|
شقشقة عراقية 4 غضب العراقي وحزنه
رياض قاسم حسن العلي
الحوار المتمدن-العدد: 8233 - 2025 / 1 / 25 - 16:17
المحور:
الادب والفن
في أحد برامج المسابقات الخفيفة على منصة تيك توك، يسأل المُحاور ضيفه عن أشد البلدان حرارةً في العالم ويُعطيه خيارات خمس، وحين يصل إلى الخيار الثاني يحتار الضيف يُسهل على المحاور السؤال ويقول له إن أهل هذا البلد معروفون بسرعة غضبهم يجيبه الضيف بسرعة أنه العراق. وخلص استطلاع أجرته مؤسسة غالوب الدولية إلى أن العراقيين هم أكثر الشعوب العربية غضباً، حسب استطلاع رأي شمل أكثر من 142 دولة. فهل صارت سمّة الغضب غالبة على العراقيين، ولماذا؟ الحديث عن الغضب العراقي يرتبط برباط قوي بالحزن. فالغضب والحزن العراقيان نتيجة السياسة والاقتصاد والمجتمع والدين وقهر الرجال، كأي ظاهرة بشرية أو حالة نفسية وشعورية ، الحزن يتبعه غضب ، فالغضب لا يأتي من تلقاء نفسه ، بل بدوافع سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية، كما ذكرنا، والفرح نادر في حياة العراقيين، بل إن العراقي حينما يضحك يشعر بأن مصيبة ستأتيه ذات يوم، لذلك يقول بعد نوبة ضحك (يارب ضحك خير)، وخطار علينا الفرح وهكذا. لكل غضب سبب، كما لكل شيء، والحزن أيضًا، ومن يحزن بلا سبب فهو بطرَان. فحينما شعر العراقي أن حزنه يحتاج إلى سبب يؤرخه، اخترع أسطورة تموز، لأن الأسباب الحقيقية للحزن ربما ينساها التاريخ لكن تلك الحكايات سيتداولها الناس جيلاً بعد جيل حتى يأتي من لديه بعض العلم فيدوّنها.إن طقوس النواح الجماعي كانت منتشرة في مدن وقرى وبلدات الإمبراطورية الآشورية البابلية الجديدة، حزنًا على الإله تموز الذي كانوا يعتبرونه شهيدًا. ولمَن يريد أن يسترجع المراثي السومرية القديمة، ما عليه إلا الاستماع إلى داخل حسن، فهو سليل هؤلاء المنشدين الذين كان يُطلق عليهم اسم (كالو) ومن هنا ظهرت كلمة الكاولية والگوالة في المآتم النسائية، وسرعان ما انتشر الكالو في أنحاء الأرض، ووزّعوا غناءهم على الشعوب كلها، كأنهم بذلك يُحيون سيرة المراثي القديمة. المراثي العراقية القديمة توزعت على أربع مجموعات: المجموعة الأولى هي مراثي المدن. والثانية هي مراثي الآلهة. والثالثة مراثِي الملوكِ. والرابعة مراثي الشعائر. لنقرأ هذه المرثية: (اهملوا إغلاق بابي المقدس، وأنا أهيم بلا هدف بسبب قدرِي، أنا لا أستطيع النوم، أنا لا أستطيع أن أهجع. أنا أتجول، أنا لا أستطيع النوم. مثلما أنا وقفت اليوم انتهى. القمر الشاب غرب، والمدينة تلاشت ودُمّرت. تلاشى كل الذين كانوا يسكنونها المدينة تأسست بغضب المدينة التي لم تُبارك المدينة التي وعدها أنليل، المدينة التي لم يُعتن بها السيد حيث نظر إليها آنذاك شزراً. المدينة بنيت تحت قدر الشر، المدينة المبتلاة بالسلاح. المدينة التي سوف لا يمرح عند زواياها المدينة التي سوف لايمرح شبابها المدينة دُمّرت في المعركة) وهكذا...
الغضب العراقي صار سمة غالبة، نعم، ويقال إن أغلب حكام العراق ورثوا هذه السمة، فكانت أغلب قراراتهم حمقاء، كارثية، ومأساوية. وإلا، فهل يوجد حاكم عاقل يدخل شعبه في ثلاث حروب وحصار قاتل خلال ٢٣ عامًا فقط؟ ومن شدة غضب العراقيين على الحكام، فإن معاوية أوصى ابنه يزيد فقال: "انظر أهل العراق، فان سألوك ان تعزل عنهم كل يوم عاملا فأفعل، فان عزل عامل أيسر من ان تشهر عليك مائة الف سيف". وفي هذا الصدد، ينسب إلى الجاحظ قوله بأن العلة في عصيان أهل العراق على الأمراء هي أنهم أهل نظر وفطنة ثاقبة. ومع النظر والفطنة يكون التنقيب والبحث، ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح والترجيح بين الرجال والتمييز بين الرؤساء وإظهار عيوب الأمراء. وما زال العراق موصوفًا بقلة الطاعة والانشقاق على أولي الرئاسة. والعصيان لا يكون إلا بغضب ساطع يجتاح البلاد كما حدث في شعبان 91 التي كادت أن تطيح برأس الحكم لولا تدخل أمريكا، فالقرار لم يُتخذ بعد عند أصحاب القرار، لأن التغيير لا يجب أن يكون بأيدي عراقية، بل لابد من تدخل خارجي، وإلا كيف سقطت المدن السومرية؟ ، أليس على يد الكوتيين، سكان الجبال الشرقية؟ يشير أقدم لوح كتابي إلى أن ملحمة جلجامش شهدت أول إشارة للحزن من خلال رؤية جلجامش جسد صديقه إنكيدو الذي مات بصورة محزنة، فيقول له"الآن، أي نوم هذا الذي غلبك واستولى عليك؟"، وطوال سبعة أيام ظل ينتف شعره ويمزق ملابسه هائماً على وجهه خارج أسوار مدينة أوروك السومرية في جنوب العراق، وفي أحد نصوص الملحمة يقول جلجامش: "لقد حلّ الحزن في جوفي"، و"أصبحتُ خائفًا من الموت وأجول في البرية". ومن المؤكد أن هذا النص جاء تعبيرًا عن حالة موجودة مسبقًا، فهو ليس نصًا خياليًا بل واقعيًا إلى أبعد الحدود. ويقول الدكتور علي الوردي في هذا الصدد: "الحزن جزء من الشخصية العراقية منذ آلاف السنين، بسبب تركيبة الثقافة العراقية كنتيجة للنشاط الاقتصادي، لأن أرض العراق أرض فيها كل خير، ولكن تأتي فجأة ظروف غير طبيعية تحكم كل شيء. وعلى سبيل المثال، فإن فيضان النهر في العراق يحدث في زمن الحصاد الوفير، بينما فيضان النيل يحدث في زمن رمي البذور. لذلك، فإن فيضان النيل خير وفيضانات العراق نقمة؛ فيفرح المصري بالفيضان، بينما يحزن العراقي". ويُذكر أن محمد سعيد الصحاف طلب من الشعراء والمغنين والملحنين أن يغيروا نمط الغناء العراقي إلى الفرح لأن الشعب سعيد والوطن تحول إلى جنة، فما كان من الشاعر جبار الغزي إلا أن كتب ( يگولون غني بفرح ) ليغنيها فيما بعد قحطان العطار.
ومن المراثي العراقية البابلية القديمة، نقرأ مثلًا: بكاءُنا يُسمعُ في كلِّ مكانٍ من الأرضِ مرتفعاتها ومنخفضاتها لعله يصل إلى بيت الإله إنه بكاء على نباتٍ كفّ عن النمو. من أجل الشعير الذي ذبل ومن أجل موت الشباب والأطفال ومن أجل النهر الذي أصابه الجفاف ومن أجل السمك الذي اختفى من مجاري المياه ومن اجل الغابات التي لم يعد ينمو فيها شجر التمرسك ومن أجل مخازن البيوت التي لم تعد تستقبل النبيذ والعسل ومن أجل البراري التي جفت حشائشها ومن أجل القصر الذي ولت عنه بهجة الأيام الماضية.
وذات يوم سألت مذيعة كويتية مغنية عراقية مقيمة في الكويت عن سبب الحزن في الأغاني العراقية، فأجابتها ببساطة مرددة المرثية الأولى التي يسمعها الطفل العراقي على لسان أمه وهي تنومه. : ديللول يالولد يبني دللول عدوك عليل وساكن الجول. ربما تعود كلمة دللول في أصلها إلى المفردة السومرية القديمة ديلي للول، والتي تعني عزيزي الوحيد.
#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شقشقة عراقية 3
-
شقشقة عراقية ( 2)
-
شقشقة عراقية
-
ظهيرة سوق البصرة القديم
-
شذرة 15 الدين والتحريم
-
شذرة 14 الدين والأخلاق
-
حسين منه وهو من حسين
-
شذرة 13 الارادة الانسانية
-
شذرة 12 العقيدة والانسان
-
غدير الاتمام لدين أكتمل/ رؤية شخصية
-
ليس شعرا بل واقعة حدثت
-
شذرة 10. الفرق الإسلامية/ التوافق والاختلاف
-
شذرة 11 الدين والحرب
-
شذرة 9 نظرة إلى التراث
-
شذرة 7
-
عبد الإله منشد المحمداوي وملحمة يمحمد
-
شذرة 6 النص والنسخ
-
شذرة 5
-
شذرة 4
-
فيصلية الروح
المزيد.....
-
فيلم -إيميليا بيريز-.. فوضى إبداعية بين الموسيقى والكوميديا
...
-
محمد سمير ندا.. على الكاتب أن يمتلك الجرأة على إلقاء الحجارة
...
-
بعد سقوط الأسد.. فنان سوري شهير يتعرض للتهديد بالقتل
-
الفنان السوري سامر المصري يصل دمشق بعد غياب 14 عاما ومحبوه ي
...
-
سرقة تحف أثرية من متحف هولندي بعد اقتحامه باستخدام عبوة ناسف
...
-
بطريقة سينمائية.. سرقة 3 أساور ملكية وخوذة ذهبية أثرية
-
فنان مصري يعلن فتح مزاد على -بالطو- حفل -Joy Awards- لصالح م
...
-
أزمة قانونية تهدد عرض فيلم السيرة الذاتية لمايكل جاكسون
-
بشعار -وما بينهما-.. بينالي الفنون الإسلامية بجدة يستكشف الإ
...
-
المؤرخ سامي مبيض.. سكة الترامواي وطريق الحداثة الدمشقي قبل ا
...
المزيد.....
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
المزيد.....
|