|
سلاسة التقديم في بكائيات غزة ميسون حنا
رائد الحواري
الحوار المتمدن-العدد: 8235 - 2025 / 1 / 27 - 20:32
المحور:
الادب والفن
بكائيات غزة ميسون حنا عندما يكون الأديب/ة متماهيا مع واقعه، مع شعبه، فهذه إشارة إلى صحة وسلامة الأدب الذي يجب أن يكون ـ خاصة وقت الحرب ـ مرآة لمعاناة الشعب/الأمة التي ينتمي إليها الكاتب/ة، في الحالة الفلسطينية نجد العديد من الكتاب والأدباء تماهوا مع واقعهم كفلسطينيين وكتبوا أدبا عن واقعهم، من هنا نجد الأحداث والوقائع وحروب حاضرة في الأدب، ما كنا لنعرفها دون وجودها كنصوص أدبية. في الأدب من الضروري وجود توازن بين قيمة المعرفة/المضمون، وبين جمالية التقديم الأدبي، بمعنى أن الأدب ليس نقل الواقع، بل هو تقديم الواقع بصورة/بشكل أدبي، بحيث تصل الفكرة/الحدث للقارئ لكن بأقل الأضرار النفسية. وهذا الأمر يحتاج إلى قدرات استثنائية عند الأديب/ة لتمرر موضوع قاس/مؤلم بأدوات أدبية ناعمة، في "بكائيات غزة" استطاعت "ميسون حنا" أن تجمع بين قيمة المضمون وبين جمالية التقديم، إن كان من خلال شكل تقديم الكتاب الذي وزع على مقاطع قصيرة، تتراوح بين ثلاثة أسطر إلى صفحتين، وهذا انعكس على حجم الكتاب الذي لم يتجاوز الثمانين صفحة، فالكاتبة تعي أنها تقدم مادة قاسية وصعبة، فارتأت في قصر النصوص عامل مخفف لقسوة الأحداث/المواضيع التي تناولتها. ولم يقتصر الأمر على الشكل بل تعداه إلى طريقة تقديم النصوص، فمنها من جاء بصيغة أنا السارد/المتكلم، ومنها ما جاء بصيغة السارد الخارجي/العليم، وهذا التنوع في القص/السرد أعطى المتلقي (استراحة) من الاستماع إلى (شخص واحد) مهيمن على النصوص، وجعله يشعر أن هناك أكثر من متحدث وأكثر من صوت. واللافت في "بكائيات غزة" لغة الأنثى التي نجدها من خلال الأم، في "عطش" نجد نموذجا لطبيعة الأم وكيف تتعامل مع واقعها وأبنائها وقت الحرب: "ذهبت وبيدي سطل فارغ، أملا في الحصول على قليل من الماء، حصلت عليه بصعوبة، عدت أسابق خطواتي، وتركت أبنائي يمزقهم العطش... وصلت أخيرا... ولكن لا وجود لمنزلي... كان منزلا والآن أراه حطاما...نظرت إلى أشلاء أبنائي بذهول... بكيت، صرخت، لطنت، أخيرا أيقنت أن لا راد لقضاء الله، فقط أتحسر على موتهم عطشى...جمعت بعض أشلائهم التي وجدتها...وسكبت الماء فوقهم لعلهم يرتون" ص13، بداية نجد قصر المقاطع التي تكون النص، وهذا يخدم سرعة الأحداث واختزالها، ففي الحرب لا وقت للشرح والتفسير، فالوقت ضيق ولا يتيح المجال للإسهاب في الحديث. ونلاحظ الصدمة التي أصابت الأم عندما وجدت منزلها حطام، وأبنائها أشلاء، لكنها كأم تصر على إتمام مهمتها، إسقاء الأبناء بعد تناثر أجسادهم، وهنا يستوقفنا هذا للفعل، هل فعلا كانت "الأم" قد "أيقنت أن لا راد لقضاء الله"؟ أم أنها فقد صوابها ـ تسكب الماء على أشلاء ـ وتريد أرواء عطشهم!؟ أجزم أن خاتمة المشهد كافية لتجعل المتلقي يندهش لقسوة الحدث، ولبراعة الكاتبة في تقديمه، وهذا ما يميز الكاتبة، تقديم القسوة بطريقة وأسلوب مثير ومدهش. وفي مقطع "أحلام العيد" تتحدث عن دورها كأم/كربة منزل، وكيف تسعد/تفرح عندما تعد الطعام لأسرتها لأطفالها: "المرأة: موقد غاز يعيدني سيدة البيت بجدارة... أحضر طعاما شهيا، لكن أين هو البيت؟ وأين الطعام؟ إنه حلم يراودني لاستيقظ على كسرة خبز يابس، أبلله بالماء لأطعم أطفالي النحالى...آه على رغيف خبز ساخن... ساخن..." ص38، لا يمكن لأي رجل/ذكر أن يتحدث بهذه الروح عن مسألة تأمين وإعداد الطعام، فهو متعلق بالمرأة/بالأم فقط، التي تحرص على العناية بأطفالها وتأمين ألذ وأجود الطعام لهم. اللافت في هذه المقطع بساطة اللغة المستخدمة فيه، فهو يشير إلى لغة الأم البسيطة/السهلة، من هنا نجد ألفاظ المقطع متعلق بالمطبخ وما تحتاجه الأم لإعداد الطعام، وما تحسرها على الرغيف الساخن إلا إشارة لعدم قدرتها على القيام بدورها، من هنا بدت (عاجزة) متألمة على حالها وحال أطفالها. العدوان على غزة لم يترك صغيرا أو كبيرا إلا وناله التوحش الصهيوني، في مقطع "براءة" تحدثنا الأديبة عن واقع الأطفال: "قذيفة مزقت أباه أشلاء، أما هو بتر طرفيه السفليين إثر إصابتهما... استفاق من غيبوبته، اراد النهوض، نظر إلى مكان الضماد بذهول، ابتسم الطبيب ليسهل عليه تقبل الأمر... تساءل: متى ستنبت قدمي يا عمو؟!" ص18، نلاحظ التكثيف والاختزال في المقطع، ونجد غياب القاتل/المجرم كليا من النص، وكأن الساردة لا تريده أن يلوث نصها ويبتره كما بتر ساقي الطفل، فجعلته مركز الحدث ليشير إلى جريمة المحتل. واللافت في هذا المقطع خوه من وجود الأم والأب، بمعنى أن الطفل فقد والداه وأسرته، وما (تغيب) صوت الطبيب إلا إشارة لعدم قدرته على الكلام/الحديث، لهذا جاءت ابتسامته كبديل عن تعاطفه وتأثره بحالة الطفل. وما السؤال الذي جاء في خاتمة المقطع إلا تأكيدا لبراءة الطفل، وإشارة لجريمة الاحتلال. وعن الجوع وصعوبة تأمين الطعام جاء في "وداع": "عانق والدته، طبع قبلة على جبينها... أذهب يا ولدي في رعاية الرحمن...لم يسافر... ببساطة ذهب لإحضار طعام لأسرته، ومن يدري، قد لا يعود..." ص19، يتميز في هذا المقطع في وجود اكثر من سارد، السارد الخارجي والأم، وإذا علمنا حجم المساحة بين الوداع بدواعي السفر، والوداع لجلب الطعام، نصاب بالدهشة، بالصدمة، فهل يمكن أن يكون جلب الطعام يتحمل فكرة الوداع!؟ وبهذا تكون الساردة قدمت صورة حقيقية بقالب أدبي عن معاناة أهلنا في غزة. الكتاب صدر عام 2024، عمان، الأردن.
#رائد_الحواري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العالم في قصيدة -نصفان: مأمون حسن
-
صلاح أبو لاوي في صباح الحرية
-
الصراع في ومضة -الولد الجني- المتوكل طه
-
صيغة السرد والمضمون -ال...هو/ القاروط/أيوب- في رواية -الكوان
...
-
اليهودي في رواية -كوانتوم- أحمد أبو سليم
-
الأسر والأسرى في كتاب -حسن اللاوعي- إسماعيل رمضان
-
-إضاءات على رواية المعتقلين الأدباء في المعتقلات الإسرائيلية
...
-
الثورة في ديوان -أعرني بعض إيمانك- فكري القباطي
-
صلاح أبو لاوي والموت
-
السلاسة والوحدة في مجموعة -أسرار خزنة- هدى الأحمد
-
أثر القمع رواية -الثانية وخمس وعشرون دقيقة- طايل معادات
-
التمرد في كتاب -النهر لن يفصلني عنك- رمضان الرواشدة
-
مهدي نصير وتقديم الألم
-
جواد العقاد والارتباك - وفي إيابي
-
البياض في قصيدة -معراج واسع للقصيدة- سائد أبو عبيد
-
الإيجابية في رواية -زمن القناطر- عامر سلطان
-
الأخلاق وجمالية الكتابة في رواية -لم أكن أتوقع- راشد عيسى
-
الواقع في قصة -الكابوس- مأمون حسن
-
فشل حركة التحرر العربية
-
سورية الجديدة (4)
المزيد.....
-
تركيا تقضي باعتقال مديرة أعمال فنانين مشهورة بتهمة محاولة ال
...
-
-من هو النمبر وان؟-.. الفنان المصري محمد رمضان يسأل والذكاء
...
-
الثقافة السورية توافق على تعيين لجنة تسيير أعمال نقابة الفنا
...
-
طيران الاحتلال الاسرائيلي يقصف دوار السينما في مدينة جنين با
...
-
الاحتلال يقصف محيط دوار السينما في جنين
-
فيلم وثائقي جديد يثير هوية المُلتقط الفعلي لصورة -فتاة الناب
...
-
افتتاح فعاليات مهرجان السنة الصينية الجديدة في موسكو ـ فيديو
...
-
ماكرون يعلن عن عملية تجديد تستغرق عدة سنوات لتحديث متحف اللو
...
-
محمد الأثري.. فارس اللغة
-
الممثلان التركيان خالد أرغنتش ورضا كوجا أوغلو يواجهان تهمة -
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|