|
نوبار باشا في الصحافة الفرنسية في مصر حتي قيام الثورة العرابية
عطا درغام
الحوار المتمدن-العدد: 8234 - 2025 / 1 / 26 - 08:21
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
في عام 1863 ، أنشأ الموسيو "أنطون موريس" جريدة "ليچبت" في الإسكندرية، وبدأت تُعارض "إسماعيل" أشد الُمعارضة، وتقاومه في أفكاره، وتسَّفه في مشروعاته، وتنبه الأجانب إلي سوء نيَّاته نحوهم؛ فاضطر "شريف باشا" إلي أن يُصدر مكتوبًا في 7 أكتوبر سنة 1863؛ لتنظيم أمور الصحافة، حتي يحد بعض الشئء من مُعارضة "ليچبت"، وأبلغه إلي قناصل الدول. وفي عام 1866 ،أصدر المحامي المسيو "نيكولا" جريدة "ليونيل"، نصف أسبوعية في يومي الخميس والأحد، وبدأت حياتها تجارية،تهتم بحركة الأسواق والسفن الداخلة والخارجة في الميناء وأسعار البضائع، ولكنها كانت تحفل بالعلم والأدب أحيانًا ،ثم أخذت تُعالج أمور السياسة ولكن في غير عنف، وكان المسيو "نيكولو"، أول من نادي بفصل مصر عن تركيا. وكثيرًا ما نازل صحيفتها الرسمية" لا توركي " ، ورد هجماتها علي الخديو" إسماعيل". وبعدها بعام في سنة 1867، صدرت في بورسعيد صحيفة فرنسية أخري هي "لو چورنال دوكانال" ،وكان الغرض من إصدارها الدفاع عن مشروع المسيو "ديلسبس" ضد الهجمات العدائية التي كانت تشنها عليه الصحف الإنجليزية، وكانت الأفكار الأجنبية منقسمة ما بين محبذ للقناة وفوائدها من فرنسيين وأعوانهم ومُعارض لفكرتها ومتطير من مُعقباتها ،وكان يُديرها صحفي شاب اتخذ اسم"الأب مول"، وذاع صيت الجريدة حتي انتشرت، وقُرئت في العالم أجمع.. وحفلت سنة 1868 بفوجٍ جديد من الصحف الأجنبية في الإسكندرية والقاهرة، وبلغ عددها سبعة. ولا يعنينا منها سوي الثلاث الفرنسيات، وهي صحيفة "لومونيتور دولا بوليستيه": نصف أسبوعية للإعلانات الرسمية والقضائية والتجارية ،وكان يحررها المسيو "فرانسوا ليڤرني"، الذي نشر أول دليل سنوي مصر تحت عنوان" دليل مصر العام" ،ثم جريدة يومية سياسية تحت عنوان إيطالي ،وتُسمي "مانيفستو چيورنا لييرو "،ويُديرها "سكوتز" ،وأخيرًا زعيمة صحف الفترة الأولي في عهد "اسماعيل" وهي صحيفة "لوبروجريه إچيبسيان"حاملةً لواء المعارضة، وفي خلال فترة تعطيل " لوبروجريه إچيبسيان" ،أصدر "المسيو موريس" في الأربعاء 10 مارس سنة 1869، جريدة "لامباسيال ديجبت"،( سياسية. مالية، تجارية، أدبية) وللإعلانات، نحت نحو زميلتها المُعطَّلة ،فقست في نقدها ،وكانت عنيفة في كتابتها. وكانت قد ظهرت في أواخر سنة 1875 صحيفة "لا چازيت دينزيبونو"، وكانت تعبر أصدق التعبير عن رأي فرنسا والفرنسيين في أحداث مصر، وتعتبر صورة صادقة وسجلًا صحيحًا لمطامع فرنسا في وادي النيل، وفي بورسعيد ظهرت صحيفة "لوبوسفور إچيبسيان" في14 مايو 1878 لصاحبها "چاك سرير"، وكانت تعالج المسائل الأدبية في أول الأمر ثم المسائل السياسية في عام 1881، وصحيفة "لاريفورم" التي أنشأها "چول بارييه" في القاهرة في مايو 1875، وكذا صحيفة "لوكورييه إچيبسيان" في القاهرة ،صدر العدد الأول منها في 3 سبتمبر 1879، وصحيفة "ليچبت" غير صحيفة "ليچبت" التي ظهرت في عهد إسماعيل في أول نوفمبر 1874، و تحولت إلي"مونيتور إچيبسيان" وصدر العدد الأول منها في أول نوفمبر 1881في الإسكندرية ،وهي يومية سياسية. وهناك بعض الصحف التي صدرت خلال عام 1881 ، وإن لم تكن لها أهمية سياسية ،خوفًا أن يضيع التأريخ لها وسط زحمة الحوادث المتلاحقة، وقد تنوعت أهداف هذه الصحف كما تنوعت الموضوعات التي طرقتها كل منها ومنها " سبور" في 3 يناير 1881، و" لوكو لتيفاتور" (الفلاح) في 15 مايو 1881، و" لوفانوس" ، تعطلت ثم ظهرت بدلًا منها مجلة "لودا ابوك وهي مصورة، و" لوبرو چريه " في بورسعيد كانت يونانية ، ثم عادت إلي الظهور يونانية فرنسية. ولم تكن هذه الصحف بعيد عن الأحداث في مصر، فأخذت تُعارض "إسماعيل" أشد المعارضة ،وتقاومه في أفكاره وتسَّفه في مشروعاته، وتُنبه الأجانب إلي سوء نياته نحوهم ،وتدافع عن ديليسبس في نزاعه مع شركة القناة . وعلي الرغم من جهود "إسماعيل" في رفع مستوى البلاد والنهوض بها في جميع النواحي، فاستمر الهجوم علي الخديو ورجاله ؛منتهزة فرصة هبوط أسعار القطن وتفشي طاعون الماشية الذي هدد البلاد بالخراب، وراحت تشَّهر به وبسياسته وتحمل علي وزرائه ( ومنهم نوبار باشا) حملةً لا هوادة فيها ،متهمة إياهم بعدم التبصرة والتحوط للمستقبل.ونري صحيفة "أونيل" ترد هجمات الصحيفة التركية "لا توركي" علي "إسماعيل" وتدافع عنه. نقد مشروع الإصلاح القضائي كانت الامتيازات في أول أمرها قاصرةً علي أن يكون قضاء الأجانب الخاص فيما بينهم من شأن قناصلهم. فإذا بالأمر يتطور إلي أن يتحكم القناصل فيما بين الأجانب وبين المصريين ،مما أدي إلي وجود سبع عشرة محكمة قنصلية تطبق كل واحدة منها قانون بلدها. ومن هنا كانت الفوضي التي لا حد لها في أداء القضاء أولًا، وفي تنفيذ الأحكام بعد ذلك، وتلقاء هذا الانهيار في قضاء البلاد كلَّف الخديو "إسماعيل" وزيره "نوبار باشا" ببحث الأمر؛ فسارع "نوبار" إلي وضع تقريره المعروف في أغسطس سنة 1867 ،يشرح فيه مباديء النظام القضائي في ذلك الوقت، ويصف ما يقترحه من وجوه الإصلاح ورفعه إلي الخديو لإقراره، فأمر بإبلاغه إلي ممثلي الدول في مصر. وعندئذ لقي من الجاليات الأجنبية وطولها شديد المعارضة ،وكان أشدها عنفًا في معارضته الجالية الفرنسية، إذ سارت وراء حكومة فرنسا التي ظلت كما يروي لنا التاريخ تحارب المشروع تسع سنوات طوال ، ولم يكن يحمل لواء المعارضة بين الصحف الفرنسية ،ويعبِّر أصدق تعبير عن رأي الجالية غير جريدة "لوبروجريه إچيبسيان "، فرأيناها تنقد المشروع وتحمل عليه ،علي الرغم من أنها تُظهر موافقتها علي أن هذا التعدد في أنواع القضاء مع ما لكل نوع من تشريع خاص به، ومن إجراءات تستدعي تنفيذه من شأنه أن يؤدي إلي نتائج تدعو إلي الأسي والحزن، وخاصةً عندما يكون لعدة مدعين نفس المصلحة، في الوقت الذي ينتسبون فيه إلي جنسيات مختلفة، وعلي الرغم من اعترافها بأن العدالة عند كثير من القنصليات الأوربية كانت محلًا للنقد، إلا إنها تقول:" إنه ليس من الحكمة التحدث عن النقص في القضاء القنصلي دون الاعتراف بأن القضاء الوطني مازال ينقصه الكثير"، وتنبري تُناقش في تفصيل رأي جريدة "ليونيل" المؤيدة للحكومة في مشروعها. ولما نشب النزاع بين "إسماعيل" وشركة القناة ، يلجأ إلي صديقه "نابليون الثالث" ليحكم بينه وبين الشركة. فما كان منه إلا أن خذل إسماعيل بإصدار حكمه في جانب الشركة،وعندئذٍ صمم "إسماعيل" حتي ينتهي إلي أمر في إصلاح هذا الفساد، علي أن يلجأ إلي محاكم القسطنطينية لتحكم بين الأجانب والحكومة المصرية. وهنا تنهض "لوبروجريه إچبسيان" لمقاومة هذا المبدأ عند الخديو ، وتقول إن "محمد علي" كان حريصًا علي ألا يسمح بتدخل قضاء القسطنطينية في الخلاف بينه وبين الأوربيين ،وكذلك فعل من بعده كل من "عباس باشا" و"سعيد باشا" ،وتذكر أنه في أيام "سعيد" ،كثيرًا لجان مختلطة للحكم في قضايا رفعها الأوربيون علي حكومة مصر. وأنه منذ أن ولي "إسماعيل" عرش مصر، وهو يُبدي شديد عدائه للجان التحكيم المختلطة،علي الرغم من أنه قبل الحكم الودي الذي أصدره إمبراطور الفرنسيين،وأنه بدأت منذ مجيئه هذه الطريقة الغريبة في التسويف والإهمال وهي طريقة في رأيها ،تدعو للأسف لأنها تُبعد الأوربيين، وبالتالي تُفقر مصر. وتنادي الصحيفة بأنه حق الأوربيين أن يرفضوا نقل منازعاتهم إلي القسطنطينية ،ثم تستطرد في عنف قائلة: " ولكن هل يمكن الاعتماد علي القسطنطينية أكثر من الاعتماد علي المحاكم المصرية؟ وهل القضاة الأتراك غير قابلين للعزل؟ وهل هم علي استقلال في آرائهم؟ وهل اكتسبوا المعارف الضرورية التي تطلبها الشعوب المتحضرة من قضاتها ؟ وهل اشتهروا بالتنزه عن الفساد ؟....بكل أسف نري الإجابة واضحةً لا شكَ فيها...إن تركيا في هذه الناحية ما زال ينقصها الشيء الكثير، شأنها في ذلك شأن مصر ذاتها...وإن للخديو في القسطنطينية نفوذًا وعلاقات تجعله كما هو في مصر، خصمًا له خطورته. ولقد بذَّر ومازال يُبذِّر في أموال تركيا أموال مصر، حتي أضحي في استطاعته أن يشتري كل ذمم أستامبول" وفي الوقت الذي تقوم فيه "لوبروجريه إچيبسيان "بحملاتها العنيفة ضد إصلاح القضاء وضد القضاء العثماني، نجد صحيفة "إيچيبت" تعدد محاسن المشروع، وتذكر أخبار "نوبار باشا" ونجاح مساعيه في أوربا لدي دولها واقتناعها بفكرة "إسماعيل" في الإصلاح. وأنها ذات فائدة للأجانب أكثر مما هي ذات فائدة للمصريين. وعندما تعود النزعة الإخبارية إلي "لوبروجريه إچيبسيان" نراها تروي تطور المفاوضات التي يقوم بها "نوبار باشا" في سبيل الإصلاح القضائي، وتذكر زياراته العواصم الأوربية ،وأنه حصل علي موافقة أكثرها وتقول:" إن الحديث يدور حول تأليف لجنة دولية لتأسيس محاكم الإصلاح، إلا أنه لم يتقرر شيء من بعد ذلك". ثم هي تستقبل "نوبار" أحسن استقبال بعد عودته من مهمته في أوربا، وتسلمه أمام الأمور في مجال نظارة الخارجية بعد أن غاب عنها زمنًا طويلًا. وتذكر أنه يعود إلي هذه النظارة في ظروف دقيقة. ولكنها تؤمل أن يتغلب علي كل الصعوبات التي تقف في طريقه بعد أن أبدي من المهارة واللياقة والثبات في مشروع إصلاح القضاء وتصفه بالأمانة والإخلاص في كل ما يعمله للبلاد والجاليات الأوربية فيها. منح إسماعيل لقب خديو ومساعي نوبار باشا بعد اشتداد الأزمة المالية التي تسبب فيها "إسماعيل" بسب بذخه وتبذيره ،رأي "إسماعيل" أن الدول الأوربية لم تُسعفه في محنته ،وأنها مازالت تُريد الإبقاء علي الرجل المريض خوفًا من إثارة المسألة الشرقية ،ورأي الناس في مصر يميلون إلي مراسلة السلطان والسلطان لا يرضي إلا بالمال والمالُ عزيز عنده وحرام أن يهديه لمن لا يستحقه، فأرسل وزيره "نوبار باشا" يجس النبض في القسطنطينية. فوصل إليها في الأسبوع الثالث من مارس 1870،وذكرت الصحف الفرنسية أن سفر "نوبار" كان حادث الأسبوع. ولم تشر إلي مهمته، ولكنها ذكرت أن آخر رحلة قام بها كانت في سنة 1867،حيث تمكن من الحصول علي الفرمان الذي منح سمو" "إسماعيل باشا" لقب خديو، وذكرت أن العلاقات بين مصر والباب العالي كانت في أوجها في ذلك الوقت، وأن "فؤاد باشا "هو الصدر الأعظم. وأتت الأخبار أن السلطان أرسل إلي الخديو علي سبيل الهدية سيفًا فخمًا مرَّصعًا بالماس والأحجار الكريمة. وتصف "لوبروجريه إچيبسيان" هذا السيف وتتهكم قائلةً:" إنها تجهل إذا كان له حدان أو حد واحد كما تجهل إذا كان نصله يحمل أو لا هذه العبارة المشهورة من أيام الحروب الصليبية وهي "لا تسحبني بدون لزوم ولا تبيتني بدون شرف"...وتتساءل عن معني إرسال هذا السيف، وهل هو لشكر الخديو لعدوله عن التسلح ولتخفيضه الضرائب ولاقتصاده في المصروفات العامة، ولقطعه علاقاته مع القواد الأجانب الذين كفُّوا عن الإقامة في القاهرة، أم لشكره علي أنه قدَّم الترضيات الكافية إلي القسطنطينية عن كل البنود التي حواها الفرمان الأخير للسلطان. وصف الصحف الفرنسية لحفلات افتتاح القناة كان "إسماعيل" قد جاب أوربا بدعوة ملوكها وأباطرتها وأمرائها لحضور حفل افتتاح قنال السويس، وعاد "نوبار باشا" إلي البلاد بعد أن زار العواصم يسِّبح بحمده، ويدعو الدول لتأييده في مشروعاتها. وقارب الاستعدادات لحفلات القناة أن تنتهي، ولم ينس "إسماعيل" أن يوجه بشخصه الدعوة للصحافة الأوربية لترسل مندوبيها لحضور هذه الحفلات. وقامت الصحف الفرنسية في مصر بوصف ما تم من استعدادات ،وتُشير بالأبهة والعظمة التي سيكون عليها الحفل ،ونشرت ما أعد من ترتيبات لاستقبال الأباطرة والملوك. واهتمت في كل يوم بذكر أخبار إقامتهم في البلاد ،وما يقومون به من زيارة للآثار القديمة ورحلات في صعيد مصر. تحول "لوبروچريه إچيبسيان "من الدفاع الي الهجوم كانت "لوبروجريه إچيبسيان" تُناصر "إسماعيل"، وتؤيِّده في فكرة استقلال البلاد، ولكنها تُخالفه في الخطة التي تتبعها للوصول إلي تحقيق هذا الاستقلال . وعندما قام النزاع بينه وبين الباب العالي أخذت بالطبع جانب "إسماعيل" ،وحملت علي تركيا وصحفها حملات عنيفة ،ودافعت عنه دفاعًا فاقت فيه تلك الصحف الفرنسية التي كانت تنعم برعايته، وتحظي بمنحه وأمواله. وأخذت تذكره في لين أحيانًا وفي كثير من التبكيت واللوم أحيانًا أخري بنبأ غايته وخطأ خطته حتي تدفعه إلي السير في الطريق الذي رأته سليمًا ،وهو الالتجاء إلي الدول الأوربية والسير في ركابها والاستعانة بها علي الرجل المريض أو علي الأقل الاستعداد والتأهل والوقوف معها جنبا الي جنب في انتظار نهاية أجله. ولكنها فوجئت برغبة "إسماعيل" في العودة إلي خطته القديمة، وفوجئت برغبة "إسماعيل" بذهاب وزيره "نوبار" إلي القسطنطينية ،وفوجئت بنجاح هذا الوزير في التمهيد بصفاء الجو بين القطبين، كما فوجئت أكبر المفاجأة بهذا السيف الذي ظهر من مقابلتها له بالتهكم المر والسخرية اللاذعة. أنها لا تود ل"إسماعيل" أن يعود كما بدأ، ولا تود لمصر ذلك الخراب الذي يأتيها من هذا الطريق. وعندئذ تغيرت لهجتها، وانقلبت من الدفاع إلي الهجوم، وأصابتها نوبة عنيفة من نوبات الحنق والثورة. نوبار في صحيفة "لوڤار دالكساندري" وقد رأت هذه الصحيفة أن تتمثل بزميلتيها "لوبروجريه إچيبسيان" و"لاندباندان"، فبدأت حياتها خصيمة الخديو، معاديةً لرجال حكومته ،وحملت في عددها الأول علي وزير الخارجية "نوبار باشا"، الذي يسب الفرنسيين وبحوزتهم، كما اعتاد علي ذلك، ودأب علي احتقارهم، وهي تصفه بأنه ليس سياسيًا ولا يفهم من أمور السياسة شيئا.. وكانت مقالات الصحيفة تُرضي فرنسا وقنصلها والفرنسيين في مصر؛ لأن فرنسا كانت تُعارض في إنشاء المحاكم المختلطة التي يتزعم حركتها "نوبار". ويسعي لإقرارها من دول أوربا. ترحيب الصحف الفرنسية بتأليف الوزارة الأوربية وكان مما اقترحته اللجنة الدولية لإصلاح حال المالية المصرية أن يتنازل الخديو عن سلطته المطلقة لوزارة مسئولة، فقبل الخديو ذلك ،وبعث إلي "نوبار باشا" في 28 أغسطس 1878 ، لتأليف الوزارة. وكان من بين أعضائها وزيران أجنبيان ،أحدهما إنجليزي للمالية وهو" سير رڨرز ولسن"، والثاني فرنسي للأشغال وهو "دوبلنيير". وانتهزت الصحف العربية فرصة تعيين الوزارة الجديدة ،فأخذت تشرح مساوئ العهد القديم وترحب بمقدمها، وهللت الصحف الأجنبية عامة، و"لاجازيت ديتريبونو "خاصة. وعادت تكيل ل"إسماعيل" التهم، وتشَّبه العهد الذي سبق تأليف الوزارة بعهود البربرية الأولي. ومما هو جدير بالذكر أن "لوڤار دالكساندري" مع أنها كانت تذكر الأخبار في صدق ظلت وفية ل"إسماعيل" معه حتي آخر أيامه ،وتدافع عنه دفاعًا يُذكر لها علي مر الأيام، ورضيت الوزارة أن تمنح الصحف بعض الحرية لتنفس عما في صدور الناس والتفهم المآسي التي لقيها الشعب ،غاضة الطرف عما كان يوجَّه إليها هي .ولما رأي الخديو الماء يعلو حتي كاد يغرقه، ترك بدوره الصحف تجول وتصول. فربما كان ذلك في إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وقد استفادت الصحافة من هذا الموقف العجيب. سقوط وزارة نوبار باشا ومع توالي الأحداث واشتداد الأزمة المالية ،ذكرت صحيفة "لوبوسوڤور إچيبسيان" حوادث فبراير سنة 1879 ،وهي الحوادث التي أودت بوزارة "نوبار". فقالت الصحيفة : " في 9 فبراير 1879 ،قرر مجلس الوزراء برئاسة "نوبار باشا" إحالة عدد كبير من الضباط علي الاستيداع. وكان لهؤلاء الضباط مبلغ كبير متجمد من متأخرات رواتبهم وطلبوا من "راتب باشا" وزير الحربية وقتذاك أن تُصرف لهم رواتبهم المتأخرة، وخاصة أنهم قضوا في الخدمة سنينًا طويلة .فقيل لهم أن مجلس الوزراء معني بأمرهم، وظلوا ينتظرون حتي السابع عشر من فبراير نفسه، وفي ذلك الوقت كانت فكرة التمرد تسيطر علي عقول الضباط المُحالين علي الاستيداع. فاجتمع في مساء ذلك اليوم مائة وخمسين منهم في مسجد سيدنا الحسين وقرأوا الفاتحة. "وفي اليوم التالي، توجه أربعة منهم علي رأس خمسمائة إلي مجلس شوري النواب، حيث اصطحبوا عشرة من النواب إلي وزارة الحربية ،ليؤيدوهم في طلبهم، ويحصلوا علي الموافقة عليه. وسار الموكب علي هذا النحو إلي الوزارة، ولما أصبح علي مسافة تقرب من مائة خطوة منها، شاهدوا "نوبار باشا" في عربته ومعه "كمال بك "المحرر الأول في رئاسة مجلس النظارة، وكانت الساعة قد جاوزت الظهر. وتوقفت العربة عن السير. وحاول السائق تفاديهم ،فضرب الجياد بشدة ولكنه تلقي في نفس اللحظة ضربة سيف وجهها إليه أحد الضباط، وأنزل من مكانه وحل محله ضابط. وفي نفس الوقت تجمع جمهور كبير حول "نوبار"، وعلت صرخات الاضطراب والضجيج. "وقد طلب "لطيف بك سليم" إلي رئيس الوزراء العودة إلي الوزارة ،ودعوة زملائه الوزراء. وفي ذلك الحين أقبل "السير ريڨرز ولسن "، فأوقف جمع من الضباط جياد عربته. وأنزلوه منها وأدخلوه في عربة "نوبار باشا". وأُعيد الاثنان إلي وزارة المالية ووراءهم الثوار حتي مكتب "السير ولسن" الذي يقع في الدور الأول. وقامت مناقشة حادة بين أحد الضباط و"السير ولسن". وجه إليه الضابط خلالها إهانات جارحة، وهدده بقبضة يده، وأمسكه من لحيته، وقال له إنه كان من الواجب عليه أن يغمد سيفه في جسده. "ثم طلب إلي "نوبار باشا" أن يدعو المجلس للانعقاد، ولما أجاب بأن وزيرين وهما "علي باشا مبارك"، "وراتب باشا "غائبان. طلب منه أن يكتب إليهما خطابين لدعوة انعقاد جلسة عاجلة. وتسلم الخطابين أحد الضباط وذهب للبحث عنهما. "ولم تكن خطورة الحوادث قد ترامي نبؤها إلي قصر عابدين، ولكن بمجرد أن علم الخديو أن " السير ولسن" و "نوبار باشا" سجينان في وزارة المالية، توجه إلي الوزارة عن طريق الحدائق. وظهر في شرفة الوزارة. ولما رآه الثوار حيوه في حماس بالغ، وعندئذ وجه إليهم أمره طالبًا التفرق. ولكن لما لم يستمع إليه أحد رأي من الأوفق أن ينزل إليهم ليُعيد عليهم أمره. ولكنه وجد نفسه في الحال محوطًا، يمسك الضباط بملابسه طالبين إليه صرف نقودهم. وأمر "عبد القادر باشا" فرقته بشهر سلاحها ،كي يخلِّص الخديو من المألوف الذي هو فيه، فجرح الضباط الباشا في يده كما جرحوا ثلاث عساكر، واحتلت الفرقة الوزارة عنوة. ولما رأي الضباط ألا فائدة من القتال انسحبوا تاركين عشرة منهم سجناء ومن بينهم لطيف بك سليم. "وانتشر الخبر في القاهرة بسرعة غريبة. وأصبح الحادث مثار تعليقات مختلفة، واجتمع مجلس الوزراء في قصر عابدين، وانضم إلي الاجتماع قناصل الدول، ولكنه لم يتخذ أي قرار وأُرجئ الاجتماع إلي اليوم التالي.. "وفي الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم التالي، أنهي قنصل إنجلترا العام إلي "نوبار باشا" أن هيئة القناصل طلبت من الخديو ضمانته الشخصية بالمحافظة علي أرواح الأوربيين، ولكن الخديو رد عليهم بقوله:" إنني لا أستطيع عمل شيء ،أو أن أعد بشئ مادام "نوبار باشا" يُدير دفة الأمور" .فلما علم رئيس الوزراء بما قال الخديو، قال: " مادام الأمر كذلك فسأقدم استقالتي" ، ولما قدَّمها إلي الخديو قبلها علي الفور. وعندئذ أخذ الخديو علي عاتقه أمام ممثلي الدول الأوربية مهمة إعادة الأمن والهدوء.." والمهم أيضًا في هذه الرواية هو التعليق الذي وضعته الصحيفة عن هذه الحوادث، قالت إن المسألة إذن لم تكن مبدأ مقاومة الوزارة الأوربية، ولكنها كانت لتثبيت مبدأ دفع ما يستحقه كل فرد نتيجة لعمله أو لخدماته، وتستدل علي ذلك بأن وفدًا من الضباط المُحالين إلي الاستيداع توجه حوالي الساعة الرابعة إلي قصر عابدين، طالبًا التشرف بالمقابلة الخديوية، وقدم الوفد عريضة ،تقبلها الخديو، وفيها يطلب الضباط المحالون إلي الاستيداع والقوات الموجودة في ثكنات العباسية متأخر رواتبهم، والإفراج في الحال عن "لطيف بك" وزملائه، وإلا ذهبوا هم أنفسهم لإطلاق سراحهم من القلعة، وختموا عريضتهم راجين الخديو أن يذهب بشخصه في اليوم التالي إلي العباسية. وهكذا استقالت وزارة "نوبار". وتولي "توفيق باشا" ولي العهد رئاسة الوزارة ،وأبقي الوزيرين الأجنبيين ،ولكن الأمور لا تلبث أن تزداد تعقيدا وتستقيل وزارة توفيق، ويؤلف "شريف باشا" الوزارة الوطنية.
#عطا_درغام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مع الكاتب الأرمني المعاصر ميسروب هاروتيونيان
-
أچاسي أيڤ---ازيان الأديب الأرمني متعدد المواهب
-
ملامح أدب الأقليات في الدولة العثمانية: الأدب الأرمني في نمو
...
-
نضال المرأة الأرمنية
-
الإبادة الأرمنية في الأدب الأمريكي
-
مع الفنانة الشاملة أنوشكا
-
أورفا:التاريخ.القدسية.اللعنة
-
السبي العثماني والمشرق المتوسط
-
قبطي في عصر مسيحي للدكتورة زبيدة محمد عطا
-
مواقف سياسية واجتماعية في أدب نجيب محفوظ
-
سيلڤا كابوتكيان شاعرة كل الأرمن
-
قيم جديدة للأدب العربي
-
الكرد أمة الإبادات الجماعية
-
أدب الأطفال في الثقافة الكردية: كرد سوريا أنموذجًا
-
عودة الدولة: تطور النظام السياسي في مصر بعد 30 يونيو
-
تشريح العقل الإسرائيلي
-
مع عازفة البيانو المصرية الأرمنية أربي جانيكيان
-
أمانة ياليل
-
برتولد بريخت رائد المسرح الملحمي
-
فيكتريا أرشاروني أم الأيتام الأرمن في مصر
المزيد.....
-
شاهد كيف انتهت مطاردة عشرات القرود الهاربة في ولاية كارولينا
...
-
السعودية.. فيديو لمقيم سوداني ألقى نفسه من فوق أحد المباني و
...
-
ناريشكين يتحدث عن محاولات لتزوير تاريخ الحرب العالمية الثاني
...
-
سيناتور أمريكي ينتقد قرارات العفو التي أصدرها ترامب وبايدن
-
-أرض قاحلة مليئة بالأنقاض-.. مسؤولون أمريكيون يوضحون مبادرة
...
-
هل تؤسّس زيارة عراقجي لطالبان مرحلة جديدة من العلاقات بين ال
...
-
تحديات تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا
-
أفغانستان تفرج عن معتقل كندي بعد وساطة قطرية
-
اقترح نقل سكان غزة إلى مصر والأردن.. هل خالف ترامب رؤية أمري
...
-
الجيش الإسرائيلي ينسحب تدريجيا من محور نتساريم والسكان يتحرك
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|