يوسف ليمود
الحوار المتمدن-العدد: 1791 - 2007 / 1 / 10 - 11:46
المحور:
الادب والفن
في متحف الفن الحديث بمدينة بازل السويسرية, يقام الآن معرض لمؤسس التجريدية ومنظّرها فاسيلي كاندينسكي, صاحب "الروحانية في الفن", والذي لقبه أصحابه بـ "أمير الروح" وبـ "الفارس". هذا المعرض, الذي يستمر حتى الرابع من فبراير 2007, يؤكد على القيمة الكبيرة للّوحات التي أنجزها كاندينسكي بين عامي 1908 - 1921, كوثيقة تاريخية تسجل المخاض الفني للتجريدية الغنائية, على يد هذا المصور الروسي, حيث بدأت الأشكال, تتمرد على مدلولاتها التي تحيل الى الخارج, لتستقل بوجودها المجرد, وتعتمد على نفسها ككينونة وبناء, وانعكاس روح.
هنا الحكاية التي بدأت ذات يوم من عام 1908 كما يرويها صاحبها: "لحظة دخولي البيت بعد يوم عمل طويل في دراسة لإحدى لوحاتي, وبينما كانت أفكاري ماتزال غارقة فيما أنجزته ذلك اليوم, اصطدمت عيني بصورة متوهجة بجمال لا يمكن وصفه, ترددت في البداية, ثم توجهت ناحية تلك الصورة أتأملها, كانت مجرد أشكال وألوان دون أي مضمون يمكن التعرف عليه. اقتربت أكثر, واكتشفت اللغز: كانت واحدة من لوحاتي موضوعة على جانبها. في اليوم التالي, وفي ضوء النهار, حاولت أن أستعيد الانطباع نفسه أمام تلك اللوحة, غير أني لم أحصل على نتيجة الأمس, قلبت اللوحة على جنبها, إلا أن تعرّفي على الأشكال حرمني الجمال الذي سبق ورأيته. أدركت عندها أن الشيئية لا تفعل سوى أن تضر بلوحاتي". بعد هذه الحادثة الكاشفة, التي تزن, في تاريخ الفن, تفاحة نيوتن في تاريخ العلم, ستتغير عناوين لوحات كاندينسكي رويدا من: "شارع القرية", "منظر مع كنيسة", "بيوت على التل", "منظر مع بيت أخضر"...الخ من مسميات تدور في مجال الرؤية البصرية, الى: "تكوينات", "إرتجالات", "إنطباعات",...الخ من أسماء تحيل الى عالم الموسيقى وسيمفونية الداخل.
عبر ثماني غرف من صالات المتحف الكبير, نمر بتسلسل زمني للوحات تلك الفترة الفاصلة في تاريخ الفن الحديث. في الصالة الأولى والثانية, مجموعة من مناظر مرسومة بأسلوب قريب من الإنطباعية, بألوان "وحشية" أو "حوشية", تؤكد فوفيتها (نسبة الى الفوفيزم) على أهمية اللون وأصالته في روح ذلك الفنان. لو ينجح المتلقي في العودة بالزمن مائة عام الى الوراء, وينسى كل ما يعرفه عن تاريخ الفن, لما استطاع أن يحدس التطور الذي يراه في اللوحات المعلقة في باقي صالات المعرض. ولو افترضنا هنا أن نرى فقط لوحات الغرفة الأولى والأخيرة, دون المرور بهذا التسلسل, لصعب علينا أن نصدق أننا بصدد الفنان نفسه. لقد توارى الواقع بأشكاله الاستاتيكية الجامدة, وبدأت شرارات الموسيقى تتطاير في خطوط لن تتنازل أبدا عن قوة ألوانها وتجريدية الفضاء الذي تهرول في جنباته, بضربات ثائرة من فرشاة صغيرة تقوم بالفعل الهارموني نيابة عن أوركسترا كامل داخل الكونشيرتو الخطي للتكوين الأساسي. كل هذا بدأ في العام 1910.
في الغرفة الخامسة نحن أمام أكبر لوحة بالمعرض (متران في ثلاثة), بعنوان "تكوين", ترجع الى عام 1913, حيث لا مركزية للصخب الخطي واللوني المنظمين بحسابات تشي بذهنية رياضية لا يفلت منها خط زائد, أو تسقط عنها مساحة ناقصة. ذهنية تلتقي في الذوق والتوجه مع صاحب "بتروشكا" و "طقوس الربيع", صديقه الروسي إيجور سترافينسكي, الذي أحدث بموسيقاه ثورة مماثلة, وكانا على الدرجة نفسها من الروحية والإحساس الديني بالوجود. لقد انتفى هنا "تزييف الواقع" كما سماه في كتابه "عن الروحانية في الفن", الذي كتبه في 1911 , ودعا فيه الى حرية الروح في التعبير عن نفسها, بالشكل الذي تمليه على صاحبها, بأي اتجاه فني يشعر الفنان أنه يناسبه. هذه اللوحة نموذج جيد لقراءة نظريته عن طريق فنه وليس فقط عن طريق كلماته. انصهرت دراما الواقع وتفاصيله البصريه داخل ما تسمى بالروح, لتخرج بدفق وحرية أداء وصرامة ذهن. مع ذلك نستطيع وسط ذلك الكون المجرد, المستقل, أن نتعرف على شظايا طائرة هنا وهناك, نثار يذكّرنا, ولو من بعيد, بأشكال من الواقع. هنا حزمة خطوط منحنية, متوازية, ومتقاطعة, كخطوط السكك الحديدية. وكيف لا يقفز عنصر كهذا داخل هذه اللوحة, ويتكرر في لوحات أخرى, لفنان قضى حياته مسافرا بين روسيا وألمانيا وفرنسا وسويسرا وإيطاليا, في زمن ثورة صناعية, تمد جسور سككها لحرب كبرى قادمة؟ كيف ينجو قرص الشمس ومناظر التلال من لا وعيه, حتى لو خرجت على أشكال تعرجات رسمها طفل؟ كيف تنجو موسكو من ذاكرته, وهو الذي طالما تأملها في طفولته وشبابه, تنصهر مثل كتلة شمع تحت الشمس؟ وكيف تنجو كل الأشياء الصغيرة التي شكلت عالمه, كأدوات المرسم والفراجين؟. هل نستطيع أن نرى في التجريد مهما بلغت تجريديته إحاله الى الواقع وعالم الأشياء؟
في الغرفة السابعة, تطالعنا بجهامة مجموعة من اللوحات الدائرة وسط ظلال رمادية زرقاء, تنحسر عنها الغنائية, وتعكس روحا تراجعية منقبضة, تؤكد عليها عناوين مثل: "عتمة", "غسق", "شكل بيضوي رمادي"...الخ. لكن سرعان ما ندرك سر هذه النقلة: من تقافز بهيج لألوان قزحية على مساحة اللوحة كلها, إلى انحسار يشبه غيمة داكنة تدور حول نفسها, عندما نعرف أنها سلسلة اللوحات التي أنجزها الفنان في الأعوام 1914 – 1919 , سنوات الحرب الأولى الكبرى, التي كان من بين كوارثها, على المستوى الشخصي, انتهاء علاقة كاندينسكي برفيقته الجميلة جابرييلا مونتر, وعودته من ميونخ الى موسكو. لم يتغير المنطق النظري أو الشكلي في لوحات تلك الفترة, غير أن الحس اللوني العام, والذبذبات المنبعثة من التناول التقني للخطوط والأشكال, يؤكدان على الصفة الإنعكاسية بين تلوّنات الروح وبين تلوينات اللوحة.
بعد سنوات الغمام تلك, يعرف عمل كاندينسكي معنى الإشراقات, التي نلمسها في صالة المعرض الأخيرة, حيث عدد من لوحاته من 1919 - 1921, شف فيها اللون, وتبلورت الأشكال, وأصبحت أكثر وضوحا وأبلغ تفاصيل. تشير عناوين لوحات تلك المرحلة مثل: "مركز أبيض", "منحنى أزرق", "دائرة على لون أسود", "بؤرة سوداء", الى توجهات هندسية تحيل إلى عوالم التصوف والتأمل, وتعكس هدوءا روحيا كبيرا يستوقف الزائر, ويأسره في عوالم كريستالية يشع منها الأمل. يكتب كاندينسكي في 1918: "بعد الثورة, بدأت أرسم بشكل مختلف تماما عن ذي قبل, شعور لا يوصف بالسكينة يغمرني الآن, السلام يسري في أوصالي ويوجه روحي نحو الهدف. طويلة كانت سنوات الفجيعة, لم يكن لي ملاذ فيها سوى الغرق في الألون القاتمة ودرجاتها الكئيبة. الآن تتفتح الألوان والأشكال في لوحاتي, وتنبثق عوالم فجائية, كما الإشراقات".
ولد فاسيلي كاندينسكي في 4 ديسمبر 1866 في موسكو, بعد دراسته القانون والإقتصاد في موسكو, قرر أن يصبح مصورا. رحل إلى مدينة ميونخ بألمانيا 1896, هناك درس الفن وأصبح أستاذا له. في عام 1910 أنجز أول لوحة تجريدة له بالألوان المائية. 1912 خرج كتابه "الروحانية في الفن" إلى النور. في عام 1921 أصبح أستاذا في الباوهاوس. في 1924 أسس مع بول كلى وليونيل فاينينجر وأليكسي فون ياولينسكي جماعة "الفارس الأزرق". مع صعود النازية فى 1933 وإغلاق الباوهاوس وملاحقة فنانيها الذين وصفتهم النازية بـ "المنحطين", قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية مباشرة هاجر كاندينسكي الى فرنسا وحصل على الجنسية الفرنسية. رحل في 13 ديسمبر 1944 وقت إقامته في محطته الأخيرة فرنسا.
#يوسف_ليمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟