|
قصص الحرب. المتاهة .القسم الرابع
طالب كاظم محمد
الحوار المتمدن-العدد: 8239 - 2025 / 1 / 31 - 10:12
المحور:
الادب والفن
كوي سنجق، المدينة العتيقة بسوقها القديم وعقود الاجر التي تزين واجهات دكاكينها الصغيرة، مسنون وعجائز يتصدرون متاجرهم الخاوية ، نساء بعباءات سود يتبضعن الفاقة بصحبة اطفال يخسرون براءتهم بالعويل والجوع ، كانت المرة الاولى التي ارى فيها تلك المدينة المتواضعة والمسالمة، لم ار نظرات الوعيد التي احتقنت في عيون الاربيليين، مررت بخطوات متمهلة في السوق الذي بدا خاليا باستثناء اصحاب الدكاكين وهم يطرقون الصمت بحبات مسبحاتهم الطويلة ، يرددون اسم القدير، تفاجأت حينما رأيت باصا سياحيا لنقل المسافرين ، متوقفا عند طرف السوق ، الذي اعد ليكون مرآبا للباصات التي تشبك القرى والمدن بخطوطها المتقاطعة ، هناك في تلك الظهيرة ،الأبدية ، التي تنوء تحت وطأة البرد ، انشغل احدهم برفع عقيرته بالصراخ : طالع ..بغداد ..بغداد !؟ للحظة فكرت بالصعود وارتقاء سلالم الباص المعدنية الثلاثة والجلوس على المقعد الذي يلي السائق ، مكاني المفضل، كنت انشغل بالطريق فيما الباص ينهب الخطوط البيض المتقاطعة من الانشغال بالقلق الذي يمد مجساته في عقلي بان اجازتي القصيرة ستنتهي بالعودة الى انتظار الموت ان يمد عصاه التي تنتهي بخطاف حديدي ليستل انفاسنا ، الصعود الذي ينطوي على المخاطرة ومغادرة الانحدار الى المجهول ، ولكني لم افعل ، لم اهرب ، الامر لا يتعلق بالشجاعة ولا باي شيء اخر، انها المجموعة التي انتمي اليها، فانا لست بأفضل من مازن او كريم او محمد ، للحظات باهتة الملامح ، تطلعت الى الباص ، الذي ربض مثل حصان مجنح ينتظر اخر الناجين من اعمدة النيران والمداخن ليحث دواليبه لتنهب الطريق الى مجهول اخر . اخفقت في العثور عليها وانا اتفقد الدكاكين القديمة اسأل عن سجائر بالفلتر ، في الأخير، انتهى بي الامر احمل ربع كيلو تبغ خام ودفتري ورق بافرة للف السجاير باليد . عدت الى رفاقي قبل ان تنحدر الشمس الى مهجعها بوقت قصير ، تدثرنا بالبطانيات الرطبة والمعاطف المطرية وسترات الفرو التي لم تمنع تسلل البرد القارص الذي عض هياكلنا الذاوية ، عند الحاجز الخرساني الذي يحد الطريق الصاعد الى قمة هيبت سلطان ، هناك ضابط تنكر بملابس جندي برفقة مجموعة جنود ، اخبروا قائد الفرقة بان مجموعات مسلحة من الميليشيا الكردية والانصار ، تمكنوا من السيطرة على رانية وعلى حوض بحيرة سد دوكان ، أولئك الجنود ، غير المرتبكين ، مروا بنا وهم يكشرون في وجوهنا بابتسامات هزيلة كما لو انهم نالوا كل اوسمة الحرب ، لانهم ببساطة ، خرجوا احياء من محرقتها . اولئك الجنود اخبرونا ، بان المجموعات المسلحة جردتهم من السلاح وطلبت منهم مغادرة المنطقة الى أي مكان يرغبون بالذهاب اليه ، عند فجر اليوم التالي لمحنا خيطا بشريا طويلا يسلك منتصف الطريق ، كان الرتل الراجل يتقدم نحونا، ببطء ، من جهة رانية ، كانوا جنودا مرهقين بعضهم حفاة وبملابس بالية ، جردتهم المليشيا والانصار من سلاحهم قبل ان تطلق سراحهم للذهاب الى الوجهة التي يختارونها ، فيما شمس ظهيرة ذلك كانت تحتجب بالغيوم التي التهمت بنهم بقايا لطخات اللون الازرق، علقت بسماء تغرق في العتمة ، طوال الليل، لم ينقطع تدفق الجنود المنهكين ، في طريقهم من رانية التي استسلمت للميليشيا الكردية الى هيبت سلطان ، واصل الرتل الذي جرد من سلاحه، رحلته في طريقه الى خلاص مخادع ، احد أولئك الجنود قال بلكنته الجنوبية ، سلم تسلم ؟!! في غير ذلك ستنتهي مرميا كجيفة كلب على جانب ممر مهمل ستجف قبل ان يمر عليك رعاة الماعز بقطيع منهوم يقتات على شجيرات السرو الصغيرة في تلك ظهيرة ، انشغلت باكتشاف جغرافيا الفسحة الضيقة التي حشرنا فيها ، التي امتدت صعودا بداية من "الكبرة" التي باتت نقطة التجمع القلق، ممثلة بقائد الفرقة وهيئة اركانه حتى قمة جبل هيبت سلطان ، هناك غرفة صغيرة توسطت ما يشبه متنزه صغير مسور بمشبكات حديدية بالجانب الايمن من الطريق الصاعد الى قمة الجبل ، تلك الفسحة الضيقة بدت حقلا صغيرا لتكثير اشجار السرو ، الاشجار الصغيرة النامية غطت سفح جبل هيبت سلطان الصخري الاجرد، الجانب الايسر كان يشرف على الوادي الواسع الذي امتد حتى مدينة كوي سنجق . لم اشعر بالتوجس ولا بالقلق ولا بالتفكير بالجنود الذين مروا بنا في طريقهم الى المتاهة ، الجنود الذين جردوا من سلاحهم ، بعضهم يسند خطواته بعصا ، اخرون يسندون اكتافهم الى اخرين ، مصابون يضمدون جراحهم بخرق ، بعضهم حفاة ، اخرون بأردية عسكرية ممزقة بالية ، يمرون بنا في طريقهم الى منفذ ما يمنحهم بصيص ضوء للخلاص من المحنة . الغيوم الكثيفة التي لبدت السماء اغلقت المنفذ الاخير للضوء الباهت فيما الشمس تنحدر وراء كوي سنجق في غروب معتم بلون اسود . في العقيدة العسكرية الشرقية مهمة جنود المشاة تتمثل في القتال ومسك الارض التي تنتزع من الخصم . امضينا ظهيرة اليوم الاول ، نحن ، جنود الاحتياط الذين يديرون المحطة اللاسلكية التي تؤمن الاتصال مع محطة جوال قائد الفرقة ، مازن كريم طالب واخرون ، نقطع اوصال الوقت بلعب الكوتشينة ،او لعبة الورق ، بنت ولد شايب ، في حوض عجلة الايفا الالمانية ،ندخن بشراهة لفافات السجاير، نحشو التبغ الرطب بورف البافرة الرقيق ثم نلصق طرفيها باللعاب ونبرمها بين سبابتي وابهامي اليدين ، اتذكر اني اشتريت دستين ورق لعب من بسطة قرب ساحة التحرير ، لترويض الضجر والاغتراب والاخفاق . ازيح غطاء عجلة الأيفا ، ليكشف عن وجه النقيب ممدوح احمد حسن الذي تطلع في وجوهنا ، قال : الكل هنا ؟!! رد مازن : نعم سيدي قال النقيب : ستقومون بواجب حراسة الوادي رافقوني الان بأسلحتكم مازن : الكل سيدي النقيب ممدوح احمد حسن : الكل حالا وبدون تأخير العصاة يحاصرون جبل هيبت سلطان قد نتعرض للهجوم بأي لحظة !! انا ومحمد ومازن وكريم انزلقنا الى حفرة بعرض مترين لاستخراج الحجر على سفح جبل هيبت سلطان . النقيب ممدوح احمد حسن ، قال : هذه نقطتكم لا تغادروها الا بأمر مني !! كانت شقا في سفح اكثر من ان تكون حفرة في سفح جبل هيب سلطان ، كانت على بعد عشرات الخطوات من حافة الطريق الجنوبي الذي يطل على الوادي الكبير ،انزلقنا الى الحفرة تلك ، نحن الاربعة ، احدنا لف نفسه بالبطانية وانا بمعطف مطري واخر بسترة فروة جبلية ، ببنادقنا الكلاشينكوف وذخيرتنا ، اسندت ظهري الى جدار الشق وقبالتي مازن ومحمد سائق التاكسي من اهالي شهربان ومحمد الذي يسكن مدينة الثورة ، والد البنات الخمسة . لم اعش في حياتي وقتا تعيسا كما عشت في تلك الحفرة ، كانت شقا في سفح حجري ، شقا بلاغطاء لكي يصد غضب الالهة الذي انزلق علينا بوابل عنيف من المطر والصقيع . لملمنا ماوجدناه بالقرب منا ، جذور اشجار السرو وقطع خشب القوغ ، اشعلنا نارا متعثرة في الحطام المبلل ، للحظات سرت النيران في عروق الخشب ولكننا لم نستطع تفادي الوابل العنيف الذي انهمر علينا من السماء كأن الله ينتقم ، في تلك الليلة صب الله الغاضب علينا طوفانه ، ابتلت ملابسنا وتسلل البرد والمطر الى عظامنا ، شعرنا بالانجماد يقضم اصابع اقدامنا ، ابتلت هياكلنا بالمطر. كنا نرتجف كشجرة صفصاف عارية قبل ان تلفظ انفاسها الاخيرة . ما الجدوى من بقائنا ؟!! لا جدوى بالتأكيد !! ما الذي ننتظره هنا لاشيء!! لاشيء ؟!! اذن لنترك هذه الحفرة لأننا سنموت قبل ان يصل الينا الاكراد الساعة الثانية صباحا ، المطر ينهمر بعنف ، كانت السيول العنيفة التي تنحدر من سفح جبل هيبت سلطان تجرف معها تذكارات جنود في نهاية عقدهم الثاني ، تركنا الحفرة للاصداء الاتية من التاريخ ، تلفعنا مثل شرنقة مذعورة بسبب البرد والصقيع في حوض سيارة الايفا ، نحاول ان نفلت من الانجماد الذي دس مجساته في اصابعنا
#طالب_كاظم_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الصوفي
-
المتاهة. قصص الحرب
-
الكاهن
-
تلاميذ الاسخريوطي
-
صديقي الذي فتك بالعصافير في طفولته
-
في ادب الطفل
-
المسرح والدهشة الاولى التي سترشد خيال الطفل الى الجمال
-
جلجامش وانكيدو سيناريو للفتيان
-
مسرحية لليافعين: ابنة الخياط
-
نووايس عقدك الثاني
-
نواويس عقدك الثاني المهجورة
-
قصة قصيرة : في الاسبوع التاسع والاربعين
-
حب ما
المزيد.....
-
عرض جواز سفر أم كلثوم لأول مرة
-
مسيرة طبعتها المخدرات والفن... وفاة الممثلة والمغنية البريطا
...
-
مصر.. ماذا كتب بجواز سفر أم كلثوم؟ ومقتنيات قد لا تعلمها لـ-
...
-
أساطير الموسيقى الحديثة.. من أفضل نجوم الغناء في القرن الـ21
...
-
السعودية.. رحيل -قبطان الطرب الخليجي- وسط حزن في الوسط الفني
...
-
مصر.. كشف تطورات الحالة الصحية للفنان ضياء الميرغني بعد خضوع
...
-
-طفولة بلا مطر-: المولود الأدبي الأول للأكاديمي المغربي إدري
...
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|