|
أسطرة الفيزياء التخمينية
يحيى محمد
الحوار المتمدن-العدد: 8232 - 2025 / 1 / 24 - 00:19
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إذا كانت الفلسفة قد حظيت قديماً بلقب "أم العلوم"، فقد أصبحت اليوم ليست فقط أساساً للعلوم، بل تستعيد أنفاسها من جديد عبر علم الفيزياء الذي وصل إلى حد الإعتراف بأنه يحمل نظريات غير قابلة للتحقيق فضلاً عن التفنيد، فيكفي للفكرة أن تُطرح دون صدام مع قوانين الفيزياء المعروفة ولو لم يكن عليها دليل. إذ ظهرت نظريات فيزيائية كثيرة لا تحمل الطابع الميتافيزيقي فحسب، بل هي أشبه بالأساطير الدينية. ومن أبرز هذه النظريات ما يُعرف بالمادة الظل، إذ تنبأ عدد من العلماء بوجود مادة غريبة لا تتفاعل مع المادة العادية الا من خلال قوة الجاذبية، وبالتالي فلا يمكن رؤيتها ولا الإحساس بها. حتى قيل إنه يمكن للواحد أن يمشي من خلال جبل من هذه المادة أو أن يقف فوق قاع محيط منها، دون أن يعرف أو يشعر بذلك، ولو حاول أحد أن يقبض على قطعة منها فإن يديه ستمران مباشرة من خلالها، وعليه فهناك كون خفي مرافق لكوننا وله مادة شبيهة بمادتنا رغم عدم إدراكنا المباشر له. وهي من الإفتراضات الناتجة على هامش ما يُعرف بنظرية الأوتار الفائقة التي أخذ الكثير من الفيزيائيين المرموقين الإنشغال بها حالياً، وقد طُرحت لحل مشكلة طبيعة القوى المؤثرة في الكون وعلى رأسها قوة الجاذبية، وكان الغرض منها الجمع بين الجاذبية ونظرية الكوانتم، واعتبرها البعض (نظرية كل شيء)، وكان هذا الوصف عنواناً لعدد من الكتب المعبّرة عن النظرية. ولنظرية الأوتار نسخ مختلفة كلها تتفق على أن الكون ليس جسيمات من نقط، بل مؤلف من أوتار ذات بعد واحد تتذبذب في مكان وزمان من ستة وعشرين بعداً. فالإتصال الزماني المكاني حسب هذه النظرية مؤلف من خمس وعشرين بعداً للمكان يضاف إلى بعد واحد للزمان، والحاصل هو ستة وعشرون بعداً، وأن إثنين وعشرين منها لا يخضع للإدراك والتصور. وقد استقر الحال فيما بعد إلى أن نظريات الأوتار الفائقة هي ذات أبعاد عشرة، وتمّ الإتفاق على أن هذا التقدير يجعل من النظريات متماسكة. ثم ظهرت صور أخرى متسقة لا تعبّر عن الواقع تماماً، فهي ممكن ان تكون متسقة كذلك في حالة بعدين، بل وحتى في بعدين دون الصفر. وبحسب الفيزيائي ميكائيل غرين فإن الكلام عن نظرية تعمل في عشرة أبعاد أو أربعة أبعاد هو كلام تقريبي في واقع بنية عدد أبعادها لا نهائي. وثمة نظرية أخرى تُعرف بالجاذبية الفائقة وترى أن الجاذبية مؤلفة من أبعاد كثيرة تصل بحسب أشهر النسخ إلى أحد عشر بعداً للمكان والزمان، وهي تختلف عن نظرية الأوتار الفائقة في أنها تتصور الجسيمات كنقط رياضية. وقد برز من نظريات الأوتار خمس نظريات وأُضيف إليها - فيما بعد - نظرية الجاذبية الفائقة فأصبحت ست نظريات مختلفة بحسب التعديل الذي أجراه العالم (ادوارد ويتين) والذي أضاف في الوقت ذاته بعداً – خفياً - آخر منذ منتصف التسعينات فأصبح المجموع أحد عشر بعداً، إذ تحمل أربعة أبعاد للمكان والزمان، أما بقية الأبعاد الفضائية الستة أو السبعة فهي ليست ذات صفة مكانية محسوسة، وإن لم يعلم ماهيتها على وجه التحديد، أو أن ماهيتها التجعيد لا الإنبساط كما في حالة الأبعاد الأربعة المعروفة للزمكان. وهي تمتد لما هو أقل من جزء من بليون البليون من حجم البروتون، ولها تأثيرها المتمثل في القوى الكهربائية والنووية. أما سبب تجعد هذه الأبعاد الإضافية دون الزمكان فهناك تصور يتعلق بنظرية المبدأ البشري (Anthropic Principle) كإجابة ممكنة، وهي أن هناك مخططاً كونياً سابقاً إستهدف إيجاد الإنسان أو الكائن الواعي الذكي، وبالتالي الإعتراف ضمناً بتدخل القوة الغيبية لصالح هذا المبدأ. ففي بداية نشأة الكون كانت الأبعاد مجعدة جميعاً وفي غاية التحدب، ثم أن الأبعاد الأربعة للزمكان أخذت بالإنبساط والتسطح دون البقية الأخرى، وهو ما يفسره المبدأ البشري المشار اليه، وهو المبدأ الذي يتسق مع ما يؤكده النظام الفلسفي التقليدي من أن الإنسان هو غاية الصدور الوجودي، بل وعصارة الوجود كله. مع ذلك فقد أبدى عدد من العلماء التشكيك بنظرية الأوتار مطلقاً، فمثلاً أن عالم الفيزياء (شيلدون جلاشو) وزميله (جنسبارج) يشبّهان هذه النظرية بلاهوت العصور الوسطى، كما أن (ريتشارد فينمان) اعتبرها مجرد هراء. ورغم أنه اشتغل على هذه النظرية أفضل علماء الفيزياء لكنها ظلت مجردة لم تنتج – قط - أي تنبؤ واحد قابل للإختبار، وبالتالي كانت موضع شك فيما تلبست به من غطاء علمي. لكن بدءاً من سنة 1994 إكتشف العلماء ما يعرف بالإزدواجيات أو الثنائيات، وهي تبيّن أن النماذج كلها متكافئة أساساً، بمعنى أنها مجرد أوجه مختلفة للنظرية الأساسية نفسها، وهي النظرية التي أطلق عليها ادوارد ويتين مؤقتاً نظرية (M) من قبل، حيث يمكن أن تؤدي نظريات الأوتار المختلفة، او الطرق المختلفة لتجعد الأبعاد الإضافية، الى النتائج نفسها، وأنها تكافئ أيضاً الجاذبية الفائقة من غير تفضيل، فكل منها مفيد للحسابات في بعض المواقف. فالجاذبية الفائقة تصلح لتوصيف الطريقة التي يحدث بها أن تؤدي طاقة عدد كبير جداً من الجسيمات إلى انحناء الكون، والتي لا تفيد لها نظرية الأوتار الفائقة كثيراً. في حين أن الأخيرة تصلح لحساب ما يحدث عندما يتصادم عدد قليل من جسيمات ذات طاقة عالية ليبعثر كل منها الآخر بعيداً. وبعبارة أخرى إنه عندما تعجز إحدى نظريات الأوتار عن حل مشكلة معينة فإنه يمكن التعويض عنها بنظرية أخرى تساويها عندما يكون ثابت الإزدواج بينهما متعاكساً؛ أحدهما قوي والآخر ضعيف. وهو معنى أن هذه النظريات تعود إلى نظرية أساسية واحدة لم يتم التعرف عليها لحد الآن، لذلك أُطلق عليها نظرية (M)، وهي ما زالت تحت التطوير. بل إن البعض يرى بأن النظرية المصاغة بأربع أبعاد – كالنسبية لأينشتاين مثلاً – ليست بالضرورة مختلفة عن تلك التي تتطلب عشرة أبعاد، فمن المتوقع أن الصيغتين هما ببساطة نفس النظرية في شكلين مختلفين. مع ذلك تظل مشكلة التفسير قائمة دون حل.. وعلى هذه الشاكلة ظهرت نظريات لا تختلف كثيراً عن الأساطير القديمة، مثل تلك التي تقول بأن واقعنا الكوني ليس هو الواقع الوحيد، كما اقترح ذلك (إيفيريت) عام 1956، بل ثمة أكوان متعددة متوازية لا تحصى؛ بعضها يجهل البعض الآخر تماماً. ومثل القول بأن التمدد في الكون لا يحدث بواسطة المجرات المتباعدة، بل أن الفضاء ذاته هو المتمدد مما يجعل المسافات بين المجرات تتسع، كالذي تفسره نظرية النسبية العامة. ومثله القول بأنه يحصل في النسيج الفضائي تمزق نتيجة الإلتواءات الحادة، ثم أن هذا النسيج يعيد إصلاح نفسه منها. كذلك فبحسب نظرية الكوانتم يمكن لأحد البروتونات أن يتحول تلقائياً إلى ثقب أسود ويختفي، وذلك بعد فترة طويلة تقدر في المتوسط كل 5410 سنة (أي واحد وعلى يمينه 54 صفراً من السنين). كما أن هذه النظرية تسمح بوجود تأثيرات (نفقية) يغيّر فيها الجسم حالته بسبب قفزة كوانتية، الأمر الذي يُطبّق حتى على الأجسام الكبيرة، فمثلاً يمكن للأرض أن تتعرض إلى التأثير النفقي فتجد نفسها تدور فجأة حول نجم آخر غير الشمس. فمن حيث المبدأ أنها تسمح بمثل هذا التأثير الصدفوي المحض، لكن إحتمال حدوثه بالنسبة للأجسام الكبيرة هو إحتمال ضئيل للغاية، فهو قد يحدث للأرض بدرجة إحتمال تساوي واحداً من واحد وأمامه على اليمين (200) صفر تقريباً (10-200)، فهي ضآلة تفوق الخيال والتصور، لكن هذا الإحتمال يزداد كلما كان الجسم أصغر فأصغر، فإحتمال أن يتغير وضع سيارة مصفوفة في مكان ما إلى مكان آخر مختلف هو إحتمال أقوى من الإحتمال المتعلق بتغير وضع الأرض، لكنه مع ذلك يعد إحتمالاً ضئيلاً جداً، وليست هناك إحتمالات متوقعة إلا في الأجسام الصغيرة للغاية كما تتمثل في عالم الجسيمات المجهرية. وعلى رأي كارناب فانه لحسن حظنا أن انطباق اللاحتمية لنظرية الكم على عالمنا الكبير هو إحتمال في غاية الضآلة، ولو كان الإحتمال كبيراً لكان من المتوقع - مثلاً - أن تنفجر المنضدة التي أمامي على حين غرة، او لتحرك حجر تلقائياً بالصعود أفقياً سابحاً في الفضاء... وهكذا. كذلك من الافتراضات الفيزيائية الإعتقاد بالثقوب الدودية كالتي خمّنها العالم الفلكي الألماني (كارل شوارتزشيلد) إعتماداً على النسبية العامة لأينشتاين، وعرفت بإسمه رغم أنه سبقه في ذلك الفيزيائي النمساوي (لودفيج فلام)، فمع أن معادلات أينشتاين لا تمانع من وجودها، لكن لا يعني ذلك أنها موجودة بالفعل أو بالضرورة. ايضاً وفقاً للفيزيائي (فينمان) فإنه يمكن السفر في الماضي أو المستقبل عبر هذه الثقوب، فعلى مستوى جسيمة مجهرية مفردة يمكن أن تتحرك إلى الأمام في الزمن ويكافؤها تحرك جسيمة مضادة إلى الخلف في الماضي. وبحسب (ستيفن هوكنج) فإن كوننا مليء بأعداد فلكية من الثقوب الدودية التي تتناوب الدخول إلى الوجود والخروج منه على نحو متصل، وهي في غاية الصغر بحيث لا يمكن ملاحظتها، والجسيمات التي تصنع عالمنا تتساقط باستمرار في هذه الثقوب غير المرئية، ويحل محلها في الوقت ذاته جسيمات من أكوان أخرى دون أن نحس بها، ففي كل حين يحدث أن أحد الجسيمات - كالإلكترون مثلاً - يختفي من كوننا داخل ثقب دودي، في الوقت الذي يخرج من هذا الثقب جسم مماثل يأتي من كون آخر. وهذه الفكرة شبيهة بما يتحدث عنه صدر المتألهين من فلاسفتنا عن صور الأشياء التي تتبدل في كل آن عبر سلاسل الصعود والنزول بين العوالم الوجودية المختلفة، ومن ذلك الصور الطبيعية والنفسية، دون أن نشعر. ويتساءل البعض ضمن النظام الفيزيائي التخميني عما إذا كان يمكن للزمان أن يجري وراءاً في كون يتقلص، خلاف الزمان الجاري أماماً في الكون المتمدد المشهود؟ وعما إذا كان يمكن أن يوجد عدد لا نهائي من الأكوان المتعاقبة؟ وعما إذا كان يمكن للبوزيترون أن يكون إلكتروناً يتحرك وراء الزمان؟ بل في هذه الحالة قد لا كون في الكون سوى إلكترون واحد، وما ندركه من جسيمات كثيرة – وهي التي تؤلف عالمنا كله - ربما هي نفس الجسيم الواحد المتحرك ذهاباً وإياباً في كلا الإتجاهين. وهو شبيه بما يصوره العرفاء لوحدة الوجود بالشعلة الجوالة. يضاف إلى أن علم النفس هو الآخر أصبح يحمل نظريات ميتافيزيقية حول العقل والإرادة وما إليهما، فاختلط العلم بالفلسفة وأصبح من الصعب معرفة حدود كل منهما. فبينما كان الفيلسوف الوضعي فتجنشتاين يقول: «أصبحت المهمة الوحيدة المتبقية أمام الفلسفة هي تحليل اللغة»؛ نجد أينشتاين يعاكسه في هذا التقدير ويقول بأن «الصعوبات الحالية للعلم تجبر الفيزيائي على الإلتصاق بالفلسفة بدرجة أكبر من الأجيال السابقة».
العقل البشري وفهم الفيزياء بداية قال أينشتاين: «أنا أومن تماماً بأن الاعتقاد المحض مؤهل كلياً لفهم حقيقة الواقع مثلما كان القدماء يحلمون بذلك». وزاد على ذلك مؤسس نظرية الكوانتم ماكس بلانك بجعله الميتافيزياء هدفاً للمشروع العلمي، وهو يقترب بذلك – مع شيء من التحفظ - مما كان يصرح به الفلاسفة القدماء من أن الغاية من العلوم الطبيعية هي الوصول إلى عالم الميتافيزيقا، فكما يقول: «مثلما أن وراء كل إحساس موضوعاً مادياً، فكذلك يوجد واقع ميتافيزيائي وراء كل ما تقدمه لنا التجربة على أنه واقعي.. إن عالم الميتافيزياء الواقعي ليس منطلقاً، بل هو الهدف لكل مشروع علمي، ومنارة تلوّح إلينا وتهدينا السبيل». وكاد يصبح من المسلم به أن قوانين الطبيعة الأساسية هي صياغات عقلية مفترضة لا تعبر بالضرورة عن مطابقتها للطبيعة، فعلى الأقل أنه فيما يتعلق بالنظريات ذات التعميم العالي والنظريات التي تتناول الظواهر البعيدة عن مجال الخبرة والتجربة الحاسمة، أن من المستحيل إثباتها على وجه اليقين، فما من نظرية من تلك النظريات إلا وتعبّر عن بعض الإفتراضات التي تعزَّز بالشواهد والتجارب، لكن دون أن تصل إلى مرحلة الحسم، لهذا فقد تتنافس أكثر من نظرية على تفسير ظاهرة ما، وفي هذه الحالة يميل العلم المعاصر إلى الأخذ بالنظرية التي يتوفر فيها عنصر البساطة والإقتصاد والجمال بشكل أعظم، فضلاً عن التعزيز بالمشاهدات والتجارب. وبالتالي فإن ما عُرف عن الذرة وعن الفضاء لا يطابق بالضرورة الحقيقة الخارجية، فلا زالت هناك فروض وتقديرات بقدر ما كانت الظاهرة بعيدة أكثر عن مجال الخبرة المباشرة. وعلى رأي الفيزيائي (جيمس جينز) فإنه لا يمكن وصف الواقع الفيزيائي إلا في لغة رياضية، لكن الأخيرة لا يمكنها وصف كيفية هذا الواقع بشكل حقيقي وقاطع، إذ تظل معاني الرموز محتملة. فمثلاً أن ميكانيكا الكم تَعْرضُ حقائق الفيزياء بلغة الرياضة، في حين تعتبر الميكانيكا الموجية تمثيلاً لتلك الحقائق التي قد تتفق أو لا تتفق مع الواقع العيني، أو أن الصورة الموجية ما هي إلا صورة عقلية تخص إدراكنا دون معرفة حقيقة الواقع الموضوعي كما هو، فهي من إبتكار علماء الفيزياء هايجنز وفرزنل وفاراداي وماكسويل. كذلك فإن الفيزيائي (رولان أومنيس) اعتبر الرياضيات كبديل للحس المشترك common sense، ويظهر هذا الأثر سواء في نظرية الكوانتم، أو نظرية النسبية في المكان والزمان لأينشتاين، حيث المتصل الزمكاني هو كيان منحن غير قابل للوصف سوى الرياضيات. ويذكّرنا هذا الحال بمعتقد غاليلو الشهير: (إن الطبيعة مكتوبة بلغة الرياضيات) ففيها الزوايا والدوائر والمربعات والمثلثات وسائر الأشكال الهندسية المختلفة، ومن قبله نُقل عن افلاطون أنه كتب على باب أكاديميته: (لا يدخل علينا من لم يكن مهندساً). لكن كلا هذين الرجلين كانا يتصوران بأن من الممكن معرفة الواقع والتعبير عنه رياضياً، فهما لم يواجها تناقضات كتلك التي واجهها العلم المعاصر، والتي جعلته يؤمن بأن الطبيعة رغم جمالياتها وكونها مكتوبة فعلاً بلغة الرياضيات؛ إلا أن الكشف عنها على وجه الدقة يظل بعيد المنال، بل كلما أوغل العلم للتعرف عليها؛ كلما وجد نفسه أكثر عجزاً وبعداً من أن ينال حقيقتها بالكشف والمعرفة. وبعبارة أخرى، يؤمن العلم المعاصر بأن من المستحيل معرفة الموضوع الخارجي كـ «شيء في ذاته» كالذي نظّر إليه الفيلسوف الألماني (عمانوئيل كانت) من قبل، ومن ذلك فإن تأثر الموضوع بوسائل المعرفة المسلّطة عليه، كالأشعة مثلاً، يجعل من المستحيل على العقل البشري أن يطابق ما هو عليه هذا الموضوع. بل أصبح العقل في التصور الجديد يتصف بالمشاركة عند قيامه بمراقبة الواقع، كالذي دلّت عليه نظرية النسبية وميكانيكا الكم، فكيف يمكن للعقل أن يطابق الطبيعة وهو يضفي عليها انعكاساته بفعل المشاركة؟. فللنظرية النسبية لغتها الرياضية الخاصة في تعبيرها عن الواقع، إذ تتناول مقاييس الأشياء لا الأشياء نفسها، ومن ذلك أنها لا تعرّفنا إلى طبيعة المكان والزمان، بل تعرّفنا إلى مقاييسهما بجعلهما متشابكين مندمجين ضمن المتصل المكاني الزماني، وأن مشاهدة صور الطبيعة - بما فيها المتصل المكاني الزماني - يعتمد على المشاهد وسرعته، وأن اختلاف سرع المشاهدين يفضي إلى اختلاف الصور المدركة للموضوع الواحد. أما مع ميكانيكا الكم فإنها تتوغل أكثر في عدم إمكان الفصل بين العقل والطبيعة، فكلاهما يشكلان كلاً غير قابل للإنقسام، خصوصاً بحسب التفسير الموجي القائم على اعتبار الموجة تركيباً عقلياً يخص معرفتنا بالواقع الموضوعي.
الفيزياء والمثالية لقد آل العلم المعاصر أخيراً إلى الإبتعاد عن الميول المادية والميكانيكية في تفسير ظواهر الطبيعة التي كانت تغطي عصر القرن التاسع عشر وتشبع طموحاته الآيديولوجية، فقد كان التصور السائد يقوم على افتراض نفي وجود شيء آخر غير المادة. فالمادة هي الحقيقة، والحقيقة هي المادة. أو على الأقل أن المادة هي كل ما يمكن معرفته بطريقة علمية، مما دفع البعض إلى اعتبار النزعة المادية جزءاً من الطريقة العلمية ذاتها. لكن الأمر انقلب رأساً على عقب، واقترب شيئاً فشيئاً إلى إعتبارات متباينة للعناصر «اللامادية». فقد اضطر العلماء إلى أن يتسلحوا باقتراحات وفرضيات تتحرر من قيود النظر المادي والميكانيكي الذي لم يعد قادراً على حل المشاكل العلمية العميقة، الأمر الذي وجّه العلماء وجهة أخرى جديدة تتبنى جملة من المفاهيم القابلة للتوظيف والتشغيل، كمفهوم الطاقة والنسبية والموجة والمجال واللاتحدد وغيرها، إذ وضعت أساساً لحل مشكلة الظواهر التي استعصت على التفسير المادي، من قبيل حل مشكلة طفرات الجسيم الذري بين المدارات بواسطة فكرة الموجة، وحل طريقة سير كمّات الضوء من خلال المجال الموجي الكهرومغناطيسي، كذلك حل مشكلة الزمان والمكان بالنسبية التي طرحها أينشتاين والذي اعتبر بحسب مبدأ النسبية العامة أن المكان خال من المادة، لكنه ممتلئ بالمجال، فليس هناك فضاء بدون مجال، كما أن الزمكان لا وجود له بذاته، وإنما هو مجرد صفة بنائية للمجال... الخ. وقبل أينشتاين صرح بوانكاريه بأن أحد أعجب الإكتشافات التي أعلنها الفيزيائيون في أواخر القرن التاسع عشر هو أن المادة ليس لها وجود. وقد كان لهذا التسليح نتائج هامة لصالح النزعات (المثالية) التي تسربت وسط أغلب علماء العصر. فقد شعر العلماء أنهم في الحقيقة لا يدرسون المادة الخارجية بشكل منفصل عن تدخلات العقل ذاته، إذ أصبح من الواضح أنه لا يوجد حد فاصل بين الشاهد والمشهود، أو بين عقل العالم والموضوع الذي يخضع لدراسته، كالذي يستفاد من نسبية أينشتاين وميكانيكا الكم. بل هناك من العلماء من توغل في (المثالية) إلى الحد الذي وضع المادة كشيء مشتق من العقل، كما هو الحال مع ماكس بلانك رائد نظرية الكوانتم. لذلك صرح الفيزيائي (كوستلر) قائلاً: «لقد سمعنا جوقة من الفيزيائيين الحائزين على جوائز نوبل يخبروننا أن المادة قد ماتت، وأن السببية قد ماتت، وأن الحتمية قد ماتت».
#يحيى_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تعريف مجمل بكتاب القطيعة بين المثقف والفقيه
-
الفيزياء بين الفكر والرياضيات
-
التداولية الطاهية
-
فلسفة علم الطريقة
-
الاخلاق الطاهية (قراءة في النسق القيمي لمشروع طه عبد الرحمن)
-
فلسفة النظام الاخلاقي (5)
-
فلسفة النظام الاخلاقي (4)
-
الدين بعيون كانتية
-
مصطلح الفلسفة والتشبّه في تراثنا القديم؟
-
الصوفية في ثلاثة أصناف
-
فلسفة النظام الاخلاقي (3)
-
فلسفة النظام الاخلاقي (2)
-
فلسفة النظام الاخلاقي (1)
-
متى يكتمل حضور الجهاز المعرفي لدى الانسان؟
-
جدليات نظرية التطور
-
الانزلاقات في العلم: تشابه جينات البشر والشمبانزي نموذجاً
-
هل للجسم مشاعر؟
-
الايفو ديفو والتطور الدارويني
-
الركود والانقطاع في التطور: التوازن المتقطع
-
صخرة الإيمان: الإله والتصميم
المزيد.....
-
إسرائيل تؤجل انسحابها من جنوب لبنان؟
-
متحف اللوفر في باريس يطالب بمساعدة حكومية عاجلة لترميمه وتجد
...
-
وزير خارجية مصر يبحث مع نظيره الأمريكي الجديد قضية سد النهضة
...
-
قائد الحرس الثوري الإيراني يعلق على الاستقالات العسكرية في إ
...
-
الخارجية الصينية تؤكد عزمها على دفع محادثات السلام بشأن أوكر
...
-
من وماذا سيكسر عنق الرئيس الأمريكي الجديد؟
-
موسكو: خطط الناتو إزاء بحر البلطيق عقيمة
-
المفاعل النووي السعودي يكتسب فرصة جديدة
-
خبير ألماني: الاتحاد الأوروبي سيخسر الحرب التجارية مع الولاي
...
-
الدمار والخراب في مخيم البريج بعد انسحاب القوات الإسرائيلية
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|