أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ثائر أبوصالح - الديمقراطية وأهم معوقاتها- النموذج السوري















المزيد.....



الديمقراطية وأهم معوقاتها- النموذج السوري


ثائر أبوصالح

الحوار المتمدن-العدد: 8236 - 2025 / 1 / 28 - 11:55
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


- مقدمة:

من نافل القول أن نذكر؛ إن الثورات بشكل عام تمر بثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى: إسقاط النظام القائم، المرحلة الثانية: وهي المرحلة الانتقالية، وتتركز على الخلاص من غالبية ما تبقى من تركة النظام القديم، لمنع أي محاولة لثورة مضادة. أما المرحلة الثالثة: فتتمثل في بناء النظام الجديد. فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ الثورتان المصرية والتونسية أنجزتا المرحلة الأولى من الثورة؛ وهي إسقاط النظامين المصري والتونسي، ثم انتقلتا إلى المرحلة الثانية ؛ أي تطهير البلاد من أزلام النظام القديم وذلك تمهيدا للمرحلة الثالثة؛ وهي بناء النظام الجديد، وإعادة توزيع الثروات في البلاد، وهي المرحلة الأصعب والأدق، ولكن، حصلت انتكاسات كبيرة من خلال الثورة المضادة في مصر، واستيلاء الجيش من جديد على السلطة، وكذلك في تونس حيث انقلب الرئيس على الثورة وامسك بكل مقدرات السلطة من جديد ،أما اليمن وليبيا فالثورات التي حصلت فيها ادت الى انهيار كامل للدولة وتحولت الثورة الى حرب أهلية.

الثورة السورية والتي انطلقت في اذار من عام 2011، دخلت في اتون حرب دامية لحولي 14 عاماً دفع من خلالها السوريون الالاف الشهداء، والالاف المعتقلين والمغيبين، ناهيك عن ملايين المهجرين قسرياً، ولكن ورغم كل المآسي نجحت الثورة أخيراً في الثامن من كانون أول 2024 في انجاز المرحلة الأولى، وذلك بعد ان استطاعت هيئة تحرير الشام، والجيش الوطني السوري المتحالف مع تركيا، الإطاحة بنظام بشار الأسد، والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل ستنجح هذه الثورة وبعد ما مر عليها، وعلى الشعب السوري من ويلات وتحديات وانقسامات، في انجاز المرحلتين الثانية والثالثة؟ أم أنها ستحذو حذو دول الربيع العربي، سؤال كبير يوضع في رسم كل أطياف الشعب السوري، وبالذات من يمسكون بزمام السلطة اليوم.

لقد خرجت الثورة السورية مطالبة بالحرية والدولة المدنية الديمقراطية، ولذلك من الطبيعي أن يطالب الشعب السوري، بعد انتصار الثورة، ببناء دولة حديثة تقوم على أسس ديمقراطية، وهنا يجب أن نؤكد أن بناء النظام الديمقراطي لا يقل صعوبة وتحدياً للذات وللواقع الإقليمي والدولي عن الخروج للثورة، فنجاح المرحلة الأولى للثورة لا يعني أبداً وصول الثورة لأهدافها، ولذلك فأن انجاز المرحلة الثانية دون تباطؤ، ووضوح الرؤية في المرحلة الثالثة وتبني المقولات الصحيحة، والتأكيد عليها، يشكل أساساً مهماً لنجاح الثورة في مرحلة بناء النظام الجديد.

هذه الورقة ستتناول المرحلة الثالثة، وتحديداً مرحلة بناء النظام الديمقراطي، بهدف القاء الضوء على مفهوم الديمقراطية، من وجهة نظر اجتماعية سياسية تحاكي واقعنا العربي، بعيداً عن التعريفات والكليشيهات الأكاديمية المعروفة، ومن ثم ستحاول التطرق لأهم التحديات التي من الممكن أن تشكل عائقاً أمام بناء النظام الديمقراطي في العالم العربي عامة، وفي لواقع السوري بشكل خاص، دون الخوض في التفاصيل.

- مفهوم الديمقراطية:

الديمقراطية بما فيها من حسنات وسيئات، هي وصفة وآلية حكم أثبتت، من خلال تطبيقها في دول عديدة من العالم، أنها أفضل الموجود في سياق بناء علاقة صحيحة وصحية وقريبة إلى العدالة بين المواطنين أنفسهم من جهة، وبين المواطن والمؤسسة الحاكمة من جهة أخرى، حيث تضمن للمواطن مساحة من الحرية، وتصون كرامته الإنسانية، وحقوقه الطبيعية، ضمن إطار القانون والدستور.

وفي هذا السياق يجب أن نُفرّق، ولو نظرياً، بين ركائز ومؤسسات النظام الديمقراطي، وبين العملية الديمقراطية كممارسة وسلوك ونهج يومي، فالنظام الديمقراطي يستند الى دستور ديمقراطي يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث؛ التنفيذية والتشريعية والقضائية؛ من خلال مبدأ التوازن والكبح؛ أي التوازن بين السلطات، وعدم السماح لأي سلطة أن تفرض وصايتها على السلطة الأخرى، أما الممارسة الديمقراطية فهي سيرورة حية ومتطورة، ويتوقف عليها الكثير في نجاح أو فشل الديمقراطيات في العالم.

وهنا يجب التأكيد؛ على أن الديمقراطيات قد تكون متشابهة من حيث تركيبتها ونظمها في العالم، ولكنها ليست متشابهة من حيث مستوى تطورها، ومرد ذلك يعود، على الأغلب، الى آلية أو ميكانزيم حركتها، فهي سيرورة تتطور في نسقٍ حلزوني تلقائي صاعد يقوم، من وجهة نظري، على ما يلي:
- أولا: مستوى الممارسة اليومية الواعية للأفراد من خلال حرية الاختيار، ضمن المسموح به قانونيا.

- ثانيا: مستوى قدرة الأفراد على تذويت عملية الاختيار الحرة، وتحويلها مع الزمن الى عملية تلقائية.

- ثالثا: مستوى قدرة الأفراد على المراجعة النقدية التلقائية للسلوك؛ من خلال النقد الذاتي التلقائي لعملية الاختيار، بعد خروج الممارسة لحيز الفعل، وتلمس النتائج ((Feedback)

- رابعاً: مستوى قدرة الأفراد على الاستفادة، والتعلم من الأخطاء، وتعديل السلوك المستقبلي. مما يؤدي مع الزمن الى تراكم الخبرات عبر الممارسة اليومية،

- خامساً: تطور الأداء نتيجة للتراكم الكمي للخبرات الذي سيؤدي مع الزمن إلى تغيير نوعي في السلوك.

وهكذا دواليك، تستمر الحركة بشكل حلزوني تصاعدي، مما يؤدي إلى ممارسة آخذة بالتطور مع الزمن، وهكذا يرتقي مع الزمن الأداء الديمقراطي للأفراد كما يرتقي الطالب من صف إلى صف، لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم الدول المتطورة وذلك من خلال:
ممارسة ثم تذويت ثم مراجعة ثم تعلم واكتساب خبرة ثم تطور .

لتوضيح الفكرة نأخذ على سبيل المثال التجربة الديمقراطية الأمريكية، فالدستور الأمريكي الذي استقى تعاليمه من منظري عصر التنوير أمثال فولتير وروسو ومونتسكيو وغيرهم ، ورغم التعديلات الدستورية التي حصلت عليه نتيجة تطور العملية الديمقراطية؛ مثل التعديل الثالث عشر لعام 1865 والذي ألغى العبودية، وكذلك التعديل الرابع عشر لعام 1868 والذي ضمن حقوق المواطنة والمساواة امام القانون، وكل التعديلات السابقة واللاحقة، إلا إن الممارسة على الأرض أخذت عشرات بل مئات السنين حتى وصلت الديمقراطية الأمريكية إلى ما وصلت إليه اليوم في أمريكا. (1)

ان وصول باراك أوباما (2) إلى سدة الحكم (2017-2009)، وهو الرجل ذو الأصول الإفريقية، ليحكم أكبر وأقوى دولة في العالم، هو أمر لا يمكن لأبراهام لينكولن (3) الرئيس الأمريكي (1861-1865) محرر العبيد والذي دفع حياته ثمنا لذلك، ومارتين لوثر كينغ (4) القس الأمريكي من أصول افريقية والذي اغتيل عام 1968 لنفس الأسباب المذكورة أعلاه، أن يصدقا ذلك لو أتيحت لهما فرصة العودة للحياة من جديد ولو للحظة واحدة. ولكن يجب علينا أن نعترف، انه لولا وجود نظام ديمقراطي قائم على العدالة وحقوق الإنسان، لما تطورت العملية الديمقراطية في أمريكا. فلو حرم الدستور الأمريكي الأمريكيين من أصول افريقية من المساواة، وفرق بينهم وبين باقي الأمريكيين في الحقوق والواجبات، لما وصلت الديمقراطية الأمريكية الى ما وصلت اليه اليوم، وكانت ستصطدم بسقف لا يمكن تجاوزه الا بعمل ثوري. إذن فالديمقراطية ممارسة وعملية حية متحركة، تعترض سيرورتها عقبات جمة يجب التصدي لها بالتفكيك والتمحيص.

إن نمو الديمقراطية، من وجهة نظري، يشابه بشكل كبير نمو النبتة؛ فكما أن النبتة بحاجة إلى مناخ وتربة مناسبين لنموها كذلك الديمقراطية. وكما يأخذ النبات ثاني أكسيد الكربون ( (CO2 والضوء من الجو، والماء من التربة وينتج بحكم التفاعل بينهم السكر اللازم لإنتاج غذاء النبات لينمو ويكبر (ما يسمى بعملية التمثيل الضوئي في النبات)(5)، كذلك الديمقراطية تنمو نتيجة التفاعل بين الأجواء الديمقراطية التي يشكلها الدستور والمؤسسات الديمقراطية في بلد ما (الجو) وبين الحراك المدني الفردي والحزبي والمؤسساتي(التربة)، من خلال سلسة تفاعلات مكررة تتراكم فيها الخبرات، فتنمو الديمقراطية كما تنمو النبتة. فالمناخ المطلوب لكي تستطيع الديمقراطية أن تنمو وتتطور يؤمنه الدستور والمؤسسات الديمقراطية، أما التربة المناسبة فهي المؤسسات المدنية، وكل اشكال التجمعات المهنية، والأحزاب السياسية والنقابات.

إذن؛ اكتساب الخبرات هو الغذاء المطلوب الذي يجعل نبتة الديمقراطية تنمو لتصبح شجرة وارفة الظلال، فاكتساب الخبرات ومراكمتها هو الذي يطّور عقولنا، وهو الأساس في عملية التطور الإنساني بشكل عام، ولكن بالحالة الديمقراطية هذا التطور مشروط بوجود مؤسسات ديمقراطية حاضنة تدفع الممارسة باتجاه التطور، ودستور يكون سقفه أعلى بكثير من مستوى الممارسة الديمقراطية، أما إذا كان سقفه منخفض، تتحول العملية الديمقراطية إلى المراوحة في المكان، وتذويت الواقع بكل سيئاته، فيصبح الأفراد مع الزمن عبيداً لهذا الواقع.

ولعل المثال اللبناني يجعلنا نتحسس الفكرة المطروحة أكثر؛ فالديمقراطية اللبنانية تراوح في مكانها، لأن ما يسمى بالنظام الديمقراطي في لبنان تركيبته محكومة بسقف طائفي وفقا لاتفاقية الطائف. (6) فالبرلمان والحكومة ومؤسسة الرئاسة قائمة على المحاصصة الطائفية. كذلك قسم كبير من التربة الديمقراطية؛ كون غالبية الأحزاب في لبنان هي أحزاب تمثل الطوائف، وبذلك تدور العملية الديمقراطية بحلقة مفرغة، ينتج عنها سلوكاً طائفياً، هذا السلوك تحول مع الزمن إلى خطاب شرعي في لبنان، وشكل معوقاً أساسياً أمام تطور الديمقراطية اللبنانية. ومن أجل الخروج من هذه الحلقة المفرغة، يجب إلغاء المحاصصة الطائفية وتطوير الدستور، عندها يصبح التفاعل قادراً على الارتقاء التدريجي عبر الممارسة الديمقراطية اليومية.

- أهم معوقات الديمقراطية:

بعد أن استعرضنا مفهوم النظام الديمقراطي بشقيه المؤسساتي والسلوكي، يصبح السؤال التالي ملحاً: ما هي أهم معوقات الديمقراطية في عالمنا العربي بشكل عام والسوري بشكل خاص؟ هذا هو السؤال الأساسي الذي يجب أن ينبري له كل المثقفين العرب عامة، والسوريين خاصة، على امتداد وطننا العربي، بالبحث والتمحيص لاقتراح الوصفات التي قد تفيد هذه الجماهير المتعطشة للحرية في عملية البناء الديمقراطي، بعد أن نجحت وبامتياز في عملية هدم القديم والفاسد. ولتسهيل الخوض في هذا الموضوع اخترنا نظرية مستويات التحليل كإطار نظري لنصنف وفقها أهم معوقات الديمقراطية، ولذلك ووفقاً للنظرية المذكورة يمكننا تصنيف المعوقات على أربعة مستويات تحليل:

1.الفرد –المجتمع :أي المعوقات الذاتية عند المواطن العربي، والمعوقات الاجتماعية الموضوعية المرتبطة بتركيبة هذا المجتمع ومستوى تطوره؛ أي العادات والتقاليد والدين ونسبة الأمية ودخل الفرد، والى آخره من المتغيرات النفسية والاجتماعية والاقتصادية .

2.الدولة :أي المعوقات المؤسسية في الدولة، هل يوجد في هذه الدولة مؤسسات قائمة وتعمل كمؤسسة؟ وما هو مستوى تطور المؤسسات المدنية والأحزاب السياسية؟

3.النظام الإقليمي :وتعني التحديات الخارجية الذي يفرضه النظام الإقليمي على بناء الديمقراطية في الدولة، وفي حالتنا على سبيل المثال؛ مدى تأثير الصراع العربي الإسرائيلي والصراع بين مصالح الدول الإقليمية، وما يفرضه من تحديات على الواقع الداخلي للدولة.

4.النظام الدولي :أي مصالح الدول الكبرى في الإقليم؛ والتي قد تنسجم أحيانا وقد تتضارب أحيانا أخرى مع مصالح هذه الدول، ومدى تأثير ذلك على بناء النظام الديمقراطي .

من المفيد أن نؤكد؛ أن التطرق لهذه المستويات سيكون فقط من أجل التنويه الى القضايا المهمة التي يجب تناولها في كل مستوى من مستويات التحليل المطروحة، وليس من أجل الولوج في بحثها، فهي تحتاج لبحث أكاديمي موسع، وهذا ليس من ضمن اهداف هذه الورقة.

الفرد –المجتمع:

المقصود هنا مستوى تطور الأفراد في المجتمع وقابليتهم للقبول بالرأي والرأي الآخر، ومدى قدرتهم على قبول الحسم بالطرق الديمقراطية بعيداً عن العنف. ومن الواضح أن هذا الأمر متعلق بمتغيرات كثيرة مثل: المستوى التعليمي، الاقتصادي، والعادات والتقاليد الخ.. ولكنه يبدأ من مؤسسة الأسرة؛ أي علاقة افراد الأسرة مع بعضهم البعض، ومدى المساحات المتاحة من الحرية ضمن النظام الأسري، فمثلاً طريقة تعامل الزوج مع الزوجة والأولاد، وصولا إلى أكبر المؤسسات في الدولة كالبرلمان على سبيل المثال لا الحصر، وبالمقابل، يجب ان نتطرق أيضاً الى سلم أولويات الولاء عند الأفراد، الذي يبدأ من الأسرة، مروراً بالدين والطائفة والقبيلة والأثنية وينتهي بالدولة.

لتجسيد الفكرة، نقترح أن نسأل السؤال المهم التالي، لنكتشف مدى قابليتنا لتشكيل مجتمع مدني قادر على التطور: لمن ولاءنا الأول؟ هل هو للعائلة، أم للقبيلة، أم للمذهب، أم للدين، أم للدولة الوطنية؟ فبناء دولة مدنية، ديمقراطية يقوم على أسس علمانية يفرض على الفرد أن يقدم ولاءه للدولة على كل ولاء آخر، ولكن هذا لا يعني بالطبع إلغاء ولاءاته الأخرى، ولكن إذا ما تناقض أي ولاء مع الولاء للدولة فعلية تفضيل ولائه للدولة. ولكي يحدث ذلك يجب على الدولة ان تعطي مساحة امان للمواطن، تشجعه على الخروج من الخنادق الضيقة وعلى الالتحاق بساحة الدولة المدنية الأوسع.

ان الخروج من القوقعة الطائفية والقبلية والدينية والاثنية إلى ساحة الدولة الأوسع، لا يعني بأي شكل من الأشكال، الغاء الأديان والطوائف والأثنيات، بل، على العكس، فالقانون المدني سيحمي هذه الانتماءات من خلال ترسيخ مفهوم المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، عندها لا يشكل الانتماء الديني أو الطائفي أو الاثني مسوغاً شرعياً للانتقاص من حقوق أو واجبات أي مواطن في إطار الدولة.

في هذه الحالة فقط يشعر المواطن بالأمان، فيكون مستعداً للخروج من البوتقة الضيقة الى ساحة الدولة المدنية، التي تحفظ حقوقه وتحميه من أي تعدٍ بسبب انتماءاته الدينية او الطائفية او الاثنية، وبالمقابل؛ الدولة المدنية العلمانية بدستورها الديمقراطي سوف تحفظ للمواطن الحق في الانتماء الى دينه او طائفته، وتصون حقه في ممارسة شعائره الدينية، وكذلك تضمن لكل الإثنيات حقها الطبيعي في تطوير ثقافتها ولغتها الخاصة بها، وكل ذلك يحصل تحت مظلة القانون والذي يشكل السيد الوحيد لكل المواطنين في الدولة.

لا شك، أن مستوى تطور الأداء الديمقراطي في أي مجتمع محكوم بالوقع الاجتماعي، وطريقة التعامل بين مكونات هذا المجتمع، ولذلك يمكن تشبيهها بالثوب أو النسيج المرن الحي الذي يلقى على الواقع الاجتماعي فيأخذ هذا النسيج شكل هذا الواقع، فالديمقراطية اللبنانية تشبه الواقع الطائفي في لبنان، أم الديمقراطية في السويد فهي تشبه حتماً ما وصل اليه المجتمع المدني السويدي من تطور، ولكن هذا لا يمنع ان تتطور الديمقراطية اللبنانية الى مستويات أفضل فيما إذا توفرت لها الشروط لذلك.

كذلك في النموذج العراقي (7)، فنظامها الديمقراطي قائم على تكريس الواقع من خلال المحاصصة (الرئاسة الشكلية للأكراد، رئاسة الوزراء للشيعة رئاسة البرلمان للسنة)، فالانتخابات التي تجري هناك تقوم عل أساس طائفي وقبلي، لأن النسيج الديمقراطي يأخذ شكل الواقع الاجتماعي. إذن الواقع الاجتماعي في الدول العربية يشكل أحد أهم المعوقات أمام الديمقراطية. لذلك فإن سورية التي تتشكل من فسيفساء ديني وطائفي واثني وقبلي، يصبح فيها بناء الديمقراطية تحدياً كبيرا للثورة، خصوصا في ظل ما زرعه النظام من احقاد بين أبناء المجتمع السوري، وخلفته الحرب من دمار وضغائن وضياع جيل كامل لم يحصل على التعليم، أضف الى ذلك، عدم وجود تجربة سابقة عند المواطنين السوريين في ممارسة الديمقراطية.

- الدولة:

المقصود في هذا المستوى، هو مؤسسات الدولة القائمة، هل هناك أصلا مؤسسات في الدولة يمكن البناء عليها؟ أم أن الدولة مختصرة بشخص القائد؟ فالحالة الليبية مثلاً تعبر بأفصح ما يكون عن هذا الواقع، دوله بدون نظام، بدون مؤسسات تعتمد على شخص واحد ومعه مجموعة من أسرته وأقربائه وبعض المنتفعين. بينما في مصر وتونس على سبيل المثال وجدنا أن هنالك على الأقل مؤسسة جيش قوية، قادرة أن تحافظ على تماسك الدولة وقت الأزمات، وتعمل كمؤسسة. إذن وجود التربية المؤسساتية أو عدم وجودها هو عامل أساسي في بناء الديمقراطية.

من الناحية الأخرى، هناك دول يوجد فيها أحزاب سياسية ونقابات، والعمل المؤسساتي قائم فيها، حتى لو كان الأداء ضعيفاً بحكم الظروف المعروفة، مثل مصر على سبيل المثال لا الحصر، وهناك دول منعت فيها الأحزاب السياسية والعمل الحزبي وحتى النقابي لسنوات طويلة مثل ليبيا وعمان والسعودية وغيرها. (8) باختصار وجود مؤسسات دولة ومجتمع مدني يشكلان عاملا أساسيا في بناء النظام الديمقراطي.

في الواقع السوري، لا يخفى على أي مراقب، ان نظام الأسد الأب والأبن من بعده، ورغم وجود مؤسسات اسمية في الدولة، كالوزارات والبرلمان والمحاكم، والتي تشكل السطات الثلاث؛ التنفيذية والتشريعية والقضائية، اللازمة لبناء أي نظام ديمقراطي في أي بلد، الا انه تم اختصار الدولة ومؤسساتها كلها بشخص القائد. فالمؤسسات قائمة ولكنها مشوهة وضعيفة، وأضعفها مؤسسة الجيش، التي انهارت بانهيار النظام بشكل سريع بحكم تركيبتها، كجيش لحماية النظام وليس لحماية الدولة والشعب السوري. ولذلك فإن قرار "العمليات العسكرية" الإبقاء على المؤسسات القائمة هو قرار صائب بامتياز، بهدف تطويرها، من اجل استمرار عمل الدولة وصولاً الى خدمة المواطنين وتأمين حاجاتهم اليومية.

يبدو أن التحدي الأكبر امام الحكومة الجديدة سيكون إعادة تفعيل مؤسسات الدولة لتقدم خدماتها للمواطنين، إضافة الى بناء مؤسسة جيش، والتي على ما يبدو ستقوم على التطوع وليس على الخدمة الإجبارية، (9) من اجل حماية الدولة الجديدة والتعامل مع التحديات القائمة في منطقتنا. وهنا يجب التأكيد على أن الجيش يجب أن يحمي النظام الديمقراطي المدني للدولة الجديدة، دون التدخل في السياسة، فمن المعلوم ان تدخل الجيش في السياسة هو المدخل لعودة سوريا الى الانقلابات العسكرية، ولذلك يجب أن يمنع الدستور بشكل قاطع وواضح الجمع بين السياسة والجيش، فكل من ينتسب للجيش يجب ان يُمنع دستورياً وقانونياً من ممارسة أي دور سياسي، حتى ينهي مهامه في الجيش، ولكن يحق له ممارسة حقه كمواطن في اختيار ممثليه.

- النظام الإقليمي:

لا شك، أن موقع الدولة الجيوسياسي والنظام الإقليمي المتواجدة فيه يعتبر عاملاً مؤثراً في البناء الداخلي، فإذا كان النظام الإقليمي داعماً فهذا يسهل على الدولة البناء الداخلي، أما إذا كانت العلاقات الإقليمية لهذه الدولة تقوم على الصراع مع دول الإقليم، أو تشكل ساحة صراع لدول إقليمية، فمن الطبيعي أن يؤثر ذلك على بناء الديمقراطية، ففي الحالة السورية هناك تحديات إقليمية كبيرة، على رأسها الصراع مع إسرائيل التي تحتل الجولان السوري، إضافة الى الساحة العراقية التي ترزح تحت النفوذ الإيراني، وكذلك تركيا التي يقلقها الملف الكردي، ولذلك دعمت التحرك الأخير لهيئة تحرير الشام والجيش الوطني، وتريد أن تكون مؤثرة في الواقع السوري، من اجل حماية مصالحها، والأردن التي تخشى من أي نظام جديد يزعزع استقرارها.

من الواضح، ان إسرائيل حالياً تشكل التحدي الأكبر أمام سوريا التي تحاول النهوض من تحت الدمار، فمنذ أن سقط النظام، بدأت إسرائيل بعمليات عسكرية ممنهجة للقضاء على ما تبقى من عتاد واسلحة يملكها الجيش السوري، بحجة عدم وقوعها بأيدي السلطة الجديدة التي لا يعرفون حتى الأن توجهاتها، وقد اعلن قادة إسرائيل ان سلاحهم الجوي قام بأوسع عملية في تاريخه العسكري، فقد توغل الجيش الاسرائيلي في المنطقة العازلة بين خطي الفا وبرافو وسيطر عليها ابتداءً من جبل الشيخ شمالاً حتى الحدود الأردنية جنوباً، حيث يبلغ طولها 75 كم من الشمال الى الجنوب وبعرض يتراوح بين 200 متراً الى 10 كم، إضافة الى مصادرة الأسلحة من سكان القرى التي تقع في المنطقة العازلة ومحاولة ترحيلهم.(10)

لا شك، ان إسرائيل لا تريد لسوريا ان تنهض، ولا تريد لها ان تتعافى اقتصادياً وسياسياً وتتحول الى دولة موحدة مدنية ديمقراطية، بل هي تسعى لتقسيمها وإقامة دويلات طائفية تقتتل فيما بينها وتؤمن حدود إسرائيل، كما كان النظام السابق يفعل. إسرائيل تخاف من سوريا موحدة وقوية لأنها حتماً ستطالب باستعادة الجولان السوري المحتل سلماً او حرباً، فهي تسعى لتكريس احتلالها للجولان لما يمتلكه من مواقع استراتيجية مهمة، وموارد وخيرات، خصوصاً منابع المياه في جبل الشيخ وبانياس التي تغذي بحيرة طبريا، وكذلك النفط الذي اكتشف مؤخراً في الجولان. (11)

اذن، تسعى إسرائيل لتقسيم سوريا؛ لكي تجد المسوغات المقنعة أمام المؤسسات الدولية والرأي العام الدولي، والذي يعتبر الجولان ارضاً سورية محتلة، بأن تحتفظ بالجولان وتتوسع شرقاً على حساب الأرض السورية، خصوصاً أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كان قد أعطى الضوء الأخضر لإسرائيل، واعترف ابان ولايته السابقة وتحديداً عام 2019 بالسيادة الإسرائيلية على الجولان،(12) ويبدو ان اسرائيل قد تفاجأت بسرعة انهيار النظام بعد بدء عملية "ردع العدوان"، فسارعت، قبل أن يفرض عليها دولياً أن تتوقف عن الانتهاكات، الى تنفيذ ما يمكن تنفيذه من مخططها في القضاء على القوة العسكرية السورية، والسيطرة على المنطقة العازلة المتفق عليها في اتفاق فصل القوات بين سوريا وإسرائيل عام 1974.

اما بالنسبة لباقي الدول الإقليمية فأنها ستحاول التأثير بمجرى الأحداث سلمياً، على غرار ما جرى في اجتماع العقبة والذي طالب الحكومة السورية بتطبيق قرار مجلس الأمن 2254 مع ان هذا القرار فقد فعاليته بعد سقوط النظام. (13) ولا يخفى على كل متابع الصراع بين المحور التركي –القطري مع المحور السعودي – المصري، ويبدو واضحاً محاولة الإدارة السورية الجديدة إيجاد نقطة التوازن، التي تضمن دعم المحورين لرفع العقوبات عن سوريا وإعادة الإعمار، ولذلك فهي تولي أهمية كبيرة للعلاقة مع تركيا والسعودية وقطر، من هنا فإن النظام الإقليمي له تأثيراته المباشرة وغير المباشرة على الواقع السوري الداخلي، وعلى الحكومة الجديدة التعامل مع هذه التحديات وتمنعها من حرف مسار البناء الديمقراطي.

- النظام الدولي:

في هذا المستوى من التحليل، نرصد مصالح القوى الدولية المؤثرة في الأحداث الجارية على الأرض السورية ومدى تأثيرها على الواقع المحلي السوري، ومن نافل القول ان نذكر أن اهم القوى الفاعلة دولياً هي: الولايات المتحدة الأمريكية، روسيا، والاتحاد الأوروبي، والصين.، ولكن القوى الأكثر فاعلية وتأثيراً هي القوى التي تمتلك قوات عسكرية على الأرض السورية ، فالولايات المتحدة تتواجد في شمال شرق سوريا وفي موقع التنف على الحدود السورية العراقية، اما روسيا فتمسك بميناء طرطوس وقاعدة حميميم الجوية، ولعبت دوراً مهماً في الحرب السورية، حيث دعمت النظام وانقذته من السقوط.

يبدو ان روسيا قد خسرت الورقة السورية بعد سقوط النظام، وتحاول اجراء اتصالات مع القيادة الجديدة في دمشق في مسعى لقبول الوجود الروسي في الميناء والقاعدة الجوية، ولكن الحكومة الانتقالية أعلنت عن نيتها الغاء كل الاتفاقيات التي أُبرمت بعد الثورة عام 2011 واعتبرتها غير شرعية، وخصوصاً تلك التي وقعت مع إيران وروسيا، ومن المرجح أن روسيا عدَّلت من أولوياتها بسبب الحرب مع أوكرانيا، وبدأت بسحب الياتها العسكرية، ومن الممكن ان تغادر سوريا بشكل نهائي، الا اذا توصلت لاتفاق مرضٍ مع الحكومة السورية الجديدة، خصوصا ان هناك اتفاقيات بين سوريا وروسيا تعود الى ما قبل تاريخ بداية الثورة،(14) وبكلتا الحالتين؛ سواءً غادرت او بقيت، من المرجح أن يكون تأثيرها ضعيفاً على ما يجري بسوريا بالرغم من محاولاتها التأثير على مجريات الأمور من خلال وقف تصدير القمح لسوريا.

بالمقابل، فإن الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الفاعلة، فرضت بدورها عقوبات على سوريا في زمن حكم الأسد، وبديهي جداً، أنه لا يمكن لسوريا ان تتعافى دون رفع العقوبات عنها والاعتراف بشرعية حكومتها (15)، ولذلك كان لا بد ان تُثبت قيادة هيئة تحرير الشام بالأفعال ما تقوله بالتصريحات، فالخطاب الجامع والطريقة التي تم التعامل فيها من قبل هيئة تحرير الشام كان مرضياً ومبشراً بالخير، ولكن أمريكا ودول أوروبا ما زالت تراقب وتحاول ان تجري اتصالات مع القيادة الجديدة لتتلمس وجهتها.

السؤال المهم هنا، هل ستدعم أمريكا واوروبا المرحلة الانتقالية في سوريا؟ هذا السؤال مفصلي لأن مفتاح رفع العقوبات، لكي يتسنى للاقتصاد السوري أن يبدأ بالتعافي، موجود بأيدي أمريكا ودول أوروبا الرئيسية، وهناك أسئلة كثيرة أخرى تتعلق بأمريكا وأوروبا كونهما ذات تأثير كبير على ما يجري في سوريا، فعلى سبيل المثال لا الحصر: هل ستقبل امريكا بالخروج من سوريا إذا طلب منها ذلك؟ هل ستدعم أمريكا التحول الديمقراطي في سوريا؟ هل ستقبل أمريكا بديمقراطية عربية ترفض وجودها في الشرق الأوسط حتى لو كانت هذه الديمقراطية تُعبّر تعبيراً دقيقاً عن رغبة الجماهير؟

من المرجح، أن الوفد الأمريكي بقيادة مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف،(16) الذي زار سوريا في 20 كانون اول 2024 كانت مهمته جس نبض القيادة الجديدة لسوريا، ومحاولة فهم وتقييم اتجاهاتها ومقاصدها، فأمريكا ودول أوروبا قادرون على اجهاض التحولات الايجابية الجارية في سوريا، ان أرادوا، وسكوت الولايات المتحدة عن خروقات إسرائيل للمنطقة العازلة له دلالته، كونه يشكل ورقة ضغط إضافية، وتهديداً مباشراً للحكم الذي بدأ يتبلور في سوريا، لذلك سيكون للموقف الأمريكي ومن ورائه الأوروبي تداعيات على المرحلة الانتقالية، ولا شك أنهم سيؤثرون بشكل كبير على مجريات الأمور سلباً او ايجاباً.

- خلاصة:

بغض النظر عن الآراء المختلفة حول ما يجري داخل سوريا، وعن مستوى التفاؤل حول إمكانية تحول سوريا الى دولة مدنية ديمقراطية، من عدمه، الا ان هناك بعض الحقائق التي لا يمكن الاختلاف عليها:

اولاً: نعمة الخلاص من النظام البائد، الذي قضى على الشجر والحجر، وزرع الفتنة ونهب خيرات هذا البلد الغني بموارده البشرية والمادية،

ثانياً: ان القوى والفصائل التي اسقطت هذا النظام، سواءً الذين انطلقوا من الشمال، أو الذين انطلقوا من الجنوب، أسقطوا بفعلهم هذا مؤامرة التقسيم التي كانت إسرائيل، وما زالت، تسعى لتحقيقها.

ثالثاً: رغم اختلاف وجهات النظر والرؤى حول أداء الإدارة الجديدة؛ الا انه هناك استحقاقات قريبة ستضعها على المحك، وهو مؤتمر الحوار الوطني والذي يجب ان يتمخض عنه مجلس تأسيسي كبرلمان مؤقت، وتشكيل حكومة انتقالية تمثيلية تعتمد على التكنوقراط، وتشكيل لجنة دستورية لصياغة دستور جديد لسوريا،

رابعاً: لا يمكن رفع العقوبات عن سوريا، وإعادة الإعمار، وانطلاق الاقتصاد السوري من جديد دون دعم من النظام الإقليمي والدولي، ولذلك ليس هناك خياراً أمام الإدارة الجديدة، حتى لو ارادت، الا اثبات الانسجام بين الأفعال والأقوال، ولذلك يجب التأني وإعطاء الفرصة للإدارة الحالية، لإنجاز ما هو مطلوب، عندها نستطيع ان نحدد وجهة سوريا القادمة.

من الواضح أن سوريا لن تتحول الى دولة ديمقراطية بين ليلة وضحاها، فالعقبات كثيرة على مستوى الأفراد والمجتمع، والدولة السورية، والنظام الإقليمي والدولي، ولكن البناء الديمقراطي السليم للمؤسسات، وصياغة دستور عصري بسقف مرتفع، هما الضمانة لتطور الديمقراطية، فبدون وجود مؤسسات فاعلة، ودستور عصري، ستصطدم عملية التطور بالسقف المنخفض للدستور، فيرتد المواطن الى خندقه الأول ليحمي نفسه، لأن الدولة المدنية الوليدة غير قادرة على حمايته، وهذا ما يحصل في لبنان والعراق، على سبيل المثال لا الحصر، نتيجة المحاصصة الطائفية.

ان الأداء الديمقراطي هو عملية وسيرورة حية تتطور مع الزمن من خلال سلسلة تبدأ بالممارسة الحرة، اثم تذويت هذه الممارسة لتصبح تلقائية، وبعدها مراجعة السلوك بعد خروجه لحيز الفعل، وصولاً الى التعلم من الأخطاء فتتراكم الخبرات مع الزمن، مما يؤدي حتماً لتطوير الأداء الديمقراطي، ولكي تتم هذه العملية لا بد من الاجتهاد وعدم التنازل عن وضع الأسس النظرية الصحيحة في البناء الديمقراطي، وذلك من أجل خلق أجواء ديمقراطية حاضنة، تسمح للأداء الديمقراطي للشعب السوري بالتطور، فلا شك ان سلوك المواطنين في المراحل الأولى سيعتمد على الانتماءات الأولية مثل الانتماء الديني والطائفي والأثني، ثم يأخذ بالتطور نتيجة النشاط السياسي وتشكيل الأحزاب، وامتزاج السوريين بكل انتماءاتهم في اطر سياسية مشتركة.

إذن هناك تحديات كبيرة وكثيرة أوردنا جزءًا منها فقط، لنعي حجم المسؤولية الملقاة على عاتق الشعب السوري ومن يقوده في المرحلة الانتقالية. هذه الأسئلة وغيرها يجب أن تشكل الهاجس الأول لكل السوريين، وخصوصاً المثقفين منهم، لاكتشاف واقتراح أفضل السبل للخروج من الواقع الحالي، وبناء واقع جديد تسود فيه قيم الحرية والديمقراطية، لفتح الباب على مصراعيه أمام السوريين للمشاركة في العمل السياسي والنقابي في سوريا. ومن المفيد أن ندرس تجارب الذين سبقونا في هذا المضمار، ونتعلم منهم، ونستفيد من أخطائهم. فهناك تجارب مهمة في العالم خصوصاً في العالم الثالث، حيث أن واقعهم الاجتماعي ليس أفضل بكثير من واقعنا، ورغم هذا استطاعوا أن ينجزوا الكثير في هذا المضمار، على سبيل المثال: تركيا، مليزيا وأندونيسيا.(18)

إذن الشعب السوري بحاجة لبناء نظام ديمقراطي، يرتكز على مؤسسات ديمقراطية، ودستور يقوم على أسس نظرية متطورة، من أجل أن يشكلا الإطار والحاضن للأداء الديمقراطي، ويمنحا العملية والأداء الديمقراطي القدرة على التطور والارتقاء. ولا شك أن هناك مجموعة من القضايا ستشكل عائقاً وتحدياً حقيقياً في صياغة هكذا دستور يتسم بالحداثة ويشكل الحاضن للعملية الديمقراطية أهمها:

1- تعريف الدولة السورية: هل سورية ستبقى كما كانت تعرف: "الجمهورية العربية السورية" أم ستتحول الى " الجمهورية السورية" بحكم وجود سوريين من غير العرب كالأكراد والأرمن والسريان والتركمان وغيرهم. فاذا أراد العرب السوريون بناء شراكة حقيقية مع المكونات التي لا تنتمي للقومية العربية عليهم القبول بالجمهورية السورية. وطبعاً هذا لن يغير من الانتماء والعمق العربيين لسوريا.

2- هل ستكون سورية الجديدة مركزية أم فدرالية، ولكل نظام طبعاً حسناته وسيئاته، ولكن تبني الفدرالية في المرحلة الحالية، وفي الواقع السوري القائم الذي يغلب عليه التقوقع القومي والديني والطائفي، نتيجة الحرب الدامية التي مرت بها سوريا، قد يشكل مدخلاً للتقسيم، ولذلك يفضل تبني نظام مركزي يحترم الخصوصيات القومية، كاللغة والثقافة، من خلال توسيع الصلاحيات الإدارية في الشؤون المدنية للمحافظات على حساب المركز كحلاً وسطاً يرضي جميع الأطراف.

3- هل ستكون الدولة إسلامية بحكم الأغلبية، ام ستكون دولة علمانية؟ هل ستشكل الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للتشريع؟ أم ستكون أحد مصادر التشريع، وذلك بحكم التنوع الديني والطائفي في سوريا؟ وهنا لا بد من استحضار ما ذهب اليه المفكر الإسلامي المتنور محمد شحرور، والذي يقول إنه لا يجوز أن يقال دين الدولة هو الإسلام، وانما يجب ان تكون مرجعية الدولة قواعد الأخلاق العامة. (18) ولذلك يجب التأكيد على علمانية الدولة حتى لو اُعتمدت الشريعة الإسلامية كأحد مصادر التشريع كما ورد في الدساتير السورية السابقة.

4- هل سيحدد دين رئيس الجمهورية بالإسلام، كما كان في كل الدساتير السابقة؟ إذا كان الأمر كذلك، فالأمر منافي تماماً للمبدأ الديمقراطي الذي يعتبر كل السوريين متساويين أمام القانون بالحقوق والواجبات. فالنظام الديمقراطي لا يمكن ان يحرم أي مواطن من أي منصب في الدولة بسبب انتمائه القومي أو الديني أو الطائفي.

5- مكانة المرأة في الدستور، هل ستكون مساوية للرجل، ويحق لها تبوأ أي منصب في الدولة الجديدة، أم أنها ستُحرم من بعض الوظائف بذريعة الخصوصية؟ لا شك، أن تبني النظام الديمقراطي يفرض المساواة الجندرية، ولذلك يجب على الدستور أن يساوي بين الجنسين ويعطي المرأة الحق القانوني في تبوأ أي منصب حتى لو كان هذا المنصب لا يناسب خصوصيتها.

إن الأجواء الديمقراطية التي يهيئها النظام الديمقراطي ويضبطها ويمنعها من الفوضى، ستؤدي حتما مع الزمن، ورغم ما سيحصل من صعود وهبوط في الأداء الديمقراطي، إلى تطور ايجابي، ينقل الحياة السياسية في سوريا نقلة نوعية نحو الأمام. ولضمان ذلك لا بد من بناء مؤسسة جيش بعيدة عن السياسة؛ عملها الرئيسي حماية الوطن والدستور والنظام الديمقراطي. وبالمقابل من المفيد جداً أن تتحول الديمقراطية إلى مادة تدرس في المدارس لصبغ الأجيال الصاعدة بقيمها، وترسيخ قيمة الحرية وحقوق الإنسان والمسؤولية والمحاسبة في أذهان الأجيال الصاعدة، من أجل مستقبل أفضل.



#ثائر_أبوصالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين النصر الأخلاقي والعسكري للثورة السورية
- صراع الاستراتيجيات في الشرق اوسط
- فاجعة مجدل شمس والدروس المستفادة
- بين الحقيقة وظلالها
- سر النفس البشرية
- رحلة البحث عن الحقيقة
- الوجود بين الوهم والحقيقة
- الموقف السوري من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة
- الطريق الى معرفة الله في الفكر التوحيدي
- بين الهوية والانتماء
- آفة التطرف
- عناق الدب
- ثورة جبل العرب في سوريا
- من نحن؟
- التداعيات المحتملة للتقارب السعودي الإيراني
- مفهوم اللانهاية في الرياضيات وفكرة الألوهة
- قراءة في المستجدات على الساحة السورية
- قراءة سريعة في نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة
- بين إدراك الألم وفلسفة المعاناة
- المجتمعات العربية المراهقة وأزمة التطور


المزيد.....




- تبدو مثل كنغر مُصغَّر..أستراليا تشهد عودة جرابيات صغيرة وشرس ...
- تركي آل الشيخ يعلن عودة -العتاولة- في رمضان بمشاركة فيفي عبد ...
- بنما ترد على ادعاء واشنطن بإمكانية عبور السفن الأمريكية مجان ...
- -ماذا سيقول إذا قلت إنه يجب ترحيل سكان نيويورك إلى أفغانستان ...
- بنما تُحرج الولايات المتحدة الأمريكية وتنفي ما أوردته خارجيت ...
- قاض يحظر أمر ترامب بشأن حق الجنسية بالولادة في جميع أنحاء ال ...
- زاخاروفا ترد على رسالة رئيس تحرير -لوموند-
- قناة: موافقة نحو 40 ألف موظف حكومي أمريكي على الاستقالة
- الدفاع المدني في غزة: 10 آلاف قتيل ما زالوا تحت الأنقاض ونعج ...
- هل يميز الرضيع بين الخير والشر؟!.. دراسة حديثة توضح


المزيد.....

- الخروج للنهار (كتاب الموتى) / شريف الصيفي
- قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا ... / صلاح محمد عبد العاطي
- لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي / غسان مكارم
- إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي- ... / محمد حسن خليل
- المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024 / غازي الصوراني
- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ثائر أبوصالح - الديمقراطية وأهم معوقاتها- النموذج السوري