|
بطل ملحمة گلگامش بين الحقيقة والأسطورة
عضيد جواد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 8235 - 2025 / 1 / 27 - 18:18
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
گلگامش هو الملك شبه الأسطوري لأوروك المعروف بأنه بطل "ملحمة گلگامش" (حوالي عام 2150-1400 قبل الميلاد) ؛ وهي السردية الشعرية البابلية العظيمة التي سبقت إلياذة وأوديسة اليوناني "هوميروس" بـ 1500 عام، وبالتالي فهي أقدم قصائد الأدب الملحمي العالمي . هناك أدلّة تاريخية مؤكدة على وجود گلگامش في النقوش التي نسبت إليه عن بناء أسوار أوروك العظيمة (الوركاء الحديثة)، والتي تعد الألواح التي دوّن عليها گلگامش لأول مرة سؤاله عن جدوى الحياة ومعناها . كما ورد ذكره في قائمة الملوك السومريين (حوالي عام 2100 قبل الميلاد) وذكره شخصيات تاريخية معروفة في عصره مثل "إن مي باراجي سي" ملك كيش (حوالي عام 2700 قبل الميلاد)، إلى جانب الأساطير التي نشأت حول حكمه. إن البحث عن معنى الحياة الذي تم استكشافه من قبل الكتّاب والفلاسفة القدماء، كان قد جاء لأول مرة في ملحمة گلگامش، ذلك عندما ترك الملك حياة الراحة في مدينته بعد وفاة صديقه الحميم "إنكيدو"، للعثور على الخلود والشخصية الصوفية "أوتنابشتم". حيث إن خوف گلگامش من الموت هو في الواقع خوف من عدم المعنى للحياة ، وعلى الرغم من فشله في الفوز بالخلود، فإن بحثه عنه قد وهب لحياته معنى .
الملك في التاريخ والأسطورة يُحكى إن والد گلگامش كان الملك الكاهن "لوگال ـ باندا" (الذي ورد ذكره في قصيدتين سومريتين تتحدثان عن قدراته السحرية التي سبقت گلگامش) ، ووالدته الإلهة "نينسون" (المعروفة أيضاً باسم نينسومون، الأم المقدسة والملكة العظيمة). وبالتالي، فإن گلگامش يعتبر نصف إله . وكما يُروى إنه عاش حياة طويلة بشكل استثنائي ؛ حيث ورد اسمه ودام حكمه مدة 126 عاماً حسب قائمة الملوك السومريين .
يُعدّ گلگامش الملك التاريخي الخامس لأوروك الذي حكم في القرن السادس والعشرين قبل الميلاد. ويُعتقد أن تأثير گلگامش كان عميقاً لدرجة أن الأساطير حول مكانته الإلهية قد تحدثت عن مغامراته لتبلغ ذروتها في الحكايات التي صاغت ملحمته . وقد استشهد ملوك بلاد الرافدين اللاحقون باسمه ، وربطوا نسبه بنسبهم . وكان أشهرهم الملك "شولگي أورـ نمّو" (عام 2029 ـ 1982 قبل الميلاد)، الذي يُعتبر أعظم ملوك سلالة أور الثالثة (عام 2047-1750 قبل الميلاد) ، عندما زعم أن كلاً من لوگال ـ باندا ، ونينسون بأنهما والديه، وأن گلگامش هو شقيقه ، لرفع مكانته عند شعبه .
عُرف گلگامش باسم "بلگامس" في السومرية، و"گلگامس" في الأكدية ، و"گلگاموس" في اليونانية . وقد يعني اسمه "القريب هو البطل" ، أو حسب تفسير الباحث والمترجم "ستيفن ميتشل" بـ "الرجل العجوز هو رجل شاب" (ص10). يرتبط گلگامش أحياناً بالإله الراعي "دوموزي" (تمّوز)، وهو الشخصية الإلهية المسؤولة عن الموت المُبكر والإحياء ، والملك الأسطوري لأوروك، وزوج الإلهة "إنانا / عشتار" التي تم التعرّف عليها في العصر الحديث من خلال القصة السومرية "نزول إنانا إلى العالم السفلي" .حيث أغوت إنانا / عشتار الإله دوموزي ، الذي عانى بسبب تلك العلاقة؛ بما في ذلك اضطراره إلى قضاء نصف العام في العالم السفلي . كما أن إنانا حاولت أيضاً مع گلگامش، إلا أنه نفرها ، فانتقمت منه بقتل صديقه الحميم إنكيدو بتحريض منها للآلهة.
تطوير نصوص الملحمة تم اكتشاف النسخة الأكدية من النصوص في نينوى تحت أطلال مكتبة آشور بانيبال في عام 1849 ميلادي من قبل عالم الآثار "أوستن هنري لايارد". حيث كانت رحلة لايارد إلى العراق هي جزء من حملة المؤسسات اليهودية والحكومات الأوروبية وبتمويل من كليهما في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي ؛ بهدف العثور على أدلة مادية ملموسة تؤكد القصص والأحداث الموصوفة في الكتاب العبري . ولكن بدلاً من ذلك وجد هؤلاء المستكشفون ؛أن نصوص الكتاب العبري الذي يُعتقد سابقاً أنه أقدم كتاب في العالم وقصصه أصلية حقيقية قد حصلت في الماضي؛ كان في الواقع قد استند إلى أساطير سومرية قديمة جداً !!. وينطبق نفس الشيء على ملحمة گلگامش، حيث إنها تروي قصصاً تناقلت شفهياً عبر العديد من الأجيال ، والتي دوّنت بعد 700 إلى 1000 عام من حكم الملك گلگامش . وكان مؤلف النسخة التي وجدها المستشرق لايارد هو الكاتب البابلي "شين ليقي أونيني" (كتبها في الفترة بين عامي 1300 و 1000 قبل الميلاد) الذي كان يُعتقد أنه أول مؤلف معروف بالاسم في العالم حتى اكتشاف أعمال الشاعرة والكاهنة السومرية "إنهيدوانا" (عام 2285 إلى 2250 قبل الميلاد)، ابنة الملك "سرگون الأكدي" (عام 2334 ـ 2279 قبل الميلاد) . وقد استعان الكاتب والناسخ شين ليقي أونيني بالمصادر السومرية لتأليف قصته، وربما كان لديه عدد كبير من المصادر التي مكنته في العمل عليها، حيث كان گلگامش بطلاً مشهوراً لقرون من الزمان بحلول الوقت الذي تم فيه تأليف تلك الملحمة. وفي الحكاية السومرية عن "إنانا وشجرة الهولوپو" (حوالي عام 2900 قبل الميلاد) على سبيل المثال، يظهر گلگامش كشقيق عطوف ومساعد لشقيقته إنانا .
في هذه الحكاية ؛ زرعت "إنانا" (إلهة الحب والحرب السومرية ) شجرة في حديقتها على أمل أن تصنع منها ذات يوم كرسياً وسريراً لها . لكن الشجرة أصبحت مسكناً مشتركاً لثعبان عند جذورها، وعفريتة شريرة ( ليليتو ) في ساقها ، وطائر أنزو على أغصانها. وقد حاولت إنانا التخلص من تلك الكائنات إلا أنها لم تستطع ، فاستنجدت بشقيقها "أوتو- شمش" إله الشمس طالبة المساعدة؛ إلا أنه رفض . ومن ثمّ لجأت إلى شقيقها الآخر گلگامش الذي هبّ مسرعاً لنجدتها متسلحاً بكامل عدته؛ فقتل الثعبان وهجم بقوّة على العفريتة والطائر اللذان لاذا بالفرار من الشجرة . بعد ذلك، قطّع گلگامش الشجرة حسب رغبة إنانا ، وأخذ لنفسه قطعة صغيرة من جذرها ، وقطعة اكبر من غصنها ، وصنع من كليهما لعبة يلهو بها ، تحت مسمّى" إكديما و إلاگ ـ Ekidma and Ellag" ؛ وفسّرهما خبير السومريات البروفيسور " صموئيل نوح كريمر" على أنهما عصوان (تثنية لمفردة عصا) طبل ، ولكن في الحقيقة أن البروفيسور كريمر قد أخطأ تماماً في ذلك التفسير، لأنه على ما أظّن ليس لديه أية فكرة عن لعبة شعبية قديمة جداً كان قد مارسها الصبيان الصغار في جنوب العراق منذ أمد بعيد ، وربما تُمارس إلى الآن؛ يطلق عليها شعبياً " صگله ولاگ " ، و في بغداد " بلبل حاح" . حيث يمكن اكتشاف ذلك بسهولة من خلال سياق النّص للمقطوعة الشعرية من قبل القاريء العراقي حصراً ( نصّ هذه المقطوعة مع تفسيرها ستكون من بين مجموعة الأعمال الأدبية الرافدينية الأخرى الغير منشورة من قبل في محتوى كتابي القادم ) . ويُعتقد أن هذا العمل الأدبي كان أول ظهور لگلگامش في الشعر البطولي، لأنه أنقذ إلهة قوية من موقف صعب كانت قد واجهته. أمّا الحكايات السومرية المُبكرة التي تم نسجها قبل ملحمة گلگامش والتي شجعت على كتابة الملحمة في صيغتها النهائية (ستكون أيضاً ضمن محتوى كتابي) ،هي كالتالي :
ـ گلگامش، أنكيدو، والعالم السفلي (المعروفة أيضاً باسم ـ گلگامش وشجرة الهالوب ) . ـ گلگامش والوحش هوواوا . ـ گلگامش وثور السماء . ـ موت گلگامش . ـ قصة الطوفان ( سفر تكوين إريدو ، وأتراهاسيس لاحقاً ) .
تلك الحكايات كانت تصوّر گلگامش كبطل عظيم، الذي مُنح في النهاية مكانة سماوية رفيعة كإله. وكان يُصوَّر دائماً باعتباره شقيق الإلهة إنانا، إحدى أكثر الآلهة تعبّداً في بلاد الرافدين . كما خاطبت گلگامش في حياة الآخرة تلك الصلوات المنقوشة على الألواح الطينية باعتباره قاضياً في العالم السفلي؛ ليضاهي في حكمته قضاة حياة الآخرة اليونانيين المشهورين، "رادامانثوس"، و"مينوس"، و"أياكوس" .
في قصيدة "گلگامش وإنكيدو والعالم السفلي" (التي تستند إلى أساطير سابقة بما في ذلك إنانا وشجرة الهولوپو )؛ يروي گلگامش قصة عن حياة الآخرة من خلال حواره مع إنكيدو الذي عاد من عالم إرشكيگال المظلم ( عالم الأموات) بعد نزوله إليه لاستعادة لعبة الـ " إكديما و إلاگ " التي أضاعها سيّده گلگامش . واعتماداً على تفسيرات مختلفة، ربما أن إنكيدو كان شبحاً وقدّم هذه الرؤية، مما يجعل گلگامش الكائن الحي الوحيد الذي يعرف ما ينتظره المرء ما بعد الموت ؛ أو إذا كان المفهوم أن إنكيدو قد نجا من رحلته إلى العالم السفلي؛ فهو واحد من اثنين فقط ، دون احتساب الإله دوموزي . تشكل الألواح المسمارية التي اكتشفها لايارد في عام 1849 ميلادي ، والتي ترجمها ونشرها المستشرق "جورج سميث" في عام 1876 ميلادي؛ النسخة المعتمدة للحكاية. حيث تستند جميع الترجمات الحديثة على هذه الألواح الحادية عشرة، ولكن في بعض الأحيان يُضاف لوح آخر إلى الملحمة يتعلق بحكاية "گلگامش وإنكيدو والعالم السفلي" ليكون الثاني عشر . ورغم ذلك، عادةً ما يتم حذف هذا اللوح لأن إنكيدو قد مات في حكاية اللوح السابع من النسخة المعتمدة للملحمة ؛ وأن ظهور إنكيدو في اللوح الثاني عشر بشخصية الخادم وليس الصديق لگلگامش؛ لا معنى له في سياق أحداث الملحمة. عندما يتم تضمين اللوح الثاني عشر في الترجمة، يتم تبرير ذلك أحياناً من خلال المُترجِم للنصّ؛ أن إنكيدو هو شبح قد عاد من أرض الموتى ليخبر گلگامش بما رآه؛ غير أن النّص لا يتوافق مع هذا التفسير في اللوح، حيث يناشد گلگامش الآلهة مرتين لإنقاذ إنكيدو من العالم السفلي، قائلاً إنه لم يمت لكنه محتجز قسراً. لذلك، يعتبر معظم المترجمين المعاصرين إن زج قصيدة "گلگامش وإنكيدو والعالم السفلي" في اللوح الثاني عشر ضمن فصول الملحمة غير منطقي ، حيث أن ذلك العمل الأدبي منفصلاً ولا ينتمي إلى تلك الملحمة ، لان تأليفه قد تمّ قبل فترة طويلة من النسخة المعتمدة من الملحمة التي يرجع تاريخها إلى زمن الكاتب والناسخ البابلي شين- ليقي - أونيني .
ملخّص ملحمة گلگامش تبدأ الملحمة بدعوة القارئ إلى التفاعل مع قصة الملك العظيم الذي يُصوّر في البداية على أنه طاغية متكبر ومتغطرس ومضطهد لشعبه ، وينام مع عرائس اتباعه في ليلة زفافهن، ويستخدم القوة باستمرار لتحقيق مراده في كل شيء. لذا قررت الآلهة إذلاله من خلال خلق كائن متوحش اسمه "إنكيدو". وعند سماع گلگامش أن إنكيدو يتجول في نواحي مملكته ، فكرّ في إرسال عاهرة المعبد "شمهات" لتأنيسه ،وهو ما فعلته بالضبط . إنكيدو المتوحش ورجل الغاب لا يعرف طريق الإنسانية وسُبل العيش . كانت حياته بلا هدف ، ولكن " شمهات " البغي و كاهنة المعبد قد هذبته وعلمته معنى الحياة ، فأصبح يعشق إنسانيته . وتم إحضاره إلى أوروك ليتحدى گلگامش كما مرسوم له . بعد أن تقاتلا؛ تفوّق إنكيدو على گلگامش ؛ إلاّ أنهما قطعا العهد في أن يكونا صديقين إلى الأبد ، ومن ثم تتبنى نينسون والدة گلگامش ؛ (إنكيدو) ليصبح ابناً لها . ولكي يجعل اسمه خالداً، اقترح گلگامش أن يذهب مع إنكيدو إلى غابة الأرز لقتل العفريت الوحش "هومبابا" (العفريت يُفهَم على أنه "كيان غير طبيعي"، لكنه ليس روحاً شريرة). غير ان هومبابا لم يرتكب أي خطيئة، وهو محبوب عند الآلهة لحمايته الغابة، لكن هذا لم يكن يعني شيئاً بالنسبة لگلگامش الذي لا يفكر إلاّ بنفسه. وعندما هزم الصديقان هومبابا، صرخ طالباً الرحمة والشفقة منهما، لكن إنكيدو شجع گلگامش على قتله، وهو ما فعله دون تردد . يعود الصديقان إلى أوروك حيث يستعد گلگامش للاحتفال بانتصاره، ويرتدي أجمل ملابسه. في هذا المشهد يجذب گلگامش انتباه إنانا / عشتار التي هامت به عشقاً . وحاولت إغواءه ، لكنه نفرها مستدّلاً بجميع الرجال السابقين الذين كانوا عشّاق لها، عندما انتهت حياتهم بشكل سيئ بما في ذلك الإله دوموزي . لهذا السبب؛ غضبت إنانا /عشتار منه وبعثت زوج شقيقتها إرشكيگال ( "گوگولانا" ـ ثور السماء) إلى الأرض لتدمير گلگامش ومدينته أوروك . وبعد قتال شرس يقتل الصديقان الثور ويرمي إنكيدو أحد فخذيه على عشتار بازدراء . لإهانته الإلهة ، و قسوته على هومبابا؛ قرر مجلس الآلهة أنه يجب أن يموت. وبموت إنكيدو ، بات گلگامش يقضي أيامه في حزن عميق عندما أدرك في أنه سيموت أيضاً ، وتلك المعرفة كانت تقضّ مضجعه .
صرخ گلگامش قائلاً : "كيف أشعر بالراحة؟ . كيف أعيش في سلام؟ .اليأس دبّ في قلبي . مصير أخي الآن هو مصيري عندما أموت . طالما أنا خائف من الموت ؛ سأبذل قصارى جهدي في العثور على أوتنابشتم الذين يسمونه القديم ؛ لأنه دخل جمع الآلهة." (ساندرز ، ص97).
بعد أن تخلى عن كل غروره وكبريائه القديمين، انطلق گلگامش في مهمة العثور على معنى الحياة. ولإيجاد طريقة ما لهزيمة الموت؛ رحل بعيداً عبر الجبال وتجاوز شعب العقارب، بأمل العثور على أوتنابشتم، الرجل الذي نجا من الطوفان الكبير وكافأته الآلهة بالخلود. في مرحلة من رحلته، التقى گلگامش بصاحبة الحانة "سيدوري" التي أخبرته أن سعيه للخلود هو شيء من العبث ، وعليه قبول الحياة كما هي والاستمتاع بملذاتها . إلا أن گلگامش رفض نصيحتها، لأنه يعتقد أن الحياة لا معنى لها إذا كان المرء يخسر نفسه وكل أحبّائه في النهاية. سيدوري وجهّت گلگامش إلى صاحب القارب "أورشانابي"، الذي قاده عبر مياه الموت إلى منزل أوتنابشتم وزوجته. غير أن أوتنابشتم أخبره أنه لا يستطيع فعل أي شيء لأجله. وأخبره ايضاً ؛ صحيح إن الآلهة قد منحته الخلود، إلا أنه ليس لديه القدرة على فعل نفس الشيء له. ومع ذلك، عرض على الملك فرصتين للحياة الأبدية. أولهما، عليه أن يثبت استحقاق الخلود ببقائه مستيقظاً لمدة ستة أيام ولياليها . ثانياً ؛أن ينل العشبة السحرية والحفاظ عليها . لكنه وعند لحظة من الإهمال، يترك العشبة على الشاطئ أثناء استحمامه ، فيبلعها الثعبان . وبعد فشله في مهمته، طلب من أورشانابي أن يعيده إلى أوروك، حيث كتب قصته على أسوار المدينة.
انتماء النّص من خلال صراعه مع نفسه للبحث عن معنى الحياة، تحدى گلگامش الموت، وبذلك أصبح أول بطل ملحمي في الأدب العالمي . وإن حزن گلگامش والأسئلة التي أثارها بموت صديقه، كانت تتردد في أذهان كل من عاش لحظات الحزن ومواجهة الموت. ورغم أن گلگامش قد فشل في النهاية للفوز بالخلود في هذه القصة، إلا أن منجزاته تظل حيّة من خلالها ، وهو ما حصل الى الآن . وطالما الحكايات التي كانت تتحدث عن ملحمة گلگامش تُروى شفهياً قبل زمن بعيد من تدوينها، فإن المناقشات الكثيرة قد طالها الجدل حول ما إذا كانت تلك القصة ذات تأثير ثقافي سومري مبكر أم بابلي لاحق !. والنسخة الأفضل وضوحاً وحفظاً من القصة، كما أشرنا، جاءت من الكاتب البابلي شين ليقي أونيني الذي كتبها باللغة الأكدية، مستنداً إلى مصادر سومرية أصلية. وفي هذا الصدد كان للبروفيسور صموئيل نوح كريمر هذه الرؤية : "من بين الأحداث المتنوعة التي تتألف منها ملحمة گلگامش، يرجع العديد منها إلى نماذج سومرية أولية تتضمن شخصية البطل گلگامش . وحتى في تلك الأحداث التي تفتقر إلى نظيرات سومرية، فإن معظم بواعثها الفردية تعكس مجموعة المصادر الأسطورية والملاحمية السومرية. بيد أن الأدباء البابليين لم ينسخوا النصّ السومري أبداً؛ بل هذبّوا محتواه وصاغوا هويته بما يتفق مع ثقافتهم وتراثهم الرافديني، بحيث لم يتبق سوى النواة المجرّدة للأصل السومري الذي يمكن التعرّف عليه. أما عن بناء حبكة الملحمة ككل (الدراما القوية ومصير البطل المغامر المضطرب وخيبة أمله الحتمية) ؛ فهو بالتأكيد تطوير وإنجاز بابلي بحت، وليس سومري ." ( سومر ،ص 270) بما يتعلق عن انتماء النّص ، في الواقع؛ ليس مهماً السؤال عن أية حضارة كانت قد ساهمت أكثر في تأليفه، كما هو الحال مع أي عمل أدبي ضخم . فملحمة گلگامش لا تنتمي إلى حضارة أو فترة زمنية واحدة عندما يتعلق وصفها للحالة الإنسانية، تماماً كما هو الحال مع المهابهارتا ،الإلياذة،الأوديسة، الشاهنامة ، و الإنيادة . ومن المعروف أيضاً أن العمل الأدبي يتأثر بالحضارة التي أفرزته، لكن أعظم الأعمال الأدبية الرافدينية مثل ملحمة گلگامش، فهي تتجاوز مثل تلك الاعتبارات.
في الوقت الحاضر، لا يزال الانبهار بملحمة گلگامش مستمراً بنفس الدرجة منذ أن تُرجمت الملحمة لأول مرة في سبعينيات القرن التاسع عشر الميلادي . وقد زعم فريق آثاري ألماني، على سبيل المثال ؛ أنهم اكتشفوا قبر الملك گلگامش في أبريل/ نيسان من عام 2003 م . حيث كشفت التنقيبات الأثرية التي جرت من خلال وسائل التكنولوجيا الحديثة التي تنطوي على أجهزة الرنين الصوتي والمغناطيسي في مجرى نهر الفرات القديم وحوله، عن حدائق مُسيّجة ومبانٍ ومنشآت محددة وموصوفة في ملحمة گلگامش، بما في ذلك قبر گلگامش . وحسب مرثية "موت گلگامش" ( نصّ المرثية وتفسيرها ستكون ضمن محتوى كتابي القادم)؛ فقد دُفن في قاع نهر الفرات عندما انشقّت المياه بعد وفاته.
لم يعد من المهم معرفة فيما إذا كان الملك گلگامش موجود فعلاً أم لا، بسبب أن شخصيته قد اكتسبت وضع خاص بها على مر القرون . وفي نهاية القصة عندما يضطجع گلگامش وهو يحتضر، يقول الراوي في الملحمة : "إن الأبطال والحكماء مثل القمر الجديد، يتزايدون ويتناقصون . وسوف يسأل الناس: من حكم بقوة وحزم مثل [ گلگامش]؟ وكما في الشهر المظلم، والشهر المظّل، فبدونه لا يوجد نور. يا گلگامش، لقد مُنحتَ الملكية، وكان هذا هو قدرك، ولم تكن الحياة الأبدية هي قدرك. لهذا السبب، لا تحزن في قلبك، ولا تكتئب أو تأسى؛ لقد مُنحتَ القوة للحل والربط ، لتكون ظلاماً ونوراً للبشرية." (ساندرز، ص 118) إن قصة فشل گلگامش في تحقيق حلمه بالخلود هي الوسيلة التي تمكّن بها من تحقيق ذلك الحلم . إذ إن الملحمة نفسها هي الخلود، وقد كانت بمثابة النموذج لأي قصة مماثلة كتبت في ذلك الحين . ولكنها كانت أكثر من ذلك بكثير، كما يرى الباحث "ميتشل" في المقطع أدناه: "إن جزءاً من جاذبية ملحمة گلگامش يكمن في أنها مثل أي عمل أدبي عظيم، لديها الكثير لتخبرنا به عن أنفسنا . فمن خلال منحِها صوتاً للحزن والخوف من الموت، ربما بقوة أكبر من أي كتاب كُتب بعدها . وفي تصويرها للحب والضعف والسعي إلى الحكمة؛ أصبحت شهادة شخصية لملايين القرّاء بعشرات اللغات في جميع أنحاء العالم . كما للملحمة أهمية فلسفية في عالمنا اليوم، حيث التعصب الجارف لإيمان كل فئة بعقيدتها الصالحة و الراسخة، وحروب الصليب والجهاد ضد ما يُحتسب عدوّاً أو شريراً . إن بطل هذه الملحمة هو بطل استثنائي ، أو رجل خارق (أو قوة عظمى، إذا أردنا أن نقول) لا يعرف الفرق بين القوة والغرور . فهو بمهاجمته للوحش بشكل استباقي، جلب على نفسه كارثة لا يمكن التغلب عليها إلا من خلال رحلة موجعة، وهي مهمة تنتهي إلى الحكمة من خلال إثبات عبثيتها؛ لذا فإن الملحمة كانت تتمتع بذكاء أخلاقي و فلسفي متطور بشكل غير طبيعي . وعند تأكيدها على التوازن ورفضها الانحياز إلى أي من البطل أو الوحش؛ فإنها تقودنا إلى التشكيك في قناعاتنا الخطيرة بشأن مفهومي الخير والشر." (ص 2)
إن ملحمة گلگامش تشجع على الأمل، وذلك لأنه حتى وإن لم يكن الإنسان قادراً على العيش إلى الأبد، فإن الاختيارات التي يتخذها في الحياة لها تأثير في نفوس الآخرين . وقد يكون هؤلاء الآخرون العائلة أو أصدقاء أو أقارب أو معارف أو غرباء يعيشون طويلاً بعد موته ويستمرون متأثرين بالقصة الخالدة لرفض قبول حياة بلا معنى . وإن صراع گلگامش مع انعدام المعنى الواضح قد حدد شخصيته ؛ تماماً مثل أي شخص قد عاش ومن يعيش الآن ، حيث ما زال سعيه يلهم أولئك الذين يدركون مدى إنسانية هذا الصراع ، الذي سيبقى هكذا دائماً ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جيريمي بلاك ـ الآلهة ، العفاريت والرموز في بلاد الرافدين القديمة ـ طباعة جامعة تكساس ـ 1992 . جيريمي بلاك ـ قراءة في الشعر السومري ـ طباعة جامعة كورنيل ـ 1998 . ستيفاني دالي ـ أساطير من بلاد الرافدين القديمة ـ طباعة جامعة أوكسفورد ـ 2009 . صموئيل نوح كريمر ـ التاريخ يبدأ من سومر ـ طباعة جامعة بنسلفانيا ـ 1988 . صموئيل نوح كريمر ـ السومريون : تاريخهم ، ثقافتهم ، شخصياتهم ـ طباعة جامعة شيكاغو ـ 1971 . ثوركيلد جاكوبسن ـ كنوز الظلام: تاريخ ديانة بلاد الرافدين ـ مطبعة جامعة ييل ـ 1978 . أن . كي .ساندرز ـ ملحمة گلگامش ـ پينگوين كلاسيكس للنشر ـ 1960. ديان وولكشتاين & صموئيل نوح كريمر ـ إنانا / ملكة السماء والأرض ـ هارپر پيرينيال للطباعة ـ 1983 . ستيفن ميتشل ـ گلگامش ـ ريكوردس بوكس للنشر ـ 2004 .
#عضيد_جواد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نرگال (مسلامتيا) إله الموت والحرب والدمار
-
الكريسماس عبر التاريخ
-
قصة اكتشاف الأشعة السينية (X)
-
طقوس الشاي في الصين واليابان القديمتين
-
هنود السهول الأصليين في أمريكا
-
ليلة السكاكين الطويلة
-
ديانة المايا: النور الذي أتى من البحر
-
الموت وحياة الآخرة في بلاد فارس القديمة
-
الفينيقيون شعب أرجواني
-
عنخ رمز بلاد النيل
-
دعوى قضائية لعبد يهودي أمام محكمة بابلية
-
نينهورساگ الإلهة الأم في الأساطير السومرية
-
العقيدة البوذية في نشوئها وفلسفتها
-
نظام التعليم في بلاد الرافدين القديمة
-
الدفن في بلاد الرافدين القديمة
-
كذبة أفلاطون في الروح
-
الأزياء والملابس في بلاد الرافدين القديمة
-
الفنّ والعمارة في بلاد الرافدين
-
ثورة العمّال اللودّيين
-
مَن هم شعوب البحر ؟؟
المزيد.....
-
تطورات الحادث الجوي في واشنطن.. طائرة ركاب اصطدمت بمروحية عس
...
-
مصادر لـCNN: اصطدام مروحية عسكرية بطائرة ركاب بالقرب من واشن
...
-
فيديو استقبال محمد بن سلمان وأداء صلاة الميت على الأمير محمد
...
-
كيف تتم عملية تبادل الرهائن في غزة؟
-
اصطدام مروحية عسكرية أمريكية بطائرة ركاب تحمل 60 شخصا بالقرب
...
-
يكثر استهلاكه في المنطقة العربية.. الحليب الحيواني الأكثر فا
...
-
إسرائيل: 11 رهينة محتجزين في غزة سيتم الإفراج عنهم هذا الأسب
...
-
تصادم طائرة ركاب مع مروحية عسكرية قرب مطار ريغان بالعاصمة ال
...
-
عاجل | رويترز: طائرة ركاب تابعة لخطوط جوية أميركية اصطدمت بط
...
-
ترامب يستعد لإعلان قرار يهم طلاب الجامعات المتعاطفين مع حماس
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|