|
التكنوقراطية وتحدياتها في معالجة الأزمة السورية: ضرورة تبني رؤية سياسية متكاملة
غالب احمد العمر
الحوار المتمدن-العدد: 8240 - 2025 / 2 / 1 - 14:08
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في ظل الصراع السياسي والاجتماعي الممتد في سوريا بعد الأسد، طفا الى السطح النهج التكنوقراطي كأحد الحلول المطروحة لإعادة بناء الدولة والمجتمع. غير أن هذا النهج يعاني من محدودية وسطحية في تعامله مع التنوع السوري، كما يغفل تعقيدات الواقع السوري الذي تتشابك فيه الأبعاد السياسية والاجتماعية والثقافية. فكيف يمكن إعادة بناء سوريا دون رؤية سياسية شاملة تُنصف تطلعات الشعب السوري، وتضمن مشاركة جميع مكوناته دون استثناء، باعتبارهم أصحاب القضية الأساسيين، وبما يعالج جذور الأزمة بشكل عادل ومستدام؟ إن الاعتماد المفرط على التقنية والبيانات كحلول لمشكلات ما بعد سقوط النظام السوري، والعمل على بناء واقع أشبه بالأمر الواقع وتغطيته بمفاهيم ومصطلحات تصرف أنظار السوريين عن الاستحقاقات المهمة والضرورية، أدى إلى بروز مصطلح حكومة التكنوقراط. هذا التوجه، المصحوب باستعلاء يتجاهل دور السياسة كأداة رئيسية للتفاوض بين المصالح المتعارضة والهويات المتنوعة، يشكل أزمة عميقة يمكن ملاحظتها بوضوح في الواقع السوري. كما يكشف عن حاجة ملحة لفهم الواقع المعقد، حيث تُظهر الأزمة المستمرة محدودية وعدم الفعالية المطلقة للنهج التكنوقراطي في التعامل مع التحديات على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. محدودية التكنوقراطية في سوريا الفكر التكنوقراطي بطبيعته يبحث عن حلول مبنية على الأرقام والبيانات والمعطيات المحددة، متجاهلًا الديناميات السياسية والاجتماعية والثقافية. لكن في سوريا، تأخذ الأمور منحى أكثر تعقيدًا بسبب تداخل المصالح الإقليمية والدولية مع الهويات الطائفية والقومية، مما يجعل من الصعب حلها بشكل رقمي بحت مع تجاهل هذا التعقيد. على سبيل المثال، التصورات الدولية لإعادة الإعمار غالبًا ما تُبنى على معايير اقتصادية وتقنية دون الالتفات إلى غياب التوافق السياسي على المستويين المحلي والإقليمي، مع احتمالية تبني مشروعات تبقى حبيسة النخب وبعيدة عن الاحتياجات الفعلية للسكان. عبر السنوات، اعتمد النظام السوري على البيروقراطية والآليات الإدارية كوسيلة رئيسية لتسيير شؤون الدولة، مما أدى إلى تهميش الحوار السياسي الداخلي. وقد ساهم ضعف نضج الأهلية المجتمعية في مجال الحوار السياسي، الذي تسبب به النظام، في تعطيل الدور الطبيعي للسياسة كصلة وصل بين أفراد المجتمع ومؤسساته. تجلت هذه المشكلة بوضوح خلال الثورة السورية، حيث اعتمد النظام بشكل متزايد على الحلول الأمنية والتقنية، متجاهلًا جذور الأزمة السياسية التي تمثلت في غياب العدالة الاجتماعية، واحتكار السلطة، ورفض أي حوار مع المعارضة السورية. هذه السياسات أدت إلى استنزاف الموارد الوطنية وتعميق حالة الانقسام، مما أسهم بشكل مباشر في تفكك النسيج المجتمعي. الحاجة إلى إعادة الاعتبار للسياسة إن الاستقرار المستدام الذي يطمح إليه السوريون لا يمكن تحقيقه إلا من خلال إعادة الاعتبار للسياسة باعتبارها أداة جامعة قادرة على قراءة المشهد بدقة، والتوفيق بين المصالح المتناقضة والهويات المتنوعة. الحلول التي تقتصر على جوانب معينة، مثل برامج الإغاثة أو إعادة الإعمار المدفوعة بالبيانات فقط، لن تحقق الاستقرار المنشود ما لم تندمج في إطار سياسي شامل يعالج جذور المشكلة التي دفعت الشعب السوري إلى الثورة، وأهمها احترام إرادة الشعب، إشراكه في العملية السياسية، إنهاء التسلط، وبناء الثقة بين الشعب والدولة. كذلك، يجب التخلص من عقلية "لا تفكروا، الدولة تفكر عنكم". يتطلب ذلك اعتماد حوار وطني شامل يُخضع الجميع لمبدأ المواطنة عبر فتح قنوات حوار حقيقي بين جميع الأطراف السورية. يجب أن يشمل الحوار الشعب السوري بكل أطيافه ومكوناته، وكتله السياسية المتنوعة، ومنظمات المجتمع المدني، بهدف خلق توافقات سياسية تتجاوز الأطر التقليدية الضيقة. إن الفشل في تحقيق هذه التوافقات أو فرض حلول أمر واقع سيؤدي إلى إعادة تأجيج الأزمات والانقسامات، مما يعيد الشعب السوري إلى نقطة الصفر ويكرس الأسباب التي تعيد إنتاج الأزمة بشكل دوري. تكمن أهمية استيعاب العوامل الثقافية والاجتماعية في خلق وعي مجتمعي حقيقي بأهمية العملية السياسية ودورها في تحقيق التوافقات رغم التناقضات، مما يطمئن المجتمع ويعزز ثقته بالعملية السياسية المتبعة. الاعتماد على الحلول التكنوقراطية فقط يتجاوز الواقع، ويتجاهل العوامل الثقافية التي تلعب دوراً محورياً في المجتمعات السورية. على سبيل المثال، لا يمكن تجاهل دور رجال الدين، الوجهاء، الهويات الطائفية، والولاءات المحلية عند صياغة أي سياسات مستقبلية. بهذا الشكل، يصبح الحل السياسي الشامل الذي يحترم التنوع السوري ويعالج جذور الأزمة مدخلاً حقيقياً لتحقيق الاستقرار المستدام. تجاوز العقلية: "فن إدارة الأزمات" أحد الأخطاء الكبرى في النهج التكنوقراطي هو التركيز على قيادة التحولات بدلاً من إدارة الأزمات. في سوريا، التي تشهد عمليات تحول كبرى وتخوض مخاض بناء الدولة وتأسيس هويتها، تبرز أهمية عقلية إدارة الأزمات والتعامل مع وقائعها اليومية، سواء كان ذلك من خلال التعامل مع الأزمات الإنسانية كملفات المفقودين، الإغاثة، خلق فرص العمل، تمكين المواطن من الحصول على قوت يومه، أو إعادة تأهيل البنية التحتية. ذلك يتطلب عقلية توازن بين العلاج والتخطيط، مع العمل على خطة سياسية شاملة لتحقيق المصالحة وإعادة بناء الدولة. نحو رؤية سياسية مستدامة العمل من أجل تمكين المجتمع المدني وإعطائه مكانته الطبيعية في المجتمع السوري، لأن السياسة هي نتاج المجتمع ولا يمكن الفصل بينهما. العمل على تعديل دور المنظمات المحلية والمجتمع المدني يمكن أن يسهم في خلق فضاء سياسي حقيقي يعبر عن تطلعات السوريين. كما أن دمج الاقتصاد بالسياسة لا يكفي، بل يجب أن تكون خطط إعادة الإعمار الاقتصادية مقرونة بدراسات ورؤية سياسية واضحة تمكّن من ربط الاقتصاد بالسياسة، وخلق استراتيجيات تأخذ بعين الاعتبار الحاجة إلى عدالة توزيع الموارد وبناء الثقة بين مختلف مكونات المجتمع، وانعكاس العملية برمتها على إعادة بناء الشرعية في سوريا. الشرعية السياسية هي المفتاح. أي مشروع يفتقر إلى شرعية شعبية لن ينجح، بغض النظر عن مدى عقلانيته من الناحية التقنية. هذا لا يتحقق إلا من خلال دستور يحدد صلاحيات والتزامات وواجبات الحكومة، وتستمد الشرعية منه. كما يتطلب تكوينًا حقيقيًا لمبدأ فصل السلطات لتكون قادرة على مراقبة بعضها البعض ومنع نشوء حكم ديكتاتوري جديد، من خلال توزيع السلطة بينها وخلق قضاء نزيه، وبرلمان حي، وسلطة تنفيذية وطنية. إشراك الأحزاب السياسية في العملية السياسية هو أمر حيوي، إذ لا يمكن لسوريا أن تخرج من أزمتها عبر حلول تكنوقراطية فقط. المطلوب هو استعادة دور السياسة كأفق جامع لتلبية تطلعات السوريين وضمان استقرار مستدام يتجاوز الأزمات اليومية نحو بناء دولة ديمقراطية قادرة على قيادة التحولات الحقيقية. الأزمة السورية تتطلب حلاً شاملاً يتجاوز النهج التكنوقراطي القائم على الأرقام والبيانات فقط. الحلول التقنية قد تكون مفيدة على المدى القصير، لكنها غير كافية لمعالجة الجذور السياسية والاجتماعية للأزمة. السياسة هي السبيل الوحيد لتحقيق استقرار مستدام وبناء دولة ديمقراطية تمثل تطلعات الشعب السوري. من خلال حوار وطني شامل، رؤية سياسية شاملة، واحترام التنوع الثقافي والاجتماعي، يمكن لسوريا أن تحقق المصالحة الوطنية وتبدأ عملية إعادة البناء على أسس سليمة. الاستقرار الذي يسعى إليه السوريون لن يتحقق دون إعادة الاعتبار للسياسة كأداة جامعة، ودون تحقيق توافقات وطنية تعالج جذور الأزمة وتضع الأساس لبناء مستقبل أفضل للجميع. خروج سوريا الجديدة من أزمتها واستقرارها يتطلب رؤية سياسية شاملة تعتمد على الحوار الوطني الصادق والهادف. يجب أن تُبنى هذه الرؤية بعيدًا عن سياسات تهدف إلى شرعنة فصيل معين أو استيلائه على السلطة، مع احترام التنوع والعمل المشترك لإنشاء مؤسسات شرعية تمثل الشعب بصدق. السياسة، في هذا الإطار، هي الأفق الجامع الذي يخرج السوريين من أزمتهم
#غالب_احمد_العمر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الطبقة المؤيدة للنظام: عوامل التشكيل ودوافع الدعم وتأثيراتها
...
-
التوغل الإسرائيلي في الجنوب السوري: أبعاد أمنية وسياسية وصرا
...
-
سوريا بين الهيئنة والادلبة
-
الديون البغيضة: أداة لقمع الشعوب ودعم الأنظمة الديكتاتورية
-
خطط أزلام الأنظمة الاستبدادية بعد سقوطها: من التخريب الداخلي
...
-
المحاسبة دون عقاب: آلية لتحقيق العدالة التصالحية والمصالحة ا
...
-
قراءة في المشهد السوري الحالي
-
أنت كوردي إذاً فإنت pkk!!!!
-
قصة جحا
-
المجرم بريء حتى وان ثبت اجرامه
-
هوية مجتمع مقيد
-
ثورتنا السورية
-
ذبح جنيف2
-
ثورة ام سياسة
-
الاكراد بيت عزاء لاينتهي
-
قراءة في سياسة الهيئة الكوردية العليا
-
القصير قصة صمود لم تكتمل
-
الوجه الحقبقي لpyd
-
الاكراد من تهميش الى اقصاء
المزيد.....
-
فيديو لحافلات تقل مرضى وجرحى فلسطينيين تصل إلى معبر رفح في ط
...
-
قصف روسي لبلدة دوبروبيليا الأوكرانية يخلف جرحى وخسائر مادية
...
-
مقتل عشرة في قرية سورية سكانها علويون والسلطات تبحث عن الجنا
...
-
لمن سيصوت الألمان من أصول عربية خلال الانتخابات المقبلة؟
-
للمرة الأولى منذ 12 عاما.. أسير أردني يلتقي بطفله الوليد من
...
-
مجموعة لاهاي تكتل دولي لمحاسبة إسرائيل
-
حماس: حالة أسرى العدو تثبت قيم وأخلاق المقاومة
-
كاتب تركي: ترامب حوّل -الحلم الأميركي- إلى كابوس
-
الجميع متعبون والمزاج تغير.. الغارديان تلقي الضوء على أزمة ف
...
-
-مشهد مخيف هناك-: مراسل CNN يصف ما سببه تحطم الطائرة بمركز ت
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|