حاتم عبدالهادي السيد - قصة.. وقراءة: فنتازيا السرد واستدعاء الموروث التاريخي الشعري في قصة (من هموم امرئ القيس الدائرية) لنقوس المهدي

نقوس المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8232 - 2025 / 1 / 24 - 09:40
المحور: الادب والفن
    

يطالعنا الأديب المغربي / نقوس المهدي في قصته :"من هموم امرئ القيس الدائرالسرد" الذي يقتضي منه إعادة انتاجية، واستلهام التاريخ، ليماهي بين الماضي والحاضر، وليأخذنا في رحلة مخاتلة إلى الواقع عبر "السيميائية"، التي تستدعي مرموزات المعادل الموضوعي، والمعادل الضمني، والتماثل-طوال الوقت- وكأننا أمام واقع سحري يمضي بنا من " نيتشة"، وأطلال امرى القيس في الجزيرة العربية، ثم يأخذنا إلى رحلة جميلة، في روما التي تقدم الغواية والشهوة،ثم يعود بنا عبر فنتازيا السرد إلى واقعنا المعاصر، وكأنها دوائر تعبر الزمن والتاريخ، وتسافر عبر العصور،ولربما أراد أن يقول : " ما اشبه الليلة بالبارحة"، وما أشبه واقعنا العربي، منذ عهد امرىء القيس، الذي يرفل في الدمقس والحرير، إلى واقعنا المعاصر الذي يتسربل بالدولار ، والفرنك، وجميلات الغرب !!..
إنها مخاتلات السرد السيميائىي ، عبر انتقالات المتتابعة ، وتجواله في التنقل "عبر الأزمنة"، فهو يستدعي شخصية أكبر الشعراء في العصر الجاهلي، وهو ملك، تستهويه النساء ،رغم الفقد، والعجز، ليماهي بين واقع الحال، والمآل...
ويستخدم الكاتب السرد الفنتازي، ليقارن بين ممالك شعرية تحلق في الخيال، وممالك عربية تمثل الواقع المعاصر، فالكل منبطح، ومكسور، ومقهور... وأمرؤ القيس -هنا-شخصية مقهورة،عاجزة جنسيا، رغم ثرائه، وقد رأينا زوجته تخونه، وتنطلق منه نتيجة ضعفه الجنسي، بينما نراه -في المقابل- يتغزل في كثيرات، وكانه نوع من التعويض النفسي،فأوهمنا بأنه زير نساء، لكنه عنين، ضليل، يعيش فى حزن ومرار، يجلد الذات بالشعر ، وبالسيف، ويحارب كفارس هصور : "اليوم خمر، وغدا أمر"، ولكن المحصلة-هنا- في قصة نقوس المهدي تتشرنق، وتتكور في التخاذل والخذلان والوهن، والركوع ، والإنبطاح، لروما التي تفتح مزاداتها، وفروج نسائها للخونة، الذين يبيعون الأوطان، ويستحلون نسوة روما، ببيعهم الأرض، والعرض ، مقابل لحظة لذة تمر، ويكتب التاريخ...
لقد غدا الراوي/السارد -هنا- شاهدا على العصر، فقد بدأ قصته بينتشه وحديثه عن الشعراء :
"الشعراء ليسوا نقيين بما فيهِ الكفاية في نظري
جميعهم يكدّرون مياههم كي تبدو عميقة !
قد تعلمّوا من البحر غروره أيضاً ،
أليس البحر بطاووس الطواويس ؟ "
نيتشه - هكذا تكلّم زرادشت "
ثم أنهى القصة بقصيدة لعبدالكريم اللعبي، وحديثه عن الدولار والعصر الحديث، يقول:
طقس جميل..
الإله الدولار.. الإله الفرنك..
وكل الآلهة الأخرى وأنصاف الآلهة..
من عصابة الأشرار الدولية للنقد..
والتجسس وقلب الثورات..
تهرع إلى السماء الجديدة..
المعبأة مواخير صحية.
طقس جميل..
اهتزازات الزلازل عادية..
إضرابات شرسة.. ثورات الفلاحين..
صدامات..
كل شيء هادئ..
طقس جميل..
ثلاثمائة يوم من الشمس**
وكأن الشعر هنا -إلى جانب أبيات امرؤ القيس (قفا... نبك) يمثل البطل التاريخي الذي يمثل الوجه الآخر للحقيقة، أو الشاهد المخدوع -من خارج دائرة السرد- الذي يندمغ في الواقع، ليبكي معه ملكه البائد..
لقد استطاع كاتبنا البديع/ نقوس المهدي، أن يغير مسيرة السرد النمطي، ويجدد روافده، عبر التاريخ الذي يستنكر الواقع، وعبر الواقع الذي يتساوق مع الفنتازيا، وعبر السرد السيميائيء الذي يسافر بالزمن عبر المكان، ويماهي بالتاريخي عبر السياسي،ليقدم الواقع دون رتوش، عبر دائرة تحوي الكون والعالم والحياة..
إن مسيرة الخطاب السردي هنا تتعانق مع السرد الفنتازي،كأنه يؤرخ للواقع بهدوء، دون ضجيح، فروما التي تمثل الشر،نراها تحتوي الخائنين، والعملاء، وتقدم الشهوة مقابل بيع الأوطان، يقول :
( السماء يا صديقي فوق روما تتبول، تراود الأرض عن نفسها لتبرعم عناقيد تنزف نبيذا يهاجر للقناني، والأرض من تحت سماء روما تشهق من شدة الرغبة، تفتح ساقيها وذراعيها وتتأهب للمس واللمس، والشوارع المرشوشة بنور بنفسجي تناديني بوقاحة شارع الفداء شارع الحرية شارع السلام، وأنا المهاجر العربي أعيش في استسلام، اشتم رائحة الخيانة والدعارة والاستسلام، وأعلن آني طيب الشرق بالغرب، ورائحة الجنوب بالشمال، عبير الانهيار والخزي وبيع الأوطان بالمجان، السباكيتي، كوكاكولا، بيبسي كولا، مارلبورو، ونستون، كنت، سالم، الماكدونالدز، بيع الأوطان في المزاد العلني، الإغتيالات، الإستغلال، عرب الأمريكان وعرب إيران، العرب العاربة والعرب المستعربة، العرب العارية والعرب المتعرية، عرب عدنان وعرب قحطان، عرب سات وعرب سالت، عرب المشارق وعرب المغارب، عرب اليمين وعرب اليسار، عرب النفط وعرب الزفت، عرب الهند وعرب السند، عرب زايد وعرب عمرو، عرب الكفاح وعرب النكاح، عرب السأم وعرب العم سام، عرب الجنة وعرب الجنان، عرب الهجرة وعرب الميلاد، عرب الشقاق وعرب الرفاق، عرب الدنيا وعرب الآخرة، عرب الفلس وعرب العدس، عرب السلاح وعرب الأقداح، عرب السلم وعرب الحرب، عرب المسبحة وعرب المذبحة، عرب المقاومة وعرب المساومة، عرب النهار وعرب الليل، عرب الجفاف وعرب الخراف، عرب الصديد وعرب النبيذ، عرب الجزيرة وعرب الجزائر، عرب البحر وعرب البحرين، عرب البعث وعرب العبث، عرب الجين وعرب الدين..
صديقي.. أنا الآن أجوب شوارع روما، وروما تموء مثل القطة عندما تغزوها الشهوة. وكالبقرة عندما تنتابها حالة (تايكوك) في عز الربيع)...
إنه يستخدم التفكيكية، ليعيد رسم الواقع الفنتازي، المهين.. واقع عالمنا المتخاذل، الضعيف، المنبطح وراء النبيذ، وغانيات روما، والشهوة، والعبث، واللامبالاة بقضايانا الراسخة- لدى الشعوب فقط...
لقد استطاع كاتبنا القدير / نقوس المهدي أن يجدد شكل وجوهر السرد القصصي، فقد غير بنائية القص، وامتاح لنفسه اسلوبا مختلفا، عبر شكل مختلف، فلا زمكانية، ولحظة تنوير، ولا نهاية رومانتيكية، أو تراجيدية، بل هي قصة دائرية تحوي العصور، وتسرد تاريخ الخذلان والإنكسار، والخيانة والغدر، منذ عهد امرىء القيس، حتى واقعنا المعاصر.
لقد مزج التاريخي بالسياسي، والفنتازي بالواقعي،والسحري بالتفكيكي، والرمزي بالتخالفي، وفكك نسيج السرد ، وغير شكل القصة العربية المعاصرة، وكأنها محاكمة تاريخية، للفتى امرؤ القيس الذي وجدوه ميتا في العصر الحديث ، لتبدأ محاكمة عصرية فنتازية، لإباحيته للجنس رغم خيانة زوجته، ولتقديمه لمحكمة تاريخية عصرية باعتباره أحد التنويرين الذين نادوا بالحرية، لذا لا غرو اأن يطالب السارد بإستدعاء النسوة اللاتي تغزل فيهن ، ليشهدن المحاكمة التاريخية"العابرة للزمان والمكان"،بعد وجود بلاغات في حقه، لذا كان الحكم التاريخي/الحديث على امرىء القيس العصري كالتالي ، كما تقول الحكاية :
( بناء على ما أقيم حول شخصية امرئ القيس ابن الملك حجر الكندي من أساطير وروايات وحكايات، وبناء على التقارير المرفوعة إلينا من الجهات المختصة حول ماضيه المشبوه، وثقل دمه، وسماجته، وسوء معشره، وكرهه من طرف النساء، وأن زوجته (أم جندب) طلقته وعاشرت غيره لعدم فحولته وعدم انتعاض عضوه، وأن النساء كن يتعلقن به لماله وجاهه وحسبه فقط، وبعد مناقشة مستفيضة لحاصل المعطيات، أجمع الحاضرون على صحة تلك الادعاءات ومنافاة تلك التصرفات المريبة والشاذة لكل حدود المنطقي والمعقول، وعليه فقد تم الاتفاق على ما يلي ذكره:
أ ــ التأكيد على عدم المساومة في أي شبر من الوطن..
ب ــ التأكيد على عدم المساومة بشأن المواقف المتخاذلة والوصولية، وتسخير القلم في خدمة أحد غير الوطن والشعب..
ج ــ فضح مواقف امرئ القيس التي هي في حد ذاتها مواقف ذاتية صرفة، صرفها للتغزل بالنساء وشرب الخمرة واللهو والقصف..).
إن الأدلة واضحة هنا، والبلاغات مستوفية الشروط، والقضية جاهزة للحكم، ولكن من يقيم دولة القانون؟ من يحكم في القضية بالعدل هنا، ويجمع الماضي والحاضر كذلك ؟!.
لقد استطاع المبدع الكبير/ نقوس المهدي استدعاء التاريخ، والسفر عبر الزمن، ليعيد نسج قصة تحوي كل شىء، وتقول كل شىء، لكنها في إطار محاكمة امرىء القيس، الذي خرج عن المألوف للعادات وتقاليد العرب، واستباح التشبيب بالنساء، والتقول على الآخرين، والاستهزاء والتهكم بكل ما كان،وآني.. فهو تكلم، لذا لابد من محاكمته، فلماذا لم يصمت امرؤ القيس كالآخرين، يرى ولا يتكلم، ويسمع ولا ينبث بشفة؟!.
إن نقوس المهدي يعيد إنتاجية الموروث الشعري، ليسقطه ببراعة عبر المعاصرة، وكأنه يستخدم تقنية " القناع" ليهرب من محاكمة قد تطاله، مثلما طالت امرؤ القيس القديم/الجديد.
إن القصة-هنا - تنشد واقعنا الحزين، المزري،وتنادي بالعدل والحرية، وتفضح واقع العرب المستكين، حيث تحلم بواقع جميل، وعالم عربي جديد، قوي.. ينفض عنه غبار الضعف، وينظر إلى من حوله، لتعلو رايات الأوطان مرفرفة، وتتقدم شعوبها.
إنها قصة مغايرة، وفارقة، ومخاتلة، رمزية وواقعية معا ، تنشد الحرية .. والعدل، والقيم الإنسانية الكبرى، وتبحث عن الحقيقة، واليقين، والبرهان، والحرية للشعوب والأوطان، عبر التاريخ والمعاصرة، وعبر الكون والعالم والحياة .




حاتم عبدالهادي السيد
رئيس بيت الشعر الإفريقي الآسيوي
ناقد مصري



-------------------------------------------



قصة قصيرة :
من هموم امرئ القيس الدائرية

بقلم
نقوس المهدي
المغرب

"الشعراء ليسوا نقيين بما فيهِ الكفاية في نظري
جميعهم يكدّرون مياههم كي تبدو عميقة !
قد تعلمّوا من البحر غروره أيضاً ،
أليس البحر بطاووس الطواويس ؟ "
نيتشه - هكذا تكلّم زرادشت - ص 254



1ــ كيف انحدر امرؤ القيس من عاشق إلى مطارد..

حين زارني امرؤ القيس كان الوقت مساء... الشمس بدأت تلملم أشعتها لتمارس هجرتها اليومية، فبدت شعلة نارية أدركتها النهاية، شرعت تخمد.. تخبو.. تضمحل.. ترحل.. تتلاشى.. تسافر.. كلنا مسافرون بهذه الدنيا.. راحلون.. نواجه المسافات.. الزمن والوطن.. نسافر في المسافات والزمن والوطن.. أبدا مسافرون يا نفسي.. وأنت يا امرأ القيس تستكين بأحضان الرقاد تسافر بمفردك بفجوة الإنهيار، يمحوك الزمن وينبذك الوطن.. الزمن توقعه نبضات القلب وجلجلة ضحكات عنيزة والرباب.. والوطن تمحوه اللذة موج البحر الليل والرحيل..
حين زارني امرؤ القيس ذاك المساء البعيد، كانت الإذاعة تبث أخبار الانقلاب العسكري الذي أطاح بعرش والده الملك حجر الكندي، المذيع يقرأ البلاغات، الموسيقى العسكرية الصاخبة تصدح، إذاعات أخرى متفرقة تبث أغان عاطفية، وأخبارا متنوعة عن ارتفاع أثمان استهلاكية، واختفاء مواد غذائية أساسية من الأسواق، وارتفاع أسعار النفط والفضة والذهب، وانهيار قيمة الدولار والأسهم والسندات، وعن إضرابات ومظاهرات طلابية.. وثورات الفلاحين.. وأسلحة الدمار الشامل، واضطرابات واختلافات عقائدية ودينية في آسيا وأوربا.. وانقلابات عشوائية في أدغال إفريقيا، وتغيير بعض الدول لرؤسائها بسهولة وبدون بروتوكولات تماما كما يغير الثعبان جلده...
المذيع يقرأ، ويردد، ويتفنن في القراءة، ومع كل قراءة يضغط على مخارج الحروف، وبين كل قراءة وقراءة تنبعث الموسيقى العسكرية، وأنت يا امرأ القيس بن حجر الكندي تغط في نومك، لا أحد يعكر صمت المكان سوى شخيرك المرتفع الذي يجفل الإبل في مرابدها، وبندول ساعة الحائط الثابت الذي يشير إلى الزمن ولا يعده..

2 ــ كيف أصبح امرؤ القيس شاعرا ضليلا..

حين علم امرؤ القيس الخبر، قال ببرودة أعصاب بالغة: اليوم خمر وغدا أمر، والحكاية أنني قلت له: قم أيها الشاعر لقد هدك الزمن، وغدر بك القدر، سيفك الظمآن يود الخروج من غمده ومخبئه، جرده من الحرمان والكبت الدموي، أدخله ذاكرة المجد، اترك قلبك الحجري يتخثر بين سعف النخيل، يعلن التمرد على أصنام العشق وهوى الخليلات، فرك عينيه المحمرتين من السهر، وقال ببرودة مستعينا بهزة من كتفيه: اليوم خمروغدا أمر، فأضحى بطريقة آلية شاعرا ضليلا..
المذيع يتابع القراءة، المارشات العسكرية تتواصل بصخب، الموسيقى دفق حماس، والتغيير حماس، والحماس نار متأججة تغلي على إثرها الدماء الجارية بشبكة العروق، وامرؤ القيس حين قال اليوم خمر وغدا أمر، خرج من ذاكرة الوطن عبر صنبور النسيان، حوصر، تهاوى، تلولب، وحضرموت دخلت ناصية الجراح..

3ــ كيف أصبح امرؤ القيس شاعرا ذا قروح..

أحضرت لامرئ القيس عدته، زوادة بها خبز وماء وتين مجفف وبصل.. أتعرفون فوائد البصل.. لعله بطريقته السحرية في إدماع العيون، يبيد ما تراكم على القلب من هم وغم، يريح الأفئدة، يشحنها ويشفيها، كنت ساعتها قد استلمت راتبي الأسبوعي الهزيل، دفعت أكثره سدادا لديون الكراء والبقال والكهرباء والماء، كنت استيقظ كل صباح، أغادر البيت لأعود إليه عند المساء، لا أحد يعرف مهنتي لأني لا أعرفها بدوري، فهي غالبا لا تستقر على حال، سوى أني أعرف ويعرف الجميع أنني أشقى من أجل صاحب الكراء والبقال والماء والكهرباء وشركة التبغ، لكن الحل ليس بيدي، وأعرف حق المعرفة أن أكثر الذين يدخنون الكيف أو يحتسون النبيذ الرديء أو أشياء أخرى لا يفعلون ذلك من أجل المتعة أو من أجل رغبة أو محبة فيها، لكن من أجل النسيان وتفتيت غيظهم وغضبهم، إنهم يشفطون الدخان بأسى عميق.. ينفثون الأدخنة ورغم ذلك ينتشون، يدخنون لكن يبتسمون لإخفاء إحباطهم، يبتسمون رغم أن الطوق يضيق حول رقابهم، يضيق ويضيق بحدة حتى تخرج الحدقات من محاجرها، وفي نفس الوقت يبصقون على مؤخرة هذه الدنيا القحبة العجفاء المتجعدة التي يواقعها اللقطاء الذين تنكروا لآبائهم وأهلهم، وتناسوا أيامهم الكالحة، جوعهم وعريهم، كلسوناتهم المثقوبة من كثرة الضراط، وجزماتهم الكريهة التي ضاقت على ارجلهم، فطفقوا ينتقمون لبؤسهم وشقائهم من البؤساء والمعدمين والأشقياء..
ولأني أعرف جد المعرفة كل هذا وذاك فأنا موجود..
ولأني أضمحل وأفنى بين الطريق والكاري والبقال واللقمة وشفطة السيجارة، فأنا موجود..
أنا لا أتنفس إذن أنا موجود..
أنا لا أرزق ولا أربح، وأحترق وأدفع كل محصولي الشهري لدى استلامه إذن أنا لست موجودا..
أنا لست موجودا، لأني أموت في هذه الدنيا بالتقسيط، مع أنني أرغب في قرارة نفسي أن تكون لدي ثروة أرسطو أوناسيس..
دفعت لامرئ القيس بعضا مما تبقى لدي من مال، ودعني وانصرف بعد أن ذرف دموعا غزيرة كالنساء لتذكره ملكا ضاع والكأس والمدام ودغدغة المعك والدعك ورجع مع نفسه..
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
خمنت بأن سقط اللوى وحومل من أكبر الحواضر العربية، يعمها الخير والأمان والسلام بعكس مدائننا المحنطة بالظلم والفاقة والجوع والحرمان والفساد.. طأطأ رأسه، وتابع طريقه ناقلا خطواته اليائسة بين البقع المفعمة بالقاذورات.. والتي نام عنها المسئولون، ونفسه تفيض بشتى الأمنيات التي لم يستطع تحقيقها بينما يدرك صراحة في قرارة نفسه أنه يصعد نحو الهاوية..
كان الأطفال يلعبون بالكرة في الحارة....
كان الأطفال يلعبون في الحارة بالكرة.....
بالكرة كان الأطفال يلعبون في الحارة.....
في الحارة بالكرة كان الأطفال يلعبون......
الأطفال بالكرة كانوا يلعبون في الحارة...
في الحارة كان الأطفال يلعبون في بالكرة...
بالكرة في الحارة كان الأطفال يلعبون.....

4 ــ استنطاق

ــ لماذا تسافر يا امرأ القيس وأنت صاحب معلقة؟
ــ لأنشر معلقتي على أسوار روما، أغازل نساءها وأتعلم لغة عشق جديدة..
ــ ولماذا كتبت معلقتك إذن..؟
ــ لأفوز بالجائزة الأولى لأحسن قصيدة طللية..

5ــ ذكر ما غبر من أخبار امرئ القيس بن حجر..

قالت العرافة بعد أن نثرت الأقداح حولها:
عشت كل حياتك يا ولدي في لهو متواصل، بدرت أموالك، كرست شعرك لوصف الخيل والليل والنساء، ستسافر يا ولدي ستصادف متاعب وأهوالا، ستعبر جبالا ووديانا، ستلاقي وحوشا كاسرة وثعالب وذئابا بشرية، وأعداء يوزعون الضحكات الصفراء.. ويزرعون الطرق بالمكائد والدسائس والقتاد، الخيول تكبو، الرياح تعصف.. والأصدقاء يكيدون لك كيدا، والشمس تغرق في بحور الغمام، وأرض تضحك، وأرض تعبس، وأرض تضمك، وأرض تلفظك، وأرض تبلعك، وأرض ترفعك، وأرض تبسطك، وأرض تطويك، ويجيء جوع، ويجيء عطش، ويجيء نصب، ويجيء ضياع، ويجيء تعب، ويجيء ظنك، ويجيء احتيال، ويجيء حرمان، ويجيء حنين، ويجيء ضياع، ويجيء حزن، ويجيء قهر، وتدمى قدماك، وتتدمل رجلاك، والخيبة تتبسم من بين سجوف الظلام، والسراب يتراقص فوق الرمال، يفزك، يغيظك... ويراقصك، سوف وسوف وسوف... وتعرف بعدها بأن الحياة صارمة جدا جدا يا ولدي...
وقال الراوي:
إن امرأ القيس لما ود صاحبه أن يرجع على أعقابه قال له:
ــ ويحك يا عمرو بن قميئة أأنت صبي؟
أجهش عمرو بالبكاء، وزعق كالصبي وأجاب:
ــ إن الطريق إلى روما طويل، والمشي أدمى قدماي
فقال امرؤ القيس:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
وأيقن أنا لا حقــان بقيصـرا
فقلت له لا تبــــك عينــك إنمـا
نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
وواصل بمفرده رحلته القاسية إلى روما..

6 ـ العبر من ذكر أخبار السفر..

ــ الرسالة الأولى..

ــ رفع الحجاب عن أخبار الرباب..
صديقي... الشاحنة تطوي بنا الطريق، تلتهم المسافات، الأشجار النباتات والإسفلت، وأنا أدخل طقوس تجربتي، أمارس رحلة الكشف عن ذاتي، أحمل شارة الهجرة، أعلن الانتساب لمن لا أرض لهم، بين المطرقة والسندان أنا كما بين الإرهاب والديناميت العالم، كما بين النكسة والرجعية العالم العربي...
صديقي، الزمن يتلاشى، الزمن يذوي كشمعة بليل شتوي مرير، الزمن حوت كبير، وأنا حوت صغير، والحياة بحر، والبحر كرم وفيض، وأنا دوني البحر، والبحر دونه روما..
أنا الآن أعبر مواطن التيه، محاصر بدفق الصديد، أنا امرؤ القيس محاصر بآفاق كالحة. محاصر بكل قتامة الألوان، وجهامة السنين، لأني أحمل بذاتي كل المتناقضات وكل الخذلان وكل الهزائم وكل الخيبات وكل الألم...

- الرسالة الثانية..
• العوض عن البلد..
صديقي، وصلت إلى روما، الضباب غمامة داكنة، وروما مدببة بعمائم السحاب، السماء تسكب ذرات النرجس المائية اللزجة، وأنا أطأ روما مرورا بالجمارك وصناديق الليمون والعنب والطماطم، أخلف ورائي عالما يحبل بالسحر وبالمفاجآت وفرص المتعة والخيال ..
ــ لأني أعلن انتمائي للعالم المتخلف..
ــ ولأني أصلح لكل الأعمال الشاقة والحقيرة..
ــ ولأني بصراحة لا أجيد غير لغة المغازلة..
السماء يا صديقي فوق روما تتبول، تراود الأرض عن نفسها لتبرعم عناقيد تنزف نبيذا يهاجر للقناني، والأرض من تحت سماء روما تشهق من شدة الرغبة، تفتح ساقيها وذراعيها وتتأهب للمس واللمس، والشوارع المرشوشة بنور بنفسجي تناديني بوقاحة شارع الفداء شارع الحرية شارع السلام، وأنا المهاجر العربي أعيش في استسلام، اشتم رائحة الخيانة والدعارة والاستسلام، وأعلن آني طيب الشرق بالغرب، ورائحة الجنوب بالشمال، عبير الانهيار والخزي وبيع الأوطان بالمجان، السباكيتي، كوكاكولا، بيبسي كولا، مارلبورو، ونستون، كنت، سالم، الماكدونالدز، بيع الأوطان في المزاد العلني، الإغتيالات، الإستغلال، عرب الأمريكان وعرب إيران، العرب العاربة والعرب المستعربة، العرب العارية والعرب المتعرية، عرب عدنان وعرب قحطان، عرب سات وعرب سالت، عرب المشارق وعرب المغارب، عرب اليمين وعرب اليسار، عرب النفط وعرب الزفت، عرب الهند وعرب السند، عرب زايد وعرب عمرو، عرب الكفاح وعرب النكاح، عرب السأم وعرب العم سام، عرب الجنة وعرب الجنان، عرب الهجرة وعرب الميلاد، عرب الشقاق وعرب الرفاق، عرب الدنيا وعرب الآخرة، عرب الفلس وعرب العدس، عرب السلاح وعرب الأقداح، عرب السلم وعرب الحرب، عرب المسبحة وعرب المذبحة، عرب المقاومة وعرب المساومة، عرب النهار وعرب الليل، عرب الجفاف وعرب الخراف، عرب الصديد وعرب النبيذ، عرب الجزيرة وعرب الجزائر، عرب البحر وعرب البحرين، عرب البعث وعرب العبث، عرب الجين وعرب الدين..
صديقي..
أنا الآن أجوب شوارع روما، وروما تموء مثل القطة عندما تغزوها الشهوة. وكالبقرة عندما تنتابها حالة (تايكوك) في عز الربيع، يقول صديقي جيم، وهو عربي على دراية بمقالب العرب والعجم أن القطة عندما تفزها الرغبة للجماع تموء بضراوة تستنفر كل حواسها كأنها تستغيث، تموء بعدوانية كأنها تصهل، تضطجع كامرأة على ظهرها أو ترفع ثقبها إلى أعلى كمدفع هاوون، وتموء من فرط الشبق، تموء إعلانا عن اغتلامها وشبقيتها، حتي يأتي، الذكر، القط، فتستكين، وتجمد، و تخمد فورتها، نعم روما تموء كقطة، أو تهيج كبقرة مهبلها واسع رطب كالغدير، ولها فرج عظيم، روما تزامن الشبق، وأنا أموت على مقصلة الحرمان، أصارع بوهن بالغ ظروفي ومحنتي، وروما تزدهر، تتراقص، تتبرج، تسمق، وأنا في وحدتي أموت وأموت وأموت....
فلو أنها نفس تموت سوية
ولكنها نفس تساقط أنفسـا

7ــ بلاغ من وزارة

عثر على جثة الشاب امرئ القيس بن حجر الكندي، ونحيطكم علما بأن هذا الشخص هو أجرأ عربي في العصور الغابرة تناول قضية الجنس شعرا، وسبق بذلك اجتهادات الفقيه سيدي محمد النفزاوي رحمه الله. وقائل أملح بيت غزلي:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي
بسهمك في أعشار قلب مقتل
هذا وقد وجدت بجيبه وصية يقول بوجوب دفنه إلى جانب الأميرة الدفينة بجبل عسيب.. وكتابة هذا البيت على شاهد قبره.
أجارتا إنا غريبان ها هنا
وكل غريب للغريب قريب
سيداتي سادتي إن الدول تتقدم بفضل الشعر والغناء لا بفضل الاقتصاد والصناعة، لذا وعملا بهذه المقولة نود أن يبقى الشاعر امرؤ القيس بيننا حيا يرزق، وعليه نرجو من كافة ممن تغزل فيهن أو نظم فيهن شعرا الحضور بكامل زينتهن لسحب اعترافاتهن، ويكون هذا البلاغ بمثابة استدعاء لكل السيدات وشكرا والسلام...

8 ــ بلاغ عن بلاغ

تلبية لدعوتنا بإحياء تراث فقيد الشعر العربي الشاعر امرئ القيس، فقد حضر إلى مقر وزارتنا في الوقت والزمن المناسبين العديد من الأوانس والسيدات بأحسن ما لديهن من أزياء وعلى وجوههن ما جد في الأسواق من أصباغ ومراهم.. كذلك حضر لعين المكان المصورون ورجال الصحافة المسموعة والمرئية، وقد قمنا بجمع ما قاله فيهن من أشعار بحكم تشبيبه فيهن أو صداقته لهن، وسوف نصدر كل ذلك في ديوان شعري على أن تصدر بعده نسخات مزيدة ومنقحة..

9 ـ تعليق على بلاغ

بناء على ما أقيم حول شخصية امرئ القيس ابن الملك حجر الكندي من أساطير وروايات وحكايات، وبناء على التقارير المرفوعة إلينا من الجهات المختصة حول ماضيه المشبوه، وثقل دمه، وسماجته، وسوء معشره، وكرهه من طرف النساء، وأن زوجته (أم جندب) طلقته وعاشرت غيره لعدم فحولته وعدم انتعاض عضوه، وأن النساء كن يتعلقن به لماله وجاهه وحسبه فقط، وبعد مناقشة مستفيضة لحاصل المعطيات، أجمع الحاضرون على صحة تلك الادعاءات ومنافاة تلك التصرفات المريبة والشاذة لكل حدود المنطقي والمعقول، وعليه فقد تم الاتفاق على ما يلي ذكره:
أ ــ التأكيد على عدم المساومة في أي شبر من الوطن..
ب ــ التأكيد على عدم المساومة بشأن المواقف المتخاذلة والوصولية، وتسخير القلم في خدمة أحد غير الوطن والشعب..
ج ــ فضح مواقف امرئ القيس التي هي في حد ذاتها مواقف ذاتية صرفة، صرفها للتغزل بالنساء وشرب الخمرة واللهو والقصف..
أما الآن فإليكم النشرة الجوية المتوقعة لهذه السنة والسنين المقبلة يقرؤها عليكم عبد اللطيف اللعبي:
طقس جميل..
الإله الدولار.. الإله الفرنك..
وكل الآلهة الأخرى وأنصاف الآلهة..
من عصابة الأشرار الدولية للنقد..
والتجسس وقلب الثورات..
تهرع إلى السماء الجديدة..
المعبأة مواخير صحية.
طقس جميل..
اهتزازات الزلازل عادية..
إضرابات شرسة.. ثورات الفلاحين..
صدامات..
كل شيء هادئ..
طقس جميل..
ثلاثمائة يوم من الشمس**..





ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
- هوامش:

*- قصيدة طقس جميل ــ للشاعرعبد اللطيف اللعبي ــ ترجمة رشيد بنحدو ـ مجلة الأقلام العراقية ..
*- R.J. REYNOLDS TOBACCO CO.WINSTON –SALEM
*يحكى عن شركة ( رينولدز توباكو الأمريكية ) أنها تدر أرباحا خيالية على الاقتصاد الأمريكي وأنها تفرض على دول العالم شراء حصتها من منتجاتها قسرا، وأن تدخين سيجارة واحدة هي مساهمة منا نحن أبناء هذا العالم المتخلف لتأدية ثمن رصاصة لإبادتنا وتقتيل أبنائنا ..ودعم للبنتاغون الأمريكي من أجل الإجهاز على سلامتنا..
وأن حضارة الامبريالية العالمية الإعلانية تتفنن في تسميمنا من خلال إعلانات السجائر إلى علكة (توندرمانت) مرورا بالمشروبات الغازية التي يجتهد البعض في فك معميات رموز أشدها فتكا( بيبسي ـ كولا): (من أجل دعم الشعب الصهيوني الإسرائيلي ضد منظمة الدول العربية )..
ــ إن أمريكا تمنحنا التبغ والحلوى والعلكة والكوكاكولا والأسلحة..
ــ فأما التبغ فلدينا منه أنواع جيدة ورخيصة..
ــ وأما الحلوى فلدينا الثمور..
ــ وأما الكوكولا فلدينا الشاي والحليب واللبن..
ــ وأما الأسلحة فالصلح خير ما دمنا نحن العرب أصبحنا حقل تجارب لهذا السلاح..
.........إلخ
..........إلخ

** نشرت بجريدة أنوال الثقافي
* من (...إلخ) مجموعة قصصية ، منشورات رابطة أقلام أحمر - سيفي غراف - آسفي، 2014

#نقوس_المهدي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات