرف أنه يملك الدهاء الكافي الذي يمكنه من إنهاء هذه المهمة، بالنهاية المحتومة. -حانت ساعة الصفر يا فندم...جاءه صوت ضابط الارتباط رخيماً. ساعة الغروب قد حانت، الوقت اللازم لتنفيذ العملية ستون دقيقة، ثم الانسحاب. القصف الجوي هو أبرز خطوة جعلت كلَّ الموجودين في الثكنة العسكرية، يستيقظون على كابوس أخذوا يسرعون إلى أسلحتهم، لكن الوقت قد فات، كانت القوة الخاصة قد سيطرت على الوضع وسقط الكثير منهم قتلى على بساط من رمال مالت للحمرة... أيُّ خوفٍ هذا الذي مدّ بساطه إلى حيث يربض بسيوني على جبل من ثروة في قصره؟، لكنه مهما أمتد فلم يكن ليحميه، والخوف يخنقه، يحيطه بكل صرخة تنزف بها الجدران، يبصر الكثيرين ممن يقتلهم بأسلحتهم، ممن أنهتهم عين بندقيته... الحاج عبد الوهاب وصاحبه كانا هدفًا، سخيًا بالدماء، كانا ببساطة في قلب البندقية...قنصهما يسير ما دام قلب البندقية محشوة برصاصة الموت... لكنه لم يتصالح مع ذاته، بقي متناحراً في حلبته، بين العدل والظلم شعرة واحدة، لكنه قطعها وانصهر في عجلة الظلم... ولعنة الحاج طاهر...تتشابك مع أحلامه بقطيع من الثيران المجنحة التي تنطحه في كلِّ جزء من جسده فيغيب عن الدنيا بدنيا من تعذيب. لعنة صفية، ولعنة كامل، والمرض الذي يسحق تلك العظام... أيُّ نصيب من الفرار يستطيع أن يقتطع ليستطيع المساومة؟؟ الكثير من الصمت... الكثير من الطعنات تنخر رأسه وتكوي جسده... إلى أين الفرار وقد انقلبت الأرض عليه، وتمددت السماء على بطنها دون أن تحرك غيم الرحمة... ما عليها سوى أن تنصب له طريقًا للفرار، حلقت به السيارة فوق الموج الذي يتغشاه، يريد أن تمنعه أمّ الغيطان وأنّى لها أن تفعل... لكنه رغم ذلك سيتحصن بقوة الأهل والسلاح معاً. أهل أم الغيطان الذي كرهوا رائحة خيرية، وظلم بسيوني، وقد ذابت قوة الحاج طاهر في خيال باهت وبخاصة عندما دعا إليه فوزي، والشيخ محمد، في لقاء أخير قبل أن يغادر وتمحو ذكراه البائسة أمَّ الغيطان... ليخرج منها كما خرج يوماً بحثًا عن رزقه... وعاد من جديد بزمن جديد، بين السندان والمطرقة... بين ريشة فنان وينبوع حظ متفجر...كتاريخه الذي نُثرت أوراقه فوق صفحات اليم، ليردها بيضاء واهنة كما هي أيامه. لم يقل كثيرًا، كلمات عابرة توكأ عليها لتتساقط كسفاً بين يديّ فوزي... لم تكن صحته لتحتمل أن يقول الكثير، كلماتٌ واضحةٌ وصريحة...هي التي ألقت بظلال الصدمة بدويّ الرعد على أرض جفت، وقنطت من رحمة الله... لم يكن هناك ما يخشاه، الصورة المحطمة لم تعد تهمه...فالأحلام المبتورة أتمّ اجتثاثها لتزرع في أرض فوزي التي بارت بعد ستة أعجاز خاوية... لم يكن ليحلم أن ينبت له ولد بعد عمر... ولد سابع بعد أن دفنه بيديه، ولكن من الذي دفنه؟! ويا ليته فعل...أيّ فجيعة هذه التي سيكفنه بها الحاج طاهر ويمضي...؟؟ فلتلتهم الديدان جسد بسيوني وعاهرته خيرية... ابنه منذ زمن طويل قد مات، ودفنه بيديه، ولن يعيد الكرة ثانية فقد شبع من الحياة، وها هو ينتظر الموت. - هي التي أذاعت الخبر... وطعنتني قبل أن أنطق...نطق بها كتمثال شمعي تجمد في مكانه بعد أن أذابته السنين. - لم لم تخف من الله يا حاج؟؟ قالها فوزي بعصبية، ربت الشيخ محمد على ظهره وهو يخفف من حدة غضبه... - لك الحق يا فوزي بأن تقول عني أيّ شيء، كلّ أمّ الغيطان لها الحق في ذلك...لو كان الأمرُّ بيدي لكنه لم يكن، الشيطانة هي التي كادت ودبرت...لم يكن أحدٌ منكم في مكاني...بسيوني هو ابنك السابع يا فوزي هذه هي الحقيقة...وهو مالك الأمر والنهي بكل شيء. -أنا ابني مات زمان يا حاج طاهر، ودفنته بيديّ، لن يكون لي ولد من جديد، ولو كان فلن يكون بسيوني... - ابنك بسيوني يا فوزي وقد برأت من هذه الشهادة إلى يوم الدين...قالها الحاج طاهر وهو يخبط بكل قوته عصاه بالأرض... يرفع صوته المكتوم: سامحوني... سامحوني...لم يعد لي مكان بينكم ...سأغادر. -آواه بعد هذا العمر... نسامحك يا حاج طاهر...قالها فوزي غاضباً والشيخ محمد يحوقل ويربت على ظهره.. وأهرق الحاج طاهر دموعا وهو يطوي آخر صفحات كتابه العقيم... -ست أولاد يا فوزي وقدري بطفل ميت...وكان بسيوني بدلاً... - يا فوزي وحد الله، عسى ربنا أن يلم شملك وشملهم، هيا بنا يا فوزي لنغادر... وانسحب الظلان، وانسحبت معهما كل أشباح الماضي... ها قد أزاح الحاج طاهر عن كاهله ثقل السنين... -ها قد اعترفت أخيراً... فلا تحزني يا فاطمة... يا الله ساعدني... دارت العجلات تشق الطريق الترابي، وترسم شريطاً عميقاً ينزف من غدر السنين...وعويل الذئاب من بعيد يشق صفحة الليل، وقد أطاح بكل شحوبها، تتقيء وجعها، وقد دفن أنينه تحت شجرة الجميز التي ذوت أذرعها، وسلمت روحها إلى السماء... بعيداً عن كل الحزن... ليموت. بعيدًا دون أن يشهد أحد جنازته... ودع كلَّ شيء... كلَّ الأشجار، والطيور، والغيوم، والريح، وزفيرها، ورائحة الغيطان، ورائحة طين الأرض، ورائحة الذكريات المعطوبة... الطريق الترابي المعتم الذي تتراقص على حباته الأضواء المتوهجة من بعيد كانت تتلقف الحاج طاهر والمجذوب، لم يخطر ببال أحد أن الحاج طاهر سيموت خارج أمّ الغيطان، وبعيداً عن هواءها... الظلام الذي يلف شبحين مارقين في عتمة الليل، وقد التهمتهما الأشجار الوارفة على الجنبين، حيث كانت الغربان الصامتة فوق أعمدتها تزفهما مودعةً الظلال... لم يكن ليكشف أحزانهما سوى أضواء صاخبة لسيارة مسرعة مرت بقربهما، وقد التقمتها الأضواء المتوهجة في البعيد، كانت ريح بسيوني من لفحتهما، وهو يقطع الطريق الترابي عندما ربضت الأشباح المهاجرة غير بعيد منه... بقيا صامتين والضجيج من بعيد يأتيهم جلياً...وقد صمت الكون، المشاعل الغاضبة صدحت قسوتها في الأذن الصماء، لم يعد هناك متسعٌ للمزيد من القهر، لم يعد هناك رغبة في المزيد من العار، من العهر، من كلِّ شيء... همس الحاج طاهر كلاماً مبهماً سقط أغلبه عند أذني المجذوب الذي عرف بقلبه أنّ نهاية بسيوني وخيرية قد حانت...وها هي المشاعل تلعن وجودهما، لم تكن حكمة الله لتخلي خيرية تنعم بفجورها عمراً، وتهنئ برقصها على جثث الأخيار، رغم أنّها فترت في الآونة الأخيرة وتسلقت على جسدها بثور ودمامل، ووهن قد اعترى جسدها الممشوق رغم تحطيب السنين لجذعها... لا بد أن تكون أمّ الغيطان قد أفطرت من صومها على فراق الحاج طاهر للبيت الكبير، لتشعل فيه النيران لتلتهم بسيوني وعاهرته خيرية... الضوء الرفيع من السماء الذي انسل من بين الغمام ورائحة الشواء البشري من ورائهم قد أوسد هماً كبيراً في قلب الحاج طاهر، الذي جمد الدمع في محاجر عينيه على فراق صفية، وكامل، ومن قبلهما ذلك الرضيع الذي لم يشتم رائحته بعد، وقد التهمه الغياب رغماً عنه...الغياب الذي لا يخلف غير الأنين، ولا يبني غير السراب...ولا يرحم القلوب الضعيفة، وهو يرقد على نفائس آهاتها. غير أنّها عادت إلى الوراء، لتقف بمحاذاتهما وقد شخصت أبصارهما وقد تعلقت بهذا الغريب... ترى من هذا الغريب وماذا يريد...؟
هبطت عجلات الطائرة أرض المطار بعد ساعات طويلة من القلق، من الحزن، من الخوف، دوامة من المشاعر المتضاربة بينهما جدلت أفكاراً مشوهة...والسؤال العالق في حلزونة عقلهما.. -ما الذي سيلاقيانه؟ مرا بصمت ملفوف بالحذر على الجوازات، دون أن يوقفهما أحد، صورتهما المنعكسة على أرض المطار ظلت آمنةً، وهما يعبرانه دون أن يوقفهما أحد... استقليا سيارة أجرةٍ إلى الفندق القريب، كلُّ شيٍء تغيّر... قبل عشر سنوات كانت الحياة مختلفة، كانوا ثلاثة وهاهم اليوم مجرد عائدين بجذوةٍ منطفئة من الأمل بإيجاد الحاج طاهر حيًا، دون تصفية حسابات مع بسيوني أو خيرية أو حتى الحاج فتح الله ليكون هناك كتاب جديد يكسو البياض صفحاته.... جنى الليل وركبا سيارةً استأجرها كامل، ومضيا يعدان العد التنازلي، وهما يجران حبلا رفيعاً من ذكريات...
السيارة المسرعة التي رجعت إلى الوراء لتقف بمحاذاتهما، في عرس الموت الذي صدحت زغاريده، وقد وصلت ألسنتها عنان السماء، تعلقت عينا المجذوب الذي توقفت يداه عن دفع الكرسي الذي يربض عليه جسد الكهل الذي يريد أن يدفن في مكان قصيٍّ عن مسقط رأسه، ومنبت أحلامه ...تعلقت بذلك الغريب الذي نزل من سيارته الفارهة... وقف بقربهما طويلاً وهو يتأمل هذين المارقين، وقد تيبست أطرافهما... ذلك الشاب الذي التهم الليل سمرته، بادرهم بسؤال ضرب على أوتار قد لامست شغاف القلب، صوته بدا مألوفاً، لحنه في الكلام، الريح التي هبت منه، كلها عنت على بال الحاج طاهر، الذي سرق من الذكريات المدفونة في قعر بئر قد جفت ماؤها، قبل أن يرى فاطمة...من سعاد التي تزوجها قبل عمر، وحملت ببذرته، وماتت مخلفة ً له الكثير من الوجع... -الحاج طاهر، أين أجده؟ قالها والرغبة الملحة تتراقص في عينيه.. -أنا طاهر...قالها الحاج طاهر بعد أن دبت الحياة في مفاصله... ونبض قلبه يحدثه: إنّه هو...لا بد أن يكون هو... في أمِّ الغيطان حكايا كثيرة بللت دفاتره القديمة لتطفو على وجه السراب، ليرتد إليه بصره، ها هو أمام القدر على كرسي بعجلتين دائرتين تدوسان الزلط وتعفران بالرمال... - أنا الحاج طاهر... لم يستطع الشاب الرد، انعقد لسانه أمام هذا الرجل الطاعن بالسن الذي لم تترك الأخاديد في وجهه أثراً إلا وحفرته، والقمر قد أسقط نوره على الواقفين في ملكوت اللقاء... الشيخوخة التي ألقت بستارها بغلاظة على وجهه، أفقدته الكثير من الشبه مع هذا الشاب، الذي يقف أمامه، وهو يقترب بدموع انهمرت لتسقي ظلم السنين، ولوعة الحرمان، ومرارة الغياب... في عينيه، في اضطراب نفسه وهذيانه... ركع أمامه من ريح،...وهو يشتم ما له، وهو يلملم ما ضاع في البعيد، وكان هو من دفع الثمن... -أبي طاهر أنا جمال ابنك... قالها وهوى بجسده في أحضان أبيه ينتشي الحب الذي حرم منه مذ كان رضيعاً... "أبي طاهر" تلك الكلمة التي كان يحلم بها منذ زمن بعيد، من أول حلم له بالأبوة، من قدر قد كُتب عليه وتراهن معه توفيق...وقد خلّا له زهرة ذكريات قد فارقتها الروح، سعاد التي رضيت به فقيراً، وهو يضرب أبواب الحياة، رغماً عن توفيق تزوجته، وسكن إليها في عش صغير، وناداها نداء الكروان، ابن سعاد...الذي هرب به توفيق، وهاجر به عابرا المحيطات... ابن سعاد عاد إليه..أعادته إليه رحمة الله وحكمته... ماذا لو قرر البقاء والتهمته النيران؟ ماذا لو فرّ منذ زمن دون أن يخبر أحداً عن مكانه وانصهر... قبل يديه وحضنه بقوة، تحت السماء ذابت تماثيل الملح وبقيت الأجساد عاريةً كما هي الأرواح... الأنين من شق قلب المجذوب ومن بلل ثياب الحزن فيه.
السيارة المستلقية على الطريق، وقد نخت لحزن صاحبها، لم تمنح للسيارة القادمة طريقاً لتشقه إلى حيث مازال وهج النيران ووهج الأصوات التي نطقت أخيراً. -ما الذي يحدث بالقرب منها؟ أخذت عيناهما تبحثان عن تلك الكتلة السوداء التي ترتعش في مكانها نزل كامل من السيارة، وهو يتقدم مقلبا الظلمة وهالة النور الأبيض والبشرة السمراء... لم يصدق ما رأته عيناه...لم يدر كيف ركض إلى حيث تربض شيخوخة أبيه...أبونا طاهر ماثل بصورته، وجسده وكل الأمل...هوى إليه يبحث عن روحه، يريد أن يرتشف من حنانه الكثير...ليرتوي من ظمأه، أخذ يقلب جسد أبيه بالقبل...والحاج طاهر يقلب نظره بين ولديه وهو يضم إليه لحمه الضائع منذ سنين... صفية استيقظت على صورة كامل والغريب والرجل الجالس على كرسيه، وذلك الواقف خلفه، مشت بتؤدة وهي تمني النفس أن يكون ما في بالها قد تحقق... خطوات ضئيلةٌ هي التي فصلت بينها، وبين تلك اللوحة التي أمضى الشقاء فيها سكينه، ومضى منتظراً... جرت إليه تبث إليه حزنها، فزعها، وهنها، والكثير من جدب السنين... -صفية يا حاج...لكم اشتقت إليك...! ما عاد الكرسي ذي العجلات، حاملاً للقهر، والشقاء، والأنفاس اللاهثة، والذكريات المطحونة بين شقي الرحى... الأجساد الثلاثة انحنت محيطة بهذا الكرسي ذي العجلات، والذي يحمل جسداً كهلاً، مرت عليه سنوات من الحرمان، واليأس والحزن... فارتد إليه بصره، وقلبه، وهو يشتم ريحهم... المجذوب بكى بحرقة، وهو يبصر صفية لقد تغيرت كثيراً... هل ستذكره؟... هل ستعود لها الذكريات قبل عمر؟؟ مضت الصرخات والنيران والبيت الكبير المشتعل تغرز أنيابها في هجيع الليل في أمّ الغيطان وصيحات أمّ الغيطان تحرق بلهيبها خيرية وبسيوني... كانت رائحة شوائهما... حرق المكان بأكمله، واشتعل الظلم في السواد...حين امتد ضوء السيارتين إلى البعيد مقتحماً الظلام، مبتعداَ عن أمّ الغيطان... بعيدا عن الظلم، والخوف، والحزن، والمكائد، والجريمة البشعة، وهزيمة الإنسان... ذهبوا بعيداً... محلقين جسد أبيهم ليبدؤوا معه كتاباً آخر سيسمونه أولاد طاهر، بظلالهم الهاربة...
النهاية
الإلهة ماعت .. لم تكن مجرد معبود عند المصريين القدماء بل كانت الحق والعدل والنظام الذي يحمي الجميع ... يهرع إليه المظلوم من بطش الظالم , يتضرع إليه الفقير لدخول الجنة. ... ماعت، امرأة جميلة تحمل فوق رأسها ريشة سميت فيما بعد ب "ريشة ماعت " وفى العالم السفلي، كان قلب المتوفى يوزن فى ميزان مع ريشة الماعت من قبل أوزوريس للكشف عن وزن خطايا المتوفى... و إذا كان قلب الميت أخفّ من الريشة يتم السماح له بالحياة في الآخرة.... وكانت مبادئ الماعت هي الدليل للعيش فى المجتمع وكانت مطاعة من قبل الفرعون والشعب.… وكانت مسئوليه الفرعون الأولى والأساسية هي التمسك بنظام الكون وكثيرا ما كان يحمل لقب محبوب ماعت... مبادئ ماعت: أنا لم اقتل، ولا أحرض أي أحد على القتل.- -أنا لم أتسبب فى الإرهاب. أنا لم أعتد على أيّ أحد ولا أسبب الألم لأحد... أنا لم أسبب البؤس.- أنا لم أفعل أيّ ضرر للإنسان أو الحيوانات. أنا لم أتسبب فى ذرف الدموع...
تمت
#رولا_حسينات (هاشتاغ)
Rula_Hessinat#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
على دفتي الرغبة والقدرة كان حنين للإرادة
-
المرأة العربية في الموروث الثقافي
-
حالة انفصام
-
السيد علم الدين 5
-
المقطع الثاني من رواية الزلزال للمبدع ريبر هبون
-
حكاية من حكايات جحا 3
-
السيد علم الدين 4
-
رواية الزلزال المقطع الأول
-
حكاية من حكايات جحا 2
-
حكايا من حكايات جحا 2
-
السيد علم الدين 3
-
المصباح
-
والله يازول الحال تعبان
-
السيد علم الدين 2
-
الفرار المحتوم
-
المألوف المجتمعي
-
السيد علم الدين
-
المألوف المجتمعي بين التغيير والتحول
-
فأر أسود
-
الشبيه
المزيد.....
-
-أجمل كلمة في القاموس-.. -تعريفة- ترامب وتجارة الكلمات بين ل
...
-
-يا فؤادي لا تسل أين الهوى-...50 عاما على رحيل كوكب الشرق أم
...
-
تلاشي الحبر وانكسار القلم.. اندثار الكتابة اليدوية يهدد قدرا
...
-
مسلسل طائر الرفراف الحلقة92 مترجمة للعربية تردد قناة star tv
...
-
الفنانة دنيا بطمة تنهي محكوميتها في قضية -حمزة مون بيبي- وتغ
...
-
دي?يد لينتش المخرج السينمائي الأميركي.. وداعاً!
-
مالية الإقليم تقول إنها تقترب من حل المشاكل الفنية مع المالي
...
-
ما حقيقة الفيديو المتداول لـ-المترجمة الغامضة- الموظفة في مك
...
-
مصر.. السلطات تتحرك بعد انتحار موظف في دار الأوبرا
-
مصر.. لجنة للتحقيق في ملابسات وفاة موظف بدار الأوبرا بعد أنب
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|