أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل صوما - شجرة زيتون غنّت للمتوسط















المزيد.....


شجرة زيتون غنّت للمتوسط


عادل صوما

الحوار المتمدن-العدد: 8232 - 2025 / 1 / 24 - 09:40
المحور: الادب والفن
    


أحياناً يرتبط مطرب بمراهقتنا وشبابنا، ما يجعل قيمة أغانيه كلما كبرنا من قيمة عمرنا وذكرياتنا، خصوصاً إذا كان هذا المطرب له علاقة ما مباشرة أو غير مباشرة بنا غير أغانيه.
زوربا وديميس
هناك أيقونتان يونانيتان مشهورتان شعبياً في العالم، رغم أن اليونان أهدت البشرية الفلسفة والمنطق والهندسة الإقليدية والإسكندر الأكبر والفسيفسائيات على زجاج الكنائس، فمعظم سكان الكوكب خصوصاً الستينيين في العمر، يعرفون "موسيقى زوربا" للموسيقار ميكيس ثيودوراكيس، وديميس روسوس الذي غنّى باللغة الانكليزية!
وُلد ارتيميوس ڤينتوريس (16 يونيو 1946- 25يناير 2005) أو كما عُرف فنياً ديميس روسوس لأب يوناني وأم إيطالية متمصرّين، وعاش شبابه المبكر بالإسكندرية في منطقة الآزاريطة، وهي كلمة مشتقة من lazaretto؛ أول حجر صحي بُني في فرنسا في جزيرة "سانت ماري دو نازاريه"، حيث كان يفد القادمون إليها، ويقيمون فيه كرعاية وحماية صحية قبل دخولهم البلد.
آزاريطة الاسكندرية كان فيها حجر صحي، ولم تزل فيها كلية الطب الحكومية، وكانت وستكون اليوم وغداً الحي نفسه الذي وُلد فيه ديميس روسوس وعاش مراهقته، وكنت أزور البناية التي كان وعائلته يسكنون فيها وأقف أمامها مع صديق يسكن في الشارع نفسه ونتأمل شرفة شقة روسوس.
البخور الكنسي
درس روسوس الموسيقى في طفولته وانضم إلى جوقة الكنيسة البيزنطية اليونانية في الإسكندرية، وهي كنيسة تعتبر من التُحف الكنسّية في المدينة الساحلية، وقد تأثرت سنوات تكوينه بالأجواء الكوزموبوليتية لمدينة النخبة العتيقة في التاريخ وبموسيقى الجاز، كما تأثر أيضا بالموسيقى التقليدية العربية واليونانية التي كان يعزفها اليونانيون المتمصرون. وعندما فقد والداه ممتلكاتهما أثناء "أزمة السويس" والتأمميات الناصرية التي تلتها، وطالهما التضييق الذي حدث لكل الجاليات المتمصرة قررا الانتقال إلى اليونان.
غادر ديميس روسوس مع والديه إلى اليونان عقب قوانين التأميم الناصرية سنة 1961 التي طالت الأجانب والرأسمالية المصرية على السواء، وكانت تلك المغادرة للجاليات المتمصرة نذير شؤم مبكر على سرطان التزمت الذي سيصيب المصريين، بسبب تهشيم شخصيتهم الفريدة متعددة القوميات والثقافات والأديان منذ عصر البطالمة.
كان سكان الإسكندرية، وهم صفوة تعددية الثقافات حتى ستينات القرن الماضي، يتحدثون على الأقل خمس لغات داخل منازلهم، واللهجة السكنّدرية في الشارع، وأدرك ديميس السكنّدري الأصيل بروحه المتوسطية المفطور عليها، بعدما بدأت موهبة الغناء تدفعه للإحتراف، أن الغناء باليونانية سيجعله أسير حدود اليونان الذي رحل إليه، لذلك تحدث روسوس باليونانية في حياته، وغنى معظم أغانيه بالانكليزية، مع عدم إغفال أغنية "الجانب اليوناني في حياتي" التي غناها بالانكليزية أيضاً، لكن على خلفية ترتيلة أرثوذكسية يونانية خافتة، تكاد رائحة البخور الكنسي تفوح من الأغنية وأنت تسمعها.
قيامة الذاكرة
باع ديميس روسوس أكثر من ستين مليون شريطاً غنائياً حتى وفاته، وغنّت شعوب البحر المتوسط معه، ومنهم الناطقون بالعربية، فقد أحست هذه الشعوب رغم إهالة تراب القومية العربية وغيرها من هلاوس تاريخية وقوميات مزورة على تاريخها، أن الصوت الذي يشبه بفرادته نكهة زيت الزيتون المتوسطية، ينادي أرواحهم من قبورها ويدعوها لقيامة الذاكرة التي لم تزل حيّة في جيناتها ولاوعيها.
كان ديميس روسوس نفسه على دين ثقافات البحر المتوسط ويعبد شمسه، وقد عبّر عن ذلك أحسن وأوجز تعبير في حفل غنائي له في ألمانيا، حين سأل جمهوره: هل رأيتم شمس اليونان والبحر المتوسط؟ فصرخ بعضهم: نعم. رد روسوس: أنتم من ثمة تعرفون ما هو الحب!
وفي حفل له في بيروت، بعدما هدأت مدافع الحروب، طلب من الفرقة الموسيقية أن تغيّر سرعة ايقاع أغنية "صديقي الريح"، فبدأ الحاضرون يرقصون الدبكة! وابتسم وغنى روسوس بروعة في بيروت، وسبح في كلمات أغانيه وتمايل على ايقاعها، وهو كان دائماً كذلك على المسرح، لدرجة أن مشاهديه في البرازيل نسوا أنغام السامبا في جيناتهم حين غنى هناك، وبدأوا يرقصون رقصة زوربا اليوناني (التي تشبه الدبكة إلى حد بعيد) على أنغام أغنية "صديقي الريح" كما فعل اللبنانيون الحاضرون حفلة روسوس في دبكتهم.
البحر المتوسط
غنى ديميس روسوس معظم أغانيه لكثيرٍ من مفردات وعناصر الطبيعة، وكان يعني طبيعة البحر المتوسط. وغنى للحب وكان يعني الحب في مدن البحر المتوسط. وغنى للفصول وكان يعني فصول البحر المتوسط. وغنى أغنية "موسيقى" وقال فيها أن أهل البحر المتوسط يغنون أغانيه وينفعلون مع موسيقاها، وكان كاتب الأغنية وروسوس صادقيّن تماماً.
سألت ديميس روسوس في ختام حديث قصير سريع معه في مطار بيروت:
- أليس غريباً اننا أنت وأنا نتحدث اللغة العربية، لكنك أصرّيت ان يكون الحوار بالانكليزية.
- لأنها اللغة التي إشتهرت بها. وانا لا أعطي احاديثاً للإعلام خارج اليونان باليونانية وهي لغتي الأم. دائما بالانكليزية رغم انني أجيد لغات أخرى. قال ديميس روسوس باقتضاب كأنه تذكر شيئاً.
- لماذا لا تقول لي شيئا باللهجة السكنّدرية التي تجيدها أيضا.
- أنت ستترجم الحديث على كل حال، لكن إسألني وأرد عليك بالإسكندرانية. قال روسوس بالعربية وهو يبتسم.
- ألاحظ إنك لا تهتم بوزنك رغم شهرتك.
- دي وراثة.. أبويا كان شكله كده. وبعدين "في قرش في كرش". مش كده بيقولوا في مصر؟
- تفسير معقول.
- لكن أنا فقدت كتير من وزني..
- أكيد.. أنت فقدت تقريبا عشرين كيلو!
- مبسوط؟
اقترب رجل من مرافقي ديميس روسوس وتحدث معه، وفهمت من روسوس انهم يجب أن يذهبوا لأن السيارات التي ستقلهم إلى الفندق تنتظر خارج مطار بيروت.
- على فكرة.. أخبرني صديق يسكن في الآزاريطة عن مكان شقة أسرتك، وكنا نذهب لنقف أمام شرفة منزلك القديم أحياناً. قلت لروسوس وهو يهم بالوقوف ليغادر.
- منزلي القديم؟! سألني روسوس وهو يعتقد انني أجامله.
- شارع بهجت باشا. عشت جزءاً من عمري في الإسكندرية. قلت له.
- كان مفترضاً أن يكون حوارنا ليس في المطار عند وصولي. من صاحب هذه الفكرة؟ على أية حال، أنا سعُدت كثيرا بهذا الحوار السريع. قال روسوس.
نظرت للرجل صاحب ملامح آلهة الأغريق، ونظر إليَّ بمودة وهدوء. نسيت شهرته .. وأغانيه.. فقط رأيته كما هو، وضحكنا سوياً من القلب ضحكات متوسطية طويلة خافتة متقطعة، وكأن كل ضحكة تذّكر كل منّا بشيء يجعله يواصل الضحك.
في طريقي إلى عملي في جريدة "الأنوار" في بيروت آنذاك، استرجع عقلي ذكرياتي في الإسكندرية التي عشت فيها لسنوات، وتذكرت صديقي ڤرت ڤهرام هارتونيان الذي اختاره المخرج يوسف شاهين ليظهر في فيلم "اسكندرية ليه" كخلفية لجاليات الإسكندرية التي اندثرت، كما قفز إلى ذهني صور من الذاكرة لكنيسة آڤانجليسموس (العذراء مريم) التي كنت أزورها أحياناً أثناء أيام الاسبوع، لأستمتع برؤية أشعة الشمس المتكسرة التي تخترق زجاج شبابيكها الفسيفسائية الملونة، وتنعكس بألوان رائعة جداً على زوايا وأرض ومقاعد الكنيسة، في انسيابية وسكون تام يروي في صمت حزين ذكريات قداديس الآحاد والاحتفالات الكنسية والزواج والوفيات وغيرها قبل انقلاب 1952، وكان يكسر ذلك السكون الكنسي المطبق، لهواة الاستماع إلى الاماكن مثلي، وأنا أقود سيارتي في بيروت صوت روسوس وهو يغني "الجانب اليوناني في حياتي".
عشر سنوات مرت على وفاة روسوس، وهو قد لا يعني شيئا لهذا الجيل، وقد يكون محبوه من جيلي نسوه في الحياة الصاخبة السريعة، لكنني لم أزل أتذكر "الجانب السكنّدري في حياتي"، وما زلت أتذكر ماتيلدا ملوك ومارك ملوك وغيرهما، وأشاهد نفسي واقفاً مع صديقي أمام شقة عائلة روسوس في الآزاريطة نتأمل في صمت شرفتها، عندما أستمع إلى أغانيه.
علّق الملحن جيورجوس هاتزيناسيوس على رحيل روسوس بالقول: "لا أزال أسمع ضحكته الصادقة في أذني وأريد أن أودعه بالحنين والحب".



#عادل_صوما (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الردع دواء التنمّر والمزايدات
- معايدة المسيحيين في أعيادهم
- أحمد عدوية وازدواجية عصره
- عندما قال فريد الأطرش: مش قادر!
- الرعية الفاسدة تستحق الكاهن الضرير*
- معايير المحاكم الإلهية
- أسرى الأساطير وضحايا الواقع
- أمراض الأمة إياها
- أميركا تستعيد وعيها وهيبتها
- صباح في ذاكرة ثقافة البحر المتوسط
- التكاذب منهجهم والغيبيات واقعهم
- الدنيا لا تقع ولن تنتهي
- أسئلة للمؤمنين والذميين الجدد
- سياسة أو دين أو شعوذة
- فشل الدين كمنظومة سياسية
- عواقب تعامي الحكومات الغربية
- اليوبيل الماسي لفيلم -غَزَل البنات-
- استهداف إلهام شاهين
- مات لبنان لتحيا ولاية الفقيه
- أقوى سياسي على الكوكب


المزيد.....




- نجيب محفوظ وفن الكوميكس.. هل يفتح الفن التاسع آفاقا جديدة لل ...
- فيلم -إيميليا بيريز-.. فوضى إبداعية بين الموسيقى والكوميديا ...
- محمد سمير ندا.. على الكاتب أن يمتلك الجرأة على إلقاء الحجارة ...
- بعد سقوط الأسد.. فنان سوري شهير يتعرض للتهديد بالقتل
- الفنان السوري سامر المصري يصل دمشق بعد غياب 14 عاما ومحبوه ي ...
- سرقة تحف أثرية من متحف هولندي بعد اقتحامه باستخدام عبوة ناسف ...
- بطريقة سينمائية.. سرقة 3 أساور ملكية وخوذة ذهبية أثرية
- فنان مصري يعلن فتح مزاد على -بالطو- حفل -Joy Awards- لصالح م ...
- أزمة قانونية تهدد عرض فيلم السيرة الذاتية لمايكل جاكسون
- بشعار -وما بينهما-.. بينالي الفنون الإسلامية بجدة يستكشف الإ ...


المزيد.....

- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل صوما - شجرة زيتون غنّت للمتوسط