|
الحيرة لدى النخب الفكرية والسياسية في الدول غير المستقرة
مصطفى الشيحاوي
(Mustafa Alshihawi)
الحوار المتمدن-العدد: 8240 - 2025 / 2 / 1 - 10:17
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في الدول غير المستقرة، حيث تسود الاضطرابات السياسية والتغيرات المفاجئة (كسوريا) تجد النخب الفكرية والسياسية نفسها في حالة من التردد والضبابية، غير قادرة على تحديد المسار الصحيح. هذه الحيرة ليست مجرد شعور فردي يخص هذه النخب وحدها، بل هي انعكاس لواقع أكثر تعقيدًا، حيث يغيب الاستقرار، وتتداخل المصالح، وتتفاقم الأزمات دون رؤية واضحة. وبينما تتخبط النخب في محاولاتها لفهم المشهد، يكون المجتمع بأسره في حالة انتظار لرؤية لم تتشكل بعد، ولقرارات لم تُتخذ، فتتسرب الحيرة إلى جميع مستوياته، ويصبح التردد سمة عامة تطغى على كل شيء.
التغيرات السياسية السريعة والمفاجئة تجعل من الصعب على النخب تبني مواقف ثابتة أو بناء استراتيجيات بعيدة المدى، حيث تنهار أنظمة قديمة وتظهر قوى جديدة بأساليب مختلفة. هذا التغير المتسارع يضاف إليه تصادم المصالح الداخلية، إذ إن النخب نفسها غالبًا ما تكون منقسمة بين تيارات متعددة، لكل منها أجندته الخاصة، مما يؤدي إلى مزيد من الارتباك والتشتت في اتخاذ القرارات. وتُفاقِم التدخلات الخارجية هذه الحيرة، إذ تكون الدول غير المستقرة عادةً ساحة للتجاذبات الإقليمية والدولية، مما يفرض على النخب تحديات إضافية لموازنة المصالح الداخلية مع الضغوط الخارجية.
غياب المؤسسات الفكرية والسياسية القادرة على احتضان النخب وصياغة رؤى وطنية مشتركة يؤدي إلى حالة من الفوضى الفكرية والسياسية، حيث تفقد النخب الإطار الذي يمكنها من العمل بفاعلية. يضاف إلى ذلك الأزمات القيمية والاجتماعية التي تجعل من الصعب إيجاد أرضية مشتركة، حيث تؤدي الانقسامات حول قضايا دينية وثقافية واجتماعية إلى تعميق الشرخ بين النخب والمجتمع، مما يجعل أي توافق فكري أو سياسي أكثر صعوبة.
لكن الأزمة لا تتوقف عند النخب وحدها، بل تمتد إلى المجتمع بأسره. فحين تفقد النخب وضوحها وتصبح عاجزة عن تقديم بدائل واقعية، تنتقل حالة الارتباك إلى مختلف فئات المجتمع، مما يؤدي إلى تآكل الثقة في النخب والمؤسسات وانتشار مشاعر الإحباط وعدم اليقين بالمستقبل. وتصبح القرارات السياسية والاقتصادية ارتجالية، مما يزيد من تعقيد الأوضاع بدلاً من حلها، في حين تظهر نزعات متطرفة تستغل الفراغ الناتج عن غياب النخب الفاعلة، مما قد يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية أعمق. كما يتم استبعاد الطاقات المجتمعية، حيث لا يجد المفكرون والمبدعون والمجتمع المدني دورًا حقيقيًا في صناعة القرار، ما يزيد من حالة الجمود والانفصال بين السلطة والمجتمع.
هذه الحيرة لا تنفصل عن شكل الدولة نفسها، فالدول التي تُدار دون مشاركة حقيقية من نخبها وطاقاتها الفكرية والمجتمعية غالبًا ما تتحول إلى كيانات متخبطة، تُدار بأسلوب استجابي للأزمات بدلاً من استباقها والتخطيط لمواجهتها. وحين تنسحب النخب من المشهد أو يتم تهميشها، يصبح المجتمع فاقدًا للبوصلة، حيث لا يجد من يعبر عن تطلعاته أو يوجه طاقاته نحو بناء مستقبل أكثر استقرارًا.
تجاوز هذه الحيرة يتطلب استراتيجيات فاعلة تعيد التوازن إلى المشهد السياسي والفكري. لا بد من إعادة بناء المؤسسات الفكرية والسياسية بحيث تكون قادرة على استيعاب النخب وتمكينها من لعب دورها الطبيعي في قيادة المجتمع، وتعزيز الحوار الوطني لكسر دوائر التردد والانقسام، وخلق رؤية مشتركة قادرة على التفاعل مع الواقع. إعادة الثقة بين النخب والمجتمع عبر سياسات تشاركية تمنح الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين دورًا حقيقيًا في اتخاذ القرار هو أمر ضروري لاستعادة الاستقرار. كما أن تحقيق الاستقلالية عن التدخلات الخارجية عبر تبني سياسات وطنية تحافظ على التوازن بين المصالح الداخلية والخارجية يمكن أن يخفف من الضغوط الخارجية التي تزيد من حالة الحيرة. ولا يمكن إغفال أهمية تفعيل دور الطاقات الشابة والمجتمع المدني لضخ أفكار جديدة وكسر الجمود الذي يحيط بالنخب التقليدية.
في النهاية، لا يمكن الحديث عن استقرار حقيقي دون عودة النخب إلى واجهة الفعل السياسي والفكري. فغيابها ليس مجرد غياب أفراد، بل هو غياب رؤية، وتراجع لدور المفكرين وصناع القرار في تشكيل المسارات الكبرى. وحين تفقد النخب وضوحها، فإن المجتمع نفسه يدخل في حالة من الحيرة الجماعية، حيث يصبح التردد والتشوش السمة الطاغية على مختلف جوانب الحياة. وهذا ليس مجرد عارض مؤقت، بل هو اتساق مع شكل الدولة التي تُدار بلا مشاركة حقيقية من نخبها وطاقاتها المجتمعية. وحين تفقد الدولة هذه الطاقات، فإنها تفقد قدرتها على تجاوز الأزمات، وتظل تدور في دوائر مغلقة من عدم الاستقرار، حيث تظل الحيرة هي العنوان الأبرز لمشهد سياسي واجتماعي بلا بوصلات واضحة.
لهذا، فإن تجاوز هذه الحيرة يتطلب شجاعة فكرية، وقدرة على اتخاذ قرارات مصيرية تعيد للمجتمع اتزانه، وتمنح النخب دورها الحقيقي في صناعة مستقبل أكثر وضوحًا واستقرارًا. فالمجتمعات التي تتجاهل نخبها وتُبعدها عن المشاركة الحقيقية تدفع الثمن في شكل اضطرابات دائمة، حيث تصبح الدولة نفسها رهينة لهذا التردد المزمن، عاجزة عن استعادة توازنها أو تحقيق تطلعات شعبها.الحيرة لدى النخب الفكرية والسياسية في الدول غير المستقرة
في الدول غير المستقرة، حيث تسود الاضطرابات السياسية والتغيرات المفاجئة، تجد النخب الفكرية والسياسية نفسها في حالة من التردد والضبابية، غير قادرة على تحديد المسار الصحيح. هذه الحيرة ليست مجرد شعور فردي يخص هذه النخب وحدها، بل هي انعكاس لواقع أكثر تعقيدًا، حيث يغيب الاستقرار، وتتداخل المصالح، وتتفاقم الأزمات دون رؤية واضحة. وبينما تتخبط النخب في محاولاتها لفهم المشهد، يكون المجتمع بأسره في حالة انتظار لرؤية لم تتشكل بعد، ولقرارات لم تُتخذ، فتتسرب الحيرة إلى جميع مستوياته، ويصبح التردد سمة عامة تطغى على كل شيء.
التغيرات السياسية السريعة والمفاجئة تجعل من الصعب على النخب تبني مواقف ثابتة أو بناء استراتيجيات بعيدة المدى، حيث تنهار أنظمة قديمة وتظهر قوى جديدة بأساليب مختلفة. هذا التغير المتسارع يضاف إليه تصادم المصالح الداخلية، إذ إن النخب نفسها غالبًا ما تكون منقسمة بين تيارات متعددة، لكل منها أجندته الخاصة، مما يؤدي إلى مزيد من الارتباك والتشتت في اتخاذ القرارات. وتُفاقِم التدخلات الخارجية هذه الحيرة، إذ تكون الدول غير المستقرة عادةً ساحة للتجاذبات الإقليمية والدولية، مما يفرض على النخب تحديات إضافية لموازنة المصالح الداخلية مع الضغوط الخارجية.
غياب المؤسسات الفكرية والسياسية القادرة على احتضان النخب وصياغة رؤى وطنية مشتركة يؤدي إلى حالة من الفوضى الفكرية والسياسية، حيث تفقد النخب الإطار الذي يمكنها من العمل بفاعلية. يضاف إلى ذلك الأزمات القيمية والاجتماعية التي تجعل من الصعب إيجاد أرضية مشتركة، حيث تؤدي الانقسامات حول قضايا دينية وثقافية واجتماعية إلى تعميق الشرخ بين النخب والمجتمع، مما يجعل أي توافق فكري أو سياسي أكثر صعوبة.
لكن الأزمة لا تتوقف عند النخب وحدها، بل تمتد إلى المجتمع بأسره. فحين تفقد النخب وضوحها وتصبح عاجزة عن تقديم بدائل واقعية، تنتقل حالة الارتباك إلى مختلف فئات المجتمع، مما يؤدي إلى تآكل الثقة في النخب والمؤسسات وانتشار مشاعر الإحباط وعدم اليقين بالمستقبل. وتصبح القرارات السياسية والاقتصادية ارتجالية، مما يزيد من تعقيد الأوضاع بدلاً من حلها، في حين تظهر نزعات متطرفة تستغل الفراغ الناتج عن غياب النخب الفاعلة، مما قد يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية أعمق. كما يتم استبعاد الطاقات المجتمعية، حيث لا يجد المفكرون والمبدعون والمجتمع المدني دورًا حقيقيًا في صناعة القرار، ما يزيد من حالة الجمود والانفصال بين السلطة والمجتمع.
هذه الحيرة لا تنفصل عن شكل الدولة نفسها، فالدول التي تُدار دون مشاركة حقيقية من نخبها وطاقاتها الفكرية والمجتمعية غالبًا ما تتحول إلى كيانات متخبطة، تُدار بأسلوب استجابي للأزمات بدلاً من استباقها والتخطيط لمواجهتها. وحين تنسحب النخب من المشهد أو يتم تهميشها، يصبح المجتمع فاقدًا للبوصلة، حيث لا يجد من يعبر عن تطلعاته أو يوجه طاقاته نحو بناء مستقبل أكثر استقرارًا.
تجاوز هذه الحيرة يتطلب استراتيجيات فاعلة تعيد التوازن إلى المشهد السياسي والفكري. لا بد من إعادة بناء المؤسسات الفكرية والسياسية بحيث تكون قادرة على استيعاب النخب وتمكينها من لعب دورها الطبيعي في قيادة المجتمع، وتعزيز الحوار الوطني لكسر دوائر التردد والانقسام، وخلق رؤية مشتركة قادرة على التفاعل مع الواقع. إعادة الثقة بين النخب والمجتمع عبر سياسات تشاركية تمنح الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين دورًا حقيقيًا في اتخاذ القرار هو أمر ضروري لاستعادة الاستقرار. كما أن تحقيق الاستقلالية عن التدخلات الخارجية عبر تبني سياسات وطنية تحافظ على التوازن بين المصالح الداخلية والخارجية يمكن أن يخفف من الضغوط الخارجية التي تزيد من حالة الحيرة. ولا يمكن إغفال أهمية تفعيل دور الطاقات الشابة والمجتمع المدني لضخ أفكار جديدة وكسر الجمود الذي يحيط بالنخب التقليدية.
في النهاية، لا يمكن الحديث عن استقرار حقيقي دون عودة النخب إلى واجهة الفعل السياسي والفكري. فغيابها ليس مجرد غياب أفراد، بل هو غياب رؤية، وتراجع لدور المفكرين وصناع القرار في تشكيل المسارات الكبرى. وحين تفقد النخب وضوحها، فإن المجتمع نفسه يدخل في حالة من الحيرة الجماعية، حيث يصبح التردد والتشوش السمة الطاغية على مختلف جوانب الحياة. وهذا ليس مجرد عارض مؤقت، بل هو اتساق مع شكل الدولة التي تُدار بلا مشاركة حقيقية من نخبها وطاقاتها المجتمعية. وحين تفقد الدولة هذه الطاقات، فإنها تفقد قدرتها على تجاوز الأزمات، وتظل تدور في دوائر مغلقة من عدم الاستقرار، حيث تظل الحيرة هي العنوان الأبرز لمشهد سياسي واجتماعي بلا بوصلات واضحة.
لهذا، فإن تجاوز هذه الحيرة يتطلب شجاعة فكرية، وقدرة على اتخاذ قرارات مصيرية تعيد للمجتمع اتزانه، وتمنح النخب دورها الحقيقي في صناعة مستقبل أكثر وضوحًا واستقرارًا. فالمجتمعات التي تتجاهل نخبها وتُبعدها عن المشاركة الحقيقية تدفع الثمن في شكل اضطرابات دائمة، حيث تصبح الدولة نفسها رهينة لهذا التردد المزمن، عاجزة عن استعادة توازنها أو تحقيق تطلعات شعبها.
#مصطفى_الشيحاوي (هاشتاغ)
Mustafa_Alshihawi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مأساة ملهاة
-
لاشيء
-
هذيان اطمئنان لا ينفع لشعب قددوه
-
نافورة بلا ماء
-
اثنتا عشر زجاجة وشفاه
-
مشيئة السطوع امرأة من سطوع
-
الثلج الذي يعبئ الكون بياضًا مرعبًا
-
ورد أقل ايها السّوري
-
ورد أقلّ ايها السّوري
-
ويُخدع الغجريُّ مرتين
-
الفرحة سيّدة تبرّجت
-
تعالى نمتطي اي شي
-
سيد الحياة
-
حملت جثتي
-
احببت المنحدرات
-
الاختفاء لعبة الاشباح
-
قررت التفاؤل والحب
-
فضة أمي
-
حطم جسدي
-
كما يحلو للوجه
المزيد.....
-
لأول مرة منذ 9 أشهر.. شاهد إجلاء مرضى فلسطينيين عبر معبر رفح
...
-
السيسي لترمب.. لا لتهجير الفلسطينيين
-
نتنياهو يتوجه إلى الولايات المتحدة ليكون أول رئيس يلتقي ترام
...
-
-د ب أ-: منظمة الشباب التابعة لحزب -البديل من أجل ألمانيا- ت
...
-
صربيا.. المحتجون يغلقون الجسور عبر نهر الدانوب في مدينة نوفي
...
-
اكتمال تثبيت قلب مفاعل الوحدة الثالثة في محطة -أكويو- النووي
...
-
بعد سحب منتجات كوكاكولا مؤخرا.. إليكم تأثيراتها على الجسم!
-
هل تعاني من حرقة المعدة أو الارتجاع بعد شرب القهوة؟.. إليك ا
...
-
مشاهد للقاء الأسير الإسرائيلي الأمريكي كيث سيغال مع بناته
-
ظاهرة غامضة تتسبب في سقوط شعر جماعي لسكان إحدى ولايات الهند
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|