طالب كاظم محمد
الحوار المتمدن-العدد: 8235 - 2025 / 1 / 27 - 09:14
المحور:
الادب والفن
ان اردتم قتلهم فعليكم قتلي أولا !
قالت المرأة المسنة، التي وقفت امامنا في اللحظة وكانت جدارا حين التي صوب فيهــا الشبان الاكراد بنادقهم نحونا لأطلاق نيرانهم علينا، نحن الجنود الذين توقفنا بلاحراك الى جدار البيت الريفي، احدنا اخذ يتلو الشهادة بفم مزبد، كنت انظر الى السماء اللامعة، كانت صافية بل نقية بلونها الازرق، في الحقيقة، كان الامر اشبه بمسرحية نمثل فيها دور جنود سيعدمون بإطلاق الرصاص على صدورهم .
بداية شهر اذار عام 1991، للمرة الثانية، بعد مضي ستة اشهر على التسريح من الجيش، التي بدت كإجازة قصيرة أعقبت احد عشر عاما في الخدمة العسكرية الشاقة ،ابتدأت في كانون اول عام 1978 وانتهت في نيسان عام 1989.
انتهى بي الحال جنديا الملم اطرافي في ملجأ غير محكم، ضيق مثل ندبة بحافات قضمتها مجرفة منهكة على جانب تلة مهملة، حفرة مغطاة بالواح الصفيح التي انتزعت من المسقف الهائل، كادت محاولة جندي الاحتياط مازن في انتزاع الصفيح، الجينكو، ان تؤدي بحياته، بسقوطه من ارتفاع عشرين مترا، حين افلتت يده العارضة الحديدية، لتتلقاه رافدة جانبية استطاع التشبث بها بأعجوبة تشبه المعجزة.
على سفح تلك التلة التي تشرف على طريق سميل الصاعد الى دهوك ، اعد جنود فوج المغاوير الخنادق والممرات الشقية لتفادي المقاتلات الامريكية التي كانت تحلق فوقنا على ارتفاعات شاهقة، كانت تحلق في ممر العودة الى قاعدة انجر ليك التركية بعد تنفيذ مهماتها القتالية، تدمير القطعات والمعسكرات ومحطات الوقود والجسور ومراكز الاتصالات المدنية، كنت استمع الى الاخبار عبر راديو الترانسستور الصغير، كمخابر ، كنت على اطلاع على مواقف الخسائر التي ترسلها الوحدات العسكرية الى مقر الفرقة .
المكان والطريق لم يكن غريبا علي، في سنوات مضت كنت جنديا مكلفا بالخدمة الإلزامية في لواء المشاة 49 في حينها كان اللواء بأمرة العقيد الركن طلعت نوري علي ، الضابط المحترف .
وحدات اللواء كانت تشرف على الجانب الشرقي من نينوى بدأ من الشيخان وعين سفني ومقام الشيخ عادي الاموي والعشائر السبعة وتلكيف واتروش وكلي رمان صعودا حتى حدود دهوك ، بينما زاويته ومانكيش كانت ضمن مسؤولية الفوج الثاني حيث امضيت فيه خدمتي الإلزامية حتى تسريحي منتصف عام 1989 .
الفوج الثاني بأمرة الرائد عادل عبد اللطيف مجيد الدروبي ، وهو عسكري محترف ، يمشي بعرج خفيف اثر اصابته بشظية في حرب تشرين عام 73 ، وضع تحت امرة لواء مشاة الاحتياط 93 ، امضيت السنوات الثلاثة الأولى وهي المدة المحددة كخدمة الزامية ، اجوب الاودية السحيقة وقمم الجبال المغطاة بالثلوج مخابرا في الفوج الثاني لمش 49 الذي انشغل في عمليات تمشيط الجبال النائية بحثا عن المخربين والعصاة ، التعبير الذي نستخدمه في الرسائل التي نبعثها بأجهزة اللاسلكي المحمولة على الظهر R105 لجوال اللواء في ذلك الوقت .
استدعيت لخدمة الاحتياط منتصف شهر شباط عام 1991، أرسلت بكتاب التجنيد الى مدرسة المخابرة التي نسبتني الى الكتيبة اللاسلكية الاولى ، الاف الجنود الاحتياط التحقوا بمدرسة المخابرة التي عدت مدخرا بشريا لتعويض خسائر الوحدات المقاتلة بالمخابرين ، كما لو كنا في يوم الدينونة ننتظر ان نسلك الخيط الرفيع الذي يعبر بنا الى الجانب الاخر من جحيم المطهر، لانعرف ما المصير الذي سننتهي اليه ، تسمرنا بلاحراك في طوابير طويلة ، ننصت الى الصوت الجهوري وهو يتلو أسماء الجنود الذين ستحل عليهم لعنة الحرب، في حقيقة الامر ، لم نضمد جراحنا العميقة بعد من ندوب حرب مزقت ارواحنا ، في تلك الساعة المبكرة ونحن ننتظر في ساحة عرض مدرسة المخابرة ، لم يكن هناك اي منفذ للهروب من المصير المسلط على اعناقنا ، الجنود الذي يتركون الطابور بعد ان يرد اسمهم في قائمة الموت، يحملون حقائب خفيفة، ادوات حلاقة منشفة وملابس داخلية ، مرآة صغيرة ، يحشرون في الحافلات التي اصطفت بانتظارهم ، العشرات منها شكلت رتلا كئيبا بانتظار ان تبتلع جنود الاحتياط الذين فقدوا اي امل بالنجاة ، الرتل الذي سيقتحم بهم نيران الجحيم ، الذي فغر شدقيه بانتظار ضحاياه في حفر الباطن.
كنت انتظر ان يرد اسمي في الذاهبين الى المتاهة ، حفر الباطن، خرجت من الطابور جامد الحركة ، كأن الطير حطت على رؤوسهم ، حين سمعت اسمي يرد في قائمة الموت ، اصطف معي ستة جنود اخرين لنشكل مجموعة من سبعة اشخاص متقاربين في العمر ، احدهم صديقي كريم شميل ، شاهد على التراجيديا التي مررنا بها ، وجندي الاحتياط محمد من اهالي مدينة الثورة الاولى وهو اب لخمسة بنات اكبرهن في مرحلة الاعدادية واصغرهن بعمر ثلاث سنوات الذي استشهد في حادث مأساوي اثناء الانسحاب ، وجندي الاحتياط محمد من اهالي شهربان ديالى ، لم اعد أتذكر اسماء الجنود الاخرين ، جنود قشطتهم الحرب الايرانية حتى ازالت اللحم عن العظم
مازن ، تعرفت عليه لاحقا قال :
- اعتقد سيأخذوننا الى حفر الباطن ؟
لم يرد ايا منا على تساؤل مازن ، تقاسمنا الصمت والقلق والغضب الذي فاقم من شعورنا بالعجز ، كنت اعرف بأن لمش 49 في حفر الباطن . وحدتي السابقة
لمحت شخصا يحث خطاه مسرعا باتجاهنا، كان يلوح لنا بيده ،يطلب منا ان ننتظره .
حين اقترب اكثر وجدناه برتبة ن ض ، على بعد خطوات قليلة منا ، فض ورقة مطبوعة بالة كاتبة ، اخذ يتلو بأسمائنا وكنا نشير بأيدينا نعرفه بأنفسنا.
قال : لا تخيبوا ثقتي بكم ، ستذهبون الى بيوتكم وسألتقيكم مساء الغد في المحطة العالمية .
قلت : المحطة العالمية لماذا؟!
لسنوات كنت احجر مقعدا في القطار الصاعد الى الموصل ، في مكتب حجر نفق التحرير .
مازن وهو من اهالي الحلة بتردد قال : ممكن اعرف الى اي وحدة تم تنسيبنا ؟
ابتسم نائب الضابط وكان شابا في عقده الثالث ، قال : اعرف ما يجول في رؤوسكم لن تذهبوا الى حفر الباطن لأنكم منسبين الى فصيل مخابرة فوج مغاوير فرقة المشاة 44 ومقرها في سميل.
انتهت رحلتنا اخيرا ، نحن الجنود الذين تم تجنيدنا لخدمة الاحتياط ، تحت مسقف كبير جدا اعد لخزن حبوب القمح ، هناك مبان قديمة مهجورة ولوحات تعريف بالأقسام الادارية وعلامات ارشاد المجمع الزراعي في سميل ، ثلاثة أسابيع مضت مرت علينا منذ التحاقنا بفصيل مخابرة فوج مغاوير فرقة المشاة 44 حين تلقينا امرا برزم حاجياتنا ومعداتنا، عندما تفاقم الوضع سوأ، كانت وحدات الجيش العراقي تقاتل في حفر الباطن ، وكانت وجهة رتل فرقة المشاة 44 التي بدت اشبه بحصان عجوز يصارع نهايته، الفرقة التي تم اعادتها للحياة بعد هيكلتها حين انتهت الحرب الايرانية العراقية، اعيدت للحياة بضباط وجنود احتياط فتكت بهم اعوام الحرب الايرانية الطويلة.
#طالب_كاظم_محمد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟