|
لماذا يبقى التصميم خارج إطار النقد التشكيلي؟
راقي نجم الدين
(Raqee S. Najmuldeen)
الحوار المتمدن-العدد: 8234 - 2025 / 1 / 26 - 00:14
المحور:
الادب والفن
في مشهد النقد الفني العربي، يغيب التصميم تماماً عن عدسة النقاد الذين لا يرونه سوى كمنتج تجاري رخيص، يضجّ به السوق بأسوأ صوره. الناقد التشكيلي، الذي يُطرب لقراءة لوحات صامتة تملأ قاعات النخبة، ينظر إلى التصميم كما ينظر إلى إعلان مبتذل على جدار متهالك. هذا القصور في الفهم لا يرتبط فقط بسوء الإدراك لمعنى التصميم، بل يتجذر في نمط من الجهل المدعوم برؤية قديمة تُقدس الريشة وتزدري البرمجيات، كأن الإبداع متوقف على الأدوات وليس على الفكر. لكن هل التصميم مجرد انعكاس لتلك الصور التجارية الباهتة التي تملأ الشارع؟ وهل يمكن اختزاله في هذا الفهم القاصر؟ ربما تكمن المشكلة في أن النقاد أنفسهم لم يدركوا أن التصميم يتجاوز هذه الحدود ليصبح لغةً بصرية تخاطب المجتمع بأسره. فالتصميم ليس مجرد سلعة تُستهلك، بل أداة قادرة على تحويل الأفكار إلى واقع يترك أثراً حقيقياً. عندما نقرأ مقالات النقاد، نجدها أقرب إلى نثر زُيّنت أطرافه بالبلاغة، لكنها تفتقر إلى أي معنى نقدي حقيقي. كلمات تُزَخرف لوحات متواضعة، هي في جوهرها أصداء للفن الغربي، أو معارض لا تكترث بها سوى دائرة صغيرة من الزملاء المجاملين لبعضهم البعض. الفنان الذي تُعرض لوحاته في قاعة مغلقة أمام جمهور محدود يلقى استضافات في برامج التلفزيون، ويُكتب عنه بمقالات تُسبغ عليه الألقاب. ولكن، هل لهذه اللوحات أثر حقيقي في المجتمع؟ هل يتفاعل معها الناس في حياتهم اليومية كما يفعلون مع التصميم الذي يحيط بهم في كل مكان؟ هؤلاء النقاد، الذين يفتقرون إلى الجرأة لمواجهة أعمال المصممين بالنقد الموضوعي، يكتبون نصوصاً أقرب إلى شهادات حضور بدلاً من أن تكون أدوات لفهم الفن أو دفعه إلى الأمام. أما التصميم، فهو لا يحظى بمثل هذا التملق؛ لأنه لا يُعرض في أروقة النخبة المغلقة، بل يشارك في معارض دولية تضع معايير صارمة، وتجمع عمالقة الإبداع من كل أرجاء العالم. مصمم البوستر، أو الهوية البصرية، أو التصميم الصناعي، أو حتى الأزياء، ليس مجرد فنان يعمل لزينة الجدران؛ بل هو مفكر يحل مشاكل بصرية ويعيد صياغة علاقتنا بالعالم. ومع ذلك، يبدو النقاد وكأنهم لا يعلمون عن تلك المعارض شيئاً، لا أبرز المصممين فيها، ولا أعمالهم، ولا أثرها في تشكيل ثقافة بصرية عالمية. غالباً ما يُنظر إلى النقد في الفن التشكيلي على أنه انعكاس تأملي للعمل المكتمل؛ فاللوحة المعلّقة على جدار تبقى شاهدةً صامتة، قد تمر عليها أعوام دون أن تُثير أكثر من نظرات عابرة أو تعليقات متناثرة. ومع ذلك، يمكن للنقد الحقيقي أن يترك أثراً على الفنان نفسه، ليس كما يحدث في النقد التمجيدي الذي يقتصر على المديح السطحي أو التنظير الفارغ، بل النقد الذي يدفع الفنان لإعادة التفكير في رؤيته وأسلوبه، ويُثري تجربته الإبداعية على المدى الطويل. مثال على ذلك هو النقد الذي أحاط بلوحة "جيرنيكا" لبيكاسو. فقد أثار العمل نقاشاً واسعاً بين النقاد، إذ رأى البعض أنها أداة قوية لتجسيد مأساة الحرب، بينما انتقد آخرون تعقيدها الذي قد يصعّب وصول رسالتها إلى الجمهور. هذا النوع من النقد يُظهر كيف يمكن للحوار النقدي أن يُثري فهم العمل الفني ويسلط الضوء على أبعاده المختلفة. أما التصميم، فهو مجال مختلف بطبيعته؛ ديناميكي ومتفاعل، حيث يصبح النقد جزءاً حيوياً من دورة العمل، يدفع المصمم لتعديل مساره وتحسين عمله قبل أن يصل إلى شكله النهائي. فالتصميم لا يسكن الجدران مثل اللوحات، بل يتنفس في الشوارع، ينبض على الشاشات، ويتجسد في المنتجات التي نستخدمها يومياً. وهنا يمكن أن نأخذ مثالاً حياً عن الشعار المثير للجدل لأولمبياد لندن 2012، الذي أثار موجة نقدية واسعة. وصفه البعض بأنه جريء ومختلف، بينما رأى آخرون أنه مربك بصرياً وغير جذاب. ورغم هذه الانتقادات، نجح التصميم في جذب الانتباه وفتح نقاش حول أهدافه وطبيعة الجمهور المستهدف. هذا النوع من النقد، سواء كان إيجابياً أم سلبياً، يعكس أهمية التفاعل مع التصميم كمنتج حيوي وليس مجرد عمل فني صامت. وهنا، يظهر السؤال الملحّ: هل نحتاج إلى نقاد تصميم؟ بالتأكيد نعم، ولكن ليس من طينة أولئك الذين يكتبون قطعاً إنشائية، هي أشبه بعرض بلاغي منفصل تماماً عن جوهر العمل الفني، يكتفي بالتحليق في عوالم اللغة دون أن يلمس عمق الفن أو يُضيء جوانبه الخفية، بل نحتاج إلى نقاد يفهمون التصميم كمنظومة، كقيمة وظيفية وجمالية. لعل النقاد التشكيليين، بجهلهم بمفاهيم وأدوات التصميم، يفضلون البقاء في مناطقهم المريحة، حيث الألوان التقليدية والأدوات البسيطة، مثل صياد يخشى خوض البحر المفتوح فيكتفي بما يجده في البرك الصغيرة. ولكن إلى متى سيستمر الناقد التشكيلي في حصر فهمه للفن باللوحة المسندية التقليدية، متجاهلاً التصميم وكأنه دخيل على الحقل الإبداعي، قطعة معدنية لا مكان لها في متحف الخشب؟ إلى متى سيظل التصميم يُسفه أو يُتجاهل، في حين أن دوره يزداد أهمية في تشكيل هويتنا البصرية والثقافية؟ ربما حان الوقت لأن ينظر النقد إلى التصميم بعين جديدة، لا تميز بين لوحة أو بوستر، بين ألوان يدوية أو رقمية، بل ترى الإبداع في كل شيء يمس حياتنا. وحينها فقط، سنجد نقداً يرتقي لمستوى الفن نفسه!
#راقي_نجم_الدين (هاشتاغ)
Raqee_S._Najmuldeen#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الألقاب الأكاديمية بين الزينة والجوهر
-
سياحة المؤتمرات: وهمٌ أكاديمي أم فرصة للظهور؟
-
بلاغة الاختصار
-
سباق الضفادع: عندما يصبح الجشع رياضة وطنية
-
التطور المفاهيمي لتعليم التصميم
-
أصداء الابتكار: صراع وجهات النظر
-
التسلسل الهرمي للمهن: تأملات في شذوذ الإدراك البشري
-
دور ركوب الدراجات في الاقتصاد والبيئة ونظريات المؤامرة وسط ا
...
-
فضح النفاق: سيكولوجية انتقاد الآخرين وتجاهل عيوبنا
-
إعلانات التوظيف الأكاديمي: هل تفتقر الجامعات العربية إلى الش
...
-
سباق التسلح الأكاديمي: مستوعب سكوباس وتصنيف الجامعات
-
التصميم الجرافيكي ليس اتصالاً بصرياً
-
سحر المؤثرات البصرية
-
البلاغة البصرية والتصميم الجرافيكي
-
صُنع في التصميم: تبادل الادوار بين الوظيفية والجمالية
-
نتائج البحوث في حياتنا
-
غلاف الكتاب يتحدث
-
الجمال والوظيفة: تحليل مؤسسي
-
النقد التصميمي وتدريسه
-
الواقعية السحرية: منطقية اللامنطقي
المزيد.....
-
نجيب محفوظ وفن الكوميكس.. هل يفتح الفن التاسع آفاقا جديدة لل
...
-
فيلم -إيميليا بيريز-.. فوضى إبداعية بين الموسيقى والكوميديا
...
-
محمد سمير ندا.. على الكاتب أن يمتلك الجرأة على إلقاء الحجارة
...
-
بعد سقوط الأسد.. فنان سوري شهير يتعرض للتهديد بالقتل
-
الفنان السوري سامر المصري يصل دمشق بعد غياب 14 عاما ومحبوه ي
...
-
سرقة تحف أثرية من متحف هولندي بعد اقتحامه باستخدام عبوة ناسف
...
-
بطريقة سينمائية.. سرقة 3 أساور ملكية وخوذة ذهبية أثرية
-
فنان مصري يعلن فتح مزاد على -بالطو- حفل -Joy Awards- لصالح م
...
-
أزمة قانونية تهدد عرض فيلم السيرة الذاتية لمايكل جاكسون
-
بشعار -وما بينهما-.. بينالي الفنون الإسلامية بجدة يستكشف الإ
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|