|
ميجل دي ثربانتس والسعي للجنون لمزيد من السعادة
نعيمة عبد الجواد
أستاذة جامعية، وكاتبة، وقاصة، وشاعرة، وروائية، وباحثة، ومكم دولي
(Naeema Abdelgawad)
الحوار المتمدن-العدد: 8238 - 2025 / 1 / 30 - 00:13
المحور:
الادب والفن
من الأقوال المأثورة للكاتب الأسباني العالمي ورائد حقبة الحداثة في إسبانيا "ميجيل دي ثربانتس" (1547-1616): "الإفراط في التعقل قد يكون جنونًا، لكن الأكثر جنونًا على الإطلاق، هى رؤية الحياة كما هي وليس كما ينبغي أن تكون." تلك المقولة تلخِّص أغلب النصائح الدارجة في كتب الصحَّة النفسية والتنمية البشرية في العصر الحديث، والتي تدفع القرَّاء للخروج ولو لوهلة عن المألوف لبلوغ السعادة. لطالما كانت السعادة حلم بعيد المنال في كل العصور والأزمنة؛ فالإنسان دائمًا وأبدًا مكبَّلًا بأصفادِ من إلتزامات تزيد من صعوبة ظروفه ، وتحرمه من المرونة عند مجابهة العقبات المتلاحقة. لكن السعادة لا تستحدث من فراغ، وكذلك لا تتطلَّب ماديات أوأعمال جلل، فأبسط المواقف وأتفه المقتنيات قد تصنع السعادة، والتي هي، قبل أي شيء، تفاعل الإنسان بالعالم الخارجي. بيد أنَّ الإنشغال في وتيرة العالم المادي لا يمنح للأذهان وقتًا للرَّاحة، ويحرمها من التكيُّف مع الأحداث، مما يزيد من صعوبة وتعقيد علاقة الفرد بنفسه وبمن يحيطون به، ويزيد من تكبيل العقل وحرمانه من بلوغ راحة يتلوها السعادة. وللخروج من دائرة الملل، يستطرد "ثربانتس" ناصحًا: "في كل الأحوال، العلاج هو اتخاذ الإجراءات اللازمة. كن واضحًا بشأن ما تحتاج إلى تعلُّمه بالضبط، وما عليك القيام به بالضبط لتتعلَّمه؛ فكونك واضحًا يقتل الخوف. ولهذا، اجعل همَّك فهم نفسك، وذاك هو أصعب درس في العالم". وكما يرى "ثربانتس" فإن فهم الذَّات هو أقصر طريق لبلوغ الأهداف والشعور بالرِّضا، وهو ذاك الشعور الذي يغدق السعادة على صاحبه. ويعد "ميجل دي ثربانتس" واحدًا من قلائل استطاعوا تطبيق ما ينصحون به على أنفسهم؛ فهو ذاك الشخص تعس الحظ قليل الحيلة الذي تلاعبت به الدنيا، لكنه استطاع تحقيق ألوان من النجاح والسعادة بأتفه الأشياء. والمفارقة الكبرى تكمن في سيرته الذَّاتية؛ فسيرته الأولى أو حتى اسمه غير مؤَكَّدة، ومسيرة حياته ما هي إلَّا سلسلة من سخرية القدر وعبثه. فلقد نشأ "ميجل دي ثربانتس" في أسرة لها علاقة أو تنحدر من النبلاء. وكان والده يعمل حلَّاقًا جرَّاحًا؛ حيث أنه في ذاك الوقت كانت هناك طائفة تدعى ب"حلَّاق الصحَّة"، وهم طائفة تمنحهم السُّلطات إجازة لممارسة مهنة الطب وإجراء عمليات جراحية طفيفة. وبالرغم من أن هذه المهنة كانت تدر دخلًا ليس بالزهيد، لكن كان والده دومًا في ضائقة مادية. وأمَّا والدته، فكانت سيدة حصيفة ومتعلِّمة، ولهذا عندما غرق والده في الديون وسافر بعيدًا لعدَّة سنوات، عملت واستطاعت أن تدبِّر أمور الأسرة باقتدار. وأمَّا "ثربانتس"، فلقد عمد والديه أن يتلقَّى تعليمًا جيِّدًا، وطمح في أن ينال مناصب عليا، وخاصة وأن موهبته في الكتابة كانت بارزة، لكنه لم يستطع ذلك؛ فلقد كان القدر يترصَّد له، لدرجة أنه عندما التحق بالعمل في قصر أحد النبلاء، زجّ به إلى العسكرية، وذهب للحرب لمحاربة جيش السلطان التركي "سليم الثاني"، سلطان الإمبراطورية العثمانية حينها. وكانت المفارقة هو أنه وقع في براثن القراصنة الذين اختطفوه مع آخرين، وطالبوا أهله بفدية كبيرة حتى يعيدوه لهم. لم يجد "ثربانتس" في ذاك الوقت بدًّا إلَّا كتابة عدَّة رسائل لأهله وذويه كي يدبروا أمر الفدية حتى لا يتم بيعه كعبد وتنتهي حرِّيته للأبد. ويرى المؤرِّخون أنه لربما بسبب تلك الرسائل، التي كانت مكتوبة بأسلوب راقي منمَّق، كان يحسن خاطفيه معاملته، بل وتغاضوا عن محاولاته العديدة للهرب، ولم يتعرَّض يومًا للتعذيب أو القتل مثل أقرانه. وقد يعزى السبب إلى أن خاطفيه لمسوا أنه سيكون صيدًا ثمينًا، ولهذا السبب رفعوا مقدار الفدية لمبلغ باهظ. وحتى عندما تم إيداعه عبدًا "لم يتم بيعه بعد" في منزل أحد الشخصيات المرموقة، "حسن باشا"، كان سيده يحسن معاملته، واصطحبه معه في رحلة بحرية طويلة، والتي أصبحت فيما بعد مصدر فريد للإلهام الذي استغله في أعماله اللاحقة. وتعدّ رواية "دون كيخوته" Don Quixote هي أشهر أعمال "ثربانتس" الأدبية على الإطلاق والتي حقَّفت نجاحًا فوريًا في أسبانيا ودولًا أوروبية محيطة فور صدورها عام "1605"، بل وكانت السبب أن العديد من الكتَّاب قاموا بتأليف روايات استغلُّوا فيها شخصية البطل "دون كيخوته" التي أصبحت شهيرة ومحببة لجمهور القرَّاء، كذلك ادَّعوا أن تلك الروايات هي أجزاء تالية للرواية الأصلية، مما دفع "ثربانتس" لكتابة جزء ثاني وأخير من الرواية عام 1615، ليكون خاتمة لمغامرات البطل "دون كيخوته"، والجميل أن ذاك الجزء حقق أيضًا نجاحًا فوريًا ساحقًا. وتحكي رواية "دون كيخوته" عن محارب متقاعد بلغ الخمسين من عمره وأصابه الملل بسبب وتيرة حياته المملة الخالية من اللحظات المميزة، فكانت تسليته الوحيدة قراءة روايات المغامرات والبطولات. ولهذا ، قرر في أحد الأيام أن ينفِّذ ما يقرأه على أرض الواقع، وأن يصبح بطلًا واقعي لرواية حقيقية ينسج أحداثها بنفسه. ومن ثمَّ، قرر أن يصبح فارسًا جوَّالا، وأخذ معه خادمه المخلص "سانشو بانزا" ليشاطره حلمه، وأقنعه أنه بذلك لسوف يتقلَّد منصب "تابع فارس". ولتحقيق ذاك الحلم بكل تفاصيله، انتقى حصانًا رائعًا، وارتدى بزَّة فارس من الطراز القديم، واتَّخذ لنفسه درعًا. وآخر التفاصيل التي كانت تنقصه وجود حبيبة له، فاعتبر إحدى الفتيات القرويات حبيبته التي تشتاق له وتنتظر عودته مظفَّرًا بعد مغامراته الجليلة التي ينقذ فيها البشرية. والرواية التي تدور في إطار كوميدي، تنساب فيها الأحداث في إطار مغامرات وهمية يحاول فيه "دون كيخوته" إثبات نفسه كفارس يحمي الضعفاء، لكنه في كل مرَّة تكون نتيجة أعماله سلبية وينتهي به الحال أنه يتلقى ضربًا مبرحًا يؤذيه جسديًا. فعلى سبيل المثال، فإنه يخطئ ويحرر مجموعة من اللصوص لاقتناعه أنهم أشخاص في حاجة للمساعدة، وكذلك يتسبب في أن يتم حلق رؤوس مجموعة من الرهبان. وأمَّا المغامرة الكبرى التي أصبحت مقولة عالمية هي محاربته لطواحين الهواء لاعتقاده أنهم مجموعة من العمالقة. لقد كان ينهي "دون كيخوته" كل مغامرة وهو يشعر بالسعادة والانتشاء بالرغم من آلامه الجسدية العارمة وكأنه ينفِّذ نصائح علماء النفس الحديث التي تؤكِّد أن الانخراط في أعمال مفاجأة وغير مألوفة، والتي قد يصفها البعض بأعمال متهوِّرة أو مجنونة، تخلق ما يشبه الفجوة في وتيرة الحياة. ومن ثمَّ، يصبح من السهل ملئ تلك الفجوة بأوقات من السعادة التي قد يبتسم الفرد كلَّما تذكَّرها. وقد يعزى ذلك إلى أن الفرد قد تواصل مع الطفل الداخلي الذي تخنقه صعوبات الحياة، وأعطي لنفسه الفرصة للاستمتاع بأوقات تصنع ذكريات. أضف إلى ذلك، لحظات الجنون هي أوقات من الحرية الكاملة التي لا يهتم فيها الفرد بقيود المجتمع ويدرك فيها روعة الحياة بعد أن تخلَّص من شعور مقيت بالملل والتكرار العبثي لأحداث متشابهة، تجعل الأيام متكررة لخلوُّها من وجود لحظات متميِّزة. وعلى هذا، فإن لحظات الجنون هي تلك الأوقات الخالية من الأحقاد والهموم والتي تدفع الإنسان للإنسجام مع المحيط الخارجي، فتكون النتيجة لحظات من الفرح والسعادة حتى ولو كانت قليلة. ولذلك السبب كان يؤكِّد "ثربانتس": "السبيل لتحقيق المستحيل يبدأ بمحاولة تحقيق العبث." وهذا بالفعل ما استطاع أن يفعله "دون كيخوته" الذي ظهر في الجزء الأول من القصة يقوم بأعمال عبثية متهورة، لكن في الجزء الثاني كان يقلِّده آخرين كي يحظوا بأوقات مماثلة من السعادة. فيما يبدو أن الشهرة العالمية التي حققتها رواية "دون كيخوته" منذ أن تم نشرها في القرن السابع عشر، ولا تزال تحقق نفس ذاك النجاح في الوقت الحالي، والذي من المنتظر أن يستمر لأجيال قادمة، هو أن الرواية تتخطى المنظور الفلسفي وتجنح كثيرًا إلى محاولة النهوض بالجانب النفسي للإنسان. ولا عجب، فالرواية هي عصارة تجارب مريرة وعبثية خاضها "ثربانتس" ذاته، والتي جعلته يردد أن أكبر عدو للإنسان يكمن بداخله، وينصح بوجوب السعي الدؤوب، أو كما يقول: "اعمل على تحسين ذاتك، فهذا أفضل أنواع الانتصارات."
#نعيمة_عبد_الجواد (هاشتاغ)
Naeema_Abdelgawad#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عدم حتمية القانون وقنبلة العقاب الموقوتة: بنتهام وبيرجس
-
عندما تحدَّث -سبينوزا- و-ستيندال- عن ممارسة الإرادة الحرَّة
-
إذا أردت تعريفًا للجيل الضائع، إسأل ديلمور شوارتز وصناع المح
...
-
القوة والمعرفة ما بين فوكو والبحتري وتأثير السلطة الحيوية
-
حرب الأسياد والعبيد وفلسفة الحقّ: هيجل
-
-دوستويفسكي- الأديب الذي يحسد الأدباء هزائمه
-
الكاتب الذي ظلمه عصره وكرَّمه المستقبل: -جول فيرن-
-
رواية -وشم-والنقد الوجودي للمجتمع
-
سحرية الواقع حلم مرعب: ستيفن كينج
-
حلقات التاريخ ما بين روسو والذكاء الاصطناعي
-
روسو وفلوبير بين السيادة على الأفكار وعبودية الشعور
-
هروب فرانسواز ساجان من سجن النُّخبة
-
عندما خرج ويلز من بلد العميان
-
هكذا تحدَّث زوربا: حُرِّيات كازانتزاكيس
-
الواقع الجمعي للأمَّة والمجموعات المرَضِيَّة: فؤاد التكرلي
-
أدب المقاومة بنكهة كافكا: إميل حبيبي
-
الذكاء البشري أسير الخوف
-
أعداءك ضمان النجاح والبقاء
-
تاريخ الحجاز في العصر الأموي من خلال شعر الأحوص
-
شرارة الضحك والسخرية: مارك توين
المزيد.....
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|